رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

جون لويس بوركهارت

رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: فؤاد أندراوس
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة
الطبعة: ٠
ISBN: 977-437-201-8
الصفحات: ٣٩٢

الرحلة على ضعاف النيل

من أسوان إلى المحسّ على حدود نقله

١
٢

بلغت أسوان فى الثانى والعشرين من فبراير سنة ١٨١٣ بعد أن زرت معظم آثار وادى النيل ، وكانت تحدونى الرغبة القوية إلى مواصلة الرحلة مصعدا مع النهر إلى أبعد ما أستطيع دون أن أعرض نفسى لخطر قريب. وكنت إبان الأسبوع الذى مكثته بإسنا ـ وهو آخر بلد هام فى صعيد مصر ـ قد جمعت طائفة كبيرة من المعلومات عن أحوال بلاد النوبة ورتبت رحلتى معتمدا عليها. ومن بين الترتيبات التى لم يكن لى عنها مندوحة شراء هجينين كريمين لى ولمن استأجر من الخبراء (١) فى شتى البلاد التى أزمعت المرور بها فى النوبة. لذلك بعت الحمارين اللذين جلبتهما من القاهرة إلى إسنا ، واشتريت هجينين باثنين وعشرين جنيها. وقد أثبتت التجربة أنهما من أقوى الإبل وأصلبها عودا ، فإنى لم أرحهما سوى يوم واحد طوال الرحلة من أسوان إلى المحسّ وبالعكس ، وهى رحلة استغرقت خمسة وثلاثين يوما ، وكنت أنا ودليلى نركبهما بمعدل عشر ساعات فى اليوم.

وفى إسنا سوق للإبل اشتهرت فى مصر كلها لأن عرب البشارية والعبايدة يختلفون إليها ، ومعروف أنهم يقتنون أعرق الإبل فى هذه الأصقاع من إفريقيا. وقد زودنى حاكم إسنا التركى حسن بك ـ وهو رجل قبرصى الأصل ـ بتوصية قوية رجوته أن يوجهها لأبناء سليمان كاشف الثلاثة الذين يحكمون النوبة فيما بينهم. وكنت أعلل نفسى بأن ما يتمتع به والى مصر محمد على من نفوذ متزايد خليق بأن يضفى على هذه التوصية الموجهة من أحد كبار موظفيه شيئا من الأهمية والخطر. وكنت إلى ذلك قد حصلت من الباشا نفسه على فرمان ولكنه كان مكتوبا بالتركية ـ وهى لغة لا يقرؤها النوبيون ـ وكان فرمانا عاما لا تخصيص فيه ، لذلك لم أركن إليه كثيرا ولم يهمنى منه سوى اشتماله على اسم قلعة إبريم واسم حاكمها ، والاسمان واضحان يستطيع أن يتبينهما حتى من لا يعرف سوى العربية.

__________________

(*) الخبراء «الأدلاء» متوفرون فى النوبة والحصول عليهم يسير ، ولكن قل منهم من يرضى أن يركب دابته فى رحلة محفوفة بالخطر.

٣

أما الكتاب الذى عقدت عليه الآمال فى نجاح الرحلة فكان من آل حباتر ـ عيون تجار إسنا ـ وقد أوصاهم بى صديق فى القاهرة. ويكاد آل حباتر يحتكرون تجارة البلح النوبية ، وهم وكلاء للحكام النوبيين فى كافة صلاتهم السياسية بمصر ، يضاف الى ذلك أنهم من الأشراف ذوى الثراء العريض ، لذلك كانوا ينمتعون سمعة طيبة واسعة ، وقد تجدى توصياتهم بالتجار والمسافرين على طول الطريق الصاعد مع النيل حتى سنّار.

وصلت أسوان بعد رحلة سهلة من إسنا اقتضتنى أربعة أيام. وأسوان أبدع بلاد مصر قاطبة ولكنها لا تستحق هذا المديح الذى يكيله لها بعض الرحالة من أجل آثارها وآثار جزيرة الفنتين المجاورة لها. وكنت أحمل من حسن بك حاكم إسنا كتابا إلى أغا أسوان ، فرجوت الأغا أن يزودنى بخبير يصحبنى إلى الدر حيث يقيم حسن كاشف أحد حكام النوبة. وسرعان ما جىء إلىّ بخبير عربى عجوز من أصل نوبى ، وقد رضيت بعد لأى أن أنفحه ريالا إسبانيا نظير مرافقته إياى فى رحلتى إلى الدر ، وهو أجر كاف لرحلة طولها مائة وأربعون ميلا. ثم خلفت بأسوان خادمى ومعه متاعى القليل. وبعد أن تزودت قمت مع خبيرى فى الرابع والعشرين من فبراير وأنا لا أحمل غير بندقيتى وسيفى ومسدسى ، وحقيبة للزاد ، وحراما مغربيا من الصوف يصلح فرشا أو غطاء. وارتديت الزعبوط الأزرق الذى يلبسه تجار الصعيد بعد أن تركت بإسنا ثياب السفر التركية التى كنت أرتديها. وبعد أن قدرت نفقاتى المحتملة فى النوبة ، ألقيت فى كيسى ثمانية ريالات إسبانية جريا على المبدأ الذى لا أحيد عنه فى أسفارى ، وهو أن السائح يكون فى مأمن من العثار والفشل كلما اقتصد فى مصروفه وتخفف من حمل النقود فى أثناء رحلته. ولقد عدت الى أسوان بثلاثة ريالات بعد رحلة قطعت فيها أربعمائة وخمسين ميلا فى سفرى جنوبا ومثلها فى العودة ، فلم تتجاوز جملة ما أنفقت خمسة ريالات ، يدخل فى ذلك كافة النفقات باستثناء الهدية التى قدمتها

٤

لحسن كاشف (١). ويجب ألا يعزى هذا إلى الشح أو التقتير ، إنما هو جزء من خطتى التى أنتهجها فى أسفارى ، أسوقه على سبيل النصيحة لكل مسافر فى أصقاع الشرق المجهولة المحفوفة بالخطر.

٢٤ فبراير ١٨١٣ ـ غادرت أسوان مع الظهر ، وسرت بحذاء جبانة مدينة أسوان العربية القديمة على الجانب الشرقى من التل ، حيث أقام الفرنسيون بقيادة ديزيه طابية تقوم إلى جوارها قبة عالية من الآجر شيدت تذكارا للولى التركى الشيخ ونس. وتنتشر المقابر التركية على مساحة محيطها ثلاثة أميال تقريبا ، وقد دفن فيها عدد كبير من الأولياء ذوى الكرامات الذين يحج الأتقياء لقبورهم من شتى أنحاء مصر. وشواهد القبور المكتوبة بالخط الكوفى لا يحصى عددها ، ولكن ما كتب عليها حديث العهد ردىء الخط. ويروى المقريزى المؤرخ المصرى أن ٠٠٠ ر ٢١ شخص ماتوا بالطاعون فى أسوان عام ٨٠٦ ه

__________________

(*) هذا بيان بشتى نفقاتى فى أثناء الرحلة :

بارة قرش

٢٠ ٦ للخبير من أسوان للدر.

١٠ ٠٠ هدية للخبير.

٣٠ ١ ثمن ذرة مشتراة بأسوان.

٢٥ ٠٠ ثمن خبز وبصل مشترى بأسوان.

٠٠ ١ هدية لخادم الوالى بالدر.

٠٠ ١ «للكاتب ليكتب خطابا لسكوت ، وقد أغرته الهدية بكتابة توصية قوية.

٠٠ ٦ ثمن زاد من الذرة اشترى من الدر إلى المحس.

٠٠ ١ ثمن تبغ اشترى فى الدر.

٥ ٠٠ أجرة تصليح حذاء بالدر.

٠٠ ١ دفعت فى الطريق للخبير الذى رافقنى للمحس.

٢٠ ٦ أجرة الخبير فى رحلة العودة للدر.

٠٠ ٢ هدية للخبير.

١٠ ١ مدفوعة للنوبيين لمرافقتى فى زيارة الآثار من الدر لأسوان.

١٠ ٠٠ أجرة معدية فى دبوت.

٢٠ ٦ مدفوعة للخبير من الدر لأسوان.

٢٠ ٠ هدية للخبير.

١٠ ٣٦ أو جنيه انجليزى و ١٥ شلنا.

٥

الأمر الذى يدلنا على أهمية المدينة فى ذلك العهد. ويبدأ حيط العجّور ، وهو سور الآجر الذى ذكره دينون Denon ، على نحو ميل من الجبانة ، ويمتد على طول السهل الرملى بين الصخور الجرانيتية حتى قرب جزيرة فيلة.

ويزعم الأهالى أن الحائط بناه ملك يدعى عجورا. ولعله قصد به أن يكون حصنا يدفع غارات بدو الجبل الشرقى حين كانت تقوم بين فيلة وسيناء تجارة بريه نشيطة. ويقول الوطنيون إنه كان فى الأصل جسرا لقناة ، ويرى نوردن أن النيل كان يجرى قديما فى هذا الجانب ، ولكنه فرض يبدو لى مستحيلا لأن الأرض تعلو من فيلة صوب أسوان بشكل واضح. ويرى الناظر إلى الصخور الجرانيتية القائمة على طول الطريق نقوشا هيروغليقية تزداد كلما دنونا من الجزيرة. كذلك يرى بعض نقوش إغريقية مطموسة ، ولعلها سجلت فى يوم ما أسماء رحالة من الإغريق دفعهم حب الاستطلاع إلى زيارة هذه الأنحاء. وبين أسوان وفيلة طريق آخر أطول من هذا يحاذى شاطىء النهر مارا بالجندل.

وبعد أن ركبنا أربعة أميال من أسوان ، بلغنا سهلا مكشوفا خاليا من الصخور ، يجرى النهر فى جانبه الغربى. وهنا لاحت لى أطلال جزيرة فيلة (أنس الوجود) ، ولما لم أجد قاربا يحملنى إلى الجزيرة ـ وكنت أعلم أننى سأمر بها فى رجوعى لأسوان ـ لم أطل وقفتى إلا ريثما ألقى نظرة على الصخور الجرانيتية القائمة على ضفاف النهر ، والتى يسترعى النظر من بينها المقعد المشهور الذى رسمه كثير من السائحين. والقرية الصغيرة الواقعة مقابل فيلة تدعى البربا وهى الحد الجنوبى لمصر. والقرى العديدة القائمة منها إلى أسوان شمالا هى جزء من إقليم البريا الذى أعفى من شتى أنواع الخراج بمقتضى فرمانات قديمة صادرة من الباب العالى. وتبدأ أملاك الأمراء النوبيين جنوبى البريا ، وتدخل فى أملاكهم فيلة. والأهالى فى الأنحاء المحيطة بالشلال سلالة مستقلة ، يعتزون بالمناعة التى أكسبتهم إياها طبيعة بلادهم ، ويسكن كثير منهم الجزائر ، وجل اعتمادهم فى قوتهم وقوت أسرهم على صيد السمك من النهر.

٦

واتفق فى أثناء رحلتى أن كان النوبيون من أهل أسوان فى حرب مع جيرانهم أهل الجنوب. وقد نشبت الحرب لأن الجنوبيين استولوا على مركب محمل بالبلح وهم يعلمون أنه ملك لتاجر أسوانى. وقبل وصولى بأيام قلائل دارت رحى معركة تجاه جزيرة فيلة ، قتلت فيها امرأة حبلى برمية من حجر ، ولا غرابة فنساء النوبيين يشتركن فى القتال أينما نشب ويهاجم بعضهن بعضا فى ضراوة ووحشية وهن مسلحات بالمقاليع. أما الجنوبيون من ذوى القتيلة فيطالبون أعداءهم بدية ، لا عن المرأة القتيل فحسب ، بل عن الجنين الذى كان فى بطنها وقت موتها. وقد أنكر خصومهم عليهم هذا الطلب. ولما كانوا أقل نفرا ، ولما لم يكن فى أسوان حامية يستعينون بها ، فقد رأى الرجال أن من الحكمة الانسحاب من الميدان. فأخلوا القرى الملاصقة لفيلة ، ولم يتركوا بها سوى نسائهم وبناتهم ، ونزحوا إلى أسوان هم وبنوهم. ولما عدت من المحس لم يكن الصلح قد تم بين الفريقين ، وكان النوبيون لا يزالون فى أسوان ، وكانت تصلهم كل يوم قافلة من النساء تحمل الزاد لأزواجهن.

عبرنا السهل الذى ذكرت آنفا مرة أخرى تجاه الجزيرة ، ولاحظت كثرة الشقف فى هذا السهل. ثم ارتقينا الجبل جنوب الجزيرة لعدم وجود طريق بحذاء النهر صالح لسير الإبل ، وسرنا زهاء الساعتين فى فجاج الجبل العميقة. وفى صخور الجبل أنواع لا تحصى من الجرانيت أجملها الوردى اللون. وتتكون هذه السلسلة من صخور من السيانيت والفلسپار الأحمر والجرانيت. ثم هبطنا ضفة النهر ثانية على مقربة من كفر صغير من الكفور التى يتألف منها إقليم شبحة الواح. ومجرى النهر هنا خال من الصخور والجزائر ، ولكن جسوره على الجانبين تضيق فلا يكاد عرض الأرض الصالحة للزراعة يبلغ المائة ياردة. وبعد مسيرة نصف ساعة بلغنا قرية ساق الجمل من أعمال وادى دبود وأنخنا بعيرينا تجاه بيت شيخها حيث قضينا ليلتنا. وفى بيت الشيخ ذقت لأول مرة هذا الصحن الذى يعيش عليه أهل الإقليم والذى أصبح طعامى الدائم طوال الأسابيع الخمسة التى استغرقتها رحلتى ، وهو فطائر رقيقة من الذرة ، غير مختمرة ، ومخبوزة خبزا خفيفا ، تغمس فى لبن حلو

٧

أو حامض (١). وهذا الطعام خشن جدا نظرا لرداءة طحن الذرة ، ولو لا فرط الجوع لما أغريت بتذوقه.

٢٥ فبراير ـ واصلت سفرى ملتزما ضفة النهر الشرقية. والطريق إلى الدر مأمون لا خوف فيه على المسافر ما دام فى صحبة أحد الوطنيين. ولقد وجدت فى الأهالى أينما سرت فضولا لم ألحظه فى غيرهم من قبل. كنا نمر بالقرية عدوا فى أكثر الأحيان فيخرج الرجال من بيوتهم أو من حقولهم ويجرون خلفنا ليسألوا الخبير من أنا ، وما غرضى من رحلتى. فكان يجيبهم بأننى قادم من إسنا ، منطلق إلى الدر ، أحمل خطابات من والى إسنا إلى الأمراء النوبيين. فيسألون عن فحوى هذه الخطابات ، ويلحون علىّ فى الترجل والإفطار معهم ليوصلوا استجوابى على مهل. وبلغنا وادى السيالة بعد ساعة ونصف ، ووادى عبدون بعد ساعتين ونصف ووادى دهميت بعد أربع ساعات. ولفظ «الوادى» يطلق هنا على كل قرية فى هذه النواحى حتى دنقلة. ويشمل الوادى الواحد مجموعة من ثلاث قرى أو أربع. فوادى دهميت مثلا يمتد نحو أربعة أميال على ضفة النهر. ويشتمل على أكثر من ست قرى لكل منها اسمها الخاص. لذلك يقع السائحون الذين يدونون أسماء القرى فى هذه النواحى فى الخطأ بسهولة إذ يخلطون بين الاسم العام لمجموعة القرى ، واسم كل قرية على حدة. وثمة قرى كبيرة قليلة العدد ، ولكنك أنى سرت صادفت نجوعا من خمسة بيوت أو ستة تقوم أينما نبت النخل على ضفة النهر أو سمح عرض الوادي بالزراعة.

وفى دهميت وجدت داود كاشف ، بن حسين كاشف ، معسكرا فى نفر من رجاله فى أخصاص من البوص. وأنخت بعيرى عند خصه ، وتناولت معه الفطور وأخبرته أنى مبعوث لأبيه وأعمامه فى مهمة. وحكام النوبة دائمو التنقل فى أملاكهم ليجبوا الخراج من رعاياهم ، ويرافقهم على الدوام حرس من أربعين رجلا أو خمسين ليجمعوه قسرا إذا اقتضى الأمر ، وليكونوا فى هذا النفر أقدر على السلب والنهب.

__________________

(*) تعرف هذه الفطائر محليا بالكابيده (المترجم).

٨

وفى الليلة السابقة لوصولى دهميت ، جاءنى نوبى فى ساق الجمل يشكو إلىّ ظلم داود وطغيانه. ذلك أن داود نمى إليه أن الرجل وأسرته ينعمون سرا بأكل خبز من دقيق القمح ، فاعتبر هذا دليلا كافيا على ثرائه العريض. ومن ثم حاصر أعوان داود بيت الرجل ليلا ، وطلبوا منه بعيرا لسيدهم ، ولما أبى هاجموا بيته ، وإذ لم يكن له جيران أقربون ، فقد أخفق فى الدفاع عن نفسه ، فأثخنوه تجريحا وأخذوا ماله غنيمة. ورأيت داود فقير المظهر يرتدى الجلباب الأبيض الذى يلبسه النوبيون. وقد سألنى أن أعطيه بارودا ، ولكننى اعتذرت بأن ذخيرتى من البارود لا تكاد تكفينى (١) ، فلم يبد عليه أى امتعاض لرفضى إجابة سؤاله ، وكان مئات من الفلاحين مجتمعين حول معسكره ومعهم قطعان البقر والغنم التى يدفعون منها الخراج.

وغادرنا دهميت ، وبعد رحيلنا من وادى دبود بخمس ساعات وصلنا وادى قرناس ، حيث مررت بأطلال معبد صغير لم يبق منه غير ركن جدار ، ولم أر بقايا أعمدة ، ولكنى رأيت على بعض الأحجار المتناثرة نقوشا هيروغليفية تكرر فيها قرص الشمس المجنح. وهناك خرائب واسعة تجاه هذا المكان على الضفة الغربية. وقد ذكر لى الخبير أن فى الجبل الشرقى ، على مسيرة يوم كامل ، توجد خرائب مدينة تدعى قملة وبلغنا نجع الجامع بعد خمس ساعات ، وتيفة بعد ست ، والقريتان تقومان على ضفتى النهر. وعرض الوادى بين ضفة النهر وسفح الجبل ربع ميل. وهنا توجد خرائب بنائين قريبين من بعضهما البعض لم يبق منهما غير الأساس. وهما مبنيان بالحجر الرملى بناء بدائيا جدا ، ومساحتهما أربعون قدما مربعة. وليس هناك بقايا أعمدة ولا أحجار منقوشة من أى نوع. كذلك توجد بعض الخرائب على الجانب المقابل من النهر. ولا شك أن هذه الخرائب هى بقايا (Contra Taphis ,Taphis) طافية. وإلى الجنوب من هذه الأطلال مباشرة

__________________

(*) منذ تقهقر المماليك إلى دنقلة حظر محمد على باشا والى مصر بيع البارود فى جميع أرجاء الصعيد ، وبذلك منع وصول الذخيرة إلى أعدائه الذين يضطرون الآن إلى شراء كل ٦ دست من الخرطوش بعبد.

٩

تحول الجبال القائمة على ضفتى النهر دون السير عليهما ، فلا سبيل للمسافر إلا أن يخترق الجبل ساعة. وقد لاحظت مرة أخرى أن الجبل يتألف هنا أيضا من الصخور الجرانيتية. والسلسلة الجرانيتية لا تنقطع من أسوان إلى دهميت. أما فى جنوب دهميت فالجبل الذى يكتنف النهر قوامه الحجر الرملى ، ويظل كذلك حتى الشلال الثانى عند وادى حلفا. فيما خلا الصخور الجرانيتية المشرفة على تيفة ، والتى تمتد إلى كلابشة.

وهبطنا ضفة النهر بعد ساعة ، ومررنا بقرية دارموت (دار موسى) ، وبعضها مشيد على جزيرة صخرية ، وبعضها على الصخور العالية المشرفة على الضفة الشرقية. وليس أبهى وأروع من منظر الشمس الغاربة على الجزائر الجرانيتية السوداء تحيط بها مياه النهر الصافية (١) والشطئان المكسوة بالخضرة. والجزائر الكثيرة ترصع مجرى النهر من هنا إلى تيفه. وبعد مسيرة سبع ساعات وثلاثة أرباع الساعة بلغنا وادى كلابشة وهو أكبر الوديان أو القرى التى مررنا بها حتى الآن. وعلى الرغم من ضيق الوادى هنا توجد تلال كبيرة من الأنقاض وحطام الأوانى الخزفية على طول سفح الجبل ، مما يشير إلى موضع مدينة قديمة كانت تقوم فى المكان. وبما أن هناك أطلالا كبيرة على الضفة المقابلة ، فإن المرء يستطيع أن يخلص مطمئنا إلى أن المكانين هماContra Talmis ,Talmis. وليس ثمة أنقاض متخلفة من أى بناء فى الضفة الشرقية ، والبيوت التى تتألف منها القرية القائمة على هذه الضفة ـ وعددها مائتان ـ تشغل مساحد يقطعها المسافر فى نصف ساعة ، وبلغنا الشّقيّق بعد ثمانى ساعات ونصف ، وأبو هور بعد ثمانى ساعات وثلاثة أرباع الساعة. وقد مررت خلال رحلتى فى هذا اليوم بعدة مجار للسيول. والسيول تندفع إلى النهر حين تهطل الأمطار غزيرة على الجبل ، ولكنها لا تسير أكثر من يومين. وهذه السيول هى السبب فى الزيادة الطارئة

__________________

(*) نصفو مياه النيل من مارس إلى يونيو. وقد استنكر قولنى كدر مياه النيل ، ولكنه لم يرها إلا فى الخريف والشتاء.

١٠

على مياه النيل فى مصر فى أثناء الشتاء حين تبلغ التحاريق أقصاها. ولا يسقط المطر على وادى النيل فى النوبة ، فيما خلا شآبيب خفيفة ، ولكن هناك فصلا منتظما للمطر على الجبال الشرقية حتى السويس ، وتنمو على هذا المظر الأعشاب البرية الوافرة والمراعى التى تنتجعها ماشية البدو القاطنين تلك الأصقاع. وقد ذكرت فى يومياتى عن فلسطين ظاهرة شبيهة بهذه فى جبال شرقى فلسطين ، فقلما يسقط المطر على وادى الأردن أو الغور ، فى حين أن للجبال على ضفتيه فصلا مطيرا منتظما. وقدم لنا مضيفنا فى أبو هور هذا المساء «العصيدة» وهى سنابل خضراء من الشعير مسلوقة فى الماء ومخلوطة باللبن.

٢٦ فبراير ـ يقطع المسافر وادى أبو هور فى نحو ثلاثة أرباع الساعة. ومررنا بقرية دندور بعد مسيرة ساعتين ، وبوادى أبيض بعد ثلاث ساعات ونصف وما زال السهل على ضيقه الشديد. وقد أقام سكان النوبة الأقدمون جسورا من الحجر تمتد عشرين أو ثلاثين ياردة فى عرض النهر لينتزعوا منه رقعة من الأرض. وهذه الجسور تكسر من حدة التيار فتخلف شمالها مساحة صغيرة من الأرض لا تغمرها المياء. وكثير من هذه الجسور لا يزال باقيا ولكنه متهدم. وقد لاحظت وجود جسور مماثلة على الضفة الغربية للنهر تجاه الجسور الشرقية تماما. ومررنا بمارية (مريم) بعد أربع ساعات ونصف ، وبقرشة بعد خمس واجتزت خرائب مدينة قديمة أرجح أنها مدينة عربية ، بعضها مبنى بالآجر وبعضها بالحجارة الصغيرة. ويروى الأهالى أن ملكا يدعى دبقورا كان يملك فيها. والوادى عند فرشه أعرض منه فى أى مكان جنوبى أسوان ، ويبلغ الميل عرضا. وقرشة فقيرة فى السكان كسائر القرى التى مررت بها حتى الآن ، فثلثا منازلها مهجور. وقد خرب الإقليم المماليك الذى سكنوه شهورا أثناء تقهقرهم أمام جيوش محمد على التركية ، والقليل الذى أبقوا علية أتى عليه الجنود الترك الذين يقودهم إبراهيم بن محمد على ، الذى أفلح أخيرا فى طرد المماليك من النوبة فعبروا الجبال إلى سهول دنقلة ، وقد فشت بعد تقهقرهم مجاعة رهيبة هلك فيها ثلث سكان النوبة من الفاقة والحرمان ، أما الباقون فلاذوا بمصر ، وأقاموا بالقرى الواقعة بين أسوان وإسنا حيث هلك منهم بالجدرى خلق كثير. ولم يعد السكان

١١

الحاليون لمسقط رأسهم إلا قبل رحلتى لهذه الأنحاء ببضعة شهور ، فبدأوا يزرعون الأرض عقب انحسار مياه الفيضان ، ولكن كثيرين من بنى جلدتهم ما زالوا مقيمين بمصر. ولعل فى وفرة القبور الجديدة على مقربة من قرى الإقليم أصدق دليل على صحة الروايات المفجعة التى قصها الأهالى علىّ.

وبعد ست ساعات بلغت وادى كشتمنة وهى قرية جيدة المبانى وفيها اشتبك المماليك مع جيوش ابراهيم بك فى معركة انتهت باندحار المماليك ، فتقهقروا للجبال الشرقية واعتصموا فيها شهورا حتى رجع أعداؤهم لأسوان. وهبط معظم البكوات إلى ضفاف النيل فى مايو ١٨١٢ ، وكان منسوب الماء فى النهر منخفضا جدا ، فاجتازوه عند مخاضة قريبة من كشتمنة (١) ، ومعهم نساؤهم ومتاعهم. وواصل فريق من المماليك السير جنوبا على ضفة النهر الغربية وهم ينهبون القرى التى مروا بها ـ الدر ووادى حلفا وسكوت والمحس. أما الأمراء من البكوات فقد اصطحبوا مماليكهم ، واتخذوا أقصر الطرق عبر الصحراء الغربية. والتأم شمل الجميع ثانية على ضفاف النيل قرب أرقو وهى من أهم القرى الداخلة فى أملاك ملك دنقلة (٢). وبلغ عددهم جميعا نحو ثلاثمائة من المماليك البيض ، ومثلهم من العبيد المسلحين ، أولئك هم البقية البائسة التى تخلفت من نيف وأربعة آلاف رجل ، وهو عددهم يوم بدأ محمد نضاله معهم فى سبيل السيادة على مصر. ولا حاجة بى لتكرار القصة المعروفة ، فقد دبح منهم فى القامة ألفا ومائتين على رأسهم زعيمهم شاهين بك مع أنه أمنهم على حياتهم بأغلظ العهود والمواثيق. ولكن هناك مذبحة أخرى شبيهة بهذه وإن تكن أقل منها شهرة وقعت فى إسنا ، ولا بأس بذكرها هنا دليلا على غفلة المماليك وفساد مشورتهم. فقد اعتصم هؤلاء الفرسان الأشداء بالجبال التى يسكنها عرب العبابدة والبشارية ، ونفقت خيلهم جوعا ،

__________________

(١) ليس للنهر مخاضة إلا هذه فيما أعلم.

(٢) وصل أخيرا إلى القاهرة اسكتلندى كان قد أسر فى حادث رشيد المشؤوم (١٨٠٧) وانضم بعد ذلك إلى المماليك. ثم تركهم فى دنقلة وعاد وحده مجتازا النوبة والصعيد على الرغم من جواسيس الباشا.

١٢

واضطر حتى أغنى بكواتهم إلى بذل آخر فلس لإطعام جندهم ، لأن العرب كانوا يبيعونهم الزاد بأفحش الأثمان. ولما حرموا أسباب النعيم والترف التى كانوا يتقلبون فيها بمصر منذ صباهم ، رأى ابرهيم بك الفرصة مواتية لاقتناصهم فى الفخ كما فعل أبوه بإخوانهم فى القاهرة. وإذ صحت عزيمته على ذلك أرسل إليهم يؤمنهم ويقطع لهم أوثق العهود إذا هم نزلوا من الجبل ، ويتعهد بتقليدهم وظائف فى حكومة محمد على تتفق ومراتبهم. ولا يكاد المرء يصدق كيف انطلى هذا العرض الكاذب على أكثر من أربعمائة مملوك على رأسهم عدد من البكوات ، مع علمهم بمذبحة القاهرة التى وقعت فى العام السابق. وهبط المماليك الجبل فى جماعات صغيرة ، وبينما هم فى الطريق جردهم الخبراء الخونة من ثيابهم ، فوصل الجميع معسكر ابراهيم بك ـ قرب إسنا ـ عراة باستثناء ثلاثين منهم تقريبا. وبعد أن التأم شملهم ولم يعد ينتظر وصول هذه القلة صدرت الإشارة بذبحهم ، فذبحوا عن بكرة أبيهم ، هم ونحو مائتين من العبيد السود ، ذبح النعاج فى ليلة واحدة ، ولم يترك منهم على قيد الحياة سوى مملوكين فرنسيين إجابة لرغبة طبيب ابراهيم بك. ومثل هذا النكث للعهود يقع بين الترك كل يوم ، وأعجب العجب أنك لا تزال تجد من الناس من بلغت بهم الغفلة مبلغا يوقعهم فى فخاخ كهذه.

وبلغنا جبل حباتى بعد ثمانى ساعات وربع ، وكوبان بعد ثمان ونصف ، وتقع كوبان تجاه معبد الدكة الجميل الذى يقوم على الضفة الغربية.

٢٧ فبراير ـ وعلى مقربة من كوبان أطلال مدينة قديمة يحيط بها سور من اللبن كثير الشبه بسور بلدة الكاب Eleithias الواقعة شمالى أدفو. ويبلغ طول ضلعه المستطيل نحو مائة وخمسين خطوة ، وعرضه مائة ، وسمكه يزيد على عشرين قدما ، وارتفاعه فى عدة مواضع أكثر من ثلاثين. وتشتمل المنطقة التى يحيط بها السور على خرائب مساكن مبنية بالحجر والآجر. ورأيت تيجانا لأعمدة صغيرة من الطراز المصرى ملقاة هنا وهناك. وفى ظاهر الركن الجنوبى

١٣

الشرقى للسور أطلال معبد مصرى صغير جدا. بدائى البناء لم يبق فوق أساسه غير قليل من الأحجار ، وعليه رسوم هيروغليفية. وتدل العجلة الحربية المنقوشة على أحد أحجاره على أن قصة معركة حربية قد كتبت عليه. ويبدو أن هذا السور الملاصق للنهر قد بنى ليكون حصنا ، وتلال الأنقاض الكبيرة المتخلفة من المدينة القديمة تمتد على الطريق مسيرة خمس دقائق بعد ذلك. ووصلت بعد ذلك إلى العلاقى بعد أن مررت بقناة عريضة تجرى إلى جوار القرية. وأمثال هذه القنوات كثير فى النوبة ، إذ لا بد من الرى الصناعى حيث تترامى أطراف الوادى وتعلو الضفة كثيرا عن مستوى الماء فى النهر. ولكن هذه القنوات لم تعد تلقى عناية من أحد ، وهى لذلك تسد شيئا فشيئا. وعرض الوادى هنا ميل.

ويطلق اسم العلاقى أيضا على سلسلة من الجبال تبدأ شرقى القرية ، وتخترق التلال العالية فى الصحراء الشرقية فى اتجاه شواطىء البحر الأحمر. وفى ظنى أن «بروس» مر بهذه السلسلة. ويحتوى هذا الجبل على مناجم للذهب فيما يزعم الوطنيون وبإجماع الجغرافيين العرب. على أننى أميل إلى الاعتقاد أن مصدر هذه الروايات ، وهم البدو الذين يرتادون هذه النواحى دون غيرهم ، قد ظنوا الميكا الصفراء ذهبا ، فالنهر يحمل معه قدرا كبيرا من الرمل المختلط بالميكا فى مجراه النوبى كله. ولقد قرأ حسن بك والى إسنا ـ وهو رجل يستهويه علم المعادن من حيث اتصاله بالأحجار الكريمة والمعادن النفيسة ـ قرأ عن مناجم العلاقى فى أحد الكتب ، وأراد التحقق من صحة هذه الرواية ، فأرسل أربعة من جنده يحرسون رجلا يونانيا يزعم أنه خبير بالأحجار ومعهم إذن بالتنقيب فى الجبل. فوصلوا قرية العلاقى ثم ساروا منها نحو ساعتين إلى الشرق ولكنهم روّعوا حين سمعوا أن جماعة كبيرة من المماليك تهبط الجبل ، فعادوا أدراجهم وهم يبثون الرعب بإذاعة النبأ فى الإقليم كله. ولقد لقيتهم فى دهميت فألحوا علىّ أن أعود معهم مؤكدين لى أن المماليك سيضربون عنقى بلا ريب لو علموا أننى أحمل رسائل من حسن بك. ولم يكن النبأ يخلو من الصحة ، ذلك أن

١٤

اثنين من بكوات المماليك ـ وهما إبراهيم بك الجزاير لى وعثمان بك بهنس ـ كانا قد تخلفا معتصمين بهذه الجبال ومكثا مع العرب بعد رحيل زملائهم من البكوات إلى دنقلة ، معللين النفس بالعودة إلى مصر إذا تغيرت الحال بها غير الحال ، ولكنهما اضطرا فى النهاية ، تحت ضغط الفاقة ، أن يأخذا خمسا من نسائهم وخادمين فقط (١) ويلحقا بإخوانهم. وكان العرب قد ابتزوا منهما كل ما يملكان من مال ومتاع ثمنا لما يبيعونهما من زاد. وكانت خيولهما قد نفقت ، ومماليكهما تولوا عنهما ، وثيابهما ومعداتهما قد بليت وتمزقت. فلما انتهيا إلى هذا المصير أطلقا فكرة الكر على مصر من جديد وخرجا من المكان الذى اعتصما به قرب شواطىء البحر الأحمر تجاه جدة ، واتخذوا ومن معهما الطريق إلى الدر ، ولكنهما ارتدا إلى الجبل مسيرة يوم حين سمعا بنبأ هذا اليونانى والجند الأربعة الذين ذكرت آنفا ، حتى إذا أخبرهما جواسيسهما برحيلهم استأنفا السير ، فبلغا الدر قبل أن أبلغها بيوم واحد.

وسرت من ساعتين إلى ثلاث بحذاء شاطىء صخرة تجاه جزيرة ضرار ، وهذه الجزيرة مزروعة بعناية ويقطعها المرء طولا فى ثلاثة أرباع الساعة. وعلى الضفة الغربية قرية قورنه ويمتد وادى المحرقة من ثلاث ساعات إلى أربع ، ويمتد وادى السبالة فى أقصى الجنوب من أربع ساعات إلى خمس. وهنا أسعدنى الحظ بلقاء سائحين من الانجليز هما مستر لى ومستر سملت ، ورجل أمريكى هو الكبتن بارتود ، وكنت قد شاهدت الأولين من قبل فى القاهرة وأسيوط ، وكانا قد غادرا القاهرة على ظهر سفينة ريفية بعد رحيلى عنها بيومين ، ولما بلغا أسوان استأجرا زورقا كبيرا لينقلهما للدر ، ومنها زارا إبريم ، فكانا بذلك أول الأوربيين الذين بلغوا هذا البلد وفحصوا الآثار التى بينه وبين جزيرة فيلة ، لأن

__________________

(*) أكد لى بعد ذلك خادم من خدم هؤلاء البكوات لقيته بالدر ـ وهو مسيحى يونانى من بروسه بآسيا الصغرى ـ أن أفراد هذه الجماعة ، حين عجزوا عن الإقلاع عن التدخين ، وانعدم التبغ فى الجبال ، كانو يحشون قصباتهم بروث الغزلان الجاف.

١٥

«نوردن» لم ير هذه الآثار إلا بمنظاره المقرب. وقد استوقفتهما فى زورقهما وأنا راكب جملى بحذاء النهر. وقضينا يضع ساعات سويا ، ثم استأنفا رحلتهما شمالا إلى أسوان. ووصلت وادى نعمة بعد خمس ساعات ونصف ، وباردة بعد ست ساعات ، وكوقان بعد ست ونصف. وهنا رأيت عددا كبيرا من التماسيح ، وهذا أول ما رأيت منها بعد رحيلى من القاهرة ، لأن طريقى فى مصر قلما كان يلاصق النهر. وهنا أيضا لاحظت وجود الجسور الحجرية فى النهر فى مناطق عديدة. وبلغنا وادى النصرلاب بعد سبع ساعات ونصف. وإلى الجنوب من كوقان بساعتين تحدق الجبال بالنهر فلا يتسع الشاطىء لا للمرور ولا للزراعة طبعا. ومررنا بعدة مجار للسيول ، وبعد سفر ثمانى ساعات ونصف وصلت وادى المضيق حيث قضيت الليل.

٢٨ فبراير ـ وعلى مسيرة ساعة من وادى المضيق يقع وادى السبوع. ويطلق عليه هذا الاسم نسبة لتماثيل أبى الهول التى لها أجسام السباع ، والتى تقوم أمام المعبد المتهدم المشيد على الضفة الغربية تجاه وادى السبوع. والزرع فى هذه البقعة أزكى منه فى أى بقعة مررت بها من أسوان إلى الدر. وسكان وادى السبوع ، وسكان وادى العرب إلى الجنوب منهم ، تجار نشيطون أغنياء. وهم يسلكون الجبل إلى بربر حيث تقع «القوز» التى ذكرها «بروس» وتبعد عنهم مسيرة ثمانية أيام ، ومنها يجلبون السلع المختلفة التى تحفل بها أسواق سنار. والطريق مأمون جدا حتى إن جمأعات منهم تصل كل أسبوع تقريبا ومعها أربعة جمال أو خمسة محملة بالبضائع. ولكن أخلاق هؤلاء التجار منحطة ، فهم غادرون محتقرون لبخلهم. وأهل وادى السبوع ووادى العرب لا ينتمون لقبيلة الكنوز كجيرانهم ولكنهم من العليقات الذين أتوا أصلا من الحجاز (١).

__________________

(*) زرت بعد ذلك جبال سيناء فوجدت فيها قبيلة أخرى من البدو تسمى العليقات ، تقيم فى وديان سيناء الجنوبية. وقد أكدو الى أن عرب العليقات بالنوبة بنو جلدتهم ، وأنهم فى الأصل شعبة منهم. ومنذ سنوات عقد عربى من عليقات سيناء النية على زيارة عرب النوبة ، وجمع بعض الهدايا منهم. وقد لقى حفاوة فى وادى السبوع بحكم القرابة ، وعاد بعدد من الإبل اشتراها بما جادت عليه به كل أسرة.

١٦

ويضرب بعضهم فى الجبال الشرقية كالبدو. وهم لا يتكلمون إلا العربية ، وجلهم يجهل لغة الكنوز. ويجبى أمراء النوبة الضرائب على كل البضائع التى يستوردها عرب العليقات من الجنوب ، ولكنهم قلما يستطيعون أن يبتزوا منهم ضرائب إضافية لأن عددهم كبير ، ولأنهم مسلحون خير تسليح ، ولذلك استطاعوا أن يقتنوا ثروة طيبة. وهم يبيعون فى الصعيد العبيد والبلح والصمغ العربى وريش النعام والإبل التى يجلبونها من بربر ، ويشترون منه السلع التى تلزم لأسواق الجنوب (١).

وعلى مسيرة ساعتين ونصف من وادى المضيق يقوم وادى العرب ، حيث تجد فضلا عن عرب العليقات عربا من قبيلة «الغربية» سكنوا الوادى من أيام الفتح الإسلامى للنوبة. وشاطىء النهر زكى الزرع فى كل أنحائه. وتكتنف الصخور النهر مسافة يقطعها الراكب فى ثلاثة ساعات ونصف إلى خمس ، ولا تترك الصخور من الضفة سوى شقة ضيقة لا تصلح إلا للسير على القدم ، أما طريق الإبل فتخترق الصخور الرملية الخشنة والفجاج العميقة فى بطن الجبل. وبلغت وادى سنقارى بعد خمس ساعات ونصف ، وكرسكو بعد ست ونصف. وهنا يعرض الشاطىء ، وتبدأ أحراج من النخيل تحف ضفتى النهر حتى إبريم. ويرى المسافر مجموعات من البيوت على كل مائة ياردة ، مما يصعب معه تعيين الحدود الدقيقة لكل قرية. وتقوم بشيرنيرقة على مسيرة سبع ساعات ، وشقة على مسيرة سبع وربع ، وضراب على ثمان. وهنا توجد أكوام من الحجارة المنحوتة ، وهى خرائب متخلفة من مبان قديمة اشتقت منها القرية اسمها.

__________________

(*) تسير فى كل شتاء قافلة من ثلاثين أو أربعين بعيرا محملة بالبضائع من وادى السبوع إلى القاهرة. وقد اعتاد تجار السبوع أن يشتركوا فى التجارة مع النوبيين المساكين ، فيقرضونهم مبالغ من المال ليغروهم بالسفر إلى بربر للتجارة ، وعند عودتهم يقاسمونهم الأرباح. وهناك أسر تشتغل بهذه الشركة من عبود سحيقة. والمسافة بين السبوع ومقرات على النيل شمالى بربر تبلغ سبعة أيام من السفر الهين. وعلى مسيرة ثلاثة أيام من السبوع عين ماء كبيرة تدعى (ربت) وعلى مسيرة خمسة أيام عين أخرى.

١٧

وتقوم وادى عشرا على مسيرة تسع ساعات ، ووادى ديوان على تسع ونصف ، والدر على عشر ونصف. والدر أهم بلد بين مصر ودنقلة ، ولست أذكر أننى رأيت حقولا تلقى الزراعة فيها من العناية ما تلقى الحقول بين كرسكو والدر. كذلك لاحظت أن بيوت الفلاحين هنا أوسع وأنظف من بيوت الفلاحين المصريين.

أول مارس ـ وصلت الدر بعد الغروب ، وأنخت بعيرى عند دار حسن كاشف حيث ينزل وجوه المسافرين ، وحيث نزل الأميران المملوكان اللذان أشرت إليهما آنفا. ولما كان الحاكم قد خلا إلى جناح الحريم ، فإننى لم أذهب لأراه ، بل مضيت إلى فراشى بعد أن أبيت إشباع فضول قومه ، وفضول خدم الأميرين ، الذين أمطرونى وابلا من الأسئلة. ولكن ما أصبح الصبح حتى فاجأنى حسن قبل أن أستيقظ ، وأقبل إلى فناء الدار حيث قضيت ليلتى ، بعد أن زار الأميرين. ثم سألنى عن غرضى من رحلتى ، وهل أنا تاجر أو رسول موفد إليه من والى مصر. وكان فى نيتى قبل أن أعلم بوصول الأميرين أن أزعم أننى موفد من الباشا فى مهمة سرية للنوبة ، لأننى علمت من أهل الصعيد أن أمراء النوبة يخشون بأس محمد على ، فهم لا يجرؤون إذن على مسّى بسوء. ولكنى حين علمت بوصول المملوكين ـ وكان حديثى مع الفلاحين الذين بت فى بيوتهم فى أثناء رحلتى إلى الدر قد أقنعنى بأن الأمراء النوبيين يرهبون المماليك جيرانهم فى الجنوب كما يرهبون جارهم فى الشمال ـ حين علمت هذا رأيت أن من الخطر علىّ أن أخفى غرضى الحقيقى من رحلتى. أما وقد شجعنى مالقى مستر لى ومستر سملت من توفيق فى رحلتهما ، فقد صارحت حسن كاشف بأننى إنما جئت النوبة سائحا كما جاءها السيدان اللذان سبقانى إلى الدر ، وقدمت إليه فى الوقت نفسه خطابات التوصية التى أحملها. ولكن صراحتى لم تغننى فتيلا ، فقد حمل هذا الإفصاح عن نواياى على محمل الخديعة والغش ، وأبى الجميع أن يصدقوا أننى سائح قدمت بلدهم للفرجة فحسب. وكان فى إلمامى بالعربية ، وخبرتى بالعادات التركية ، ما حمل كاشفا على الاعتقاد بأننى تركى ، وأننى مبعوث حسن بك والى إسنا للتجسس عليه. وقد زاد فى سوء ظن كاشف بى تحريض المملوكين له ، مع

١٨

أنهما كانا معى فى غاية التلطف والأدب حين زرتهما. وأنفقت اليوم كله وبعض الغد فى مفاوضات مع الحاكم للحصول على خبير يصحبنى للجنوب. وكانت الهدية التى قدمتها له ، وهى صابون (١) وبن وطربوشان أحمران (وكلها تساوى نحو ستين قرشا) ، خليقة بالقبول لو قدمت فى وقت آخر ، ولكن الهدايا التى قدمها إليه مستر لى ومستر سملت بلغ ثمنها نحو ألف قرش ، مع أنهما لم يتجاوزا فى رحلتهما إبريم. قال لى الحاكم «وها أنت تعطينى أشياء تافهة مع أنك تريد أن تتجاوزهما إلى الشلال الثانى». قلت صحيح أن هديتى لا تناسب مكانته ، ولا توفيه حقه ، ولكنها فى الواقع فوق طاقتى ، وأننى كنت إخالنى مميزا على صاحبى بما أحمل من خطابات توصية من حاكم إسنا. وأخيرا بلغت منه ما أريد بفضل مصادفة من المصادفات الطيبة ، فقد نمى إلى أن قافلة كبرى قامت من المحس فاصدة إسنا ، وأن جانبا كبيرا من السلع التى تحملها ملك لكاشف نفسه ، ينوى بيعه بأسيوط والقاهرة. فذهبت إليه ، وخلوت به ، وقلت له إننى لو عدت لإسنا وعلم واليها بما لقى خطابه الذى زودنى به من إغفال تجلى فى منعى من تجاوز الشلال الثانى مع أنه طلب السماح لى بذلك صراحة ، لوجد فى هذا مسوغا لفرض غرامة على القافلة حين وصولها إلى إسنا ، أو لمنعها من المضى إلى أسيوط. ووجم كاشف طويلا ثم قال لى «مهما تكن هويتك ، وسواء أكنت إنجليزيا كصاحبيك اللذين سبقاك أم جاسوسا للباشا ، فلن أردك خائبا. فامض فى رحلتك إن شئت ، ولكنك لن تكون فى مأمن بعد تجاوزك سكوت. فلتكن هذه البلدة نهاية رحلتك ومنها تعود». فطلبت إليه أن يزودنى بخطاب توصية لسكوت ، ففعل دون تردد. كذلك جاءونى بخبير من البدو. واشتريت زادا لرحلتى من الذرة والتمر ، وغادرت الدر قبيل ظهر ٢ مارس ، بعد أن فشلت محاولات المملوكين لعرقلة سفرى. ويجدر بى قبل أن أمضى فى وصف رحلتى أن أقف هنيهة لأصف فى شىء من التفصيل الأهالى والنواحى التى اجتزتها حتى الآن منذ قمت من أسوان.

__________________

(*) الصابون هدية يقدرها الناس تقديرا كبيرا فى جميع هذه النواحى ، لأنه لا يصنع بمصر ، ما خلا نوعا رديئا جدا تصنعه أسيوط. وهو يستورد من الشام ، وعلى الأخص فلسطين. ويساوى رطل الصابون فى إسنا شلنا ونصفا.

١٩

يتجه النهر فى مجراه من أسوان لكرسكو من الشمال إلى الجنوب عموما ، ثم ينحرف إلى الغرب ، ويحتفظ بهذا الاتجاه الجديد طوال مجراه إلى دنقلة. وطبقة النهر الشرقية فى هذا الجزء من الوادى أصلح للزراعة من ضفته الغربية ، وتراها أينما كان لها عرض يذكر مكسوة بطبقة خصبة من الغرين الذى يرسبه النيل فوقها. أما فى الضفة الغربية فإن رمال الصحراء تجتاح الوادى فى غير هوادة حتى تبلغ جرف النهر نفسه ، وتحملها الرياح الشمالية الغربية التى تسود الإقليم فى فصلى الشتاء والربيع. ولا يتيح السهل الضيق قيام الزراعة عموما إلا فى الجهات التى تصد الجبال فيها الرياح الرملية العاتية. لذلك كانت الضفة الشرقية أكثر عمرانا من الغربية ولكن الغريب أن كل الآثار الهامة تقوم على الضفة الغربية. ولعل قدماء المصريين كانوا أشد تدينا وتعبدا لآلهتهم الكريمة فى البقاع التى يخشون فيها شدة بطش إله الشر «تيفون» (١) (الذى يمثل الصحراء) ، العدو اللدود للإله الخيّر أو زيريس (الذى يمثل مياه النيل).

ومجرى النهر هنا فى جملته اضيق كثيرا منه فى أى أجزاء مصر ، واعتراض الشطوط الرملية لسير المياه هنا أقل. وما إن ينتهى الفيضان حتى يزرع النوبيون الفقراء فى الوادى الضيق الذرة والدخن (الذى يصنع منه الخبز) (٢). ولكن جل اعتمادهم فى الغذاء على محصول الذرة ، كذلك تصلح سيقان الذرة الجافة طعاما لماشيتهم طوال الصيف بدلا من التبن. وبرسيم مصر لا يعرف هنا ، ولا فى صعيدها جنوبى قنا. وبعد أن تنحسر مياه الفيضان وينتهى محصول الذرة ، تروى التربة بالسواقى التى تديرها الأبقار ، فترفع الماء إما من النهر أو من آبار محفورة على الشاطىء ، لأن الماء الباطنى موفور فى كل مكان بعد الفيضان على عمق خمس عشرة قدما أو عشرين. ومثل هذا تجده فى الصعيد صيفا ، ولكن مياه هذه الآبار كريهة المذاق ضاربة إلى الملوحة ، وأفضل أنواعها عسر الهضم (٣). ولكى تتشرب التربة المياه

__________________

(١) إله الشر عند المصريين هو ست (وهو تيفون عند اليونان) ، وست أخو أوزيريس وقاتله ، وعدو هورس بن أوزيريس (المترجم).

(٢) لا يزرع الدخن فى مصر ، ولكنه طعام أساسى فى دارفور وسنار وساحل للبحر الأحمر من جدة إلى اليمن.

(٣) للشرقيين ذوق مرهف يميزون به الماء ، وهم يصفونه عادة بالخفة أو الثقل. وكذلك كان الإغريق يميزون بين النوعين.

٢٠