دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٢

الشيخ محمد حسن المظفر

دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد حسن المظفر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-355-1
الصفحات: ٤٥٤

قال في « شرح المواقف » بعد ذكر الماتن لهذا الجواب ـ أعني أنّ بقاء البقاء نفسه ـ : « ويرد على هذا الجواب أنّ ما تكرّر نوعه يجب كونه اعتباريا كما مرّ » (١).

ولا يخفى أنّ ما نسبه الخصم إلى قومه من قدم البقاء غير صحيح بمقتضى تعليلهم لزيادة البقاء على الذات ، فإنّهم علّلوه ـ كما سبق ـ بأنّ الوجود متحقّق دونه كما في أوّل الحدوث ؛ وهذا يدلّ على اعتبار المسبوقية بالعدم في ذات البقاء ، وهو يقتضي حدوثه.

وأمّا ما أجاب به عن إيراد المصنّف الأخير ، ففيه ما عرفت سابقا من أنّ نفي المغايرة اصطلاح محض ، فإنّهم إذا قالوا بزيادة الصفات على الذات في الوجود كانت المغايرة بينهما كلّيّة ، فيكون بقاء البقاء صفة للبقاء لا للذات ، وقائما به لا بالذات ، فيلزم قيام المعنى بالمعنى.

وهذا من المصنّف إلزامي لهم ، من حيث إنّ البقاء عندهم عرض وجودي ، وزعمهم أنّ العرض لا يقوم بالعرض (٢) ـ كما ستعرفه قريبا إن شاء الله تعالى ـ ، وإلّا فهو لا يمنع من قيام العرض بالعرض ـ كما ستعرف ـ.

على إنّ كلّ بقاء عند المصنّف والإمامية أمر اعتباري (٣) ، فيجوز أن يفرض قيامه بمثله حتّى لو منعنا قيام العرض بالعرض.

* * *

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٠٧.

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ١٦١ ، طوالع الأنوار : ١٠٤ ، مطالع الأنظار في شرح طوالع الأنوار : ٧٣.

(٣) تلخيص المحصّل : ٢٩٣.

٣٠١
٣٠٢

البقاء يصحّ على الأجسام

قال المصنّف ـ طيّب الله ثراه ـ (١) :

خاتمة

تشتمل على حكمين :

[ الحكم ] الأوّل

البقاء يصحّ على الأجسام (٢) [ بأسرها ]

وهذا حكم ضروري لا يقبل التشكيك ، وخالف فيه النظّام من الجمهور ، فذهب إلى امتناع بقاء الأجسام بأسرها ، بل كلّ آن يوجد فيه جسم ما ، يعدم ذلك الجسم في الآن الذي بعده ، ولا يمكن أن يبقى جسم من الأجسام ـ فلكيّها وعنصريّها ، بسيطها ومركّبها ، ناطقها وغيره ـ آنين (٣).

ولا شكّ في بطلان هذا القول ؛ لقضاء الضرورة بأنّ الجسم الذي شاهدته حال فتح العين ، هو الذي شاهدته قبل تغميضها ، والمنكر لذلك

__________________

(١) نهج الحقّ : ٦٨.

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ١٨٨ ، المواقف ٢٥٠ ، شرح المواقف ٧ / ٢٣١ ، أوائل المقالات : ٩٨ ، تجريد الاعتقاد : ١٥٣.

(٣) الفرق بين الفرق : ١٢٦ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ١٨٨ ، المواقف : ١٠٣ ، أوائل المقالات : ٩٨.

٣٠٣

سوفسطائي.

بل السوفسطائي لا يشكّ في أنّ بدنه الذي كان بالأمس هو بدنه الذي كان الآن ، وأنّه لم يتبدّل بدنه من أوّل لحظة إلى آخرها ؛ وهؤلاء جزموا بالتبدّل.

* * *

٣٠٤

وقال الفضل (١) :

الجسم عند النظّام مركّب من مجموع أعراض مجتمعة (٢) ، والعرض لا يبقى زمانين (٣) لما سنذكر بعد هذا ، فالجسم أيضا يكون كذلك عنده.

والحقّ أنّ ضرورية موجودية البقاء ، وعدم جواز قيام العرض بالعرض (٤) ، دعانا إلى الحكم بأنّ الأعراض لا تبقى زمانين ، وليست هذه الضرورة حاصلة في الأجسام ؛ لجواز قيام البقاء بالجسم.

وأمّا ما ذهب إليه النظّام أنّ الجسم مجموع الأعراض المجتمعة ، فباطل ؛ فمذهبه في عدم صحّة البقاء على الأجسام يكون باطلا ، كما ذكره.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٥٦.

(٢) انظر : مقالات الإسلاميّين : ٣٠٤ ، الفرق بين الفرق : ١٣٧ ، الملل والنحل ١ / ٤٩ المسألة السابعة ، المواقف : ١٨٥.

(٣) الملل والنحل ١ / ٨٤ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ١٦٢ ـ ١٦٣ ، المواقف : ١٠١ و ٢٤٥ ، شرح المقاصد ٢ / ١٦٠ ، شرح المواقف ٧ / ٢٢٢.

(٤) انظر : محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ١٦١ ـ ١٦٢ ، طوالع الأنوار : ١٠٤ ، المواقف : ١٠٠ ـ ١٠٣ ، شرح المقاصد ٢ / ١٦٠.

٣٠٥

وأقول :

قد عرفت أنّ دعوى موجودية البقاء زائدا على الوجود من أوضح الأمور بطلانا ، وأكثرها فسادا ، حتّى عند جملة من الأشاعرة (١) ، فكيف يدّعي ضرورة موجوديّته؟!

وأعجب منها دعوى الضرورة في عدم جواز قيام العرض بالعرض! والحال أنّ قيام البطء والسرعة بالحركة من أوضح الضروريات (٢) ؛ وسيظهر لك الحال في المبحث الآتي إن شاء الله تعالى.

فمذهب الأشاعرة ، من أنّ العرض لا يبقى زمانين ، مخالف للضرورة.

وأعظم منه مخالفة لها مذهب النظّام ؛ لاشتماله على مذهب الأشاعرة ، وعلى إنّ الجسم مركّب من الأعراض.

* * *

__________________

(١) راجع : الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٥٢ ـ ٢٥٣ ، شرح المقاصد ٤ / ١٦٦ ـ ١٦٧.

(٢) انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل ٣ / ٢٨٩ ، منهاج اليقين في أصول الدين : ١٢٩.

٣٠٦

البقاء يصحّ على الأعراض

قال المصنّف ـ عطّر الله مثواه ـ (١) :

الحكم الثاني

في صحّة بقاء الأعراض

ذهبت الأشاعرة إلى أنّ الأعراض غير باقية ، بل كلّ لون وطعم ورائحة وحرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة وحركة وسكون ، وحصول في مكان ، وحياة ، وعلم ، وقدرة ، وتركيب ، وغير ذلك من الأعراض ، فإنّه لا يجوز أن يوجد آنين متّصلين ، بل يجب عدمه في الآن الثاني من آن وجوده (٢).

وهذه مكابرة للحسّ ، وتكذيب للضرورة الحاكمة بخلافه ، فإنّه لا حكم أجلى عند العقل من أنّ اللون الذي شاهدته في الثوب حين فتح العين هو الذي شاهدته قبل طبقها ، وأنّه لم يعدم ولم يتغيّر.

وأيّ حكم أجلى عند العقل من هذا وأظهر منه؟!

ثمّ إنّه يلزم منه محالات :

__________________

(١) نهج الحقّ : ٦٨ ـ ٧١.

(٢) تمهيد الأوائل : ٣٨ ، الملل والنحل ١ / ٨٤ و ٣ / ٦٠٤ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ١٦٢ ، شرح المقاصد ٤ / ٤٣ ، شرح العقائد النسفية : ٧٩ وما بعدها ، شرح المواقف ٧ / ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

٣٠٧

الأوّل : أن يكون الإنسان وغيره يعدم في كلّ ان ثمّ يوجد في آن بعده ؛ لأنّ الإنسان ليس إنسانا باعتبار الجواهر الأفراد التي فيه عندهم ، بل لا بدّ في تحقّق كونه إنسانا من أعراض قائمة بتلك الجواهر ، من لون ، وشكل ، ومقدار ، وغيرها من مشخّصاته.

ومعلوم بالضرورة أنّ كلّ عاقل يجد نفسه باقية لا تتغيّر في كلّ آن ، ومن خالف ذلك كان سوفسطائيا.

وهل إنكار السوفسطائيّين للقضايا الحسّية عند بعض الاعتبارات أبلغ من إنكار كلّ أحد بقاء ذاته وبقاء جميع المشاهدات آنين من الزمان؟!

فلينظر المقلّد المنصف في هذه المقالة التي ذهب إليها إمامه الذي قلّده ، ويعرض على عقله حكمه بها ، وهل يقصر حكمه ببقائه ، وبقاء المشاهدات عن أجلى الضروريات؟!

ويعلم أنّ إمامه الذي قلّده إن قصر ذهنه عن إدراك فساد هذه المقالة ، فقد قلّد من لا يستحقّ التقليد ، وأنّه قد التجأ إلى ركن غير شديد ، وإن لم يقصر ذهنه فقد غشّه وأخفى عنه مذهبه ...

وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من غشّنا فليس منّا » (١)

الثاني : إنّه يلزم تكذيب الحسّ الدالّ على الوحدة وعدم التغيّر ، كما تقدّم.

الثالث : إنّه لو لم يبق العرض إلّا آنا واحدا لم يدم نوعه (٢) ، وكان

__________________

(١) صحيح مسلم ١ / ٦٩ ، المعجم الصغير ـ للطبراني ـ ١ / ٢٦١ ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ٥ / ٣٨٣ ح ١ كتاب البيوع والأقضية / باب رقم ٥٢٢ ، المستدرك على الصحيحين ٢ / ١١ ح ٢١٥٥ وص ١٢ ح ٢١٥٦.

(٢) وفي نسخة : لم يلزم تأييد نوعه ؛ منه قدس‌سره.

٣٠٨

السواد إذا عدم لم يجب أن يخلفه سواد آخر ، بل جاز أن يحصل عقيبه بياض أو حمرة أو غير ذلك وأن لا يحصل شيء من الألوان ، إذ لا وجه لوجوب ذلك الحصول ، لكنّ دوامه يدلّ على وجوب بقائه.

الرابع : لو جوّز العقل عدم كلّ عرض في الآن الثاني من وجوده مع استمراره في الحسّ ، لجوّز ذلك في الجسم ، إذ الحكم ببقاء الجسم إنّما هو مستند إلى استمراره في الحسّ.

وهذا الدليل لا يتمشّى ؛ لانتقاضه بالأعراض عندهم ، فيكون باطلا ، فلا يمكن الحكم ببقاء شيء من الأجسام آنين ، لكن الشكّ في ذلك عين السفسطة.

الخامس : إنّ الحكم بامتناع انقلاب الشيء من الإمكان الذاتي ضروري ، وإلّا لم يبق وثوق بشيء من القضايا البديهية.

وجاز أن ينقلب العالم من إمكان الوجود إلى وجوب الوجود ، فيستغني عن المؤثّر فيسدّ باب إثبات الصانع تعالى ، بل ويجوز انقلاب واجب الوجود إلى الامتناع (١) ، وهو ضروري البطلان.

وإذا تقرّر ذلك فنقول :

الأعراض إن كانت ممكنة لذاتها في الآن الأوّل ، فتكون كذلك في الآن الثاني ، وإلّا لزم الانتقال من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي ، وإذا كانت ممكنة في الثاني جاز عليها البقاء.

وقد احتجّوا بوجهين :

__________________

(١) راجع : محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ١٦٢ ، شرح التجريد : ٤٣ ، ومؤدّاه في : طوالع الأنوار : ٨٩.

٣٠٩

الأوّل : البقاء عرض فلا يقوم بالعرض (١).

الثاني : إنّ العرض لو بقي لما عدم ؛ لأنّ عدمه لا يستند إلى ذاته ، وإلّا لكان ممتنعا ، ولا إلى الفاعل ؛ لأنّ أثر الفاعل الإيجاد ، ولا إلى طريان الضدّ ؛ لأنّ طريان الضدّ على المحلّ مشروط بعدم الضدّ الأوّل عنه.

فلو علّل ذلك العدم به دار ، ولا إلى انتفاء شرطه ؛ لأنّ شرطه الجوهر لا غير وهو باق ، والكلام في عدمه كالكلام في عدم العرض (٢).

والجواب عن الأوّل : المنع من كون البقاء عرضا زائدا على الذات ، سلّمنا ؛ لكن نمنع امتناع قيام العرض بمثله ، فإنّ السرعة والبطء عرضان قائمان بالحركة وهي عرض.

وعن الثاني : إنّه لم لا يعدم لذاته في الزمان الثالث ، كما يعدم عندكم لذاته في الزمان الثاني؟! سلّمنا ؛ لكن جاز أن يكون مشروطا بأعراض لا تبقى ، فإذا انقطع وجودها عدم ، سلّمنا ؛ لكن يستند إلى الفاعل ونمنع انحصار أثره في الإيجاد ، فإنّ العدم ممكن لا بدّ له من سبب ، سلّمنا ؛ لكن يعدم بحصول المانع ونمنع اشتراط طريان الثاني بعدم الضدّ الأوّل ، بل الأمر بالعكس.

وبالجملة : فالاستدلال على نقيض الضروري باطل ، كما في شبه السوفسطائية ، فإنّها لا تسمع لمّا كانت الاستدلالات في مقابل الضرورات.

* * *

__________________

(١) المواقف : ١٠١ ، شرح المقاصد ٢ / ١٥٧.

(٢) انظر : محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ١٦٢ ، المواقف : ١٠١ ـ ١٠٣.

٣١٠

وقال الفضل (١) :

ذهب الأشعري ومن تبعه من الأشاعرة إلى أنّ العرض لا يبقى زمانين (٢).

فالأعراض جملتها غير باقية عندهم ، بل هي على التقضّي والتجدّد ينقضي منها واحد ويتجدّد آخر مثله (٣).

وتخصيص كلّ من الآحاد المتقضّية المتجدّدة بوقته الذي وجد فيه ، إنّما هو للقادر المختار ، فإنّه تخصيص بمجرّد إرادته كلّ واحد منها بوقته الذي خلقه فيه ، وإن كان يمكن خلقه قبل ذلك الوقت وبعده.

وإنّما ذهبوا إلى ذلك ؛ لأنّهم قالوا : بأنّ السبب المحوج إلى المؤثّر هو الحدوث ، فلزمهم استغناء العالم حال بقائه عن الصانع ، بحيث لو جاز عليه العدم ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ لما ضرّ عدمه في وجوده ، فدفعوا ذلك بأنّ شرط بقاء الجوهر هو العرض.

ولمّا كان هو متجدّدا محتاجا إلى المؤثّر دائما كان الجوهر أيضا حال بقائه محتاجا إلى ذلك المؤثّر بواسطة احتياج شرطه إليه ، فلا استغناء أصلا.

واستدلّوا على هذا المدّعى بوجوه :

منها : إنّها لو بقيت لكانت باقية متّصفة ببقاء قائم بها ، والبقاء عرض ،

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٥٩.

(٢) تمهيد الأوائل : ٣٨ ، الملل والنحل ١ / ٨٤ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ١٦٢ ، شرح المواقف ٧ / ٢٢٢.

(٣) ذكر ذلك الإيجي في المواقف : ١٠١ عن الأشعري وغيره ، وانظر : شرح المقاصد ٢ / ١٦١ ، شرح المواقف ٥ / ٣٧.

٣١١

فيلزم قيام العرض بالعرض ، وهو محال عندهم ؛ هذا هو المدّعى والدليل.

وذهبت الفلاسفة ومن تابعهم من المعتزلة والإمامية إلى بقاء الأعراض (١).

ودليلهم ـ كما ذكر هذا الرجل ـ أنّ القول بخلافه مكابرة للحسّ وتكذيب للضرورة.

والجواب : أن لا دلالة للمشاهدة ، على إنّ المشاهد أمر واحد مستمرّ ؛ لجواز أن يكون أمثالا متواردة بلا فصل ، كالماء الدافق من الأنبوب ، يرى أمرا واحدا مستمرّا بحسب المشاهدة ، وهو في الحقيقة أمثال تتوارد على الاتّصال ، فمن قال : إنّه أمثال متواردة ، كان ينبغي ـ على ما يزعمه هذا الرجل ـ أن يكون سوفسطائيا منكرا للمحسوسات.

وكذا جالس السفينة ، إذا حكم بأنّ الشطّ ليس بمتحرّك ، كان ينبغي أن يحكم بأنّه سوفسطائي ؛ لأنّه يحكم بخلاف الحسّ.

وقد صوّرنا قبل هذا مذهب السوفسطائية (٢) ، ويا ليت هذا الرجل كان لم يعرف لفظ السوفسطائي ، فإنّه يطلقه في مواضع لا ينبغي أن يطلقه فيه وهو جاهل بمعنى السفسطة.

ثمّ ما قال : « أن لا حكم عند العقل أجلى من أنّ اللون الذي شاهدته في الثوب حين فتح العين هو الذي شاهدته قبل طبقها ».

فنقول : حكم العقل ها هنا مستند إلى حكم الحسّ ، ويمكن ورود الغلط للحسّ ؛ لأنّه كان يحسب المثل عين الأوّل ، كما ذكرنا في مثال الماء الدافق من الأنبوب.

__________________

(١) انظر : تلخيص المحصّل : ١٨٠ ، المواقف : ١٠١.

(٢) انظر الصفحة ٧٥ من هذا الجزء.

٣١٢

وكثير من الأحكام يكون عند العقل جليّا بواسطة غلط الحسّ ، فمن خالف ذلك الحكم كيف يقال : إنّه مكابر للضرورة؟!

ثمّ ذكر خمس محالات ترد على مذهبهم :

الأوّل : « إنّ الإنسان وغيره يعدم في كلّ آن ، ثمّ يوجد في آن بعده ؛ لأنّ الإنسان ليس إنسانا باعتبار الجواهر الأفراد ، بل لا بدّ في إنسانيّته من اللون والشكل ، وكلّ هذه أعراض ، ومعلوم أنّ كلّ أحد يجد من نفسه أنّها باقية لا تتبدّل في كلّ آن ، ومخالفة هذا سفسطة ».

والجواب : إنّ الأشخاص في الوجود الخارجي يتمايزون بهويّاتها لا بمشخّصاتها كما يتبادر إليه الوهم في الهوية الخارجية ، التي بها الإنسان إنسان باق في جميع الأزمنة ، وإن توارد عليه الأمثال من الأعراض.

فهذه المشخّصات ليست داخلة في ذاته وهويّته العينية ، حتّى يلزم من تبدّلها تبدّل الإنسان ، فذات الإنسان وهويّته المشخّصة له باقية في جميع الأحوال ويتوارد عليه الأعراض ، وأيّ سفسطة في هذا؟! والطامات والخرافات التي يريد أن يميل بها خواطر السفهة إلى مذهبه غير ملتفت إليها!

الثاني : « إنّه يلزم تكذيب الحس ».

وقد عرفت جوابه.

الثالث : « إنّه لو لم يبق العرض إلّا آنا واحدا لم يلزم تأبيد نوعه ، فكان السواد إذا عدم لم يجب أن يخلفه سواد آخر » .. إلى آخر الدليل.

والجواب : إنّ السواد إذا فاض على الجسم أعدّ الجسم لأن يفيض عليه سواد مثله ، والمفيض للسواد هو الفاعل المختار ، لكن جرى عادته بإفاضة المثل بوجود الاستعداد وإن جاز التخلّف ، ولزوم النوع يدلّ على

٣١٣

وجوب إفاضة المثل.

وهذا لا ينافي قاعدة القوم في إسناد الأشياء إلى اختيار الفاعل القادر.

الرابع : « لو جوّز العقل عدم كلّ عرض في الآن الثاني من وجوده مع استمراره في الحسّ ، لجوّز ذلك في الجسم ، إذ الحكم ببقاء الجسم إنّما هو مستند إلى استمراره في الحسّ ».

والجواب : إنّ الأصل بقاء كلّ موجود مستمرّ ، فالحكم ببقاء الجسم لأنّه على الأصل ، وتخلّف حكم الأصل في الأعراض لدليل خارجي ، فعدم الحكم ببقاء الأعراض لم يكن منافيا للحكم ببقاء الأجسام.

وأمّا ما قال : « إنّ الشكّ في ذلك عين السفسطة ».

فقد مرّ جوابه.

الخامس : « إنّ الحكم بامتناع انقلاب الشيء من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي ضروري » .. إلى آخر الدليل.

والجواب : إنّ الأعراض كانت ممكنة لذاتها في الآن الأوّل ، وكذلك في الآن الثاني.

قوله : « وإذا كانت ممكنة في الثاني جاز عليها البقاء ».

قلنا : إمكان الوجود غير إمكان البقاء ، فجاز أن يكون العرض ممكن الوجود في الآن الثاني ولا يكون ممكن البقاء ، وليس على هذا التقرير شيء من الانقلاب الذي ذكره ، وهذا استدلال في غاية الضعف كما هو ديدنه في الاستدلالات المزخرفة.

ثمّ إنّ ما ذكر من الدليلين اللذين احتجّ بهما الأشاعرة ، فأوّل الدليلين قد ذكرناه.

٣١٤

وما أورد عليه من منع امتناع قيام العرض بالعرض ، ومنع كون البقاء زائدا وثبوتهما مذهب للشيخ الأشعري ، وقد استدلّ عليهما في محلّه ، فليراجع.

وثاني الدليلين مدخول بما ذكر وبغيره من الأشياء ، وقد ذكره علماء السنّة والأشاعرة ، منهم صاحب « المواقف » وغيره ، فاعتراضاته على ذلك الدليل منقولة من كتب أصحابنا.

* * *

٣١٥

وأقول :

لا يخفى أنّه إنّما ذكر قوله : « إنّ السبب المحوج إلى المؤثّر هو الحدوث » لزعمه ـ تبعا لغيره ـ أنّ ذلك مبرّر لقولهم بعدم بقاء الأعراض ؛ لأنّ دفع لزوم استغناء العالم ـ بناء على كون سبب الحاجة هو الحدوث ـ يتوقّف على القول بتجدّد العرض وعدم بقائه.

وفيه ـ مع فساد المبنى ـ : منع التوقّف ؛ لأنّ الباقي حادث وإن لم يكن متجدّدا ، فيحتاج إلى المؤثّر.

نعم ، لو أريد بالحدوث الخروج من العدم إلى الوجود ، كان للالتجاء إلى القول بعدم بقاء الأعراض وجه.

وأمّا ما أنكره من اعتبار حكم المشاهدة ، فخطأ ؛ فإنّا لو جوّزنا الغلط على جميع الحواسّ في جميع الأوقات ، بإحساسها لبقاء الأعراض ، ولم نعتبر دلالة المشاهدة ، لم يمكن أن نستفيد حكما عقليا من الحسّ ؛ لأنّ الأحكام العقليّة النظرية والضرورية لا تؤخذ إلّا من الحسّ الظاهري ، أو الحسّ الباطني بواسطة الظاهري ـ كما عرفته في أوّل الكتاب (١) ـ ، فلو لم نعتبر مثل تلك المشاهدة العامة لم يصحّ التعويل على حسّ ظاهري.

وأمّا ما استشهد به من غلط الحسّ في الماء الدافق من الأنبوب وجالس السفينة ، فخطأ آخر ؛ لأنّ الحسّ لا يحكم بوحدة الماء الدافق كما يحكم بوحدة السواد في الثوب ، بل يرى مياها متّصلة متدافعة تسمّى في

__________________

(١) انظر الصفحات ٤٨ ـ ٥٠ من هذا الجزء.

٣١٦

العرف ماء واحدا باعتبار اتّصالها وصدق اسم الماء على المتّصل ، كماء الشطّ.

ولم سلّم ، فالعقل الضروري يحكم بأنّه من توارد الأمثال ، وأنّ الوحدة خيالية بسبب إدراك البصر أو غيره من الحواسّ للمادّة وتدافعها.

وأمّا جالس السفينة ، فهو وإن رأى أحيانا سكون الماء لاتّفاق السفينة والماء في السير ، لكنّ البصر نفسه يراه متحرّكا في أغلب الأوقات ، بل يراه متحرّكا فعلا عند التدقيق ، فيحكم العقل بأنّ ذلك السكون الاتّفاقي خيالي ؛ فكيف يقاس على ذلك مشاهدة البصر لوحده ، مثل السواد في الثوب ، التي لا يخالفها الحسّ في وقت أو حال؟!

وبالجملة : لا ننكر غلط الحسّ أحيانا ، ولكن ننكر عدم اعتباره في أجلى الأمور وأوضحها عند العقل.

وأمّا ما صوّر به سابقا مذهب السوفسطائية ، فقد عرفت فيه الكلام (١).

وأمّا ما أجاب به عن أوّل المحالات ، من أنّ الأشخاص تتمايز بهويّاتها لا بمشخّصاتها ... ففيه :

إنّ إيراد المصنّف إنّما هو من باب الإلزام لهم ، إذ يقولون بالجواهر الفردة (٢) ، فلم يكن لذات الإنسان هويّة واحدة ، وكذلك كلّ جسم ، فلا بدّ أن يكون تمايز الأفراد بالمشخّصات الخارجة.

أمّا إذا التزم بتمايز الأشخاص بتمايز الهويّات ، فلينكر الجواهر

__________________

(١) انظر الصفحة ٧٨ من هذا الجزء.

(٢) انظر : طوالع الأنوار : ١٣٣ ، شرح المقاصد ٣ / ٥ ، شرح العقائد النسفية : ٧٧.

٣١٧

الفردة ، إذ يكون الشخص موجودا واحدا ، لا مركّبا من موجودات متعدّدة ، هي الجواهر الفردة.

وأمّا ما أشار إليه من الجواب عن ثاني المحالات ، فقد عرفت ما فيه.

وأمّا جوابه عن ثالثها ، ففيه :

إنّ الجسم لذاته مستعدّ لإفاضة كلّ لون عليه ، فلو فرض أنّ اللون لا يبقى به ، كان بعد زواله عنه على استعداده لعروض أي لون عليه ، لا خصوص ما عرض أوّلا ، فدعوى ثبوت العادة على إفاضة خصوص المثل لأجل اختصاص الاستعداد به خطأ.

وأمّا ما أجاب به عن رابع المحالات ، ففيه :

إنّه لا مستند للأصل الذي ادّعاه إلّا ظهور حال المستمرّ في البقاء بمقتضى ما يشاهده الحسّ ، وحينئذ فإن أفاد هذا الظهور اليقين بالبقاء فلا وجه لمخالفته في الأعراض ، وإن لم يفد اليقين فلا يمكن الحكم اليقيني لهم أيضا ببقاء شيء من الأجسام ، والشكّ فيه عين السفسطة.

مضافا إلى أنّه لا دليل لهم على التخلّف عن الأصل في الأعراض سوى ثلاثة أدلّة باطلة ـ حتّى عندهم ـ ، واختار المصنّف للذكر أقواها ، وهو : الدليلان اللذان أبطلهما (١).

وأمّا ما أجاب به عن خامسها ، من أنّ إمكان الوجود غير إمكان البقاء ، ففيه :

إنّ البقاء عبارة عن استمرار الوجود ـ كما ذكره نفسه سابقا ـ

__________________

(١) والدليل الثالث هو : جواز خلق مثله في محلّه في الحالة الثانية إجماعا ؛ انظر : المواقف : ١٠١ ، شرح المواقف ٥ / ٣٩.

٣١٨

وبالضرورة أنّه إذا امتنع استمرار الوجود ، امتنع الوجود في الزمن الثاني وإن اختلفا مفهوما ، بل جعل البقاء سابقا من الأمثال المتواردة ، فإذا فرض إمكان الوجود في الزمن الأوّل وامتناع البقاء ، لزمه امتناع الوجود في الزمن الثاني ولزم الانقلاب ، كما ذكره المصنّف.

فلا بدّ أن نقول : الأعراض متى كانت ممكنة لذاتها في الآن الأوّل ، كانت ممكنة البقاء والوجود في الآن الثاني ، وإلّا لزم الانقلاب.

وأمّا ما ذكره بالنسبة إلى دليلي الأشاعرة ، فليس فيه إلّا تسليم بطلان ثانيهما ، والإحالة في ترويج أوّلهما على غيره ، مع علمه بأنّه قد أبطله في « المواقف » وشرحها (١) بما أبطله به المصنّف.

وأمّا ما زعمه من أنّ المصنّف نقل اعتراضاته على الدليل الثاني عن الأشاعرة ، كصاحب « المواقف » وغيره ، فهو جهل ؛ لأنّ « المواقف » وغيرها ـ ممّا قارنها زمانا أو تأخّر عنها ـ متأخّرة عن زمان المصنّف (٢).

وإنّما حرّر صاحب « المواقف » التي هي أجمع كتاب لهم ، تلك الاعتراضات وغيرها آخذا من المصنّف رحمه‌الله وغيره من علماء الإمامية ، وإلّا فالأشاعرة غالبا مقلّدون لشيخهم الأشعري تقلّيدا أعمى.

* * *

__________________

(١) المواقف : ١٠١ ـ ١٠٣ ، شرح المواقف ٥ / ٣٩ ـ ٥٠.

(٢) فقد ألّف العلّامة الحلّي قدس‌سره كتابه « نهج الحقّ وكشف الصدق » بطلب من السلطان أولجايتو خدا بنده محمّد الذي توفّي في شهر رمضان من سنة ٧١٦ ه‍ ، وولد صاحب « المواقف » عبد الرحمن بن أحمد الإيجي سنة ٧٠٨ ه‍ ، وعليه : فإنّ العلّامة الحلّي كان قد فرغ من كتابه هذا وللإيجي آنذاك أقلّ من ثماني سنوات.

انظر : البداية والنهاية ١٤ / ٦٢ ، معجم المؤلّفين ٢ / ٧٦ رقم ٦٧٥٦ ، الذريعة إلى تصانيف الشيعة ٢٤ / ٤١٦ رقم ٢١٨٣.

٣١٩
٣٢٠