رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان - المقدمة

رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢

١
٢

٣
٤

تصدير

ولد جون لويس بوركهارت (١٧٨٤ ـ ١٨١٧) بمدينة لوزان بفرنسا ، إلا أن أباه أصر على مغادرة بلاده بعد أن فقد ثقته فى حكامها الجدد الذين اتهموه بالخيانة وممالأه الأعداء ، ولما لاقته أسرته من ظلم وعنت ، وما آلت إليه حالتهم الاقتصادية من تدهور بعد حياة العز والرفاهية ، ويرحل الشاب بوركهارت إلى إنجلترا وهو يناهز الخامسة والعشرين من عمره القصير باحثا عن عمل ؛ إذ رأى أبوه أنه من الحكمة عدم البقاء فى بلاده حتى لا يقع مرة ثانية فى أيدى الحكام الجدد الذين باتت نيتهم للقضاء عليه على الرغم من ظهور براءته مما نسب إليه.

تعلّم جون لويس بوركهارت على يد معلم خاص ثم التحق بجامعة ليبزج ، وظل بها أربع سنوات ، وكان قد بلغ العشرين من عمره ، ثم انتقل إلى جامعة جوتنجن.

عرف بالاستقامة والاحترام والجرأة فى إبداء آرائه ، كما عرف بطموحه العلمى وجده واجتهاده فى التحصيل والمعرفة ، ولأنه مثل أبيه لا يثق فى رجال الثورة الفرنسية حمل عصاه ورحل إلى إنجلترا عساه أن يجدد هناك الملاذ الآمن الذى افتقده فى بلاده ، وقد تحقق له ذلك ، فقد كلّف هناك باكتشاف سر نهر النيجر الذى كان مجهولا بالنسبة لهم ، حتى إنهم كانوا يعتقدون أنه أحد روافد نهر النيل ، إلا أن القدر لم يمهله لاستكمال هذه المهمة ، على الرغم من أنه قضى ثمان سنوات من عمره القصير فى رحلته الأولى إلى بلاد النوبة التى صادف خلالها صعوبات جمة ، ذلك أن قارة أفريقيا فى هذا الوقت (بداية القرن التاسع عشر) كانت لم تزل مجهولة للأوروبيين ؛ حيث إن ظروفها الطبيعية كانتشار الغابات الكثيفة ، وتظاهر الصحارى فى معظم سواحلها ، وانتشار الجنادل على امتداد نهر النيل مما يعوق الملاحة فيه كان من أهم العوامل التى أخرت اكتشافها.

٥

وعلى الرغم من أن العرب قد عرفوا الطريق إلى القارة الأفريقية عن طريق القوافل التجارية التى كانت تسلك السواحل الغربية للقارة أو يصعدون فى حوض النيل إلى قلبها إلا أن نتائج هذه الرحلات لم تكن معروفة أيضا عند الأوروبيين حتى يستفيدوا منها ، لهذا نجد أن بوركهارت تحمّل مصاعب جمة وهو يجتاز القرى النوبية من شمالها إلى جنوبها ، مخترقا الجبال والوديان والسهول فى وقت لم تكن وسائل النقل الحديثة قد عرفت ، مما اضطره إلى الاستعانة بالنوق المعروفة بسفينة الصحراء وتحملها الجوع والعطش تحت درجات الحرارة العالية ، وعلى الرغم من أن المسافة بين قرية وأخرى كان يمكن قطعها فى زمن لا يزيد على الساعة أو الساعة والنصف باستخدام المراكب الشراعية ، إلا أنه كان يستغرق لقطعها زمنا طويلا يزيد عن ثمان ساعات لوعورة الطرق التى كان يسلكها وطبيعة البلاد القاسية ، وعلى الرغم من ذلك فقد استطاع أن يكيف نفسه على تحمل هذه الصعاب ، خاصة الأطعمة الخشنة التى عاش عليها النوبيون خلال هذه الفترة ؛ فالخبز مصنوع من دقيق الذرة الخشن ، والإدام غالبا ما يكون من ورق اللوبيا (الكشرنجيج) أو العدس المخلوط بالويكة ، وربما كان الوقت الذى أقدم فيه على هذه الرحلة لم يكن مناسبا ؛ فقد تصادف مع هروب المماليك إلى هذه المناطق من مذبحة القلعة التى دبّرها لهم محمد على ، الأمر الذى جعل الكثير من حكام النوبة يشكون فيه وفى مقصدة ؛ فقد ظنه الكثير منهم أنه أحد رجالات محمد على جاء ليتجسس عليهم وعلى من يناصرهم من هؤلاء الحكام الذين أظهروا تعاطفهم معهم ، ولو لا الخطابات التى كان يحملها لهم من حاكم إسنا لما لاقت رحلته النجاح ، بل ربما كان قد لقى حتفة على يد أحدهم.

لقد حقق بوركهارت بعض الأهداف من رحلته إلى بلاد النوبة ؛ فعرف طبيعة المنطقة ... جبالها ووديانها ومناخها ونباتاتها وطرق ريها ومواسم حصادها وحيواناتها وطيورها ، وأيضا مناطق التعدين بها ، كما عرف عادات أهلها وتقاليدهم وأصولهم وأسلافهم ، وكذا معابدها الكثيرة المنتشرة فى أنحائها ، ابتداء من معبد أبى سمبل ومرورا بمعابد السبوع وكلابشة والدكه وقورته وقرشه ومرواو وبلانه.

٦

لقد استمر فى رحلته حتى وصل إلى شمال الخرطوم ، واضطره تعنت بعض حكام النوبة إلى العودة قبل أن يتم مهمته بالدخول إلى دنقلة (آخر بلاد النوبة فى الجنوب). وقد لاحظت على عرضه لهذه الرحلة عدم تعرضه لأى صناعة تكون قد صادفته هناك ؛ مما يدل على الفقر المادى والفكرى ؛ فإذا اقترضنا عدم توفر المواد الخام الزراعية ؛ فلماذا لم تقم صناعة على التعدين أو على الصيد مع توافر مناجم الرخام بأنواعه المختلفة ، وامتداد نهر النيل بطول البلاد ...؟

لقد استغرقت رحلة بوركهارت إلى بلاد النوبة ذهابا وإيابا ثمان سنوات اقتطعها من عمره القصر (٣٣ عاما) ، ولو عرفنا أنه دوّن كل ما صادفه فى هذه الرحلة لأدركنا مدى الجهد الذى بذله فيها ، خاصة أنه اضطر لاستخدام النوق فى تنقلاته ، وأن ذلك كان يستغرق منه ساعات طويلة يقضيها على ظهورها تحت وهج الشمس الحارقة ، ومع ذلك لا يركن إلى الراحة إذا ما حطّ رحاله فى إحدى القرى ، بل يروح يدون ما لاقاه ولاحظه خلال الساعات الفائتة ، فى الوقت الذى لم يجد فيه إلا لقيمات قليلة أو بعض التمر ليسد بها رمقه ، ومع هذا فإنك تكاد تحس بنبضه وحسه وصدقه مع كل كلمة تقرأها ، بل وكأنك تشاركه فى رحلته ... فى ذهابه وإيابه ومقابلاته ومعاناته ، لأن كل كلمة تنبض بالحياة.

إن هذا الكتاب يشمل الكثير من المعلومات ، فهو أدب رحلات ، وهو أيضا بحث اجتماعى يتناول حياة النوبيين ... عاداتهم وتقاليدهم وطباعهم وأخلاقهم وأصولهم وقبائلهم وسلالاتهم ، وهو أيضا كتاب فى التاريخ ، وفى الجغرافيا ، وفى الآثار ؛ فقد تناول بالتفصيل كل معابد المنطقة بأسلوب سهل بسيط سلس بحيث يستوعبه غير المتخصص .. أسلوب بسيط بساطة أهل النوبة الذين بسطوا له أذرعتهم واستقبلوه بحرارة مناخ بلادهم ؛ فأقبل عليها ببساطة أشد على الرغم من كل ما لاقاه من صعوبات ـ كما سلف وأوضحت ـ بدءا من قلة معلوماته عن المنطقة ومرورا بقسوة طبيعتها وخشونة طعامها وندرته وقسوة بعض حكامها وابتزاز بعض الأدلة الذين استعان بهم ، وتخلف وسيلة الانتقال الوحيدة التى اضطر لاستخدامها فى تنقلاته ، بالإضافة إلى

٧

حداثة سنه وقلة خبرته ، وعلى الرغم من كل ذلك لم يتوان لإنجاز رحلته عن روح المحب ، تلك الروح التى ساعدته على إنجازها ، بل والتخطيط لإعادة الكرّة مرة أخرى ليحقق الهدف الأساسى منها (اكتشاف النيجر) لولا أن منيته كانت أسرع من كل أمانيه.

لقد نجح هذا الرحالة الطموح فى أن يردف قارئة وراءه على ظهر دابته ليجوب معه قرى النوبة ونجوعها من أسوان وإلى آخر قرية حطّ رحاله فيها (شمال الخرطوم) وجعله يعيش معه هذه المغامرة الحلوة الصعبة الخطرة ، وأكسبه خبرات لم يكن يعرفها عن هذه البلاد ولم يسمع عنها ، ولو سمع عنها فربما لم يعرف غير اسمها ، ثم يجد نفسه وهو يلتهم صفحات هذا الكتاب ، يغترف منه كل معلومة عنها ، فلا يستطيع أن يتركه قبل أن يأتى على صفحاته. لقد بدأ رحلته من الشمال إلى الجنوب ، أى عكس جريان الماء فى نهر النيل العظيم الذى ارتوى من مائه طوال هذه الرحلة ، وربما اقتفى أثره فى بعض تنقلاته من قرية إلى أخرى ، فيسير هانئا مطمئنا بجواره حتى يبلغ حدود دنقلة ، ثم العودة مرة أخرى إلى أسوان ، والتوقف عند كل قرية من قرى النوبة ، خاصة القرى الكنزية الغنية بالمعابد للكتابة عن كل واحد منها بالتفصيل ، وترتيبها من حيث ضخامتها ودقة بنائها وروعة هندستها المعمارية ونقوشها وتماثيلها ... إنه لم يكتف بزيارته لهذه القرى وهو متجه ناحية الجنوب بل نجده يعيد الكرّة عند عودته ؛ مما يدل على إيمانه بهذه الرحلة وأهميتها ، وأيضا على قوة عزيمته التى لا تفلها الصعاب التى لاقاها ـ سبق الإشارة إليها ـ طالما كانت لخدمة العلم الذى يهون من أجله كل شىء ، وهنا ثار سؤال ألحّ كثيرا على ذهنى : ما بال شبابنا فى هذا العصر (القرن الواحد والعشرون) قد تقاعسوا وتكاسلوا وارتكنوا إلى الدعة والتواكل والاهتمام بتوافه الأمور ، وتقليد الغرب فى أرذل خصاله وسلوكه .......؟ ربما لعدم توافر الحافز العلمى لديهم ، وربما لانعدام الطموح عندهم ، وربما ليئسهم فى مستقبل أفضل ، وربما لإحساسهم بعدم جدوى ما يحصلّونه من علوم ، وربما كل هذا ، وربما أيضا القصور الشديد فى المناهج المدرسية المقررة ، خاصة مادتى التاريخ والجغرافيا اللتين أغفلتا أجزاء كثيرة من الوطن مثل سيناء وسيوة والواحات والنوبة ، فانعدم بالتالى التعرف عليها ، لقد انتابنى الحزن طويلا عندما سمعت محاضرا يقول أمام جمع غفير من المستمعين له فى معرض حديثة : إن الجالية النوبية ...

٨

وقبل أن يسترسل فى كلمته سمع همهمة من بين صفوف الحاضرين ؛ فعرف أنه أخطأ فأسرع بالاعتذار ، فكيف إذن يمكننا إعادة الثقة لدى شبابنا وتحفيزهم لجدوى العلم وما يسهم به فى مسيرة التقدم ...؟ إن ذلك لن يتحقق إلا بتكاتف كل مؤسسات المجتمع ، خاصة وسائل الإعلام المختلفة التى لها تأثير فعّال على سلوكيات هؤلاء الشباب ، وإنها للفتة طيبة من المجلس الأعلى للثقافة أن أخذت على عاتقها إعادة طبع هذا الكتاب القيم الذى يتضمن معلومات قيمة عن جزء عزيز من مصرنا ، على أمل أن يستفيد منها شبابها الواعد.

حسن نور

٩