رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان - المقدمة

رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢

١

٢

٣
٤

محتويات الكتاب

صفحة

١١........................................... مقدمة بقلم الدكتور محمد محمود الصياد

١........................ الرحلة على ضفاف النيل من أسوان إلى المحسّ على حدود دنقلة

٦٥................................................... العودة من دار المحسّ إلى أسوان

١٣١ الرحلة من صعيد مصر إلى بربر وسواكن عبر صحارى النوبة ومن ثم إلى جدّة ببلاد العرب (فى سنة ١٨١٤)

١٩٧.................................................... (الرحلة من بربر إلى شندى)

٢٨١.................................................. (الرحلة من شندى إلى التاكة)

٣٦٥................................................... (الرحلة من سواكن إلى جدّة)

٣٨١................................................................ فهرس الأعلام

٥
٦

٧
٨

٩
١٠

(١)

لم تكن النوبة هدفه ولا جزيرة العرب وجهته ، ولكن شاءت الأقدار أن يرتبط اسمه بما كتب عن هذه الأقطار.

أرسلوه ليكشف عن سر النيجر ، فإذا هو يدفن على ضفاف النيل بعد أن يطوف فى أراضى الوطن العربى ثمانية أعوام طوال.

لقد أدرك جون لويس بركهارت John Lewis Burckhardt منذ البداية أن الرحلة الجغرافية لا بدلها من أدوات ... إنها ليست سياحة للمتعة وجمع النوادر ، بل هى دراسة عميقة تحتاج إلى استعداد طويل ، وتتطلب خبرات متعددة ، ومن ثم أنفق خير سنى صباه يتأهب لمهمة لم يمهله المرض حتى يقوم بها فيحقق أحلامه ويبلغ أمانيه.

ولكن هذه السنوات الطويلة لم تذهب عبثا ، فقد وهب الشاب قوة الملاحظة والقدرة على سبر أعماق الأمور ، فامتازت كتابته عما شهد فى هذه السنوات بالدقة ، وكان لها رونق وفيها عذوبة ، ومع أنه لم يزر أرضا جديدة مجهولة لم يطرقها أحد من قبله ، فإن مذكراته عن رحلاته لم تخل من طرافة ، وحسب بركهارت أنه كان من الرحالة القلائل فى عصره ، الذين قاموا برحلاتهم خدمة للعلم ... لم يكن تاجرا ، ولم يكن داعية حرب ، ولم يذهب فى سبيل راية ، أو من أجل التبشير بدين ، وإنما دفعة حب الاستطلاع والبحث عن الحقيقة إلى أن يرحل وأن يسجل ما رأى فى هذه الرحلات.

وكانت إفريقية حتى أوائل القرن الثامن عشر لا تزال فى نظر الغرب قارة شبه مجهولة ، إذ تحكمت ظروفها الطبيعية فى حركة الكشف عن أجزائها. إن ساحلها لا يشجع أبدا على اختراقها ، فأجزاء طويلة منه يكاد لا يوجد بها مكان واحد تستطيع السفن أن تلجأ إليه ، ولهذا كانت موانيها الطبيعية قليلة إلا فى الشمال. وتظاهر الصحارى وأشباهها نصف سواحل القارة تقريبا ، وتظاهر الغابات الكثيفة معظم الجزء الباقى ، وهى غابات يصعب اختراقها ، بل ربما استحال فى بعض الأحيان.

١١

وقليل من الأنهار الأفريقية هو الذى يصلح للملاحة ، إما لأن مجاريها تزدحم بالجنادل والشلالات ، وإما لأن مصباتها تسدها الحواجز ، أو تنتهى إلى البحر فى أخاديد تخنقها الغابات ، ومن ثم كان الوصول إلى الداخل عن طريق الماء أمرا لا سهولة فيه ولا يسر.

ولم يكن الانتقال بطريق البر قبل وسائل النقل الميكانيكى أقل صعوبة ، إذ أدى انتشار ذباب تسى تسى إلى تعذر استخدام الخيل أو الماشية أو أى نوع آخر من الحيوان دابة للنقل فى مساحة واسعة من القارة ، ولهذا كان لا يوصل إلى الداخل إلا سيرا على القدم ، ولا يستخدم للعمل والنقل سوى الإنسان.

وكان مناخ القارة باستثناء أطرافها الشمالية والجنوبية مما لا يلائم الأوربيين ، بل وكان قاضيا عليهم فى كثير من الأحيان حتى عرفت الطرق الحديثة للعلاج ما توطن فى المناطق الحارة من أمراض.

أمام هذه المصاعب لم يكن غريبا أن يتأخر كشف الأوربيين لإفريقية إلى عهد حديث ... لقد كان العرب يعرفون الكثير عن القارة الغامضة منذ العصور الوسطى حين كانت قوافلهم تعبر الصحراء من بلاد المغرب إلى تمبكتو ، وقد كتب ابن بطوطة فى القرن الرابع عشر الميلادى وصفا مفصلا لهذه المنطقة ، ولكن هذه المعلومات العربية ظلت مجهولة خارج نطاق العالم الإسلامى ، وكان أثرها ضئيلا فى رحلات الكشف التى تمت بعد ذلك. واقتصرت معرفة الأوربيين بإفريقية على الاستكشافات التى قام بها المصريون والإغريق والرومان. وكان الرحالة القدماء يسلكون طرقا ثلاثة رئيسية تسير مع السواحل الشرقية أو السواحل الغربية أو تصعد فى حوض النيل. وشملت معلوماتهم عن سواحل إفريقية الجزء الغربى منها حتى مكان «سيراليون» ، كما عرفوا حوض النيل حتى منطقة السدود. وقد اجتذبت منابع النهر اهتمام القدماء ، ولم يكن هذا غريبا إذ أن النيل هو النهر الذى غذى الحضارة المصرية وعلى أساسه قامت واستقرت ، وهو يجرى لمسافة طويلة عبر الصحراء دون أن ينصب فيه رافد واحد يجدد من حيويته ، وهو بعد أطول الأنهار التى عرفها إنسان ذاك الزمان.

١٢

ويأتى العصر الحديث وتبدأ محاولات جديدة للكشف عن أسرار القارة الغامضة ، وتمر هذه المحاولات فى أربعة أدوار لكل منها خصائص ومميزات. ويمتد الدور الأول من القرن الخامس عشر حتى منتصف القرن الثامن عشر ، وفيه يقوم رحالة غرب أوربا بزعامة البرتغال بالكشف عن بقية سواحل القارة ، ويجمعون قسطا من المعلومات عن أحوالها الداخلية ، وهى معلومات تحتاج إلى تمحيص واستقصاء.

ويمثل الدور الثانى أهم فصول قصة الكشف الجغرافى فى افريقية ، وقد افتتحه «بروس» برحلته التى قام بها فى سنة ١٨٦٨ وينتهى بوفاة «لفنجستون» (١٨٧٣) بعد ذلك بمائة وخمسة أعوام.

أما الدور الثالث فهو مرحلة الكشف السياسى ، ويشمل بصفة عامة الربع الأخير من القرن التاسع عشر ، ويبدأ برحلة ستانلى إلى الكنغو فى سنة ١٨٧٤ وينتهى بتقسيم القارة بين الدول الأوربية.

ويمتد الدور الرابع حتى اليوم ، وهو يمثل مرحلة الكشف العلمى المفصل كخطوة أساسية فى سبيل التطور السياسى والاقتصادى للقارة ، وهو دور بدأه الاستعمار لخدمة أغراضه وحماية مصالحه ، وجدير بإفريقية المستقلة أن تواصل السير على الدرب حتى تكشف عن شخصيتها ، وحتى تعرف بنفسها مكانها من العالم ، وحتى تستخدم إمكانياتها ومواردها فى تقوية بنائها ورفع مستوى شعوبها.

(٢)

وبركهارت من رحالة الدور الثانى وإن لم يوفق فى الكشف عن مجهول من القارة ، فقد خرج من انجلترا ليتجول فى داخل إفريقية ولكنه مات وهو على الأعتاب ، وحينما بدأ هذا الدور لم يكن الأوربيون قد زاروا سوى أجزاء محدودة من القارة ، وحتى هذه الأجزاء لم تكن قد وصفت بعد الوصف الدقيق ، بل ولم يكن الساحل قد عرف كما يجب ، ولم يرسم رسما قريبا من الصواب إلا عند ما قام بمسحه كابتن أوون Owen فى المدة من سنة ١٨٢١ إلى سنة ١٨٢٥.

١٣

وكان من أهم العوامل المشجعة على الاستكشافات فى هذا الدور أن بدأت الحملة للقضاء على تجارة الرقيق ، وتركزت الأنظار على إفريقية المصدر الأول للسلعة الادمية ، وزاد اهتمام الرأى العالمى بهذه القارة الغامضة ، وكان من مظاهر هذا الاهتمام أن تكونت فى سنة ١٧٨٨ الجمعية الإفريقيةAfrican Association تحت رعاية السير «جوزيف بانكس» Joseph Bankes.

ولم يتجه اهتمام الجمعية الإفريقية إلى نهر النيل بل اتجه إلى مشكلة جغرافية أخرى هى مشكلة نهر النيجر الذى أصبح أمره محيرا للاذهان أكثر من منابع نهر النيل. ولم يكن النيجر قد عرف كنهر مستقل حتى ذلك التاريخ .. لقد رآه ابن بطوطة قبل ذلك بأربعة قرون فظن أنه النيل وكتب فى رحلته : «ثم سرنا من زاغرى فوصلنا إلى النهر الأعظم وهو النيل وعليه بلدة كارسخو ، والنيل ينحدر منها إلى كابره ثم إلى زاغة ... ثم ينحدر النيل من زاغة إلى تنبكتو ثم إلى كوكو ... الخ (١).

وهكذا لم يكن أحد فى أوائل القرن التاسع عشر يعرف من أين ينبع النيجر ولا إلى أين ينتهى ... أينتهى إلى البحر أم إلى بحيرة كبيرة فى الداخل؟ بل لم يكن أحد يعرف فى أى اتجاه يسير .. أيمكن أن يكون هو النيل الأعلى؟؟ أم يكون أحد نهرى الغرب ـ غمبيا والسنغال ـ هو مصبه؟

لقد قامت الجمعية الإفريقية لتجيب عن مثل هذه الأسئلة .. وكانت محاولاتها الأولى فاشلة لسوء الحظ .. لقد أرسلت أربعة رحالة تحت رعايتها الواحد تلو الآخر وهم «لديارد» Ledyard و «لوكاس» Lucos ، و «هورنمان» Horneman ، و «هوتن» Houghton ولكنهم جميعا لم يصادفوا سوى الخيبة ، ولقى ثلاثة منهم حتفهم فى إفريقية ، ووقع اختيار الجمعية فى المرة الخامسة على «منجو بارك» Mungo Park وكان أسعد حظا من زملائه فوصل فعلا إلى نهر النيجر ، وأذاع حقيقة جريانه

__________________

(*) «مهذب رحلة ابن بطوطة المسماة تحفه النظار فى غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» المطبعة الأميرية ١٩٣٣ الجزء الثانى صفحة ٣٠٠.

١٤

إلى الشرق ، وعاد بوصف لجغرافية النهر كما يتصورها سكان البلاد ، ولكنه لم بستطع أن يعرف من أين ينبع النهر ولا فى أى مكان يصب ، وحاول مرة أخرى ـ على حساب الحكومة لا على حساب الجمعية ـ أن يركب النهرها بطا فيه ليصل إلى مصبه ولكنه لقى حتفه عند «بوصا» فى أوائل سنة ١٨٠٦. وفى السنة التالية وصل إلى الجمعية نبأ وفاة مبعوث آخر من رجالها هو هنرى نيكولزHenry Nicholls عند خليج بنين وهو يعد نفسه لرحلة استكشافية فى داخل البلاد.

(٣)

فى هذا الوقت الذى سيطر فيه اليأس على الجمعية أو كاد ، وفد على لندن شاب غريب عنها فى الخامسة والعشرين من عمره ، وجاءها يبحث عن عمل بعد أن ضاق بالأوضاع فى بلده وفقد المال والجاه

كان هذا الشاب هو الولد الثامن ، لجون رودلف بركهارت ، الشهير باسم بركهارت كرشجارتن Kirshgarten نسبة إلى قصره فى بازل. وقد استهل الأب حياته فى أحسن الظروف ، ولكن سرعان ما تغير الحال بقيام الثورة الفرنسية ، فبدأ يواجه منذ اللحظة الأولى لقيامها سلسلة من المتاعب والأخطار أوشكت أن تصل به إلى المقصلة فى يوم من الأيام. لقد حكم عليه الحزب الفرنسى فى بازل بالإعدام بتهمة الخيانة وممالأة الأعداء بتسليمه حصن هننجن Hunengin للنمسويين فى سنة ١٧٩٧. وظهرت الأدلة واضحة فيما بعد على أن بركهارت برىء مما نسب إليه ، وأدى هذا إلى الإفراج عنه ، ولكن الرجل وجد أن ليس من الحكمة أن يظل تحت رحمة الفرنسيين ، خصوصا وقد تجمعت لديه الأدلة على أنه لا بد مقضى عليه ، فهو فى رأس قائمة الشخصيات التى تقرر التخلص منها بأى وسيلة فى السر أو فى العلن ، ولهذا نجده يلتحق بالفرقة السويسرية التى تعمل فى خدمة إنجلترا ، ويترك زوجته وأطفاله فى بازل عسى أن ينقذ بقاؤهم فيها الأسرة من تدمير تام.

فى هذا الجو الخانق وفى مدينة لوزان ولد الطفل «جون لويس» وفيها نما

١٥

وترعرع وهو يرى بعينيه كل يوم مظاهر الشقاء التى تعانيها أسرته تحت الحكم الفرنسى الجمهورى ... لقد ضاع كل شىء ، الثروة والجاه ؛ ولم يعد للأسرة من مجدها القديم سوى ذكريات تجترها كلما ضاقت منها النفوس. وفقد الطفل وهو لا يزال فى فجر حياته كل ثقة فى الحكم الفرنسى ، واحتقر المبادىء التى ينادى بها الفرنسيون ، وقر فى ذهنه ألا يعيش أبدا تحت سلطانهم ، وتعلقت آماله بأن يخدم فى جيوش الدول التى تحارب فرنسا حينما تسمح له السن أن يكون من جملة السلاح ، ولكن لا بد له من أن يتم تعليمه أولا فهو صبى طموح لا تعوزه القدرة ولا ينقصه الذكاء ، وكانت موارد أسرته لا تزال تسمح له بأن يتعلم على يد معلم خاص يزوره فى بيت أبيه ، ولهذا لم يلتحق بدراسة نظامية إلا لمدة سنتين قضاهما فى معهد بنيوشاتل.

ويبلغ الصبى السادسة عشرة من عمره فى سنة ١٨٠٠ فيحمله أبوه «الزعيم بركهارت» إلى جامعة ليبرج وفيها يقضى أربع سنوات ثم ينتقل إلى جامعة جوتنجن ، وفى كلتا الجامعتين كان «جون لويس» طالبا مثاليا أكسبته مواهبه الممتازة ، ورغبته الصادقة فى المعرفة ، وتمسكه بقواعد الشرف ، تقدير أساتذته واحترام زملائه ، وأصبح له مجموعة كبيرة من الأصدقاء يحبون فيه صراحته الكاملة ، ومرحه المعتدل ورقة حاشيته وصفاء طبعه.

وترك بركهارت جوتنجن فى سنة ١٨٠٥ ليلحق بأبيه ، ومضت عليه فترة لا يعرف أى خطة يرسمها لمستقبلة .. إنه يريد أن يعمل ولكن بعيدا عن فرنسا والفرنسيين. ويتعذر عليه أن يجد فى القارة دولة لا تربطها بفرنسا رابطة. لقد أصبحت كل الدول الأوربية إما خاضعة لفرنسا أو متحالفة معها ، ولهذا يرفض غير آسف وظيفة فى السلك السياسى يعرضها عليه البلاط الألمانى.

وأخيرا ينتهى به التفكير إلى أن يرحل إلى إنجلترا عسى أن يجد الباب مفتوحا فيدخل فى خدمة هذه الدولة التى لم تخضع بعد لفرنسا أو تتحالف معها ويصل إلى لندن فى يولية سنة ١٨٠٦ مزودا بتزكية كثير من الرجال الممتازين ومن بينهم

١٦

بلومنباخ Blumenbach أستاذه فى جامعة جوتنجن الذى حمله رسالة إلى السر جوزيف بانكس يزكى فيها تلميذه ويوصيه به خيرا.

ويتعرف بركهارت بكثير من أعضاء الجمعية الإفريقية البارزين ، ويعلم عن طريقهم أن الجمعية بدأت تعتقد أن الأفضل لرحالتها الذين تبعثهم للكشف عن داخل إفريقية أن يحاولوا الوصول إليه من الشمال لا من الغرب كما كانوا يفعلون. وتلقى أهداف الجمعية هوى فى نفس بركهارت الذى تميز برجاحة العقل وحب العلم وروح المغامرة ، فلا يمضى طويل وقت حتى يتقدم إلى السير جوزيف بانكس والدكتور هاملتون أمين صندوق الجمعية وكاتم سرها بالنيابة ، عارضا خدماته ، ويرحب الرجلان بالسويسرى الشاب لما يعرفان من خلقه وشجاعته. ويعرض هاملتون طلبه على الجمعية الإفريقية فى اجتماعها السنوى العام فى مايو سنة ١٨٠٨ فتوافق عليه ، ولا شك أن هذا الأمر قد أثلج قلب بركهارت ، فقد أرضى طموحه ، وفتح أمامه الباب واسعا لمغامرة طويلة قد يكون من ورائها ذيوع شهرته وضم اسمه إلى سجل النابهين من الرحالة والمستكشفين.

ولم تصل موافقة الجمعية رسميا إلى بركهارت إلا فى ٢٥ يناير من سنة ١٨٠٩ ، ولكنه بدلا من أن يقضى هذه الشهور الثمانية يستبد به القلق ، ينتقل إلى كمبردج ليتعلم اللغة العربية وفروع العلم الضرورية لشخص يوشك أن يقوم بمهمة كمهمته ، فيحضر محاضرات فى الكيمياء والتعدين والفلك والطب والجراحة ، فإذا ما فرغ من دروسه أخذ يتأهب لما هو مقبل عليه من مغامرة.

ولو كنت ممن يتجولون فى ريف مقاطعة كمبردج فى صيف سنة ١٨٠٨ لاسترعى انتباهك شاب وسيم قد أطلق لحيته الكثة السوداء وهو يسير على قدميه عارى الرأس لمسافات طويلة وبخاصة فى الأيام الصاحية التى تشرق شمسها وترتفع درجة حرارتها ، فإذا ما أنهكه الجوع أخرج من مخلاة صغيرة يحملها قليلا من الخبز والخضر يسكن بها صراخ بطنه ، وربما استبد به التعب فنام فى ظل شجرة أو على ضفة نهر ... إنه «جون لويس بركهارت» يدرب

١٧

نفسه على تحمل المشاق قبل أن يبدأ المغامرة التى سعى إليها ووافقت الجمعية على أن يقوم بها.

وتقضى التعليمات الصادرة إلى بركهارت بأن يسافر إلى سورية أولا حتى يتقن اللغة العربية ، فقد أصبحت أهم المؤهلات ما دام يريد أن ينفذ إلى داخل القارة عن طريق الشمال ، وحتى يستطيع أن يعيش فى مجتمع لا تختلف عاداته وتقاليده عنها فى البيئة التى سيتخذها قاعدة يطرق منها أبواب الداخل الغامض المجهول ، وبذلك يسهل عليه تجنب الأخطار التى قد تنشأ عن اكتشاف أمره فى المستقبل. وكان عليه بعد أن يقضى عامين فى بلاد الشام أن يرحل إلى القاهرة ليصحب إحدى القوافل التي تسير منها إلى واحة مرزوق التى سيتخذ منها بداية لرحلته داخل إفريقية.

وفى ٢ مارس سنة ١٨٠٩ يستقل بركهارت باخرة تجارية تقلع بحمولها من ميناء كاوس Cowes فى جنوب انجلترا متجهة إلى ميناء البحر المتوسط ، ويصل إلى مالطة فى أواسط ابريل فيسارع بكتابة رسالة إلى السير جوزيف بانكس مؤرخة فى ٢٢ ابريل يخبره بوصوله إلى الجزيرة الصغيرة وأنه علم من أحد تجارها أن طبيبا ألمانيا يدعى دكتور سيتزن Dr.Seetzen وصل إلى القاهرة منذ عام ونصف وأنه يستعد للقيام يرحلة إلى داخل افريقية.

ثم يبعث إليه مرة أخرى بخطاب مؤرخ فى ٢٢ مايو يخبره بأنه سيسافر من مالطة إلى حلب كتاجر هندى مسلم اسمه ابراهيم بن عبد الله يحمل رسائل من شركة الهند الشرقية إلى قنصل بريطانيا الذى هو فى نفس الوقت وكيل الشركة فى حلب ، ريذكر له أنه نجح فى أن بظهر بالمظهر الشرقى الصحيح فى أثناء إقامته بمالطة وأنه تدرب قدر استطاعته على الحديث باللغة العربية ، ويؤكد اعتقاده فى أن سره لم يقف عليه أحد. ثم يسترسل فى خطابه فيترك الحديث عن نفسه لينقد الرأى الذى يقول بأن صقلية هى مصدر التربة التى تغطى أراضى مالطة ، ثم يتحدث عن الحكومة المالطية وسياستها.

١٨

وتنقطع أخبار بركهارت عن الجمعية لمدة أربعة شهور ، ثم يكتب لها من حلب فى ٢ أكتوبر سنة ١٨٠٩ رسالة طويلة يقص فيها أخبار رحلته من مالطة حتى استقر به المطاف فى حلب ، فيتحدث عن أصحاب المراكب وعدم تمسكهم بكلمتهم ، وعن رفاقه فى الرحلة وأسئلتهم الكثيرة التى وجهوها إليه عن الهند وسكانها ولغاتها ، وإلحاحهم فى أن يذكر لهم نماذج من اللسان الهندى ، وكيف كان يرد عليهم بجمل ألمانية ينطقها بأسوأ اللهجات السويسرية ، ويصف الطريق الذى سلكه فى البحر والبر والبلاد الذى نزل بها وأنماط الحياة السائدة فيها والأشخاص الذين قابلهم وأحاديثه معهم ؛ ولا يجد حرجا فى أن يذكر أن ما جمعه من المعلومات عن بعض البلاد لا يكفى لكى يصدر عليها حكما سليما ، ويصلح مواقع بلاد أخرى على الخريطة ؛ فيذكر مثلا أن طرسوس التى ترى على كثير من الخرائط بلدا ساحليا إنما تبعد فى الواقع عن البحر بأكثر من ثلاثة أميال.

ويتحدث فى نهاية خطابه عن الحمى التى أصابته عقب وصوله إلى حلب ببضعة أيام ويذكر أنه يعتزم البقاء فى حلب حتى نهاية الصيف التالى وأنه وفق فى الحصول على معلم كفء للغة العربية ، وسوف يقوم بزيارة البدو فى صحرائهم ليقضى بينهم عدة شهور وذلك حينما يصبح فى مقدوره أن يتحدث إليهم بلهجاتهم.

(٤)

وعاش بركهارت فى سورية عامين ونصف عام يضيف كل يوم جديدا إلى معلوماته فى اللغة العربية وإلى خبراته بأخلاق أهل الشرق وطباعهم وبأحوال المجتمع الإسلامى وعاداته. واتخذ من حلب المركز الرئيسى لإقامته ، وظل يحمل اسم «إبراهيم بن عبد الله» الذى أطلقه على نفسه فى مالطة ، ولكنه إيمانا منه بأنه لا يزال قليل الخبرة والتجربة فى تمثيل دور المسلم ، واعتقادا بأنه ليس هناك ضرورة ليعيش متخفيا فى حلب ، لم يكن حريصا على أن يخفى أصله

١٩

الأوربى ، واكتفى بأن يلبس الملابس التركية كما كانت عادة أمثاله من الرحالة الأوربيين ، لا رغبة فى التخفى وإنما اتقاء لما يمكن أن يوجه إليهم من إهانات ، ومن ثم يستطيع أن يختلط بالمسلمين فى حلب ويستطيع فى نفس الوقت أن يتصل بالأجانب إذ لم يعد هناك ما يحول بينه وبين هذا الاتصال. وقد ساعده هذا على أن يستفيد بحماية مستر باركر قنصل بريطانيا والمستر ماسيك (Masseyk) قنصل هولندة السابق وغيرهما من أعضاء الجالية الأوربية التى تعيش فى حلب.

وقضى بركهارت معظم وقته فى مدينة حلب يتعلم اللغة العربية ، وكان مقررا ألا تطول إقامته فى الشام لأكثر من عامين. ولكنه بعد مضى سنة يكتب إلى الجامعة بأنه وإن يكن يبذل كل ما فى وسعه لإجادة اللغة العربية إلا أنه يحس بأن صعوبتها تجعل المدة الباقية لا تكفى لتحقيق رغبته ، ويلتمس من الجمعية أن تسمح له بستة شهور أخرى يقضيها فى بلاد الشام. وتجيبه الجمعية إلى طلبه ويقبل بركهارت على دراسته ويحاول أن يكتب قصة عربية مقتبسة من قصة روبنصن كروزو مستعينا فى كتابتها برجل من الافرنج ولد فى حلب لا يكتب العربية ولا يقرؤها ولكنه يتكلم بها كأحد الوطنيين. ويطلق على قصته عنوان «در البحور» وبرسل بها إلى السير جوزيف بانكس.

ويتعرف على أحد شيوخ التركمان الريحانلية ، ويتفق معه على زيارة المنطقة التى تسكنها قبيلته كطبيب يبحث فى خواص الأعشاب الطبية ، فيترك حلب ليقيم أسبوعين من شهر مارس سنة ١٨٠٩ مع هذه القبيلة الرحالة التى تخيم على مسيرة يوم من حلب فى فصل الشتاء والربيع ... ومرة أخرى يرافق فى سبتمبر سنة ١٨١١ قافلة إلى السخنة ومنها إلى ضفاف الفرات ، ولكن وصف هذه الرحلة لا يصل إلى الجمعية كما هى عادة بركهارت دائما ، وأغلب الظن أنه بعث بتقريره ثم ضاع فى الطريق.

ويترك بركهارت حلب فى صيف سنة ١٨١٠ ليزور تدمر وحوران وينتهى

٢٠