دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٢

الشيخ محمد حسن المظفر

دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد حسن المظفر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-355-1
الصفحات: ٤٥٤

حدوث الكلام

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ (١) :

المطلب الثالث

في حدوثه

العقل والسمع متطابقان على إنّ كلامه تعالى محدث ليس بأزلي ؛ لأنّه مركّب من الحروف والأصوات ، ويمتنع اجتماع حرفين في السماع دفعة واحدة ، فلابدّ أن يكون أحدهما سابقا على الآخر ، والمسبوق حادث بالضرورة ، والسابق على الحادث بزمان متناه حادث بالضرورة ، وقد قال الله تعالى : ( ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ) (٢).

وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك ، فجعلوا كلامه تعالى قديما لم يزل معه ، وأنّه تعالى في الأزل يخاطب العقلاء المعدومين! (٣).

وإثبات ذلك في غاية السفه والنقص في حقّه تعالى ، فإنّ الواحد منّا لو جلس في بيت وحده منفردا وقال : يا سالم قم ، ويا غانم اضرب ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ٦١ ـ ٦٢.

(٢) سورة الأنبياء ٢١ : ٢.

(٣) انظر : اللمع ـ للأشعري ـ : ٣٦ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٨٢ ، الأربعين ـ للرازي ـ ١ / ٢٥٠ ـ ٢٥٨ ، شرح العقائد النسفية ـ للتفتازاني ـ : ١٠٨ وما بعدها.

٢٤١

ويا سعد كل ، ولا أحد عنده من هؤلاء ، عدّه كلّ عاقل سفيها جاهلا عادما للتحصيل ، فكيف يجوز منهم نسبة هذا الفعل (١) الدالّ على السفه والجهل والحمق إليه تعالى؟!

وكيف يصحّ منه تعالى أن يقول في الأزل : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) (٢) ولا مخاطب هناك ، ولا ناس عنده؟!

[ ويقول : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ) (٣) ] (٤) ويقول : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) (٥) [ و ] (٦) ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (٧) و ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ ) (٨) و ( لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ ) (٩) و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١٠)!

وأيضا : لو كان كلامه قديما لزم صدور القبيح منه تعالى ؛ لأنّه إن لم يفد بكلامه في الأزل [ شيئا ] كان سفها ، وهو قبيح عليه [ تعالى ] ، وإن أفاد فإمّا لنفسه ، أو لغيره ..

__________________

(١) في المصدر : « العقل ».

(٢) سورة البقرة ٢ : ٢١.

(٣) سورة النساء ٤ : ١ ، سورة الحجّ ٢٢ : ١ ، سورة لقمان ٣١ : ٣٣.

(٤) ما بين القوسين المعقوفتين ليس في المصدر ولا في الأصل ، وأثبتناه من إحقاق الحقّ ١ / ٢١٩.

(٥) سورة البقرة ٢ : ١٠٤ و ١٥٣ و ١٧٢ ، سورة آل عمران ٣ : ١٣٠ ، سورة النساء ٤ : ١٩ و ٢٩ ، سورة المائدة ٥ : ١ و ٢ ، وآيات كثيرة أخرى في سور القرآن الكريم.

(٦) أثبتناه لضرورة النسق.

(٧) سورة البقرة ٢ : ٤٣ و ١١٠ ، سورة الأنعام ٦ : ٧٢ ، سورة النور ٢٤ : ٥٦ ، سورة الروم ٣٠ : ٣١ ، وغيرها من الآيات في سور أخرى.

(٨) سورة البقرة ٢ : ١٨٨ ، سورة النساء ٤ : ٢٩.

(٩) سورة الأنعام ٦ : ١٥١ ، سورة الإسراء ١٧ : ٣١.

(١٠) سورة المائدة ٥ : ١.

٢٤٢

والأوّل باطل ؛ لأنّ المخاطب إنّما يفيد نفسه لو كان يطرب في كلامه ، أو يكرّره ليحفظه ، أو يتعبّد به كما يتعبّد (١) الله بقراءة القرآن ؛ وهذه في حقّه محال لتنزّهه عنها.

والثاني باطل ؛ لأنّ إفادة الغير إنّما تصحّ لو خاطب غيره ليفهمه مراده ، أو يأمره بفعل ، أو ينهاه عن فعل.

ولمّا لم يكن في الأزل من يفيده بكلامه شيئا من هذه ، كان كلامه سفها وعبثا!

وأيضا : يلزم الكذب في إخباره تعالى ؛ لأنّه قال في الأزل :

( إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً ) (٢) [ و ] (٣) ( إِنَّا ... أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ ) (٤) و ( أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ ) (٥) و ( ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ ) (٦) ، مع إنّ هذه إخبارات عن الماضي ، والإخبار عن وقوع ما لم يقع في الماضي كذب ؛ تعالى الله عنه.

وأيضا : قال الله تعالى : ( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٧) ، وهو إخبار عن المستقبل ، فيكون حادثا.

__________________

(١) كذا في الأصل ، وهو تصحيف ؛ لأنّ قوله : « تعبّد الله » لا يصحّ تعديته مباشرة بغير حرف الجرّ ، بل يقال : « تعبّد لله » ؛ لأنّ قول القائل : « تعبّد فلان فلانا » أي اتّخذه عبدا ؛ وفي المصدر : « يعبد » وهو الصحيح.

(٢) سورة نوح ٧١ : ١.

(٣) أثبتناها لتوحيد النسق.

(٤) سورة النساء ٤ : ١٦٣.

(٥) سورة يونس ١٠ : ١٣.

(٦) سورة إبراهيم ١٤ : ٤٥.

(٧) سورة النحل ١٦ : ٤٠.

٢٤٣

وقال الفضل (١) :

قد سبق الإشارة إلى أنّ النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة ومن تابعهم من الإمامية في إثبات الكلام النفساني (٢).

فمن قال بثبوته ، فلا شكّ أنّه يقول بقدمه ؛ لامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى.

ومن قال بأنّه مركّب من الحروف والأصوات ، فلا شكّ أنّه يقول بحدوثه ، ونحن نوافقه فيه.

فكلّ ما أورده على الأشاعرة ، فهو إيراد على غير محلّ النزاع ؛ لأنّه يقول : إنّ الكلام مركّب من الحروف ، ثمّ يقول بحدوثه ؛ وهذا ممّا لا نزاع فيه.

نعم ، لو قال بإثبات الكلام النفساني ثمّ يثبت حدوثه يكون محلّ النزاع.

وأمّا ما استدلّ به على الحدوث من قوله تعالى : ( ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ) (٣) ، فهو يدلّ على حدوث اللفظ ، ولا نزاع فيه.

وأمّا الاستدلال بأنّ الأمر والخبر في الأزل ولا مأمور ولا سامع ، فيه سفه ـ كما ذكره في طامّاته ـ ..

فالجواب أنّ ذلك السفه الذي ادّعيتموه إنّما هو في اللفظ ، وأمّا كلام

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٢٠ ـ ٢٢١.

(٢) تقدّم في الصفحة ٢٣٧.

(٣) سورة الأنبياء ٢١ : ٢.

٢٤٤

النفس فلاسفه فيه ، ومثاله ـ على وفق ما ذكر ـ أنّ الواحد منّا لو جلس في بيت وحده منفردا ، ورتّب في نفسه أنواع الأوامر لجماعة سيأتون عنده ، ولا يتلفّظ به ، فلا يكون سفها ولا حماقة ، بل السفيه من نسبه إلى السفه.

فالكلام النفسي : هو المعنى القائم بذات الله تعالى في الأزل ، ولا تلفّظ بذلك الكلام ، بل هو لجماعة سيحدثون ، ويكون التلفّظ به بعد حدوثهم وحدوث أفعالهم التي تقتضي الأمر والنهي والإخبار والاستفهام ، فلاسفه ولا حماقة كما ادّعاه.

وبهذا الجواب ـ أيضا ـ يندفع ما ذكره من لزوم صدور القبيح من الله تعالى ؛ لأنّ ذلك في التلفّظ بالكلام النفسي ، ونحن نسلّم أن لا تلفّظ في الأزل ، بل هناك معان قائمة بذات الله تعالى ، قديمة.

وأيضا : يندفع ما ذكره من لزوم الكذب ؛ لأنّ الصدق والكذب صنفان للكلام الذي يتلفّظ به ، لا المعاني المزوّرة (١) في النفس ، المقولة بعد هذا لمن سيحدث.

وأمّا الاستدلال على حدوث الكلام بقوله تعالى : ( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٢) لأنّه إخبار عن المستقبلفيكون حادثا ..

فالجواب عنه أنّ لفظ ( كُنْ ) حادث ، ولا نزاع لنا فيه.

إنّما النزاع في المعنى الأزلي النفساني ، ولا يلزم من كون مدلول [ لفظة ] ( كُنْ ) في ذات الله تعالى : حدوثه.

__________________

(١) كان في الأصل : « المزبورة » وهو تصحيف ، وما أثبتناه من المصدر.

(٢) سورة النحل ١٦ : ٤٠.

٢٤٥

وأقول :

غاية المصنّف من الدليل العقلي هو إثبات حدوث ما يتعقّل من كلامه تعالى ، ولا يتعقّل إلّا اللفظي ، ولا محلّ لإثبات حدوث النفسي عقلا ؛ لأنّه فرع المعقولية.

وأمّا الأدلّة السمعية ، فإنّما تذكر لإثبات الانحصار باللفظي ، أو لإثبات حدوث النفسي على فرض المعقولية.

على إنّه قد يقال : إنّ الكلام النفسي عندهم مدلول للكلام اللفظي ، فينبغي أن يكون مركّبا في النفس كتركيب اللفظي ، ومرتّبا كترتيبه ، فيلزم تقدّم بعض أجزائه على بعض ، وهو يقتضي الحدوث.

هذا ، وحكى شارح « المواقف » عن الماتن في مقالة مفردة ، أنّه فسّر الكلام النفسي بالأمر القائم بالغير ، الشامل للّفظ والمعنى جميعا ، وزعم أنّه قائم بذات الله تعالى ، وأنّه قديم ؛ لأنّ الترتيب إنّما هو في التلفّظ ، بسبب عدم مساعدة الآلة ، فالتلفّظ حادث دون الملفوظ (١).

وأورد عليه القوشجي بأنّ هذا خارج عن طور العقل ، وما هو إلّا مثل أن يكون حركة مجتمعة الأجزاء في الوجود ، لا يكون لبعضها تقدّم على بعض (٢) ؛ وهو حسن.

وأمّا ما أجاب به الخصم عن قوله تعالى : ( ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٢) انظر : شرح التجريد : ٤٢١.

٢٤٦

رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ) (١).

ففيه : أنّ المراد بالذكر هو القرآن ـ الذي هو كلام الله تعالى ـ من دون لحاظ أنّه لفظي.

فإذا دلّت الآية على حدوث كلامه من حيث هو كلامه ، ثبت حدوثه حتّى لو كان نفسيا ، أو يثبت الانحصار باللفظي.

ومثل الآية المذكورة قوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) (٢) ، فإنّ المنزّل المحفوظ لا يكون إلّا محدثا ؛ لأنّ تنزيله على التدريج ، ولا تنزيل إلّا للّفظ!

وأمّا ما أجاب به عن السفه ، بأنّه إنّما هو باللفظ ، فمردود بأنّ الطلب مطلقا سفه حتّى لو كان في النفس!

وأمّا مثاله فلا طلب فيه فعلا ، وإنّما الموجود فيه هو العزم على الطلب ، أو تصوير الطلب ، وإلّا كان سفها بالضرورة!

ومنه يعلم ما في جوابه عن لزوم صدور القبيح منه تعالى.

فإن قلت : إنّما يلزم السفه إذا خوطب المعدوم ، وطلب منه إيقاع الفعل في حال عدمه ؛ وأمّا إذا طلب منه على تقدير وجوده ، فلا ، كما في طلب الرجل تعلّم ولده الذي يعلم أنّه سيولد ، وكما في خطاب النبيّ كلّ مكلّف يولد إلى يوم القيامة.

قلت : البديهة حاكمة بسفه من يخاطب معدوما ويطلب منه ، سواء طلب منه في حال عدمه أم على تقدير وجوده ، وسواء خاطبه خاصّة أم في

__________________

(١) سورة الأنبياء ٢١ : ٢.

(٢) سورة الحجر ١٥ : ٩.

٢٤٧

ضمن جماعة حاضرين ؛ لأنّ أصل التوجّه إليه بالطلب سفه!

وأمّا مثال الولد ، فليس فيه إلّا الميل والعزم على الطلب ..

قال في « شرح المواقف » : « أمّا نفس الطلب ، فلا شكّ في كونه سفها ، بل قيل : هو غير ممكن ؛ لأنّ وجود الطلب بدون من يطلب منه شيء محال » (١).

كما إنّ خطاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما هو للحاضرين ، ويثبت لمن عداهم بأدلّة اشتراك الأمّة في التكليف.

وأمّا ما أجاب به عن لزوم الكذب ، فمناقشة لفظيّة ، ليس لها ـ لو صحّت ـ أثر في دفع الإشكال ؛ لأنّ المقصود أنّ قوله تعالى في الأزل : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ) (٢) .. ( إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً ) (٣) حكم غير مطابق للواقع ، ينزّه الله تعالى عن مثله ، فلا أثر لعدم تسميته كذبا في الاصطلاح.

ومنه يعلم بطلان ما أجيب به ، من أنّ كلامه تعالى في الأزل لا يتّصف بالماضي والحال والاستقبال ؛ لعدم الزمان ، وإنّما يتّصف بذلك بحسب التعلّقات بعد حدوث الأزمنة.

وذلك لأنّ عدم صحّة اتّصافه في الأزل بالماضي لا يجعل قوله تعالى في الأزل : ( إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً ) حكما صادقا مطابقا للواقع حتّى يرتفع الإشكال.

بل هذا الجواب قد كشف عن إشكال آخر عليهم ، وهو عدم صحّة قولهم : إنّ النفسي مدلول اللفظي ، إذ لا يمكن أن يكون ما ليس له زمان

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ٩٧.

(٢) سورة الحجر ١٥ : ٩.

(٣) سورة نوح ٧١ : ١.

٢٤٨

عين مدلول ما هو مقيّد بالزمان ، اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّ مراد المجيب أنّ الكلام النفسي ـ المدلول للّفظي ـ هو ما قيّد بالتعلّقات الحادثة ، فلا يرد شيء من ذلك ، ولكنّه لا يتمّ على مذهبهم لقولهم بقدم النفسي.

ثمّ لا يخفى أنّ مثل قوله تعالى : ( إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً ) لا يصحّ أن يكون الكلام النفسي فيه من قبيل : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) (١) ممّا ليس بماض ونزّل منزلة الماضي ، حتّى يرتفع الكذب.

وذلك لأنّ التنزيل للمعنى يستدعي دلالة اللفظ على المنزّل ، ومن المعلوم أنّ لفظ قوله تعالى : ( أَرْسَلْنا نُوحاً ) دالّ على الماضي حقيقة ، لا الماضي تنزيلا.

وأمّا ما أجاب به عن قوله تعالى : ( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ ) .. الآية (٢).

ففيه : إنّ الآية تدلّ على حدوث الأمر التكويني في المستقبل ، بما هو حامل للمعنى ـ الذي هو الكلام النفسي عندهم ـ ، إذ ليس المقصود مجرّد حدوث لفظ ( كُنْ ) ؛ لأنّ الأثر في التكوين ليس للّفظ نفسه ، بل لما تحمل من المعنى القائم بالنفس ، وهو الذي يتفرّع عليه كون الشيء وحدوثه في المستقبل ، وتفرّعه عليه هنا ظاهر في حدوثه بعد انقضائه ، ولا ينقضي إلّا الحادث ؛ لأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه!

* * *

__________________

(١) سورة يس ٣٦ : ٥١ ، وسورة ق ٥٠ : ٢٠.

(٢) سورة النحل ١٦ : ٤٠.

٢٤٩
٢٥٠

استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة

قال المصنّف ـ قدّس الله نفسه ـ (١) :

المطلب الرابع

في استلزام الأمر والنهي : الإرادة والكراهة

كلّ عاقل يريد من غيره شيئا على سبيل الجزم فإنّه يأمره به ، وإذا كره الفعل فإنّه ينهى عنه.

وإنّ الأمر والنهي دليلان على الإرادة والكراهة.

وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك ، وقالوا : إنّ الله تعالى يأمر دائما بما لا يريده ، بل بما يكرهه ، وإنّه ينهى عمّا لا يكرهه ، بل عمّا يريده (٢)!

وكلّ عاقل ينسب من يفعل هذا إلى السفه والجهل ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

__________________

(١) نهج الحقّ : ٦٣.

(٢) انظر ذلك تصريحا أو مؤدّى في : الإبانة عن أصول الديانة : ١٢٦ ـ ١٣١ ، اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٥٦ ـ ٥٨ ، تمهيد الأوائل : ٣١٩ ـ ٣٢٢ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٦٨ ـ ١٧٠ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٨٣ ـ ٨٤ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٣ ـ ٣٤٤ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٨ ـ ٢٨٩ ، المسائل الخمسون : ٦٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٧٤ ، شرح العقائد النسفية : ١٣٨ ـ ١٤١ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣ ـ ١٧٤.

٢٥١

وقال الفضل (١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ الله تعالى مريد لجميع الكائنات ، غير مريد لما لا يكون ، فكلّ كائن مراد له ، وما ليس بكائن ليس بمراد له (٢).

ومذهب المعتزلة ومن تبعهم من الإمامية : إنّه تعالى مريد للمأمور به ، كاره للمعاصي والكفر (٣).

ودليل الأشاعرة : إنّه تعالى خالق الأشياء كلّها ، وخالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة (٤) ، والصفة المرجّحة لأحد المقدورين هو الإرادة ، ولا بدّ منها.

فإذا ثبت أنّه مريد لجميع الكائنات.

وأمّا المعتزلة ، فإنّهم لمّا ذهبوا إلى أنّ أفعال العباد مخلوقة لهم ، وأثبتوا في الوجود تعدّد الخالق ، يلزمهم نفي الإرادة العامّة ، فالله تعالى عندهم يريد الطاعات ويكره المعاصي ، فيأمر بالطاعات وينهى عن المعاصي لأنّها ليست من خلقه.

وعند الأشاعرة : إنّه تعالى يريد الطاعات ويأمر بها ـ وهذا ظاهر ـ ،

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

(٢) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٧٠ ، الأربعين في أصول الدين ١ / ٣٤٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣.

(٣) انظر ذلك صراحة أو مضمونا في : شرح الأصول الخمسة : ٤٥٦ ـ ٤٥٧ ، شرح جمل العلم والعمل : ٥٦ ـ ٦٠ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣.

(٤) المسائل الخمسون : ٥٩ ـ ٦٠ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٤.

٢٥٢

ويريد المعاصي وينهى عنها (١).

والأمر غير الإرادة ـ كما مرّ في الفصل السابق ـ ، وليس المراد من الإرادة الرضا والاستحسان ..

فقوله : إنّ الأشاعرة يقولون : « إنّ الله تعالى يأمر بما لا يريده » أراد به أنّ الله تعالى يأمر بإيمان الكافر ولا يريده.

فالمحذور الذي ذكره من مخالفة العقلاء ناشئ من عدم تحقّق معنى الإرادة ..

فإنّ المراد بالإرادة هاهنا هو التقدير والترجيح في الخلق ، لا الرضا والاستحسان كما هو المتبادر ، فذهب إلى اعتبار معنى الإرادة بحسب العرف.

وإذا تحقّقت معنى الإرادة علمت مراد الأشاعرة ، وأنّه لا نسبة للجهل والسفه إلى الله ، تعالى عن ذلك كما ذكره.

* * *

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٧٣ ـ ١٧٤.

٢٥٣

وأقول :

لا يخفى أنّ المصنّف رحمه‌الله قد ذكر أمرا ضروريا ، وهو : أنّ أمر العاقل بشيء دليل على رضاه به ، وإرادته له من الغير ؛ وأنّ نهيه عن شيء دليل على عدم رضاه به ، وكراهته له.

وذكر أنّ الأشاعرة خالفوا العقلاء في ذلك فقالوا : إنّ الله سبحانه يأمر بما لا يرضى ولا يريد ، وينهى عمّا يرضى ويريد ...

ووجهه : إنّ الأفعال عندهم مخلوقة لله تعالى ، وبالضرورة أنّ الفاعل القادر المختار إنّما يفعل ما يرضى ويريد ، ويترك ما لا يرضى ولا يريد.

فإذا فرض أنّه سبحانه أمر بما ترك ، فلا بدّ أن يكون قد أمر بما لا يرضى ولا يريد ..

وإذا فرض أنّه نهى عمّا فعل ، فلا بدّ أن يكون قد نهى عمّا رضي وأراد.

وهذا يستوجب السفه ، تعالى الله عنه وعن كلّ نقص.

وحاصل جواب الفضل ـ بعدما أطال في فضول الكلام ـ أنّ معنى الإرادة في كلام الأشاعرة : هو التقدير.

فيكون معنى قولهم : يأمر بما لا يريد ، وينهى عمّا يريد ؛ أنّه يأمر بما لا يقدّر ، وينهى عمّا يقدّر ؛ وهذا لا يستلزم السفه.

وفيه : إنّ تقدير الشيء وإيجاده فرع الرضا به والإرادة له ، وإنّ عدم تقدير الشيء وعدم إيجاده فرع عدم الرضا به وعدم الإرادة له.

٢٥٤

فإذا فرض أنّ الله سبحانه أمر بما لم يقدّر ونهى عمّا قدّر ، فقد لزم أن يكون آمرا بما لا يرضى ولا يريد ، وناهيا عمّا يرضى ويريد ؛ وهو السفه ، تعالى الله عنه وجلّ شأنه.

على إنّ تفسيره للإرادة بالتقدير خطأ ؛ لأنّها صفة ، والتقدير فعل!

ثمّ إنّ قوله : « وعند الأشاعرة أنّه تعالى يريد الطاعات ويأمر بها ».

غير متّجه ؛ لأنّه إن قصد كلّ الطاعات فغير صحيح ؛ لأنّه تعالى عندهم إنّما أراد بعضها ، وهو ما أوجده خاصة.

وإن أراد بعضها ، فذكره له فضلة ؛ لأنّ كلام المصنّف رحمه‌الله تعالى ليس في المراد عندهم من الطاعات ، بل في غير المراد الذي لم يتعلّق به الوجود.

وإنّما قيّد المصنّف بالدوام في ما نقله عنهم بقوله : « قالوا : إنّ الله تعالى يأمر دائما بما لا يريد » للإشارة إلى استمرار ترك الطاعات باستمرار الأزمنة ، أو إلى أنّ أمره بما لا يريده دائم بدوام ذاته على ما زعموه من الكلام النفسي!

والله العالم.

* * *

٢٥٥
٢٥٦

كلامه تعالى صدق

قال المصنّف ـ أعلى الله درجته ـ (١) :

المطلب الخامس

في أنّ كلامه تعالى صدق

إعلم أنّ الحكم بكون كلام الله صادقا لا يجوز عليه الكذب ، إنّما يتمّ على قواعد العدلية (٢) ، الّذين أحالوا صدور القبيح عنه تعالى من حيث الحكمة.

ولا يتمشّى على مذهب الأشاعرة لوجهين :

الأوّل : إنّهم أسندوا جميع القبائح إليه تعالى ، وقالوا : لا مؤثّر في الوجود ـ من القبائح بأسرها ، وغيرها ـ إلّا الله تعالى (٣) ، ومن يفعل أنواع

__________________

(١) نهج الحقّ : ٦٣ ـ ٦٤.

(٢) هو اسم يطلق على الإمامية ومن تابعهم من المعتزلة ؛ لأنّهم قائلون بالعدل الإلهي .. إلّا أنّ مراد المصنّف قدس‌سره هنا هو الإمامية ؛ لاقتضاء مقام البحث.

(٣) خلق أفعال العباد ـ للبخاري ـ : ٢٥ ـ ٢٦ ، اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٧١ ـ ٧٢ ، الإبانة عن أصول الديانة : ١٢٦ ـ ١٣١ المسألة ١٩٤ ـ ٢٠٥ وص ١٤٢ ذيل المسألة ٢٢٦ وص ١٤٦ جواب ٢٣٣ ، تمهيد الأوائل : ٣١٧ ـ ٣١٩ ، الإنصاف ـ للباقلّاني ـ : ٤٣ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٩٩ ، الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ : ١١٥ ـ ١١٦ الدعوى الرابعة ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٨٣ ،

٢٥٧

[ الشرك و ] الظلم والجور والعدوان وأنواع المعاصي [ وإلقبائح المنسوبة إلى البشر ] كيف يمتنع أن يكذب في كلامه؟! وكيف يقدر الباحث على إثبات وجوب كونه صادقا؟!

الثاني : إنّ الكلام النفساني عندهم مغاير للحروف والأصوات (١) ، ولا طريق لهم إلى إثبات كونه تعالى صادقا في الحروف والأصوات!

* * *

__________________

الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢٠ الفرقة الرابعة ، المسائل الخمسون : ٥٩ ـ ٦٠ المسألة ٣٤ ، شرح العقائد النسفية : ١٣٥ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٣ و ٢٣٨ وما بعدها ، شرح المواقف ٨ / ١٤٥ ـ ١٤٦ و ١٧٣ ـ ١٧٤ ، شرح العقيدة الطحاوية : ١٢٠ ـ ١٢١.

(١) الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ : ٧٥ ، المسائل الخمسون في أصول الدين : ٥٤ المسألة ٢٩ ، شرح العقائد النسفية : ١٠٨ ـ ١٠٩ ، شرح المقاصد ٤ / ١٤٣ ـ ١٤٦ ، شرح المواقف ٨ / ٩٣ ـ ٩٤.

٢٥٨

وقال الفضل (١) :

مذهب الأشاعرة : إنّه تعالى يمتنع عليه الكذب ، ووافقهم المعتزلة في ذلك ..

أمّا عند الأشاعرة : فلأنّه نقص ، والنقص على الله تعالى محال ..

وأمّا عند المعتزلة : فلأنّ الكذب قبيح ، وهو سبحانه لا يفعل القبيح (٢).

وقال صاحب « المواقف » : إعلم أنّه لم يظهر لي فرق بين النقص في الفعل وبين القبح العقلي فيه ، فإنّ النقص في الأفعال هو القبح العقلي بعينه فيها ، وإنّما تختلف العبارة (٣).

أقول :

الفرق أنّ النقص هنا يراد به النقص في الصفات ، فإنّه على تقدير جواز الكذب عليه تتّصف ذاته بصفة النقص ، وهم لم يقولوا هاهنا بالنقص في الأفعال ؛ حتّى لا يكون فرقا بينه وبين القبح العقلي كما ذكره صاحب « المواقف ».

فحاصل استدلال الأشاعرة : إنّه تعالى لو كان كاذبا لكان ناقصا في

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

(٢) شرح الأصول الخمسة : ٣١٨ ـ ٣١٩ ، شرح المواقف ٨ / ١٠٠.

(٣) المواقف : ٢٩٦ ، وانظر : شرح المواقف ٨ / ١٠١.

٢٥٩

صفته .. كما إنّهم يقولون : لو كان عاجزا أو جاهلا ، لكان ناقصا في صفته.

ولم يعتبروا ما يلزم ذلك النقص من القبح الذي يقول به المعتزلة.

فتأمّل ، والفرق دقيق!

ثمّ إنّ ما ذكره من أنّ عدم جواز الكذب عليه لا يتمشّى على قواعد الأشاعرة ، فهذا كلام باطل عار عن التأمّل!

فإنّ القول بأن لا مؤثّر في الوجود إلّا الله ، لا يستلزم إسناد القبائح إليه ؛ لأنّ فعل القبائح من مباشرة العبد ، فهو غير مستند إلى الخالق.

ثمّ من خلق القبائح فلا بدّ أن يكذب ، ولا يجوز أن يكون صادقا.

هذا غاية الجهل والعناد والخروج عن قاعدة البحث ، بحيث لو نسب هذا الكلام إلى العوامّ استنكفوا منه.

وأمّا ثاني الاستدلالين على عدم التمشّي ؛ فهو أيضا باطل صريح ، فإنّ من قال : امتنع الكذب عليه للزوم النقص ، فهذا الكذب يتعلّق بالدالّ على المعنى النفساني ، وهو أيضا نقص ، فكيف لا يتمشّى؟!

* * *

٢٦٠