رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

جون لويس بوركهارت

رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: فؤاد أندراوس
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة
الطبعة: ٠
ISBN: 977-437-201-8
الصفحات: ٣٩٢

جرح غرامة مقررة تدفع غنما أو ذرة ، ولكنها تتفاوت باختلاف العضو المصاب من الجسم ، وهى عادة بدوية قديمة تجدها منتشرة كذلك بين أهالى إبريم مع هذا الفارق ، وهو أن الغرامة يأخذها المجنى عليه لا الأغا. وإذا قتل نوبى أحدا من قبيلة الحاكم ، أو من الغزّ (وهو لقب المماليك فى مصر والنوبة) أو من أهل إبريم ، فإنه لا يدفع لأسرة القتيل دية لأنه يعد جنديا لا عربيا ، ولكن الحاكم يقتضى غرامته رغم ذلك. وبين الكنوز والنوبيين ، جيرانهم الجنوبيين ، عداء شديد. ويرمى النوبيون الكنوز بالبخل والحرص والغدر ، أما الكنوز فيدعونهم عبيدا قذرين لا يفضلون الزنوج فى معيشتهم. وكثيرا ما تلتحم القرى المتجاورة فى معارك دموية نتيجة لهذا العداء ، فإذا قتل أحد من الفريقين كان لأسرته أن تقتضى الغرامة المقررة فى مثل هذه الحالات ، أو تثأر للقتيل من أسرة القاتل. وأهل إبريم يثأرون لقتلاهم عادة ، ولكنهم لا يقنعون كما يقنع بدو جزيرة العرب بالثأر من أى قريب من عصب القاتل ، فى حدود المرتبة الخامسة من القرابة. فلن يقوم مقام القاتل فى عرفهم غير أخيه أو ولده أو ابن عمه ، لذلك كثيرا ما تكون النتيجة أن تلوذ الأسرة كلها بالفرار.

ويبتز حاكم النوبة الأموال الطائلة بأساليب مختلفة كما قلت ، ولكن جورهم يقتصر على أملاك رعاياهم دون حياتهم ، فهم لا يضربونهم ولا يقتلونهم إلا إذا شقوا عصا الطاعة وجهروا بالثورة عليهم ، وكثيرا ما يفعلون (١). وإذا هرب نوبى يريدون ابتزاز ماله حبسوا زوجته أو أبناءه الصغار حتى يعود ، وهو إجراء يضج الأهالى بالشكوى منه ، ولا يلجأ إليه حتى القضاة من ولاة مصر والشام ، فهؤلاء يحترمون نساء ألد أعدائهم وأبناءهم. وثمة طريقة فذة ابتدعها حكام النوبة لابتزاز أموال رعاياهم ، ذلك أنهم إذا عرفوا أن لأحد سراتهم فتاة بلغت سن الزواج طلبها الحاكم لنفسه عروسا ، وقلما يجرؤ أبوها على رده ، بل إنه ليزهو أحيانا بهذا الشرف. ولكن هذه المصاهرة سرعان ما تجر عليه الخراب والإفلاس ، لأن صهره القوى يسلبه كل ما يقتنيه بحجة أنه يقدمه هدية لابنته. وهكذا تجد للحكام

__________________

(*) اشتهر عن القبيلة العربية التى يسميها النوبيون أمنلاب [عون اللاب] ـ ولعلها أمة الأب ، لأن نطقهم للعربية ردىء ـ والتى تسكن القرى المجاورة لقرشة ، مقاومتها للحكام وخروجها عليهم ورجالها أكثر عرب الكنوز استقلالا ، وهم يأبون تزويج بناتهم لأتباع الحكام.

١٢١

جميعهم أزواجا منبثات فى معظم القرى الكبيرة. ولحسين كاشف أربعون ولد تقريبا ، عشرون منهم تزوجوا بهذه الطريقة.

ولا يحرث سكان وادى النيل من الشلال الأول إلى حدود دنقلة حقولهم بعد انحسار مياه الفيضان كما يفعل أهل مصر. لأن المياه بعد الشلال لا ترتفع إلى علو يغمر الوادى. وفى الجهات القليلة التى تبلغ الأرض الزراعية فيها بعض الاتساع ـ كما هو الحال فى قستمنة وقرشة ووادى حلفا الخ .. شقت قنوات تحمل الماء إلى الحقول المجاورة للجبل. ولكن الماء فى هذه القنوات لا يبلغ ما يبلغه ماء القنوات فى مصر من ارتفاع يتيح رى الأراضى الواطئة المجاورة للتلال. لذلك كان الرى فى النوبه يقوم كله على السواقى والنواعير. فما إن يهبط منسوب الماء فى النهر حتى تروى الحقول بالسواقى. وتزرع الزرعة الأولى ذرة ، وتحصد فى ديسمبر ويناير. ثم تروى الأرض ثانية وتزرع شعيرا. وقد تزرع الأرض بعد حصاده مرة ثالثة محصولا صيفيا. ويباع الشعير بالذرة ، أو يؤكل فريكا مسلوقا. ويصيب المحصول أذى بالغ من أسراب العصافير الدورية التى تغير عليه أفواجا لا تقوى على دفعها جهود صبيان القرى مجتمعة. ومن الآفات الزراعية دودة صغيرة تتسلق ساق النبات ، وكثيرا ما تفتك بمحصول الذرة والشعير فى حقول بأسرها. وزراعة التبغ منتشرة فى أنحاء النوبة وهو يحتفظ بلونه الأخضر حين يجف ، ويشبه تماما تبغ الجبال الواقعة إلى الشرق من البحر الميت. وهو أهم ترف يستمتع به الناس هنا من شتى الطبقات ، وهم إما يدخنونه أو يستحلبونه ، مخلوطا بالنطرون ، بين اللثة السفلى والشفة.

وبيوت النوبيين من اللبن أو الحجارة. وقد قلت إن البيوت الحجرية تقوم عادة على سفوح التلال ، وهى تتألف من بنائين مستديرين منفصلين ، أحدهما للرجال والآخر للحريم. وبيوت اللبن منخفضه حتى ليشق على المرء أن يقف فيها بقامته منتصبة. ويسقف السقف بسيقان الذرة التى تبقى حتى تأتى عليها الماشية ، وعندئذ يوضع بدلها جريد النخل. ومنازل الدر ، وبيوت الأثرياء من سكان القرى الكبيرة ، حسنة البناء ، فلها حوش كبير فى وسطها تحيط به الحجرات من حوله ، وبين حجرات الرجال والحريم فاصل. أما الأوانى والأدوات التى

١٢٢

تستعمل فى بيوت النوبيين فهى نحو ست قدور من الفخار الخشن ، قطر الواحدة منها قدم أو قدمان وارتفاعها خمس أقدام ، يحفظ فيها زاد الأسرة وطعامها كله. ثم يضع صحاف من الفخار ، وطاحونة يد ، وبلطة صغيرة ، وعصىّ مستديرة يمدّ عليها النول.

ويلبس الأهالى شمال الدر جلبابا من الكتان لا أكثر ، ولونه أزرق عند سراتهم ، أو الزعبوط الصوفى الذى يرتديه أهل الصعيد. أما لباس الرأس فطاقية من القماش بيضاء صغيرة يلفون عليها أحيانا خرقا تعطيها شكل العمامة. وأولادهم وبناتهم عراة ، وتلتف النسوة بقطع من القماش أو برد صوفية سوداء ، ويلبسن أقراطا وأساور من زجاج ، وفقراؤهن يصنعن أساورهن من السعف. أما شعورهن فيرسلنها غدائر فوق أعناقهن ، ويلبسن على رءوسهن من الخلف شراريب قصيرة مزركشة من الزجاج أو الحجر تقوم مقام الحلية والتميمة معا. ونساء الأعيان يتحلين بالخلاخيل من النحاس أو الفضة. وإلى الجنوب من الدر ، ولا سيما فى سكوت والمحس ، يمشى الرجال عراة إلا من وزرة تستر العورة ، هى شبيهة بما يرى على جدران المعابد المصرية. ولأهل المحس شعور كثة ولكنها ليست صوفية القوام. ويلبس جميع الشبان قرطا واحدا فى الأذن اليمنى فقط ، أما الرجال فيحملون فى أعناقهم مسبحة لا تفارقهم. كذلك يربطون على إحدى الذراعين فوق المرفق عددا من التمائم يكسوها جلد عرضه ثلاث بوصات أو أربع ، وهى أحجبة وأدعية يبيعها إياهم الفقراء.

وقلما يعطل النوبيون من السلاح. فما إن يشب الغلام عن الطوق حتى يغدو همه الأول شراء مدية معقوفة صغيرة يلبسها الرجال مشدودة إلى المرفق الأيسر تحت ثيابهم ، ويستلونها فى أتفه المشاجرات. وإذا انتقل نوبى من قرية لأخرى حمل معه إما «نبّوته» المكسو طرفه بالحديد ، أو رمحه ودرقته. وطول الرمح خمس أقدام بما فيها سنّه الحديدى ، أما الدرق فتتفاوت أحجامها ، فمنها المستدير ذو السرة فى وسطه ، ومنها ما يشبه الدروع المقدونية القديمة ، فهو مستطيل يبلغ طوله أربع أقدام ، وله طرفان مقوسان يكادان يغطيان البدن كله. وتصنع هذه

١٢٣

الدرقات التى يبيعها عرب الشايقية من جلود أفراس البحر ، ولا تؤثر فيها رمية رمح أو ضربة سيف. كذلك يقتنى السيوف القادرون على شرائها ، وهى شبيهة بسيوف الفرسان فى القرون الوسطى لها نصل طويل مستقيم عرضه بوصتان ، ومقبض على شكل صليب ، وقرابها من الطراز الذى يعرض أسفله ويدق رأسه. وهذه السيوف ألمانية الصنع ، ويبيعها تجار مصر للنوبيين بأسعار يتراوح بين أربعة ريالات وثمانية للسيف. أما الأسلحة النارية فنادرة ، ويملك الأغنياء بنادق من نوع بدائى ، وليس عند حسن كاشف نفسه غدارة. وذخيرة هذه الأسلحة النارية نادرة غالية الثمن ، لذلك يجدر بالسائحين فى النوبة أن يحملوا معهم من الرصاص ما يقدمونه هدايا تلقى من النوبيين أحسن القبول. وأذكر أننى بعد أن رحلت عن معسكر محمد كاشف فى تينارى جرى ابن أخيه خلفى ميلين على الأقل ليلحق بى ويسألنى رصاصة قائلا إنه أطلق فى حفلة بالأمس الرصاصة الوحيدة التى كانت معه.

ذكرت للقارىء شيئا عن طعام النوبيين المألوف. فهناك خبز الذرة ، وهو فى غاية الخشونة ، ويصنع بغير ملح (١) ويخبزونه على الصاج كبدو جزيرة العرب ولما كانت عملية الطحن والعجن والخبز لا تستغرق كلها أكثر من عشر دقائق ، فإنك تستطيع أن تحكم مطمئنا بأن هذا الخبز لا يمكن أن يكون ناضجا. ويطحن النسوة زاد كل يوم فى الصباح ، فالنوبيون لا يخزنون الدقيق. وفى سكوت والمحسّ يصنعون الخبز رقاقا مستديرا يوضع بعضه فوق بعض حين يقدم على المائدة. وقلما يذوق النوبيون اللحم ، بل إن الحكام لا يتناولونه كل يوم. وشراب البلح [الشربوت] شائع الاستعمال فى القرى الكبيرة ، ولا بأس بطعمه وإن كان فيه حلاوة وغلظ لا يستطيع الشارب معهما أن يصيب منه كثيرا. وطريقة صنعه أنهم ينقعون البلح بعد نضجه فى قدور كبيرة من الفخار ملئت ماء ، ثم يغلونه على النار يومين كاملين بلا انقطاع ، ثم يصفى الشراب ويحفظ الرائق منه فى زلع من الفخار تسدّ وتدفن تحت الأرض

__________________

(*) يستخرج الأهالى المجاورون للتلال الكفرية والمبانى القديمة مادة يسمونها «ماروق» يضعونها فى الخبز عوضا عن الملح.

١٢٤

عشرة أيام أو اثنى عشر حتى يختمر الشراب فيكشف عنه ويمكن عندها تعاطيه. ولكن أجله لا يطول عن الحول ، ولا يتعدى محصول البلح التالى ، وإلا شابت طعمه حموضة ، كذلك يصنع النوبيون شرابا يسمى البوظة ، وهو شديد الشبه بالجعة أو البيرة ، ويستخرجونه من الذرة أو الشعير. وأفضله من الشعير ، ولونه كدر ، وهو عظيم القيمة الغذائية. وفى القاهرة وسائر المدن والقرى الكبيرة فى الصعيد دكاكين لبيع البوظة أصحابها من النوبيين وحدهم. وتستهلك فى الدر مقادير كبيرة من الشربوت وعرقى البلح المقطر : ويباع الخمر فى مشارب خاصة ويتعاطاه أفراد الطبقة العليا ويثملون به كل مساء ، وتصنع خمور البلح وتباع علانية فى كل أرجاء الصعيد من أسيوط فصاعدا ، ويفرض الباشا ضريبة على تجارها. ويستخرج من البلح أيضا ضرب من المادة الهلامية كالعسل يأكله الأغنياء كالحلوى. وليس فى النوبة فاكهة غير البلح وقليل من العنب رأيته فى الدر.

ومناخ النوبة صحى جدا على شدة قيظه فى الصيف ، لا سيما فى البقاع الصخرية الضيقة ، ولعل السر فى ذلك جفاف الهواء. ولست أذكر أننى رأيت فردا واحدا فى الأسابيع الخمسة التى أنفقتها هناك يشكو مرضا من الأمراض. وقد يفد الجدرى أحيانا على النوبة فيفتك بالناس فتكا ذريعا فى كل أرجائها عدا وادى الكنوز. ولا يعرف الناس التطعيم ، أو قل إنهم لا يمارسونه ، سواء فى النوبة أو فى صعيد مصر ، وقد فشلت المحاولات العديدة التى بذلت لإدخال نظام التطعيم فى الصعيد ، أو على الأصح لتثبيته ، وزعم بعض الرحالة أن هذا الوباء يفد على مصر من الجنوب ، وهو زعم خاطىء لأنه لا يبلغ فى انتشاوه فى النوبة الشلال الثانى ، ولا يعرف فى دنقلة ولا على طول الطريق إلى سنار.

والرجال فى النوبة على العموم ذوو أجسام قوية مفتولة وتقاطيع وسيمة ، وهم أقصر قليلا من المصريين ، لا شوارب لهم ، ولحاهم صغيرة لا تجاوز أسفل ذقونهم ، كلحى الأسرى الذين ترى صورهم على لوحات المعارك المرسومة على المعابد المصرية. وكثيرا ما لحظت فى أثناء رحلتى فى قرى النوبة أن هناك على العموم تناسبا بين قامة الأهالى وبين عرض الأرض الزراعية ، فأينما كان الوادى

١٢٥

عريضا والزراعة ميسورة والأهالى على شىء من سعة الرزق وجدتهم أطول قامات وأصح أبدانا. أما فى البقاع الصخرية التى لا يتجاوز عرض الوادى فيها عشرين ياردة أو ثلاثين فترى أجسام الناس قميئة هزيلة ، يكاد الرجل منهم فى بعض القرى أن يكون هيكلا يخطو أو شبحا يتراءى.

أما النساء فلهن قامات بديعة ، ووجوه طلقة حلوة وإن لم تكن جميلة ، وطباع لطيفة غاية اللطف ، بل إننى رأيت بينهن حسانا بارعات الجمال ، ولست أشك فى أن دينون قد غمطهن حقهن. ولكن العمل الشاق الذى يقمن به منذ طفولتهن يضنيهن ، فشئون البيت كلها موكولة إليهن ، أما الرجال فمنقطعون للزراعة. ونساء النوبة أعف نساء الشرق قاطبة ، وعفتهن أجدر بالإشادة لما كان ينتظر من تأثرهن بجيرة صعيد مصر الذى يشتد فيه تأثير الغريزة الجنسية. وفى أثناء مكثى بإسنا كان الفتيات يأتين إلى مسكنى كل صباح ليبعننى اللبن ، فكانت المصريات منهن تقتحمن فناء الدار فى جرأة وتسفرن عن وجوههن ، وهو مسلك يفهم منه هنا أنهن يعرضن أنفسهن ، أما النوبيات ـ وكثيرات منهن يقمن مع أسرهن فى إسنا ـ فكن يقفن بعتبة البيت متأدبات لا يتجاوزنها بحال من الأحوال ، ويأخذن ثمن ما بعن من لبن وهن مقنعات.

ويبتاع النوبيون نساءهم من والديهن ، ويدفع الكنزى عادة اثنى عشر محبوبا ثمنا لعروسه ، وهو ما يعادل ستة وثلاثين قرشا ، وكثيرا ما يتزاوجون مع عرب العبابدة ، وبعض هؤلاء زراع مثلهم. ومهر الفتاة من العبابدة ستة جمال تعطى لأبيها ، فيرد منها ثلاثة لابنته تكون ملكا لها ولزوجها ، فإذا طلقت أخذ الزوج ثمن نصفها. وإذا أصرت امرأة فى الصعيد على أن تطلق من زوجها كان له أن يستولى على جهازها وأن يحلق رأسها ، فلا يتزوجها غيره حتى يطول شعرها. والنوبى شديد الغيرة على عرض امرأته ، فإذا خامرته أدنى ريبة فى وفائها له حملها ليلا إلى شاطىء النهر وأغمد مديته فى صدرها ، ثم قذف بها إلى النهر طعاما للتماسيح على حد قوله. وقد حدث فى أسوان أخيرا حادث من هذا القبيل.

والبغاء غير مباح فى النوبة ، فلن تلقى فيها العاهرات اللاتى تجد عددا كبيرا

١٢٦

منهن فى كل أرجاء مصر ، وذلك باستثناء من يوجد منهن فى الدر ، وهؤلاء لسن من الأهالى ، بل هن إماء معتوقات دفعتهن الفاقة إلى احتراف الفحشاء. ويستهجن النوبيون أشد الاستهجان تلك الرذائل والشهوات البغيضة التى نشرها المماليك فى مصر وأذاعوها حتى بين فقراء الفلاحين ، ولا يستثنى من أهل النوبة فى هذا غير أفراد أسرة كاشف الذين يحاولون جهدهم أن يحكوا المماليك فى كل شىء حتى فى أبغض ما يقارفون من آثام.

والأنوال الصغيرة شائعة فى بيوت النوبيين ، ويغزل عليها النساء عباءات من الصوف خشنة ، وقماشا من القطن يصنعون منه القمصان. كذلك يصنعن من سعف النخل الحصر وكئوس الشراب ، والصحاف الكبيرة التى يقدم فيها الخبز على المائدة ـ وكلها مصنوعة باليد ، ولكن فى صناعتها أناقة وإتقانا يوهمان بأنها مصنوعة بالآلات. ولا تنتج النوبة سوى هذه المصنوعات ، أماما عداها فيستورد من مصر.

ولم أر من الآلات الموسيقية فى النوبة سوى ضرب من «الطمبورة» المصرية ذات أوتار خمسة وغطاء من جلد الغزال هذا رسمها :

وللفتيات غرام بالغناء ، وألحان النوبيين عذبة شجية.

ولعبة المنقلة شائعة فى الدر ، كذلك يلعب النوبيون اللعبة التى يسمونها «بياض» والتى وصفتها فى يومياتى عن البطراء فى معرض الحديث عن عرب كرك.

وقد رأيت فى معظم النوبيين رقة ولطفا وعزوفا عن السرقة ، وهى رذيلة معروفة فى مصر ، أو على الأقل فى الأقاليم الواقعة إلى الشمال من أسيوط. والحق أن السرقة تكاد تكون معدومة بينهم ، فإذا ثبت أن منهم من اقترف هذا الجرم طرد من قريته بالإجماع. ولم يضع فى أثناء رحلتى فى النوبة شىء مما أحمل مهماتفه ، مع أننى كنت أنام فى العراء أمام البيت الذى أحط عنده. وفى النوبيين عموما كرم وحسن ضيافة للطارق ، وأنقلهم فى ذلك الكنوز وأهل سكوت. ويغلب على طباعهم الفضول ، فهم يمطرون الغريب وابلا من الأسئلة عن البلد الذى قدم منه والمهمة التى أتى النوبة فيها.

١٢٧

ولو لا طغيان الحكومة واستبدادها لكان النوبيون جيرانا خطرين على مصر فهم يمتازون عن المصريين بالجرأة وحب الاستقلال وشدة التعلق بأرضهم. ويفد على القاهرة منهم كثيرون كل عام ، فيشتغل معظمهم بوابين ، وهم فى ذلك مفضلون على المصريين لأمانتهم ، وبعد أن يقيموا بها ست سنوات أو ثمانية يعودون إلى مسقط رءوسهم بما أصابوا من مال قليل ، مع علمهم بأنهم لن يظفروا فى وطنهم بغير خبز الذرة وجلباب الكتان عوضا عما ينعمون به من أطايب القاهرة. والذين لا يهاجرون منهم لمصر قلما يتجاوزون حدود قراهم ، فعامة النوبيين زاهدون فى المغامرات التجارية. وقد لقيت فى إبريم شيخين أكدا لى أنهما لم يريا الدرقط مع أنها لا تبعد عنهما غير مسيرة خمس ساعات. والذين أقاموا منهم فى مصر وتعلموا العربية تجدهم فى الغالب مسلمين أتقياء يؤدون الصلوات كل يوم ، أمامن يجهلون العربية فلا يعرفون من الصلاة إلا التهليل والتكبير. ويحج بعضهم إلى مكة بطريق سواكن.

وسكان النوبة من أسوان إلى حدود المحس الجنوبية ـ وهو إقليم طوله نحو خمسمائة ميل ومتوسط عرضه نصف ميل ـ يبلغ عددهم ، حسب تقديرى ، مائة ألف نسمة.

***

وإلى القارىء نبذة أضيفها عن البدو الذين يقطنون الجبال الواقعة بين النوبة والبحر الأحمر. هؤلاء البدو قبيلتان رئيسيتان ، العبابدة والبشارية. أما العبابدة فيسكنون الإقليم الواقع جنوبى القصير حتى عرض الدر تقريبا ، وأما البشارية فيحتلون الجبال من ثمّ إلى الجنوب حتى سواكن ، وهناك يجدون لإبلهم وماشيتهم الكلأ الذى ينمو فى مجارى السيول الشتوية. ويقيم كثير من العبابدة فى صعيد مصر على ضفة النيل الشرقية من قنا إلى أسوان ، ومن أسوان إلى الدر ، ولكن أغلبهم ما زال يعيش عيشة البداوة ، ويشتغلون خبراء أو أدلاء لقوافل سنار التى تقوم من دراو ، وكانوا من قبل أدلاء أيضا للقوافل المسافرة من القصير إلى قنا ، ولكن أعداءهم

١٢٨

من عرب المعازة والعطوانى الذين يسكنون شمالى القصير أفلحوا فى حرمانهم من الأرباح التى يغلها هذا العمل ، والتزموا به من والى مصر. والعبابدة أثرياء ولكنهم سيئو السمعة يرميهم كل من اتصل بهم بالخيانة والغدر ، فهم غير جديرين بالانتساب إلى الأصل العربى الذى يعتزون به. ولا يتورع الرجل منهم عن الحنث بأى يمين أو قسم ، بيد أنى علمت أنهم يخشون الحنث بوعودهم إذا شفعوها بقولهم «وحياة العافية». ويشتهرون فى الصعيد بما يقتنون من كرام الإبل ، ومن الهجن الخفاف على الأخص ، ولهم تجارة واسعة فى السنامكى وفحم السنط ، وكلاهما مستخرج من الأشجار المنتشرة فى جبالهم ، ويصدرون الفحم حتى القاهرة شمالا. ولا يقتنى العبابدة من الخيل إلا القليل ، فهم إذا التحموا مع غيرهم من القبائل العربية حاربوا على ظهور جمالهم مسلحين بالدرق والرماح والسيوف. وأهم عشائرهم الفقراء ، والعشاباب ، والمليكاب. وقلما ينزل عرب العشاباب من الجبل إلى ضفاف النيل ، ولكن كثيرين منهم استوطنوا ضفاف النهر قرب مقرات والدامر على طريق سنار ، وتزاوجوا مع الأهالى هناك. والذين يخيمون منهم مع البشارية يتكلمون لغتهم.

أما البشارية ، الذين قلما ينزلون من جبالهم ، فقوم أبعد ما يكونون عن العمران الحضرى ، وهم أسوأ سمعة من العبابدة. ولا يقتنون غير الإبل والغنم ، وطعامهم الوحيد اللحم واللبن ، ويأكلون أكثر اللحم نيئا. وقد روى لى كثير من النوبيين أن هؤلاء البشارية شديد والغرام بشرب دم الخراف المذبوحة ساخنا ، ويقال إن أحب شىء إليهم وأشهاه أكل نخاع الجمل نيئا. ومنهم من يذهب أحيانا إلى الدر أو أسوان ليبيع السنا والغنم وريش النعام ، فالنعام شائع فى جبالهم ، والسنا التى تنتجها جبالهم من أفضل الأنواع. وهم يقايضون على هذه البضائع بأثواب الكتان وبالذرة التى يلتهمون حباتها نيئة لم تدخل النار ويعدونها طعاما شهيا ، وهم لا يصنعونها خبزا قط. ولا يطول مكث هؤلاء التجار فى الوادى ، إذ سرعان ما يروعهم الجدرى فيفزعون إلى خيامهم. وعرب البشارية لصوص عريقون ، لا يتورعون حتى عن سرقة مضيفهم. ويخرج فتيانهم فى غارات للنهب والسلب

١٢٩

فيبلغون دنقلة وطريق سنار ، ومن تحتهم إبل لا تضارعها فى صلابتها إبل من شواطىء البحر المتوسط إلى بلاد الحبشة. ولا يتكلم العربية من البشارية إلا القليلون. ولا يخشون من أعدائهم غير العبابدة الذين يعرفون منتجعاتهم من الجبال ويأخذونهم فى مضاربهم على غرة. ويستطيع المرء أن يعبر جبال البشارية فى صحبة عبادى إذا صفا الجو بين القبيلتين كما هى الحال اليوم ، ولكن يجب ألا يركن إلى هذا العبادى إلا إذا حجز فرد من أخص أقربائه رهينة. وقد وقع كثير من المماليك المشردين فريسة لغدر هؤلاء العرب ، ولم ينج غيرهم إلا بسفرهم فى جماعات كبيرة.

ويضرب البشارية خيامهم على حدود الحبشة الشمالية وساحل البحر من سواكن إلى مصوع آهل بعشائرهم ، وأهمها : الحمداب ، وبطران ، والعلياب وعمراب ، وغمهتاب ، وحمدوراب ، وأرباب ، والخلة ، والمدوراب ، والسلميلاب ، والأمّرار ، وكلهم يعيشون فى مضارب منفصلة ، وبينهم خصام وعراك كثير. ولا يقتنى البشارية الأسلحة النارية. وتستعمل بعض القبائل الضاربة إلى جوار حدود الحبشة السهام والقسى ، ويتكلمون الحبشية أو قل يفهمونها على ما علمت ، فالأحباش يجدون مشقة كبرى فى فهم لغة البشارية. ولعل اللغتين مشتقتان من أصل واحد ، شأنهما فى ذلك شأن غيرهما من اللهجات الكثيرة السائدة عند الحدود الشمالية للحبشة.

وبين أفراد البشارية تراحم وجود وأمانة. ونساؤهم لا يحتجبن ، ويقال إنهن جميلات كالحبشيات ، وإنهن سيئات الخلق. وقد عثرت بعد بحث طويل شاق على شاب بشارى قدم إسنا ليبيع سيور الجلد التى اشتهر قومه بصنعها. وأغريته بالذهاب إلى مسكنى ، وذلك بمساومته على بضاعته ، وحملته على الإقطار معى ، وما إن بدأت بسؤاله عن لغته حتى أبى أن يمكث ، مع أننى أهديته قميصا. فقد توهم أننى أشتغل بالتعاويذ والرقى ، وأننى أبغى استعمال لغته للإضرار بقومه ، فانطلق مقتحما فناء الدار لا يلوى ، ولم تجد معه كل المحاولات التى بذلتها بعد ذلك لحمله على الرجوع.

١٣٠

الرحلة من صعيد مصر إلى بربر وسواكن

عبر صحارى النوبة

ومن ثم الى جدة ببلاد العرب

(فى سنة ١٨١٤)

١٣١
١٣٢

فى ربيع عام ١٨١٣ عدت من رحلتى التى سافرت فيها على ضفاف النيل حتى دنقلة ، فأقمت بصعيد مصر أترقب الفرصة للخروج مع قافلة للرقيق فى رحلة إلى مناطق النوبة الداخلية مشرقا عن رحلتى السابقة. وآخر القوافل التى خرجت فى هذه الرحلة سنة ١٨١٣ قافلة كبيرة قامت من أرباض أسوان قبل عودتى إليها بأيام قلائل.

فى هذه الفترة بدأ قاطع طريق يدعى نعيما «شيخ عرب الرباطاب (١) المقيمين فى بلاد مقرات ، ومقرات هذه على ضفاف النيل ، وتبعد رحلة ثلاثة أيام إلى الشمال الغربى من القوز» بدأ نعيم هذا يقطع الطريق على القوافل ، وكان قد سلب جماعات من التجار بضاعتهم ، وحلّ بالقافلة المذكورة ما حل بهؤلاء فى عودتها لمصر فى أكتوبر ١٨١٣. وفى شهر ديسمبر استطاعت قافلة كبيرة مسلحة من سنار أن تقتل نعيما ، فغدت الطرق مأمونة بعد موته. ولكن التجار مع ذلك أجلوا سفرهم للنوبة ، فقد نمى إليهم أن سكان الأقاليم الجنوبية المشرفة على النيل يتضورون جوعا لما طرأ على محصول الذرة من هبوط سببه الفيضان الشحيح ، وروى أن الزنوج التعساء برّحت بهم المجاعة تبريحا ، فكان الواحد منهم يقتل صاحبه من أجل حفنات من الذرة. ورأى تجار الرقيق أن تكاليف إطعام العبيد ستأتى على كل ما يرجون من وراء الرحلة من ربح ، فأرجأوها إلى المحصول التالى.

وكنت فى أثناء ذلك قد اتخذت إسنا مستقرا ، وهى تبعد ثلاثة أيام عن دراو محطة قيام القافلة. ولما كنت أوثر ألا يعرف الناس من أمرى كثيرا ، لذلك لم أكن أخالطهم إلا فى الضرورة القصوى. وارتديت أحقر ما يرتديه أهل مصر من ثياب ، ولم أنفق من المال إلا أقله ؛ فنفقتى اليومية على نفسى وعلى خادمى وبعيرى وحمارى لم تزد على شلن وستة بنسات ، أما جوادى فكان يكلفنى ستة عشر بنسا فى الشهر. ولكنى برغم كل هذه الحيطة لم أقو على دفع الظنون والشبهات ، فخالنى بعضهم ذا ثراء عريض ، وحسبنى غيرهم رجلا محظوظا هداه حسن الطالع إلى كنز دفين. وكنت أخشى الاشتغال بالتجارة لئلا يلجئنى ذلك إلى الاختلاط بالتجار فيشتهر أمرى بين الناس. ولكن القوم فى مصر لم يألفوا أن يروا رجلا

__________________

(*) لم يكن نعيم شيخا للرباطاب بل قاطع طريق من هذه القبيلة التى تسكن مقرات ، وقد حنق عليه العبابدة لسطوه على قوافل العطمور التى كانت تحت سلطانهم وقتلوه عام ١٨١٢ وحملوا رأسه إلى مصر وأرسلت أذناه إلى والى مصر فى الحجاز. (المترجم)

١٣٣

يعيش من دخله دون أن يكون له عمل أو مهنة ، فهو إما زارع أو تاجر أو موظف حكومة. فإذا استطاع إنسان أن يعيش دون أن يكون أحد أولئك ، أو دون أن يستجدى ، كان ذلك فى نظرهم مبعثا للدهشة والعجب ومثارا للشبهة فى أن الرجل يخفى صناديق من الريالات المكدّسة.

وألممت مرات بدراو أستطلع أمر القافلة وأتعرف إلى وجوه القوم. وفى منتصف فبراير تقريبا بعث مراسلى بدراو رسولا إلى بإسنا ينبثنى بأن القافلة على أهبة الرحيل ، فانطلقت إلى دراو ، ولكنى وجدت التجار يسوفون ويؤجلون. وانقضى أسبوعان قبل أن يصدر الأمر بقيام القافلة.

ودراو قرية كبيرة على ضفة النيل الشرقية تبعد عشر ساعات إلى الشمال من أسوان ، وأهلها من فلاحى مصر ومن عرب العبابدة الذين نزل كثير منهم القرى المصرية ، جنوب قفط حتى أسوان وبقى بعضهم بالجبل. وهم يعيشون فى الجبل عيشة البداوة طوال الفصل الذى لا تقتضى فيه الزراعة بقاءهم على ضفاف النيل ، أما فيما بقى من شهور السنة فهم يسكنون القرى شأنهم فى ذلك شأن الفلاحين المصريين.

وللقبيلة شيخان يقيم أحدهما فى إقليت الواقعة على ضفة النيل الشرقية على نحو أربع ساعات من دراو شمالا ، ويقيم الثانى فى دراو.

وقد اشتغل العبابدة من عصور سحيقة خبراء للقوافل التى تعبر صحراء النوبة ، وفيهم كثيرون من كبار تجار الرقيق. ويتقاضى شيوخهم ضريبة على كل رقيق وكل جمل محمل يجتاز الصحراء ما لم يكن ملكا لبدوى من قبيلتهم.

أما غير العرب من أهل دراو فهم فلاحون تزوجوا نساء من العبابدة ، وجلهم يشتغل كذلك بتجارة الرقيق. وقد ألفيتهم بعد خبرة مؤسفة صعاليك مملقين يعيشون فى ضنك وفاقة على كثرة ما تدره عليهم تجارتهم من ربح يبددونه فى السكر والفجور.

وكنت قد أخذت عدتى للرحلة وأنا بإسنا. ولكنى ما وصلت دراو حتى

١٣٤

وجدتنى مضطرا لتغيير خططى. كنت قد جلبت معى بعيرا وحمارا لأحمل أولهما المتاع والزاد والماء ، ولأمتطى ثانيهما جريا على عادة التجار النوبيين الذين يسافرون إلى بلاد الزنج على حمير يبيعونها فيها ثم يعودون راكبين جمالهم. ولم أصطحب معى خادما هذه المرة ، فقد بعثت بالفلاح الذى كان يخدمنى أصدق خدمة طوال إقامتى بالصعيد إلى القاهرة وأنا مغادر إسنا وحملته طائفة من الخطايات ، لأننى عقدت العزم على أن أجرب حظى فى هذه البلاد وحيدا بغير خادم. ولقد تعلمت بالتجربة أن الأجراء الذين لا يحفزهم للخروج فى الرحلات الشاقة الخطرة إلا ما يصيبون من أجر شهرى ، يكرهون فى العادة ركوب الخطر ويجفلون من المشقات مهما هانت ، فيصبحون كلّا على سادتهم لا عونا لهم ، بل إن منهم من يعرض حياة سيده للخطر بجهله أو غدره. ولما كنت موفور العافية فإنى لم أحجم عن تحمل العبء الإضافى الذى كان يحمله عنى خادمى لو أنه رافقنى فى الرحلة. وفى دراو أتيح لى أن أرى ما أعده المسافرون من عدة للرحلة ، وأن أتبين أننى لم أتوخ ما توخوا من اقتصاد شديد. ذلك أن متاعى وزادى كانا يزنان زهاء قنطارين ، فى حين يطيق جملى حمل ستة قناطير. أما مئونتى من الماء فكنت سأحملها فى قربتين صغيرتين أعلقهما على بردعة حمارى. وعلى ذلك يستطيع جملى أن يحمل أربعة قناطير أخر يبلغ أجر نقلها عشرين ريالا بواقع خمسة ريالات للقنطار. فلو أننى استهنت بهذا المبلغ لتعرضت لنقد رفاقى ، ولحملتهم على الظن بأننى ثرى أمثل. وسرعان ما عرض على بعضهم أن أنقل لهم أربعة قناطير عبر الصحراء إلى القوز لقاء الأجر المذكور ، ولكنى رأيت أن تحميل الجمل بهذا الحمل ثم إنزاله عنه سيجشمنى عناء كبيرا ، لذلك استصوبت أن أبيع الجمل ، وما لبثت أن وجدت له مشتريا نقدنى فيه خمسة وعشرين ريالا لأن الإبل كانت عزيزة بصعيد مصر فى ذلك الحين ، وتكفل الرجل فى هذه الصفقة بنقل متاعى عبر الصحراء.

ذهبت إلى دراو متنكرا فى زى تاجر فقير ، وهو المظهر الوحيد الذى أحسبنى كنت أوفق فيه. ولست أرى بأسا من أن أسوق إلى القارىء هنا بيانا مفصلا بما كنت أحمل من متاع وزاد ، فأنا شخصيا كنت إذا قرأت كتب الرحلات أتوق إلى جمع هذه المعلومات للإفادة منها.

١٣٥

كنت أرتدى «الزعبوط» الذى يرتديه أهل الصعيد ، وهو عباءة صوفية فضفاضة بنية اللون ، وأرتدى معه قميصا وسراويل من الكتان الأبيض الخشن ، وعلى رأسى لبدة من الصوف الأبيض ألفها بمنديل عادى لتتخذ شكل العمامة ، وفى قدمى خفان. وكنت أحمل فى جيب زعبوطى يومية صغيرة وقلما وبوصلة جيب ومبراة وكيسا للتبغ وزنادا من الصلب أقدح به النار. أما زادى فكان أربعين وطلا من الدقيق ، وعشرين من الكعك ، وخمسة عشر من البلح ، وعشرة من العدس ، وستة من السمن ، وخمسة من الملح ، وثلاثة من الأرز ، ورطلين من البن ، وأربعة من التبغ ، ورطل فلفل وبعض البصل ، يضاف إلى ذلك ثمانون رطل ذرة عليقا للحمار. وكان معى حلة وصحن من نحاس ومحمصة للبن ، وهاون من الفخار لصحن البن ، وفنجانان للقهوة ، وسكين وملعقة ، وسلطانية من الخشب للشرب ولملء قربتى ، وبلطة وعشر ياردات من الحبال ، وإبر وخيط ومسلة ، وقميص احتياطى ، ومشط ، وإكليم ، وحرام مغربى للغطاء ليلا ، وحزمة صغيرة من الأدوية ، وثلاث قرب احتياطية.

كذلك كنت أحمل بين متاعى مصحفا صغيرا للجيب ابتعته فى دمشق (ولكنى فقدته فيما بعد يوم حججت فى ١٠ نوفمبر سنة ١٨١٤ وأنا بين جموع المصلين فى عرفات) ، ويومية احتياطية ومحبرة وأفرخ ورق أكتب عليها التعاويذ للزنوج. أما ساعتى فقد كسرت وأنا بصعيد مصر ولم أستطع الحصول على سواها. ومن ثم فساعات السير التى سجلتها فى يوميتى هى نتيجة تقديرى وملاحظتى لمسير الشمس.

وأما ما حملت من بضاعة قليلة فعشرون رطل سكر ، وخمسة عشر رطل صابون ، ورطلان من جوزة الطيب ، واثنتا عشرة شفرة للحلاقة ، واثنا عشر زنادا ، وطربوشان أحمران ، وعشرات من السبح الخشبية التى يمكن التعامل بها بسهولة فى أقاليم الجنوب بدلا من النقود. وكنت أحمل إلى ذلك بندقية معها ثلاث دست من الرصاص وبعض الرش الصغير ، ومسدسا ونبوتا صفح طرفاه بالحديد فأصبح سلاحا للقتال ومدقا للبن على السواء ، وكنت أحمله معى أنى سرت جريا على عادة

١٣٦

أهل البلاد. أما كيس نقودى الذى حملته فى حزام أتمنطق به تحت الزعبوط ، فكان يحتوى على خمسين ريالا إسبانيا تدخل فيها الخمسة والعشرون التى قبضتها ثمنا لبعيرى ، يضاف إلى هذا المبلغ جنيهان بندقيان (١) دسستهما فى حجاب جلدى صغير شددته إلى مرفقى لأننى رأيت هذا خير وسيلة لإخفائهما. ولو لا أننى تعطلت طويلا فى بدء رحلتى من مصر لحملت معى من النقود أكثر من هذا ، ولكنى ـ وقد بلوت من أمر الرحلة بعد ذلك ما بلوت ـ أقول إننى فى شك كبير مما كنت أكسبه من وراء هذه الزيادة من نفع. وكنت فى بداية الأمر قد رصدت لهذه الرحلة مائتى ريال حملتهما معى من أسيوط إلى إسنا فى سبتمبر من عام ١٨١٣ ظنا منى بأنى مستطيع القيام مع القافلة دون إبطاء. ولكنى بعد ذلك وجدتنى مضطرا إلى أن أجور على هذا المبلغ ، أقتطع منه مصر وفى اليومى ، وأشترى منه بعيرى ، إلى غير ذلك من مطالب. وكنت قد أرسلت فى طلب مبلغ آخر من المال ، ولكنه لم يسعفنى بالوصول قبل قيام القافلة.

ولما كان انتظارى للقافلة قد طال ، فقد كرهت أن أفوت هذه الفرصة التى واتتنى ـ فرصة الخروج معها فى الرحلة ـ لا لشىء إلا لضيق يدى. ثم إن الأنباء التى جمعتها عن الحالة فى بلاد الزنج حملتنى على الظن بأننى قد أوفق فى رحلتى إليها ولو بهذا المبلغ الزهيد مادام مكثى بها لن يطول. زد على ذلك أننى كنت على استعداد للتعويض عن قلة المال بالتقشف وبذل الجهد ، واجتنابهما هو أعم دواعى الإسراف فى مثل هذه الأسفار. وحزمت متاعى وزادى كله فى خمس غرائر أو «جربان» من الجلد درج على استعمالها تجار الرقيق ، أما ما كنت فى حاجة دائمة إليه من الأدوات فقد أودعته حقيبة صغيرة شددتها إلى ظهر حمارى.

لم يكن الزاد الذى يحمله أغنى تجار القافلة يختلف عما أحمله ، ولم يزد بعضهم من الأطايب إلا السمك المجفف والشهد والجبن. والجبن طعام يطيب للمسافرين من غير شك ، ولكنه لا يناسب المسافرين فى الصحراء حيث يجدر بالمرء أن يجتنب من الطعام ما يثير ظمأه. وكان لدى بعض المسافرين فى القافلة نوق مرضعات كانوا يحلبون منها كل يوم مقدارا من اللبن اللذيذ.

__________________

(*) Sequina

١٣٧

وفى أول مارس اجتمع شمل التجار فى دراو ، وفى فجر الغد حملت البضائع المختلفة التى ستنقلها القافلة إلى ميدان مواجه للقرية يدعى برزة الجلابة.

ولما انتصف النهار سقيت الجمال (١) وأنيخ كل بعير إلى جوار حمله. وقبيل التحميل أقبلت نسوة العبابدة يحملن أوعية من الفخار ملئت جمرا فوضعنها أمام كل حمل ورششن بالملح على الجمر ، فلما تصاعدت منه اللهب الزرقاء عند احتراق الملح طلبن للرجال السلامة ودعون لهم بالتوفيق فى الحل والترحال. وهن يزعمن أنهن يطردن بذلك الشيطان وكل روح شرير.

ورافقتنا نساء القرية وأطفالها زهاء نصف الساعة بعد خروجنا من القرية. وكان أخص أصدقائى فى دراو ـ وهو رجل يدعى الحاج حسين العلوان أقمت فى بيته وأغدقت عليه الهدايا الكثيرة اعتقادا منى بأنه ينوى السفر معى بشخصه ، مما يجعله رفيقا عظيم النفع ـ كان هذا الرجل قد أعلن فى اليوم السابق لرحيلنا أنه باق بدراو. ولكن أخاه وابنه عليا انضما إلى القافلة ، وكانت جماعتهما أكبر جماعات التجار المصريين بيننا وأغناها. وتبعنا الشيخ ونساؤه مسافة بعد القرية ، وأخذ يوصى قريبيه بى خيرا ونحن نفارقه ، وكان يقول لابنه وهو يفتح صدريته ويضع يده على قلبه «إنه أخوك ، فليكن هذا مكانه منك». وهذه العادة شائعة فى صحراء العرب كذلك ، ولها هناك مغزى ودلالة ، أما بين هؤلاء المصريين فليست سوى عبارة جوفاء تلوكها ألسنتهم. ثم سرنا فى سهل رملى فى شىء كثير من الفوضى التى تنتشر عادة فى بداية الرحلات. وكان كثير من الإبل محملا أسوأ تحميل ، وألقت بعض الإبل أحمالها عنها لطول ما ألفت من البطالة ، واضطررنا أن نبيت ليلتنا فى واد معشوشب يبعد عن دراو ساعتين ونصفا إلى الجنوب الشرقى ، وهناك نعمنا بأكل ما أعدته نساء دراو من طعام شهى طيب ، وأشعل المسافرون نيرانا كبيرة وأنفقوا الليل فى الغناء والضجيج.

٣ مارس ـ غادرنا الوادى مبكرين ودخلنا وادى أم ركبة ، وهو واد عريض

__________________

(*) قبل أن يقوم التجار برحلتهم يغطون إبلهم ثلاثة أضعاف عليقها اليومى من الذرة ويحشون حلوقها أياما متوالية ، فإذا بدأت الإبل الرحلة اخذت تجتر هذا الطعام المختزن أياما.

١٣٨

طيب المرعى سرنا فيه أكثر من ساعتين ، ثم ارتقينا تلا قائما ، وهبطنا وصعدنا مرات قبل أن يحط رجالنا فى واد قريب من عين ماء اسمها أبو كبير ، ولم نقطع فى يومنا غير ست ساعات كان سيرنا فيها بطيئا جدا.

وفى الوادى بعض الشجر ، وقد تجد الماء فى أى أرجائه إن حفرت عليه فى الرمل. واجتذبت عين أبو كبير الشحيحة بعض البدو من العبابدة فأقاموا حولها ، وقد اشترينا منهم بعض غنمهم. وصخور الجبال التى اخترقناها اليوم كلها من الظران.

٤ مارس ـ سلكنا هذا الصباح أودية رملية زهاء أربع ساعات ، ثم بلغنا عقبة تنتهى عندها الرمال وتلال الظران. وعبرنا العقبة ـ وهى من الجرانيت والشست ـ وبعد مسيرة ست ساعات وصلنا مكانا اسمه أبو عجاج ، فيه مستودع طيب لمياه الأمطار هيأته الطبيعة بين الصخور الجرانيتية ، وكانت طريقنا تيمم جنوب الجنوب الغربى والمسافة من هذا المكان إلى أسوان ست ساعات. ويبدأ خلف مستودع المياه المذكور مباشرة درب ضيق بين الصخور لا تمر فيه الجمال المحملة إلا بشق الأنفس. وفى منعطف من منعطفات الجبل فى هذا الدرب وجدنا طلائع القافلة مشتبكة فى شجار صاخب مع جماعة قوية من البدو المسلحين ، وقبل أن أعلم تفاصيل النزاع رأيت عبابدة قافلتنا يتقلدون سلاحهم ويتقدمون لمهاجمة خصومهم. وكان هؤلاء من العبابدة كذلك ولكنهم من عشيرة أخرى ، وقد ترامى إليهم أننا رحلنا عن دراو فخرجوا من بيوتهم فى الخطارة ـ وهى قرية قريبة من أسوان ـ ليكمنوا لنا فى هذا الدرب الضيق ويتقاضوا منا ضريبة المرور. وكانت عدتهم ثلاثين رجلا ، وكذلك كان أصحابنا العبابدة ، ونضا الجميع ثيابهم لأن من أصول القتال عندهم أن يتخففوا فيه من الثياب إلا من وزرة يلفها الرجل منهم على خاصرته (١). وكان سلاحهم السيوف الطويلة ذات الحدين ، والرماح القصيرة والدرق التى استخدموها على الأخص فى اتقاء وابل الأحجار التى قذفهم بها الخصوم فى بداية المعركة. ولما رأيتهم يحملون على بعضهم البعض ثم يلتحمون بالسيوف وهم يتصايحون تصايحا منكرا

__________________

(*) يقاتل النوبيون عراة على الصورة نفسها

١٣٩

ظننت المهاجمين من اللصوص ، فتهيأت للانضمام إلى أصحابنا العبابدة. وما إن صوبت بندقيتى إلى شيخ المهاجمين حتى صاح بى رجل من جماعتنا يستحلفنى بالله ألا أطلق النار أملا منه فى حقن الدماء. ورحب التجار المصريون بالوقوف فى المؤخرة ليدافعوا عن أمتعتنا عملا بنصيحة الخبراء. وكان القوم يحملون سيوفهم ، ولم يكن غيرى يحمل بندقية ، وقل منهم من كان يحمل غدارة ، وكان العبابدة يتوقون إلى تسوية النزاع بحد السيف. وانقضت عشرون دقيقة وهم يقاتلون قتالا يخالطه الإحجام والتردد ، ثم أمسك الجميع بعد تدخل الشيوخ من الفريقين ، وزعم كل فريق أنه المنتصر. ولم تزد الخسائر فى المعركة على جرح ثلاثة منهم بجراح طفيفة وفلع درقة من درقاتهم نصفين. على أن أصحابنا ظفروا بما أرادوا ، فقد مررنا دون أن نؤدى ضريبة مرور. ولقد طابت نفسى بما رأيت من إمكان الاعتماد على رفاقنا العرب إذا تعرضنا لهجوم آخر فى أثناء رحلتنا. أما من كان فى القافلة من التجار المصريين فقد ظهر إحجامهم واضحا جليا برغم تشدقهم وجعجعتهم. ولبعض شيوخ العبابدة حق فى إتاوة يجبونها من القوافل ، ولكن غير هؤلاء كثيرون ينتحلون لأنفسهم هذا الحق الذى ليس لهم ، وواجب الخبراء أن يحموا القافلة من هذا الابتزاز. وليس فى استطاعة قافلة من القوافل أن تعبر الصحراء آمنة مطمئنة دون أن يرافقها بعض العبابدة ، ولا يقدم التجار المصريون على هذه المغامرة وحدهم مع أن كثيرين منهم عليمون بمسالك الصحراء.

وانسحب المهاجمون بعد أخذ وردّ مستفيضين عقب المعركة. وكنا ننوى المبيت أول الأمر فى أبو عجاج ، ولكن الخبراء استصوبوا الآن السير قدما خشية أن يرسل الخصوم ليلا فى طلب المدد من قريتهم. لذلك سرنا ثلاث ساعات أخر فوق أرض صخرية حتى وصلنا واديا عريضا يدعى وادى هود وعنده حططنا. وقد رأينا أرجالا كبيرة من الجراد بين الأحجار الجرانيتية الجرداء طوال مسيرنا بعد ظهر اليوم.

٥ مارس ـ ووادى هود واد عريض يحفل بالشجيرات والأعشاب ، وتحف به من الجانبين صخور جرانيتية بديعة شبيهة بصخور أسوان والشلال. ومضينا نضرب

١٤٠