دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٢

الشيخ محمد حسن المظفر

دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد حسن المظفر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-355-1
الصفحات: ٤٥٤

إنّه تعالى لا يرى

قال المصنّف ـ أعلى الله درجته ـ (١) :

المبحث السابع

في أنّه تعالى يستحيل أن يرى

خالفت الأشاعرة كافّة العقلاء في هذه المسألة ، حيث حكموا بأنّ الله تعالى مرئيّ للبشر! (٢).

أمّا الفلاسفة [ وإلمعتزلة ] والإمامية : فإنكارهم لرؤيته تعالى ظاهر ولا شكّ فيه (٣).

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٦ ـ ٤٨.

(٢) الإبانة عن أصول الديانة : ٥٨ ـ ٧١ ، تمهيد الأوائل : ٣٠١ ـ ٣٠٧ ، الاعتقاد على مذهب السلف : ٥٨ ـ ٦٧ ، الاقتصاد في الاعتقاد : ٤١ ـ ٤٨ الدعوى ٩ ، بحر الكلام : ١٣٧ ، الملل والنحل ١ / ٨٧ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٥٦ ـ ٣٥٧ ، الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٦٦ ـ ٣٠٤ المسألة ١٩ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٧٢ ـ ٢٧٨ ، المسائل الخمسون في أصول الدين : ٥٦ ـ ٥٨ المسألتان ٣١ و ٣٢ ، شرح المقاصد ٤ / ١٧٩ ، شرح المواقف ٨ / ١١٥.

(٣) انظر رأي الفلاسفة والمعتزلة في : شرح الأصول الخمسة : ٢٣٢ ، بحر الكلام : ١٣٧ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٥٦ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٧٢.

وانظر رأي الإمامية في : أوائل المقالات : ٥٧ رقم ٢٥ ، شرح جمل العلم والعمل : ٧٦ ، تجريد الاعتقاد : ١٩٤ ، المنقذ من التقليد ١ / ١١٤ ـ ١٣٠.

١٠١

وأمّا المشبّهة والمجسّمة : فإنّهم إنّما جوّزوا رؤيته تعالى ؛ لأنّه [ عندهم ] جسم ، وهو مقابل للرائي (١).

( فلهذا قالوا بإمكان رؤيته تعالى ، ولو كان تعالى مجرّدا عندهم لحكموا بامتناع رؤيته ) (٢).

فلهذا خالفت الأشاعرة باقي العقلاء ، وخالفوا الضرورة أيضا ، فإنّ الضرورة قاضية بأنّ ما ليس بجسم ، ولا حالّ في جسم ، ولا في جهة ، ولا مكان ، ولا حيّز ، ولا يكون مقابلا ، ولا في حكم المقابل ، فإنّه لا يمكن رؤيته.

ومن كابر في ذلك فقد أنكر الحكم الضروري ، وكان في ارتكاب هذه المقالة سوفسطائيا.

وخالفوا أيضا آيات الكتاب العزيز الدالّة على امتناع رؤيته تعالى ، فإنّه قال عزّ من قائل : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ... ) (٣) تمدّح بذلك ؛ لأنّه ذكره بين مدحين ، فيكون مدحا ، لقبح إدخال ما لا يتعلّق بالمدح بين مدحين ، فإنّه لا يحسن أن يقال : فلان عالم فاضل ، يأكل الخبز ، زاهد ورع.

وإذا تمدّح بنفي الإبصار له ، كان ثبوته له نقصا ، والنقص عليه تعالى محال.

__________________

(١) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٣٤ ، الملل والنحل ١ / ٩٣ ـ ٩٩ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٧٢.

(٢) ما بين القوسين ليس في نهج الحقّ ؛ وأثبته المصنّف قدس‌سره من إحقاق الحقّ.

(٣) سورة الأنعام ٦ : ١٠٣.

١٠٢

وقال تعالى في حقّ موسى : ( لَنْ تَرانِي ... ) (١) .. و ( لن ) للنفي المؤبّد.

وإذا امتنعت الرؤية في حقّ موسى عليه‌السلام ففي حقّ غيره أولى.

وقال تعالى : ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ... ) (٢) .. ولو جازت رؤيته لم يستحقّوا الذمّ ، ولم يوصفوا بالظلم.

وإذا كانت الضرورة قاضية بحكم ، ودلّ محكم القرآن أيضا عليه ، فقد توافق العقل والنقل على هذا الحكم .. و [ الأشاعرة ] (٣) قالوا بخلافه ، وأنكروا ما دلّت الضرورة عليه ، وما قاد القرآن إليه.

ومن خالف الضرورة والقرآن ، كيف لا يخالف العلم النظري والأخبار؟!

وكيف يجوز تقليده ، والاعتماد عليه ، والمصير إلى أقواله ، وجعله إماما يقتدون به؟!

وهل يكون أعمى قلبا ممّن يعتقد ذلك؟!

وأيّ ضرورة تقود الإنسان إلى تقليد هؤلاء الّذين لم يصدر عنهم شيء من الكرامات ، ولا ظهر عنهم ملازمة التقوى ، والانقياد إلى ما دلّت الضرورة عليه وقطعت به الآيات القرآنية؟! بل اعتمدوا مخالفة نصّ

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ : ١٤٣.

(٢) سورة النساء ٤ : ١٥٣.

وقد جاءت الآية الكريمة مشوّشة في المصدر ، هكذا : « فقالوا لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم » ، وهو خلط بين ثلاث آيات وقع من الناسخ قطعا ؛ والمثبت في المتن من الأصل وإحقاق الحقّ ؛ فلاحظ.

(٣) أثبتناه من إحقاق الحقّ.

١٠٣

الكتاب ، وارتكبوا ضدّ ما دلّت الضرورة عليه!

ولو جاز ترك إرشاد المقلّدين ، ومنعهم من ارتكاب الخطأ الذي ارتكبه مشايخهم إن أنصفوا ، لم نطوّل الكلام بنقل [ مثل ] هذه الطامّات ، بل أوجب الله تعالى علينا إهداء العامة ، لقوله تعالى : ( وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (١) ...

( فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ) (٢).

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ١٢٢.

(٢) سورة يونس ١٠ : ١٠٨.

١٠٤

وقال الفضل (١) :

ذكر في هذا المبحث خلاف الناس في رؤية الله تعالى ، وما اختصّ به الأشاعرة من إثباتها مخالفة للباقين.

وذكر أنّهم خالفوا الضرورة ؛ لأنّه لا يمكن رؤية ما ليس بجسم ..

فقد علمت أنّ الرؤية ـ بالمعنى الذي ذكرناه ـ ليست مختصّة بالأجسام ، ولا تشترط بشرط ، لكن جرى في العادة اختصاصها بالجسم المقابل.

وقد علمت أنّ الله تعالى ليس جسما ، ولا في جهة ، ويستحيل عليه مقابلة ، ومواجهة ، وتقليب حدقة ، ونحوه ..

ومع ذلك يصحّ أن ينكشف لعباده انكشاف القمر ليلة البدر ـ كما ورد في الأحاديث الصحيحة (٢) ـ وأن يحصل لهوية العبد بالنسبة إليه هذه الحالة المعبّر عنها ب‍ : الرؤية.

فمن عبّر عن الرؤية بما ذكرناه ، وجوّز حصوله في حقّه تعالى على الوجه المذكور ، فأين هو من المكابرة ومخالفة الضرورة؟!

ثمّ إنّ ما استدلّ به على عدم جواز الرؤية من قوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) (٣) ، فإنّ الإدراك في لغة العرب هو : الإحاطة ؛ ألا

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٣٠ ـ ١٣٣.

(٢) مرّت الإشارة إلى مثل هذه الأحاديث في الجزء الأوّل ، ص ٤٩ ه‍ ١ ؛ والأحاديث المرويّة في صحاحهم في مثل ذلك كثيرة!

(٣) سورة الأنعام ٦ : ١٠٣.

١٠٥

ترى في قوله تعالى : ( قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) (١) .. فلا شكّ أنّه يريد به الإحاطة!

وأمّا الإدراك بالمعنى المرادف للعلم ، فهو من اصطلاحات الحكماء ؛ لا أنّ في كلام العرب يكون الإدراك بمعنى : العلم والإحساس.

ولا شكّ أنّ الإحاطة به [ تعالى ] نقص ، فيكون نفيه مدحا ، والرؤية التي نثبتها ليست إحاطة.

ثمّ الاستدلال بجواب موسى ، وهو قوله تعالى : ( لَنْ تَرانِي ) (٢) لمّا سأل الرؤية ، و ( لن ) للنفي المؤبّد ، فامتنعت الرؤية في حقّ موسى ، ففي حقّ غيره من باب الأولى ...

فقد أجاب عنه الأشاعرة بمنع كونه للنفي المؤبّد (٣) [ بل هو للنفي المؤكّد ].

وعندي أنّه للنفي المؤبّد ، وهذا ظاهر على من يعرف كلام العرب.

ولكنّ التأبيد المستفاد منه بحسب مدّة الحياة ؛ مثلا : إذا قال أحد لغيره : لن أكلّمك ؛ فلا شكّ أنّه يقصد التأبيد في زمن حياته ، لا التأبيد الحقيقي الذي يشمل زمان الآخرة ، وهذا معلوم في العرف.

فالمراد ب‍ : ( لَنْ تَرانِي ) نفي الرؤية في مدّة الدنيا ، وهذا لا ينافي رؤية موسى عليه‌السلام في الآخرة.

__________________

(١) سورة الشعراء ٢٦ : ٦١.

(٢) سورة الأعراف ٧ : ١٤٣.

(٣) تفسير الفخر الرازي ١٤ / ٢٤٢ ، الأربعين في أصول الدين ـ للرازي ـ ١ / ٣٠٠ جواب الشبهة الثانية ، شرح المقاصد ٤ / ٢٠٧ ، شرح المواقف ٨ / ١١٨.

١٠٦

وكذا في قوله تعالى : ( لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ... ) (١) فإنّ المراد منه [ تأبيد ] نفي التمنّي مدّة الحياة ، للعلم بأنّ اليهود في الآخرة يتمنّون الموت للتخلّص من عذاب الآخرة.

ثمّ ما ذكره من إعظام الله تعالى سؤال الرؤية من اليهود في القرآن ، والذمّ لهم بذلك السؤال ، ولو جاز ذلك لما استحقّوا الذمّ بالسؤال ..

فالجواب : إنّ الاستعظام إنّما كان لطلبهم الرؤية تعنّتا وعنادا ، ولهذا نسبهم إلى الظلم.

ولو كان لأجل الامتناع ، لمنعهم موسى عن ذلك كما منعهم حين طلبوا أمرا ممتنعا ، وهو أن يجعل لهم إلها.

فلمّا علمت أنّ العقل لا ينافي صحّة رؤية الله تعالى ، والنصوص لا تدلّ على نفيه ، فقد تحقّقت أنّ ما ادّعاه هذا الرجل من دلالة الضرورة والنصّ ، وتوافقهما على نفي الرؤية ، دعوى كاذبة خاطئة.

ولو لا أنّ الكتاب غير موضوع لبسط الدلائل على المدّعيات الصادقة الأشعرية ، بل هو موضوع للردّ على ما ذكر من القدح والطعن عليهم ، لذكرنا من الدلائل العقلية على صحّة الرؤية ، بل وقوعها! ما تحير به ألباب العقلاء ، لرزانتها ومكان رصانتها!

ولكن لا شغل لنا في هذا الكتاب إلّا كسر طامّات (٢) ذلك الرجل ومزخرفاته ، وبالله التوفيق.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٩٥.

(٢) الطامّة : الداهية تغلب ما سواها ، والأمر العظيم ؛ انظر : لسان العرب ٨ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣ مادّة « طمم ».

١٠٧

ثمّ اعلم أنّه سنح لي ـ بعد التأمّل في مسألة الرؤية ـ أنّ المنازعة فيها قريبة بالمنازعات اللفظية ، وهذا شيء ما أظنّ سبقني إليه أحد من علماء السلف.

وذلك أنّ المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية ، من نفاة الرؤية ، يذكرون في معنى الحديث المشهور ، وهو

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « سترون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر » (١)

أنّ المراد الانكشاف التامّ العلمي ، الذي لم يحصل في هذه النشأة الدنيوية ، وسيحصل هذا الانكشاف في النشأة الثانية.

والأشاعرة ـ المثبتون للرؤية ـ ذكروا : أنّ المراد بالرؤية حالة يخلقها الله في الحيّ ، ولا تشترط بضوء ، ولا مقابلة ، ولا غيرهما من الشرائط (٢).

ثمّ ذكر الشيخ الأشعري في إدراكات الحواسّ [ الخمس ] الظاهرة :

أنّها علم بمتعلّقاتها (٣).

فالإبصار ـ الذي هو عبارة عن الإدراك بالباصرة ـ يكون علما بالمبصرات ، وليست الرؤية إلّا إدراكا بالباصرة.

فعلى هذا تكون الرؤية علما خاصّا وانكشافا تامّا ، غاية الأمر أنّه حاصل من هذه الحاسّة المخصوصة.

فظهر اتّفاق الفريقين على إنّ رؤية الله تعالى ـ التي دلّت عليها الأحاديث ـ هي : العلم التامّ ، والانكشاف الكامل.

__________________

(١) انظر : صحيح البخاري ١ / ٢٣٠ ح ٣١ وج ٩ / ٢٢٨ ح ٦٢ ، صحيح مسلم ١ / ١١٢ وج ٢ / ١١٤ ، الإبانة عن أصول الديانة : ٦٤ ، تفسير البغوي ٣ / ١٩٩ ، تفسير الرازي ١٣ / ١٣٩.

(٢) شرح المواقف ٨ / ١١٦.

(٣) انظر : شرح المواقف ٧ / ٢٠٢ ـ ٢٠٤.

١٠٨

وبقي النزاع في محلّ حصولها ، فكما يجوز أن يكون محلّ حصول هذا الانكشاف قلبا ، فليجوّز المجوّز أن يكون محلّه عضوا آخر ، هو البصر ، فيرتفع النزاع بالكلّيّة.

والله أعلم.

* * *

١٠٩

وأقول :

قد سبق أنّ الرؤية ـ بالمعنى الذي ذكره ـ ليست محلّ النزاع بوجه (١) ، وقد أحدثوه فرارا ممّا لزمهم من الإشكالات ، وإنّما محلّ النزاع هو الرؤية المعروفة ، كما عرفته من دليل الأشعري.

على إنّهم إذا أقرّوا بامتناع رؤية الباري سبحانه ، فقد امتنع هذا المعنى ؛ لما سبق من أنّ الصورة الحاصلة عند التغميض إنّما تكون بعد الرؤية ، ومن توابعها ، ومحلّها الحسّ المشترك ، أو الخيال ، فلا وجه للقول بإمكانها دون الرؤية.

ولو فرض أنّهم أرادوا معنى ليس هو الرؤية المعروفة ، ولا موقوفا عليها ؛ فنحن لا نعرفه ، ولا أظنّهم يعرفونه!

فكيف يقع النزاع بيننا وبينهم فيه؟!

كما لا نحكم بامتناعه ـ عقلا أو عادة ـ قبل المعرفة.

[ جواب الإيراد على الآية الأولى : ]

وأمّا ما أورده الفضل على الآية الأولى ؛ من أنّ الإدراك في اللغة :

الإحاطة ، وأنّ النقص من جهتها ، والمدح لنفيها ..

__________________

(١) راجع الصفحة ٤٧ من هذا الجزء.

١١٠

ففيه :

إنّه لا شاهد له في كتب اللغة والآثار العربية ، بل الظاهر خلافه.

فإنّ الجدار محيط بالدار ، والصندوق محيط بما فيه ، ولا يقال : إنّهما مدركان لهما.

وعن الصحاح أنّ معنى أدركته ببصري : رأيته (١).

ولعلّه لأنّه لا يفهم من الإدراك إلّا الرؤية إذا قرن بالبصر ـ وإن كان بمعنى اللحاق (٢) ـ ، كما لا يفهم منه إلّا السماع إذا قرن بآلة السمع ، وقيل :

أدركته بأذني ، ولا يفهم منه إلّا أثر الحواسّ الأخر إذا قرن بشيء منها.

وأمّا ما استدلّ به من قوله تعالى : ( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) (٣) فليس في محلّه ؛ لأنّ الإدراك فيه هو : اللحاق ، فمعنى مدركون : ملحوقون.

وقد أقرّ في « المواقف » وشرحها ، والتفتازاني في « شرح المقاصد » بأنّ الإدراك بمعنى اللحاق (٤).

لكن زعموا أنّ اللحاق والوصول يقتضي الإحاطة ، فيكون الإدراك في الآية بمعنى : الرؤية المحيطة (٥)!!

ولا أعرف وجها للاقتضاء والاستلزام!

__________________

(١) الصحاح ٤ / ١٥٨٢ مادّة « درك ».

(٢) انظر : الصحاح ٤ / ١٥٨٢ ، لسان العرب ٤ / ٣٣٤ ، تاج العروس ١٣ / ٥٥٢ ، مادّة « درك ».

(٣) سورة الشعراء ٢٦ : ٦١.

(٤) المواقف : ٣٠٩ ، شرح المواقف ٨ / ١٤٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٠١ الشبهة الرابعة.

(٥) المواقف : ٣٠٩ ، شرح المواقف ٨ / ١٤٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٠١ الشبهة الرابعة.

١١١

نعم ، استشهد لذلك في « شرح المقاصد » بقوله : « ولذا يصحّ :

رأيت القمر وما أدركه بصري لإحاطة الغيم به ؛ ولا يصحّ : أدركه بصري وما رأيته » (١).

وهو بظاهره غير تامّ ، لأنّه إن حصل الغيم والحاجب عن القمر ، لم يصحّ أيضا « رأيته » كما لا يصحّ « أدركه بصري » ؛ وإن لم يحصل الحاجب صحّ أن يقال : « رأيته وأدركه بصري » معا.

على إنّ أخذ الإحاطة في معنى الإدراك ، بقوله سبحانه : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) (٢) غير متصوّر ، سواء أريد الإحاطة بحقيقة المرئي وماهيّته ، أم بجوانبه وباطنه ، إذ ليس من شأن الأبصار إحدى هاتين الإحاطتين حتّى يتمدّح تعالى بنفي إحاطة الأبصار به هذه الإحاطة.

على إنّ إحاطة الأبصار بجوانب المرئي إنّما تكون مع صفائه ، كالزجاج ، فإذا فرض أنّ الله سبحانه نفاها عنه ، وجعلها نقصا في حقّه ـ وهي أشبه بالكمال ـ ، فرؤيته بلا إحاطة أولى بالانتفاء ؛ لأنّها لا تكون إلّا مع كثافة المرئي.

هذا ، وقد أورد القوم على الاستدلال بالآية بأمور أخر :

الأوّل :

ما عن الفخر الرازي ، وهو : إنّ التمدّح إنّما يحصل بنفي الرؤية إذا

__________________

(١) شرح المقاصد ٤ / ٢٠٤.

(٢) سورة الأنعام ٦ : ١٠٣.

١١٢

كانت جائزة عليه تعالى ، وكان قادرا على منع الأبصار عن رؤيته تعالى ، كالمدح بنفي الظلم والعبث .. فتدلّ الآية على جواز رؤيته تعالى لا على امتناعها (١).

وفيه :

إنّ اعتبار ذلك إنّما يتمّ في ما يرجع إلى الفعل ؛ لأنّه لا يصحّ المدح فيه إلّا مع إمكانه والقدرة عليه ، لتعلّقه بالقصد.

وأمّا ما يرجع إلى الذات والصفات الذاتية فلا ، كالعلم ، والقدرة ، والوحدانية.

ولذا يصحّ تمدّحه تعالى بأنّه لا شريك له ، ولا ولد له ، مع عدم جواز جعله للشريك والولد ، وعدم تعلّق قدرته بهما.

ويصحّ تمدّحه بأنّه غير عاجز ، مع عدم جواز العجز عليه ، وعدم تعلّق قدرته به.

الثاني :

إنّه لو صحّ المدح بنفي الرؤية لامتناعها ، لصحّ مدح المعدوم به ؛ وهو باطل (٢).

__________________

(١) الأربعين في أصول الدين ١ / ٣٠٠ ، تفسير الفخر الرازي ١٣ / ١٣٥ الوجه السادس من المسألة الثانية ، وانظر : شرح المقاصد ٤ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٢) الأربعين في أصول الدين ١ / ٣٠٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٠٥ ـ ٢٠٦ ، شرح المواقف ٨ / ١٤١.

١١٣

وكذا الكيفيات النفسانية ونحوها ، ممّا تمتنع رؤيتها عندكم.

وفيه :

إنّه إنّما تمدّح بمجموع الأمرين ، أعني أنّه يدرك الأبصار ولا تدركه ، فإنّ ذلك مختصّ به ، كما تمدّح في آية أخرى بقوله : ( وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ) (١) ، مع إنّ مدحه تعالى بامتناع رؤيته لا يستلزم صحّة مدح غيره به وإن ثبت له ، فإنّه تعالى يمدح بأنّه جبّار متكبّر ، ولا يصحّ مدح غيره به ، على إنّ المطلوب لا يتوقّف على اختصاص المدح به تعالى.

الثالث :

إنّ ( اللام ) في الْأَبْصارُ إن كانت للعموم ، كان النفي في قوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) (٢) موجبا لسلب العموم ، وهو سلب جزئي.

وإن كانت ( اللام ) للجنس ، كان قوله : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) سالبة مهملة ، وهي في قوّة الجزئية ..

ونحن نقول بموجب الجزئية ؛ لأنّ الكفّار لا يرونه تعالى في الآخرة إجماعا.

بل نقول : تخصيص البعض بالنفي يدلّ على الثبوت للبعض الآخر ،

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ : ١٤.

(٢) سورة الأنعام ٦ : ١٠٣.

١١٤

فتكون الآية حجّة لنا لا علينا (١).

ولو سلّم أنّ مدلول الآية عموم السلب ، فلا نسلّم عمومه في الأحوال والأوقات ، حتّى في يوم القيامة.

وفيه :

إنّ الجمع المحلّى ب‍ ( اللام ) ظاهر في العموم بلا ريب ، فيتعيّن الوجه الأوّل.

كما إنّ النسبة نسبتان : إيجابية ، وسلبية ؛ وخصوصهما وعمومهما تابعان لخصوص متعلّقهما وعمومه ، بلا فرق بينهما ، إلّا أنّ النفي قد يتوجّه إلى نفس العموم لا النسبة ، فيفيد سلب العموم ، لكنّه أجنبيّ عن قوله سبحانه : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) ، فلا يراد به إلّا عموم السلب كغيره من الآيات المستفيضة ، كقوله تعالى : ( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ ) (٢) ..

( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (٣) ..

( وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) (٤) ..

( وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ) (٥) ..

__________________

(١) الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٩٩ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٠١ ـ ٢٠٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٣٩ ـ ١٤١.

(٢) سورة آل عمران ٣ : ١٠٨.

(٣) سورة فصّلت ٤١ : ٤٦.

(٤) سورة هود ١١ : ٨٣.

(٥) سورة النساء ٤ : ١٠٥.

١١٥

( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ) (١) ..

( لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) (٢).

.. إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.

وقد أقرّ التفتازاني بذلك ، فقال في « شرح المقاصد » عند الكلام في قوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) : كون الجمع المعرّف ب‍ ( اللام ) ـ في النفي لعموم السلب ـ هو الشائع في الاستعمال ، حتّى لا يوجد ـ مع كثرته ـ في التنزيل إلّا بهذا المعنى ، وهو اللائق بالمقام كما لا يخفى (٣).

وقال في « شرح المطوّل » في بحث تعريف المسند إليه ب‍ ( اللام ) ، في شرح قول الماتن : « واستغراق المفرد أشمل » : « وبالجملة : فالقول بأنّ الجمع المحلّى ب‍ ( اللام ) يفيد تعلّق الحكم بكلّ واحد من الأفراد ـ مثبتا كان أو منفيا ـ ممّا قرّره الأئمّة ، وشهد به الاستعمال ..

وصرّح به صاحب ( الكشّاف ) في غير موضع » (٤).

على إنّ مقابلة قوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) بقوله : ( وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ) المفيد للعموم ، دالّة على إرادة العموم في الأوّل أيضا ؛ لأنّ المقصود به الامتياز والافتخار على كلّ بصر.

ولو سلّم أنّ ( اللام ) للجنس ، فلا معنى لجعل قوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) سالبة مهملة ؛ لأنّ وقوع الجنس في حيّز النفي

__________________

(١) سورة يونس ١٠ : ٧٧.

(٢) سورة النمل ٢٧ : ١٠.

(٣) شرح المقاصد ٤ / ٢٠٣.

(٤) شرح المطوّل : ٨٦.

١١٦

أظهر في إرادة العموم (١) ..

مع إنّ ما زعمه المعترض من أنّ تخصيص البعض بالنفي يفيد الإثبات للبعض الآخر ؛ باطل بالضرورة ، فإنّ قولنا : ما قام ( زيد ؛ لا يدلّ على قيام غيره ) (٢).

وأمّا عدم تسليمه لعموم الأحوال والأوقات ، فليس في محلّه ؛ لحكم العقل بأنّ الإطلاق في مورد البيان ، وعدم القرينة على التقييد ، يفيد العموم (٣) ، وإلّا لنافي الحكمة ، لا سيّما في مقام المقابلة وإظهار الامتياز على العامّ.

[ جواب الإيراد على الآية الثانية : ]

وأمّا ما أورده على الآية الثانية ، من أنّ ( لن ) تفيد التأبيد المقيّد بمدّة الحياة ..

ففيه :

إنّ التقييد بها منتف وضعا بالضرورة ؛ وغير ثابت بالقرينة ، لعدمها ظاهرا ، فينبغي الحكم بالتأبيد بلا قيد ، كما هو الظاهر.

__________________

(١) انظر : المحصول في علم الأصول ١ / ٣٦٩ ف ٤ ، الإحكام في أصول الأحكام ـ للآمدي ـ ١ / ٤١٥ ، كفاية الأصول : ٢١٧ و ٢٤٦.

(٢) في المطبوعتين بدل ما بين القوسين : بعض الناس ؛ لا يدلّ على قيام البعض الآخر.

(٣) انظر : كفاية الأصول : ٢٤٨.

١١٧

على إنّ النفي إذا تعلّق بالمطلق ، أفاد نفيه مطلقا.

وهذا بخلاف قوله تعالى : ( لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ) (١) فإنّ القرينة فيه على التأبيد في الدنيا موجودة ، وهي قوله تعالى : ( بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) (٢) ، فإنّه دالّ على أنّهم يخافون في الدنيا الموت فيها ، فلا يتمنّونه بها ، لتقديمهم ما يستحقّون به العذاب في الآخرة.

على إنّه يكفي هنا القرينة العقلية ، وهي ما ذكره الخصم من القطع بأنّهم يتمنّون الموت في الآخرة تخلّصا من العقاب.

فإن قلت :

غاية ما يدلّ عليه قوله تعالى : ( لَنْ تَرانِي ) (٣) هو نفي الرؤية خارجا ، ومدّعاكم امتناعها ذاتا!

قلت : إذا ثبت تأبيد النفي ، ثبت بطلان قول الأشاعرة بالرؤية في الآخرة ؛ وهو المطلوب.

على إنّ المراد بالنفي ـ هنا ـ : الامتناع ، بقرينة قول موسى عليه‌السلام بعد الإفاقة : ( سُبْحانَكَ ) (٤) فإنّه للتنزيه ، والتنزيه عن الرؤية دليل على أنّها نقص ، فتمتنع ؛ كما ستعرفه إن شاء الله.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٩٥.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٩٥.

(٣) سورة الأعراف ٧ : ١٤٣.

(٤) سورة الأعراف ٧ : ١٤٣.

١١٨

[ جواب الإيراد على الآية الثالثة : ]

وأمّا ما أجاب به عن الآية الثالثة ، من أنّ الاستعظام إنّما هو لطلبهم الرؤية تعنّتا وعنادا ...

ففيه :

أوّلا : إنّ الاستعظام إنّما هو ـ ظاهرا ـ لعظم المسؤول (١) ، المعبّر عنه في الآية ب‍ : ( أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ ).

وثانيا : إنّ استدلال المصنّف بالآية ليس من جهة الاستعظام ، حتّى يقال : إنّه لأجل التعنّت ؛ بل من حيث ذمّهم ونسبتهم إلى الظلم بطلبهم الرؤية ، ولا يكون طلبهم ظلما إلّا بكون الرؤية نقصا ممتنعا عليه تعالى.

ودعوى أنّها لو كانت ممتنعة لمنعهم موسى من طلبها كما منعهم من جعل الآلهة ، باطلة ؛ لجواز علمه بعدم امتناعهم بمنعه في المقام ..

أو أنّه منعهم فلم يمتنعوا ، كما يقرّ به إصرارهم وقولهم : ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ) (٢) ..

ولو كان منعه مؤثّرا فيهم لمنعهم من طلب الرؤية حتّى لو كانت ممكنة ؛ لعلمه بأنّها لا تقع في الدنيا.

وأمّا ما تحمّس به من قوله : « لذكرنا من الدلائل العقلية على صحّة

__________________

(١) في المطبوعتين : السؤال.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٥٥.

١١٩

الرؤية ، بل وقوعها » ..

فإنّه كلام لا يحتمل الصدق ، وفيه إزراء بحقّ أشياخه.

فإنّهم أفنوا أعمارهم ولم يأتوا بما يمكن أن يذكر بصورة الدليل ، إلّا ما حكوه عن الأشعري كما سمعت ، وقد جعلوه ـ هم وغيرهم ـ هدفا لسهام النقد!

على إنّهم إنّما يستدلّون به للإمكان ، فكيف يأتي بالأدلّة العقليّة على الوقوع؟!

ومن العجيب أنّه بعد ما تحمّس هذه الحماسة ، مدّ يد المسالمة وحمل قول المتخاصمين على العلم التامّ ، إلّا أنّ محلّه العين!!

فإن أراد بالعلم التامّ بالله سبحانه ، والانكشاف الكامل له : انكشاف حقيقته تعالى ؛ فنحن لا نقول به ، ولا أظنّ أصحابه يرتضونه.

وإن أراد به : العلم التامّ بوجوده وصفاته ؛ فنحن نقول به ، وكذلك أصحابه.

لكنّ حمل الرؤية عليه بعيد ، بل مقطوع بخلافه ، لا سيّما وهذا العلم لا يختصّ بالمؤمن ، بل يثبت في القيامة للمؤمن والكافر بلا فرق ، فكيف يحمل عليه كلامهم ، وأخبارهم الدالّة على انكشافه سبحانه للمؤمنين خاصّة؟!

وما نسبه إلى الأشعري ـ من أنّ إدراك الحواسّ الظاهرة علم بمتعلّقاتها ـ ، فمسامحة ، أو سفسطة!

وأمّا ما نسبه إلى الإمامية ـ من حملهم لما سمّاه حديثا مشهورا على الانكشاف الكامل التامّ ـ ، فهو فرية عليهم ، إذ لا يخطر ببال أحد منهم اعتباره حتّى يحتاج إلى التأويل والحمل.

١٢٠