رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

جون لويس بوركهارت

رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: فؤاد أندراوس
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة
الطبعة: ٠
ISBN: 977-437-201-8
الصفحات: ٣٩٢

العلماء يوزع الصبيان الوافدين من البلاد المجاورة التماسا للعلم على معارفه فيقيمون ويأكلون فى بيوتهم ما شاءوا.

وينغمس الجند منهم ـ لا العلماء ـ فى شرب عرقى البلح ، ويروى أن نساءهم على جانب من سوء الخلق ، ويسافر التجار منهم إلى دارفور وسنار وسواكن ، وحين يصيب القحط جزيرة العرب يصدرون القمح والذرة إلى سوق جدة بطريق سواكن. وتسافر قافلة من الحجاج كل عام إلى هذين البلدين ، وتبعد سواكن مسيرة اثنى عشر يوما من حدود إقليم الشايقية.

والآن وقد فرغت من هذا الموجز لدنقلة وما يحف بها من أقاليم أود أن أضيف إليه نبذة عن علاقاتها السياسية أثناء غزوة المماليك وعن نتائج هذه الغزوة على قدر ما تكشفت عند زيارتى للمحس. يروى العرب أن أسرتى الزبير والفونج كانتا تحكمان دنقلة من أجيال سحيقة ، فكانت الأولى تحكم الولايات الشمالية والثانية الولايات الجنوبية. ولكن نفوذ هاتين الأسرتين تقلص بعد ذلك لأن السلطة الفعلية استقرت فى يد عرب الشايقية. فقد اعتاد هؤلاء العرب أن يشنوا غارات لا تنقطع على دنقلة ، ويدمروا أحياء بأسرها. وأخيرا ، وبعد أن قتل زعماء الفونج ، اضطر شيوخ دنقلة تحت ضغط رعاياهم ، أن يصطلحوا مع الغزاة ، وتخلوا لهم عن نصف الخرج ثمنا لكفهم عن غاراتهم. وعاش الفريقان بعد ذلك فى صفاء. ولكن زعماء الشايقية كانوا يتنقلون بين دنقلة والخندق وأرقوا ليجمعوا نصيبهم من الخراج ، لذلك تيسر لهم بسط نفوذهم على كل أنحاء الإقليم ، وسرعان ما بدأت قوتهم ترجح. فلما وصل البكوات المماليك أرقو بعد هروبهم من مصر كما ذكرت آنفا ، استقبلهم كبير الشايقية محمود العدلانابى بما هو معهود فى القوم من حسن الضيافة. ولما أعلنوا أن فى نيتهم الإقامة فى سنار أجزل لهم الهدايا من الخيل والإبل والعبيد والزاد. ولكن هؤلاء اللاجئين الغادرين لم يمض عليهم بأرقو شهر من الزمان حتى انقلبوا على ولى نعمتهم متعللين بأتفه العلل ، فقتلوه هو ونفرا من حاشيته. ثم انتشروا فى الأرض ينهبون أموال الشايقية ويستولون على الخراج. وفى هذه الظروف انحاز ملك من

٦١

أسرة الزبير إلى المماليك ضد الشايقية ، فى حين قصد مصر أخوه المدعو طبل بن الزبير ملتمسا مددا من الجند والعتاد ليحارب الغزاة الجدد (١) الذين انضمت إليهم جماعة أخرى من الشايقية يبلغون الثمانين فارسا وكانوا أعداء ألداء لقبيلة محمود العدلانابى. ومنذ ذلك الحين أصبح المماليك وعرب الشايقية فى حرب متصلة ذهب ضحيتها من الفريقين نفر كثير. وفى يناير الماضى خرج المماليك بكامل قوتهم فى حملة قاصدين مروى ، وفيما هم فى طريقهم إلى الجنوب عبرت الجبال جماعة من الشايقية وانقضوا على مؤخرة المماليك وقتلوا الأنباع القلائل الذين خلفوهم فى أرقو والخندق ، ونهبوا ما بقى من ثروتهم. تلك كانت حال البلادحين بلغت تينارى. وكان الشايقية لا يزالون فى أرقو ، ونتيجة الحملة على مروى مجهولة ، وأنصار الفريقين يذيعون عنها أشد الروايات تناقضا. وكان واضحا أن المملوكين اللذين رأيتهما فى الدر لا يستطيعان فى هذه الظروف أن يلحقا برفاقهما ، وكان الرأى أنهما سينتظران ما تسفر عنه المعركة فى قلعة جانك بالمحس ، وهى حصن حصين (٢).

ويبدو لى أنه ليس أمام المماليك فى الحالة الراهنة إلا إحدى اثنتين ، فإما أن يوجهوا للصعيد ضربة يائسة أخيرة إذا واتتهم أقل فرصة ـ واحتمال نجاحهم فى هذا ضعيف نظرا ليقظة محمد على وسهره ، وإما أن يحاولوا الاستيلاء على ميناء من موانىء البحر الأحمر ، وهناك يعززون قواتهم بأمداد جديدة من رقيق جورجيا ـ لأنهم لا يقبلون بين صفوفهم غير هؤلاء. ومصوع خير مكان يصلح لمثل هذا المشروع ، وهى تبعد عن مقرهم الحالى مسيرة اثنين وعشرين يوما ، أربعة منها عبر الصحراء إلى شندى ، وثمانيه عشر من شندى إلى مصوع أكثرها على ضفاف العطبرة المزروعة. وأعتقد أن المماليك يبيتون فتح الحبشة ، ولو حاولوا تنفيذ المشروع وأفلحوا فيه لا نفتح منفذ تجارى جديد على جانب كبير من الأهمية أمام شركة الهند الشرقية.

__________________

(١) رأيت هذا الزعيم فى أسيوط ، فإذا هو أسود عارى الجسد ليس عليه من مظاهر الملوك شىء.

(٢) حين عدت لإسنا فى شهر بونيو لقيت أشخاصا من دنقلة أنبأونى أن المماليك فشلوا فى هجومهم على مروى وارتدوا إلى دنقلة.

٦٢

ولكن يا ويل بلد يحتله هؤلاء العبيد العتاة المستبيحون! صحيح إنهم الآن مملقون ، ولكن لهم من العبيد العدد الموفور ، وبهم يستطيعون أن يشتروا ما يشاءون ؛ فالعبد ضرب من العملة فى أصقاع الجنوب. وفى الصيف الماضى مات كثير من المماليك بحمى عفنة تنتشر دائما فى دنقلة صيفا وتقضى على كثير من الأهالى. ولما لم يطق المماليك الحر وهم فى ثيابهم الصوفية السميكة التى أبوا أن يغيروها ، صنعوا أطوافا قضوا عليها الصيف كله متقين الشمس بسقوف من الحصر يرشها عبيدهم بالماء بلا انقطاع لتحتفظ برطوبتها.

٦٣
٦٤

العودة من دار المحسّ إلى أسوان

٦٥
٦٦

١٥ مارس ـ يلوح أن دليلى تلقى أمرا سريا بعرقلة سفرى ، فقد طلعت علينا الشمس ولما يزل يغط فى نومه ، وليس هذا من عادة النوبيين الذين ألفوا أن يستيقظوا مع الفجر. وما إن بدأنا السير حتى زعم لى أن ببعيره عرجا يعجزه عن المشى الحثيث ، وتبينت أنه يرمى من وراء هذا الإبطاء إلى أن يتيح لجند محمد كاشف أن يلحقوا بنا ، فقلت له إن فى وسعه أن يترجل عن بعيره إن شاء لأننى خبير بالطريق إلى الدر ، ولأننى معتزم أن أنطلق إليها بأسرع ما أستطيع. فلما سمع منى هذا ظل راكبا بعيره ، ولكنه كان غير مرة يتخلف مسافة ميل ظانّا بذلك أنه يلزمنى بانتظاره.

ومضينا إلى الواوى بحذاء النيل بدل أن نعبر الصحراء ، وبعد ساعة ونصف وصلنا تجاه صلب ، وهى قرية جميلة على الضفة الغربية ، رأيت فيها أطلال معبد كبير كان فى نيتى أن أزوره بعد عبورى النهر عند تينارى ، ورأيت بعض الفلاحين يروون الأرض فى جزيرة مقابلة لصلب ، فطلبت إليهم أن ينقلونى إلى الضفة الأخرى ويعيدونى ثانية ، وعرضت عليهم أجرا هو كل ما أحمل من ذرة ، وهو أجر باهظ يعدله ، فى تقديرى ، أن تنقد ملاحا لندنيا جنيها على قيامه بمثل هذه المهمة. ولكنى لم أجد طوفا ، بل ولا قربة من هذه القرب التى يمكن أن يعبر عليها المرء النيل إذا نفخت. ولم أر من الحكمة أن أركن إلى ذراعىّ وحدهما فى السباحة إلى الضفة الأخرى ، فلم أجد بدا من استئناف رحلتى دون أن أشبع فضولى. وقد لاح لى المعبد فى ضخامة أكبر المعابد فى مصر ، كاملا لم يتهدم من جسمه شىء ، وفى بهوه من الأعمدة الضخمة عشرة أو اثنا عشر. ولعل الحظ يحالف غيرى من الرحالة فيوفق إلى فحص هذا الأثر الذى أعتقد أنه أقصى ما يوجد جنوبا من أمثلة العمارة المصرية ، فقد أنبئت عن ثقة بأنه ليس فى جنوب المحسّ ولا فى دنقلة أبنية أثرية. ولعلى كنت موفقا كل التوفيق فى عدم عبورى النهر عند تينارى وسيرى شمالا على الضفة الغربية ، ولو فعلت لالتقيت بالمملوكين اللذين كانا منطلقين حثيثا إلى الجنوب ، ولعل لقاءنا فى هذه البقعة كان يختلف عن لقائنا الودّى يوم زرتهما فى الدر من قبل.

٦٧

وبلغنا الواوى بعد ساعتين وإشمتة بعد ساعتين ونصف ، ووادى عبور بعد أربع ونصف ، ودار حميدة بعد ست ، وقوبق بعد سبع. ويتجه من الواوى صوب الشمال الشرقى بانحراف إلى الشمال جبل منفرد يسمى جبل علاقى. أما الجبل الغربى الذى قد تعد نهايته التلال الرملية المنخفضة القائمة فى أقصى جنوب بطن الحجر فيبدأ من جديد غرب جزيرة صاى ، ومنها يدور فى قوس كبير إلى الغرب ، ثم يلتقى بالنهر ثانية قرب صلب. ومن قويق عبرنا السهل الصخرى الذى تغطيه أحجار من الجزع والمرو والعقيق ، وخلفنا النهر وقرية عبرى إلى أقصى اليسار ، سالكين دربا مستقيما حتى وصلنا قرية الشيخ مجدرة من أعمال وادى عمارة ، وهناك بتنا ليلة عند رجل كان أبوه دمشقى الأصل ولكنه تزوج من هذه النواحى.

وتفسيرا للتفاوت بين المسافات المدونة فى يوميتى عن الرحلة جنوبا ، ونظائرها فى العودة شمالا ، ألفت نظر القارىء إلى أننى كنت أسير حثيثا طوال رحلتى من أسوان إلى الدر (باستثناء المناطق التى كانت تعوق سيرى فيها طبيعة الأرض الصخرية) ، وكان معدل سرعتى فيها أربعة أميال فى الساعة على الأفل. أما من الدر إلى وادى حلفا فيخيل إلىّ أننى كنت أسير بسرعة ثلاثة أميال ونصف فى الساعة ، وهبطت السرعة إلى ثلاثة أميال فى بطن الحجر. وعادت إلى أربعة من سكوت إلى المحس. وأما فى رجوعى من المحس إلى سكوت فكانت سرعتى ثلاثة أميال فى أثناء عبورى البقاع الرملية فى الضفة الغريبة من سكوت إلى الدر ، أما من الدر إلى أسوان فلم تزد سرعتى على ميلين فى الساعة ، خشية منى على البعيرين أن تؤذيهما مشقة الرحلة وعناء السير الحثيث.

١٦ مارس ـ ركبنا اليوم من شروق الشمس إلى غروبها ، ولم نصب من الراحة غير ساعة واحدة قضيناها تجاه جزيرة فركه ، مستظلين بخيمة من خيام عرب القراريش ، وقد سبق لى وصف هذا الطريق. وشاطىء النيل الغربى من دال إلى البقعة المقابلة لعمارة صحراء رملية تكاد تقفر من كل شىء. وتملأ الصخور النهر حتى عمارة ، حيث يوجد جندل صغير ، ومن ثم إلى الجنوب يخلو النهر من

٦٨

الصخور. وإلى الشرق من فرقة وسركامتو يقوم جبل عال يدعى جبل ماما ، وفى سفحه تلك الكيمان التى سبق أن ذكرتها ، ويمكن أن يعتبر هذا الجبل نهاية بطن الحجر على الضفة الشرقية. أما على الضفة الغربية المقابلة ، فإن جبال هذا الإقليم تنتهى بتلال منخفضة تسمى قتفقو. وعبرنا الجبال ثانية من الدابة إلى كولب متجهين إلى الشمال الشرقى بانحراف إلى الشرق. فوصلنا تجاه جزيرة كولب عند الغروب. وأهم الصخور التى يصادفها المسافر فى هذا الجبل هو الفلسپار ، وقرب النهر يرى الجرانيت والشست الجرانيتى. وأردت أن أعبر النهر عند كولب ولكنى وجدت الوقت قد تأخر بى ، والليل قد هبط ، فأوفدت دليلى إلى داود كرا ليبلغه تحيتى ورجائى أن يبعث إلى بعشاء ، وأن يرسل إلىّ فى الغد رجلين ليساعدانى فى نقل بعيرىّ ومتاعى القليل إلى ضفة النهر الغربية. وسرعان ما عاد الدليل يبلغنى استجابة الرجل لما طلبت. وفى الليل وصل عبد يحمل إلينا حساء الشعير. وبتنا بين الصخور إلى جوار الماء. وكان دليلى الأعرابى قد أنبىء أن الأميرين المملوكين قد اجتازا كولب من يومين قاصدين المحس ، فاغتبطت للنبأ أيما اغتباط.

١٧ مارس ـ برّ داود كرا بوعده ، فأرسل إلينا عبدين ليساعدانا فى عبور النيل. ووضعنا على الطوف الرجلين والغراتين ، وجلس أحد العبدين فى مقدمته ليجذف ، فى حين قبض زميله بإحدى يديه على المقودين وبالأخرى على مؤخرة الطوف ، وشدت إلى عنق كل بعير قربة منفوخة لتعينه على السباحة ، ولكنا لم نستطع إغراءهما بنزول الماء إلا بشق الأنفس ، لأن الإبل المصرية لم تألف عبور النهر على هذا النحو. وتجرد دليلى من ثيابه ، وقبض بإحدى يديه على ذيل بعيره ، وبالأخرى على عصا يستحثه بها على السباحة. وأشاروا على بالجلوس على الطوف ، ولكنى وجدته على وهنه مثقلا بما يحمل ، فحذوت حذو دليلى ، ووضعت ثيابى فوق الطوف ، ثم سبحت ببعيرى إلى الضفة الأخرى بالطريقة نفسها. ويخشى الناس فى المحس عبور النهر بهذه الطريقة لوجود التماسيح ، لذلك لا تجد اتصالا منتظما بين الضفتين. ولم يكن بالمركب الذى جلبه ولدا كاشف إلى تينارى ملاح يعرف كيف يسحبه من برّ لبرّ. فإذا كانت الريح مواتية نشر عليه شراع من قطع مهلهلة يكفى

٦٩

لدفع المركب إلى البر ، واذا كانت الريح مضادة شد إلى المركب جوادان بالحبال ، ثم دفعا فى الماء فجذبا المركب خلفهما وهما يسبحان.

وكان حاكم سكوت قد غادر كولب فى الصباح الباكر سعيا وراء بقرة كان من حقه أن يقتضيها خراجا من شيوخ عرب أم شريف ببطن الحجر ، فتناولت الفطور مع عبيده ثم واصلت رحلتى. ويلوح أن كولب جزيرة لم تصنعها يد الطبيعة ، ففى غربيها تجرى قناة عميقة لا يمكن أن تكون من عمل الطبيعة لشدة انتظامها ، وتجف القناة فى الربيع ، لذلك استطعنا أن نخوضها. وعلى الجانب الغربى من القناة فرجة فى الجبل ، تنبسط سهلا تخلفت فيه آثار زراعة ماضية. وعلى الجزيرة قرية صغيرة ، وأطلال أبنية من الآجر ، دخلت بناء فيها فراعنى أن أجده كنيسة إغريقية صورت على جدرانها رسوم القديسين وطليت بألوان زاهية وكتبت عليها أسماء كثير من الزوار والحجاج. والألوان محتفظة بروائها تمام الاحتفاظ ، ولعل ذلك راجع إلى ما يمتاز به جو النوبة من جفاف شديد. وكثرة الأبنية الأثرية من الآجر التى يراها المرء فى جزائر بطن الحجر دليل على أن مشيديها لم يقووا على قطع الحجر من الجبال المجاورة لهم لشدة صلابته. وسرت إلى الحدود الشمالية للجزيرة فوجدت بئرا عميقة واسعة أحيطت من داخلها بجدار من الحجر الكبير يصل إلى قمة البئر. والصخور السائدة على هذه الضفة صخور جرانيتية تتخللها طبقات من المرو سمكها ثلاث بوصات أو أربع.

وركبنا من كولب ساعتين ونصفا حتى بلغنا وادى أكمه إلى الشمال الشرقى بانحراف إلى الشمال ، وفى بطن الحجر يطلقون إسما واحدا على الواديين الواقعين على ضفتى النهر. وواصلنا السير فى الوادى أربع ساعات لم نر فيها سوى بضعة منازل خربة. ثم يخترق الطريق تلالا رملية عالية ، وبعد ست ساعات ونصف بلغنا وادى سنكى. وهنا وجدنا الرمال تنثال إلى النهر كأنها السيول ، وكانت ريح الشمال تسفى الرمل فى وجوهنا فتضايقنا أشد المضايقة. وفى وادى سنكى تعشينا فى كوخ أعرابية فقيرة كان زوجها قد انطلق إلى الدر ليبيع عنزات ويشترى بثمنها ذرة لبيته. ويزرع فى هذه الناحية وفى نواح أخرى من بطن الحجر نبات الخروع

٧٠

الذى ينمو فى صعيد مصر أيضا ، ويعلو إلى أربع أقدام أو خمس ، ومن ثماره يستخرجون زيتا طيبا يدهنون به شعورهم. وموقع أكثر هذه الوديان التى تقوم وسط الصخور وبين أشجار الطرفاء رائع لا سيما حيث يكون الماء بركا صغيرة ، ولكن البعوض يفد على هذه البرك زرافات لم تدعنا نهنأ بشىء من الراحة ، فغادرنا مكاننا حين طلع القمر ، وحططنا بعد نصف ساعة على رمال السهل الأعلى هند سفح جبل لاموله ، وكنا نسمع من موضعنا هذا خرير النهر وهو يندفع فوق الصخور عند سفح لاموله الغربى.

١٨ مارس ـ سرنا فوق سهل رملى عال متجهين شرقا بشمال. وتقوم وسط السهل تلال صخرية منعزلة تتألف منها سلسلة أشد انخفاضا من السلسلة الشرقية. وبعد مسيرة ساعتين بدأ وادى فرمكه على ضفة النهر إلى يميننا ، وكان يبعد عنا أميالا وبعد ثلاث ساعات وصلنا وادى أم قناصر ، وعلى جزيرة صخرية فيه تقوم أطلال بيوت وبرج متوسط الارتفاع وكلها من الآجر. ويسكن هذا الوادى عرب قلائل من قبيلة أم شريف يزرعون بضعة أفدنة. وقد رجونى أن أعطيهم شيئا من البارود ليقتلوا به الغزلان التى تأكل محصولهم. ذلك أن الجبل الغربى تقطنه قطعان كبيرة من الغزلان ألفت أن تهبط ليلا إلى ضفاف النهر انتجاعا للكلا الذى ينمو هناك. وكنت أرى رمال الشاطىء كل صباح تغطيها آثار أقدام نحيلة تركها هذا الحيوان الجميل. ولا يجد العرب سبيلا إلى حماية حقولهم منه إلا بنصب أشكال تروّعه ، وكثيرا ما رأيت ضبعا قبيحا صنعوه من قش وركبوه فوق أرجل من خشب. ويسكن الضبع الجبال على الضفتين ، وهو ألد أعداء الغزال. ولم أسمع بوجود وحوش كاسرة غيره فى هذه النواحى. وبعد خمس ساعات وصلنا وادى أمبقول ، وتتبعه جزائر كبيرة فى النهر. ويتصل السهل الرملى العالى الذى تتخلله التلال المنعزلة على هذا الجانب من النهر ، وتكثر المنعطفات فى النيل ، وكنا عادة نختصر الطريق بسلوك الجبل من أقصر دروبه. وسرنا من أمبقول متجهين شرق الشمال الشرقى ، حتى طوينا الوادى بعد ثمانى ساعات ونصف ، ورأيت جبل دوشه يقوم على الضفة الشرقية. وأكثر الطريق يخترق سهلا يغطيه ما يسمى بالحصى المصرى. وتتألف التلال

٧١

والآكام على جانبى الطريق طوال ثلاثة أميال من السماق الأحمر. وبعد عشر ساعات وصلنا وادى أتيرى ، ومررنا ببيت من الحجر لملك أم شريف. وقد أغار عرب الشايقية فى العام الماضى على هذا الملك وغيره من الأهالى وسلبوهم ما يملكون ، فغارات الشايقية لا تقتصر على الضفة الشرقية ، وكثيرا ما يعبرون النيل وينهبون الأهالى على البر الغربى. وبعد عشر ساعات ونصف حططنا لقضاء الليل تجاه كوخ لأسرة من عرب القراريش تسكن إحدى الجزائر ، فجاءونا بزبد ولبن ، وأخذوا منا ذرة عوضا عنهما. وجاءتنا فى الليل صبية تسألنا قليلا من الذرة لها ولأمها ، لأن الرجال كانوا يختصون أنفسهم بالخبز دونهما ، فأعطيتها بسخاء لم تحلم به ، وعادت إلينا فى الصباح الباكر تحمل قدرا من اللبن هدية من أمها. ويجدر بى أن أذكر أن دليلى كان من معارف هذه الأسرة ، وإلا لما اطمأنت الفتاة إلى الحضور بمفردها لزيارة أغراب لا تعرفهم. وتنتشر فى هذه الناحية شجيرات شوكية عالية تسمى الواحدة منها سيالة ، وتثمر ثمارا حمراء يأكلها العرب.

١٩ مارس ـ بدأنا السير على درب ضيق يخترق صخورا من الجرانيت المرو والفلسپار ، وكانت وجهتنا الشمال. وعدنا إلى ضفاف النهر بعد ساعة ونصف ، قرب الطرف الشمالى لوادى أتيرى تجاه عقبة البنات على الضفة الشرقية. ولا يجد السائر فى بطن الحجر سوى قليل من النخيل مبعثر على البر الغربى ، بعكس الحال فى البر الشرقى. ويستطيع المسافر أن يجمع التمر من هذا النخيل لأنه بغير صاحب يدعى ملكيته. ثم عبرنا الرمال ثانية من وادى أتيرى ، وبعد ثلاث ساعات بلغنا وادى سمنه ، وبقربه جندل فى النهر ، ترى النيل عنده يقتحم طريقه وسط خانق لا يتجاوز عرضه خمسين خطوة ، كونته صخرتان ماتئتان من الضفتين. ويرى المسافر أطلالا من الآجر على تل قائم فوق الجندل على البر الشرقى ، تقابلها على البر الغربى أطلال شبيهة بها ومعبد قديم شيّد فوق قمة التل. والمعبد مشيد بالحجر الرملى ، ويختلف شكلا عن سائر المعابد المصرية وإن كان هناك بعض الشبه بين تصميمه وتصميم معبد إلفنتين الصغير. ويتألف المعبد من مبنى رئيسى طوله اثنتا عشرة خطوة ، وعرضه لا يزيد على ثلاث. وكانت تقوم

٧٢

فى كل جانب من جانبيه أربعة أعمدة صغار بقى منها اثنان فى جانب وثلاثة فى الجانب الآخر. وأحد العمودين مضلع البدن ، أما سائر الأعمدة فمربع ، وجميعها

ملأى بالنقوش. وتربط الأعمدة بالبناء الرئيسى كتل من الحجر تؤلف سقف المدخل. وللمعبد بوابتان صغيرتان ، وجدرانه الداخلية تكسوها النقوش الهيروغليفية والصور الدينية التى تمثل عبادة الآلهة. وعلى الجانبين رسم مركب طويل بداخله أوزيريس ، ويتكرر رسم الأشخاص أزواجا أزواجا ، وكل شخص منهم يضع يديه على كتفى صاحبه. والسقف مطلىّ باللون الأزرق ، وعلى كثير من رسوم الأشخاص بقايا ألوان قديمة. ورأيت تمثالا ملقى على الأرض بجوار الحائط الخلفى تجاه المدخل الرئيسى ، ورأس التمثال مقطوع ، وارتفاعه حوالى خمس أقدام ، وتتقاطع ذراعاه على صدره ، وفى إحدى يديه سوط وفى الأخرى صولجان. وقد تبينت على حائط المعبد الخارجى رسوما للكبش مندس (پرياپوس المصرى). والنقوش كلها فجة الصناعة ، وفى بعض السطور التى خطت عليها النقوش الهيروغليفية اعوجاج كأنها من عمل صغار لم يحذقوا فنهم بعد. وقد تركت بعض نقوش الأعمدة ناقصة نقصا ظاهرا ، وما كمل منها كان خشن الصنعة رديئها. وفى الجدار قسم يبدو أنه بنى فى عهد غير العهد الذى بنى فيه سائره ، فأحجاره أكبر حجما وأدق نحتا. ويلوح أنه كان يقوم إلى جوار هذا المعبد معبد آخر نظيره ، فقد رأيت على الأرض تيجانا لأعمدة وكتلة ضخمة من الجرانيت تملؤها النقوش الهيروغليفية. وحول المعبد أكوام من الأنقاض ومبان خربة من الآجر لا شك عندى فى قدمها السحيق ، وتنتشر المبانى فوق قمة التل المشرفة على الضفة يحيط بها سور مزدوج ، أو على الأصح سور داخل متراس.

٧٣

والسور من الآجر سمكه من ثمانى أقدام إلى اثنتى عشرة ، ويتجاوز ارتفاعه فى أجزائه الكاملة ثلاثين قدما. أما المتراس فمن الحجر ، وعرضه عشرون قدما ، وجوانبه تميل صوب منحدر التل. وأحجاره مكومة بعضها فوق بعض بغير نظام وبلا ملاط ، ولكن أحجار الجوانب المائلة إما منحوتة أو موضوعة بمهارة ، بحيث تجعل السطح أملس مصقولا لا يمكن تسلقه يوم كان هذا البناء يلقى رعاية واهتماما. وأمثال هذه الأبنية الحصينة دليل على وجود الأعداء الأقوياء فى ذلك العهد ، ولكنا لا نستطيع أن نعرف على التحقيق من هم هؤلاء الأعداء. فهل كان أجداد البلميس مصدر قلق لحكام مصر كما كان أحفادهم للولاة الرومان؟

وصلنا بعد أربع ساعات تجاه أطلال برج من الآجر ، أو حصن صغير ، قائم على جزيرة صخرية. وهنا بداية وادى سرس. وكنا نسير شمالا بشرق ، فوق رمال كثيفة مستوية لا تعترضها سوى بضعة تلال واطئة منعزلة. وبعد خمس ساعات وجدنا السهل ينفرج غربا والنهر يدور منعطفا إلى الشرق. وسرنا متجهين شرق الشمال الشرقى ، وبعد سبع ساعات عدنا ثانية إلى جوار النهر ؛ ووصلنا بعد ثمانى ساعات إلى الحد الشمالى لوادى سرس. ورأينا قلعة عتيقة من الآجر تسمى إسكر ، تقوم على جزيرة ، وحططنا بعد تسع ساعات على شاطىء النهر المرتفع أمام جزيرة صغيرة رأينا عليها كوخا للعرب. ونادينا من به ، فسبح أحدهم إلينا ، ونفحناه بشىء من الذرة صنعت منه النسوة خبزا لنا. وتكثر أشجار الدوم هنا ، وقد تم نضج ثمارها ، وكذلك تنتشر أشجار الطرفاء والسنط.

٢٠ مارس ـ مضينا فوق سهل رملى متجهين شرق الشمال الشرقى ، وبعد ساعتين ونصف عدنا إلى النهر عند وادى جمى. وسطح الأرض هنا أقل وعورة ، ويخلو النهر أميالا من الصخور والجزائر ، ويحف بالشاطىء شريط ضيق من

٧٤

الأرض الصالحة للزراعة. ورأينا أعرابيا يحفر فى التلال الغربية ليستخرج الملح. ويوجد الملح قطعا بيضاء صغيرة تشوبها الرمال والحجارة ، ويغلى العرب هذه القطع فإذا ذاب الملح صفوه بقمصانهم واحتفظوا به فى قدور كبيرة من الفخار يصبون منها على طعامهم كلما أرادوا تمليحه. ومن هنا اتجه الطريق المحاذى للنهر شمال الشمال الشرقى. والصخر هنا كله من الحجر الأخضر. وبعد ثلاث ساعات ونصف بلغنا وادى مرشد. ويقوم بناءان منفصلان من الآجر على البر الغربى تجاه الجزيرة التى أشرت إليها فى رحلتى جنوبا ، أحدهما دير إغريقى صغير ، والآخر كنيسة ، وعليهما بعض رسوم للقديسين لا تزال ظاهرة على الجدران. والسهل هنا أعرض منه فى أى بقعة من بقاع بطن الحجر ، وبه آثار زراعة قديمة ، ولكنه اليوم مهجور ، وإن كان به نخل كثير. وكلما اتجه المسافر شمالا خفت وعورة الأرض وانخفضت السلسلة الشرقية انخفاضا محسوسا. وبعد أربع ساعات بلغنا ثلاثا أو أربعا من الكنائس الصغيرة أو الأديرة ، وهى متقاربة ، ولكن كلا منها قائم بذاته. ولعلها كانت مسكنا لرهبان طموحين أقصاهم التعصب الحزبى أو الطائفى عن القسطنطينية وقذف بهم إلى صحارى النوبة. وبعد خمس ساعات ونصف يختنق مجرى النهر ثانية بالصخور والجزائر ، ويظل على هذه الحال حتى شلال وادى حلفا. وهنا يبدأ وادى سوله ، ويصعد الدرب التلال الرملية التى تكتنف السهل الساحلى الضيق. وفوق قمة هذه التلال ينبسط سهل فسيح تنبث فيه آكام منعزلة لبعضها أشكال منتظمة حتى ليحسبها الرائى من صنع البشر. وبعد ست ساعات بلغنا حدود السهل الأعلى. وتشرف على النهر خراتب سور كبير سميك من الآجر مساحته ثلاثمائة قدم مربعة ، ولعله كان برجا للحراسة ، وليس بداخل السور آثار أبنية من أى نوع. ويستطيع الواقف فى هذا الموضع أن يرمى ببصره بعيدا فيحيط بمنظر النهر وجزائره. وعلى إحدى هذه الجزائر ، تحت الماء مباشرة ، أطلال من الآجر. وعدنا إلى النهر بعد سبع ساعات ونصف متجهين شرق الشمال الشرقى. وبعد

٧٥

ثمانى ساعات مررنا بشلال وادى حلفا ، وهو الشلال الثانى المشهور ، والذى تراه على مصورات النوبة تحت اسم The Cataract of Jan Adel ، (١) وقد كونه جزء من النهر فقط عرضه عشرون ياردة على الأكثر. وينحدر الماء فوقه فى سرعة وهدير ورغاء لا تجدها فى أى بقعة أخرى من بقاع بطن الحجر حتى ولا فى شلال أسوان. على أنه غير جدير باسم الشلال (٢) ، فليس فيه سوى ثلاثة مساقط أو صخور منحدرة يسقط منها الماء بسرعة كبيرة. وينتشر العرب الذين يسكنون الجزائر القريبة منه شباكهم على المساقط فيصيبون سمكا كثيرا. والتل العالى القائم على البر الغربى قرب الشلال هو نهاية الصخور الأولية فى بطن الحجر. ومن ثم إلى الشمال لا يجد المرء غير الحجر الرملى حتى يبلغ الشلال الأول.

كانت الشمس توشك أن تغرب بعد أن رأيت الشلال ، وكان ما معى من زاد قد نفد فيما خلا الذرة ، فأردت أن أبلغ مكانا آهلا بالسكان قبل هبوط الليل. لذلك سرت حثيثا ، ومررنا فى طريقنا فوق التلال الرملية بالبقعة المواجهة لوادى حلفا ، وبعد عشر ساعات وصلنا ضفاف النيل أمام سقوى ، ورأيت هناك آثار معبد متهدم جدا. والبناء كله مدفون تحت تلال من الرمل والأنقاض ، ولا تبدو منه غير قطع من أطراف الأعمدة. وأعمدة الأركان الأربعة مربعة الشكل ، وكذلك عمودان من الأعمدة الجانبية. أما سائر الأعمدة فمستدير ، وقطرها يقرب من قدمين

__________________

(١) أطلق مؤرخو العرب وجغرافيوهم على شلالات النيل اسم «الجنادل» أو الشلالات وقد أخذ الأوربيون اللفظ الأول وكونوا منه اسم علم هوJan Adel قصروه فى مصوراتهم على شلال وادى حلفا دون غيره. (٢) روى لى دليلى وغيره من الروايات ما شوقنى لرؤية هذا الشلال الثانى الذى قيل لى إن ماءه «ينحدر كأنه ساقط من السماء!» ولما رأيته على حقيقته ووبخت دليلى على غلوه فى وصفه ، قال لى «وهل رأيت أروع منه من القاهرة إلى المحس؟» على أن المرء يجب أن ينشكك فى روايات هؤلاء القوم تشككه فى روايات عرب الشام ، بل أكثر. فقد أخبرنى كثير من أهل النوبة أن المسافة من الدر إلى المحس يطويها المسافر فى ستة عشر نهارا وليلا ، ولكنها لم تستغرق من غير عشرة. كذلك كانوا يحاولون مرارا تضليلى كلما وجهت إليهم أسئلة تبدو لهم خارجة عن موضوع أحاديثهم المألوفة ، والتى لا تدور إلا حول أثمان البلح والذرة ، والمكوس المفروضة على السواقى ، والشكوى من جور الحكام وعسفهم.

٧٦

ونصف ، ولا يبدو عليها نقش ولا كتابة هيروغليفية ، والأحجار بالية مهشمة. وكان يحيط بالمعبد سور عال من الآجر بقيت بعض أجزاء منه. ومضينا حثيثا حتى

بلغنا النهر ثانية تجاه دبروسه بعد إحدى عشرة ساعة ونصف ، وعبرنا مجرى جافا لفرع من فروع النهر ميممين شطر جزيره ضرب بعض عرب القراريش عليها خيامهم ، فحططنا عندهم فى الليل بعد مسيرة اثنتى عشرة ساعة. واحتفلت بعودتى سالما إلى شمال النوبة ، فابتعت من العرب حملا بثلاث كيلات من الذرة ، وأصبت منه عشائى مشويا. وبالجزيرة أشجار كثيفة من الطرفاء ، تنمو بريا فيها وفى أشباهها من الجزائر التى تكسو تربتها الرواسب الغرينية لا الرمال. وعلمت فى أثناء وجودى تلك الليلة أن قافلة قوامها ستون جملا من جمال عرب الشايقية وصلت وادى حلفا طلبا للتمر. وتجار الشايقية الذين يفدون على قرى النوبيين بوصفهم أصدقاء لا يلقون منهم أى أذى أو إهانة ، وذلك على الرغم من العنت الذى لا يفتأ يلقاه النوبيون من غارات المغيرين من عرب هذه القبيلة.

٢١ مارس ـ كنا نعبر الماء من الجزيرة إلى البر ، فتردى بعيرى فى الوحل ، ولم أستطع إنقاذه إلّا بشق الأنفس. وفى استطاعة هذه الإبل أن تسير بخطى تابتة وسط رمال تعلو إلى ركبها ، ولكن قليلا من الوحل يعثرها. وبعد نصف ساعة مررنا بقرية أرقين والبر الغربى من الشلال إلى هذه القرية وإلى الشمال منها أجرد قاحل تغطى السهل فيه رمال كثيفة. وبعد ساعة ونصف جزنا أمام إشكيت. وبعد ساعتين ونصف رأينا قرية دبيرة على البر الشرقى ، وبينها وبين سرّه على ذلك البر حرج متصل من النخل. واتجه طريقنا للشمال الشرقى ، وبلغنا سره بعد أربع ساعات ونصف. وهى تكاد تواجه القرية المسماة بهذا الاسم على لبر الشرقى. وبعد خمس ساعات مررت بأطلال معبد صغير ، يقوم غير بعيد عن

٧٧

النهر وسط تلال رملية منخفضة ، ومبناه الرئيسى يبلغ أربعا وعشرين قدما ، وقد سقط سقفه ولم يبق من الجدران الأصلية سوى أسفلها ، وفوقها شاد الإغريق جدرانا من اللبن وحولوا المعبد المتهدم إلى كنيسة ، وحولت الكنيسة هى الأخرى إلى مسجد. وليست هناك آثار لأعمدة فى المعبد ، وما رأيت على الجدران من نقوش هيروغليفية فاق فى رداءة صنعه كل ما رأيت حتى فى معبد سمنة الذى وصفته من قبل. وفى وسع الناظر أن يتبين على الجدار آثار صورة لموقعة حريية ، ومجموعة لبرياريوس تمتاز بالرشاقة برغم رداءة صنعها ، وتمثله وقد ظفر غريمه بناصيته وشهر عليه سكينه ولكن ذراع أوزيريس المبسوطة تحميه. ويختلف الرسم عن نظائره من الرسوم التى تراها معادة مكرورة على جدران المعابد المصرية ، فبرياريوس هنا ليس وحشا متعدد الرءوس ولكنه آدمى الوجه يمسك فى ذراعيه صديقا يعالج سكرات الموت ، وكلاهما يلبس فى أذنيه قرطا ، وشعر رأسه محلوق على طريقة عرب هذا الجزء من إفريقيا بشكل اختلط على بعض السياح ـ ممن وصفوا الطاقية التى رأوها مرسومة على المعابد المصرية ـ فظنوا هذا أيضا طاقية.

وتجاه هذا المعبد فى الشرق قرية صغيرة تدعى أرتينوق تقع إلى الشمال من سرّه الشرقية. وبعد خمس ساعات ونصف بلغنا فرس ، وتقع تجاه الجزيرة الخصيبة التى تحمل هذا الاسم نفسه. وتستمر تلال سره الرملية حتى تواجه أدندان ، وينبسط إلى الغرب منها سهل فسيح تقوم وسطه تلال صخرية منعزلة. وعلى مسيرة سبع ساعات يرى المسافر كنيسة إغريقية متهدمة بنيت جدرانها إلى النصف بالحجر ثم بالآجر. ومررنا بعد سبع ساعات ونصف بثلاث مقابر منحوتة فى الحجر الرملى الذى تتألف منه سلسلة منخفضة من التلال. والمقابر خشنة الصنع ، وبداخلها نقوش إغريقية من عهد متأخر. وسرنا الآن متجهين شرق الشمال الشرقى. وتنتهى سلسلة الجبال الغربية تجاه أدندان ، وتستمر إلى الشمال تلال واطئة يفصلها عن النهر أرض رملية مرتفعة. وبعد تسع ساعات بلغنا البر تجاه قسطل ، وبعد تسع ساعات ونصف عبرنا مجرى جافا لفرع من فروع النهر فبلغنا جزيرة بلانه ، وحططنا عند كوخ من أكواخ عرب القراريش فى طرفها الشمالى أمام قلعة أده ،

٧٨

بعد أن سرنا إحدى عشرة ساعة فى يومنا هذا. وأشباه هذه الجزيرة يهجرها الناس إبان الفيضان.

٢٢ مارس ـ عدنا إلى البر سيرا فوق الرمال التى تتخلف عند انحسار الماء ، ومررنا بقرية بلانة. وبعد ساعة ونصف ارتقينا جبلا رمليا قائم المنحدر. والنهر فى هذه البقعة يكتنفه الجبلان على ضفتيه. وفى الشرق وادى فويق ، ويسمى الجبل الغربى إبسمبل [أبو سمبل] ، ولعلها كلمة يونانية مقطعها الأخير «بل» تحوير لكلمةPolis أى مدينة. وحين أدركنا قمة الجبل تركت دليلى بالبعيرين وهبطت شقا قائما مفعما بالرمال ، لأتطلع إلى معبد أبو سمبل الذى طالما سمعت بأوصافه الرائعة. وليس هناك درب يسلكه اليوم قصاد هذا المعبد الذى يقوم فوق ضفة النهر تماما ، ولعل تغيرا طرأ على مجرى النهر ، ولعله كان هناك درب قديم محاذ للنهر يسلكه الراغبون فى الوصول إليه. ويرتفع المعبد نحو عشرين قدما فوق سطح الماء ، وهو منحوت بأكمله فى حائط الجبل الوعر ومحتفظ بروائه تمام الاحتفاظ. وأمام المدخل ستة تماثيل ضخمة لشبان واقفين ، على كل جانب ثلاثة ، وهى موضوعة فى كوى ضيقة وجهتها النهر ، وكلها من حجم واحد ، وترى التمثال منها يقدم رجلا على رجل ، وبصحبتها تماثيل صغيرة سيأتى وصفها. وارتفاع التمثال من الأرض إلى الركبة ست أقدام ونصف ، وهى على الترتيب كما يلى :

(١) أوزيريس الشاب ، وله لحية صغيرة وعلى رأسه تاج وعلى كل جانب منه تمثال صغير قائم ارتفاعه زهاء أربع أقدام (٢) إيزيس تحمل بين ذراعيها هورس ، وعلى كل جانب من جانبيها تمثال صغير أيضا. وعلى وجه إيزيس ـ برغم خشونة الصنعة ـ سيماء الجلال والسماحة (٣) شاب يلبس على رأسه اللبدة العالية المعروفة ، وقد تدلت ذراعاه ، وعلى جانبيه تمثالان صغيران كالتماثيل السابقة. هذه التماثيل كلها تقوم على أحد جانبى الباب ، أما على الجانب الآخر فثمة (٤) تمثال للشاب نفسه (٥) تمثال لإيزيس وعلى رأسها القرص تحيط به الحيتان (٦) تمثال

٧٩

ثالث للشاب ذاته. وكل تمثال من هذه المجموعة يرافقه أيضا تمثالان صغيران. وبعض التماثيل الصغيرة على هذا الجانب من الباب يختلف عن سائرها ، إذ ترى شعر رؤوسها ينسدل من اليمين فى خصلة كثيفة على الكتف اليمينى ، فى حين ترى شعر الجانب الأيسر محلوقا. وتملأ النقوش الهيروغليقية الفراغ المتخلف بين كوى التماثيل الكبيرة. وللمعبد باب صغير يؤدى إلى بهو الأعمدة الذى تسنده ست أعمدة مربعة ، مربع كل منها أقدام ثلاث ، وطول البهو ثلاث عشرة خطوة وعرضه سبع. وتمثل تيجان الأعمدة رءوس إيزيس كما ترى فى أعمدة معبد دندرة ، إلا أن الحفر هنا أعمق ، وأسلوبها شبيه بأسلوب النقوش التى على جدران المعبد. وحلية هذه الرءوس على شكل معبد ، وينسدل الشعر فى غديرتين كثيفتين ، وهو فى هذا أيضا يختلف عن رؤوس معبد دندرة. وتدخل من البهو إلى الهيكل الضيق من باب كبير وبابين صغيرين. وعمق الهيكل لا يتجاوز خطوات ثلاث ، وعلى كل جانب منه حجرة مظلمة. أما قدس الأقداس فمربعه سبع أقدام ، وعلى الجدار الخلفى بقايا تمثال منحوت من الصخر ، وفى الأرض مقبرة عميقة. وجدران الحجرات الثلاث تكسوها النقوش الهيروغليفية والرسوم المقدسة التى تراها عادة فى المعابد المصرية. ويلوح أن رسوم الأشخاص كانت كلها مدهونة بالأصفر فيما عدا شعر رؤوسها ، فهو يبدو فى كثير منها أسود ، أما شعر إيزيس فقد وخطه الشيب ، ومن المناظر المتكررة منظر القرابين من اللوتس وسعف الدوم تقدم إلى أوزيريس ، وكذلك المنظر الذى تراه على جميع المعابد النوبية ، أعنى برياريوس ومن فوقه يد قاهره ، وهو هنا أيضا آدمى الوجه ، ويلوح أن معبد أبو سمبل كان المثال الذى على غراره بنى معبد الدر ، وهو فى رأيى أقدم منه كثيرا. ولا شك فى أنه كان مكرسا لعبادة إيزيس ، وينبىء أسلوب نقوشه بعراقته فى القدم. وعلى خطوات إلى الشمال من المدخل ترى على الصخرة القائمة فوقه رسما غائرا لأوزيريس جالسا ، وقد جثا أمامه أحد عباده رافعا ذراعيه أمام الإله ، وتحيط النقوش الهيروغليقيه بالعابد والمعبود. وقد قيل لى بعد ذلك فى الدر إن علي شاطىء النهر قرب المعبد تمثالا لرجل يزيد قليلا على الحجم الطبيعى ، وقد حمل تحت إبطه مكيال القمح المصرى ، وإن التمثال يغمره الماء تماما زمن الفيضان.

٨٠