رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

جون لويس بوركهارت

رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: فؤاد أندراوس
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة
الطبعة: ٠
ISBN: 977-437-201-8
الصفحات: ٣٩٢

وكان يحيط بنا فى مسكننا مئات من التكارنة ينتظرون سفينة تقلهم إلى الحجاز ، وهم خلال ذلك يكسبون قوت يومهم تارة بالاشتغال حمالين (فالسواكنية قوم تمنعهم كبرياؤهم عن اتخاذ هذه الحرفة) ، وتارة بصنع قدور من الفخار لمطابخ المدينة. أما جملى فلم أبعه بأكثر من أربعة ريالات ، فإن أحدا من الناس لم يجرؤ على التقدم لشرائه بعد أن أعلن شيخ الحداربة رغبته فى أن يشتريه ، وعلى ذلك استطاع الشيخ أن يفرض الثمن الذى ارتأى. وكان الجمل على فرط ما أصابه من عناء السفر يساوى ضعفى هذا الثمن ، فأثمان الإبل هنا كأثمانها فى جنوب وادى النيل. وكان من القوة بحيث يطيق أن يحملنى ويحمل عبدى حين يأخذ التعب منا كل مأخذ ، وذلك فوق ما يحمل من متاع وماء. وكنت أسمح للغلام بركوبه أربع ساعات أو خمس فى الصباح ، ثم ينزل فأعقبه باقى النهار. وكان التجار السواكنية يعجبون أشد العجب لهذا التواضع ، ولكنه ـ والحق يقال ـ تواضع فيه من الرعاية لمصلحتى الشخصية أكثر مما فيه من الرفق بالغلام ، ذلك أننى كنت على يقين من أنه لو أعيا الغلام وخارت قواه ، لقاسمته هذا المصير لا محالة بعد قليل. وهبت علينا إبان مقامى بسواكن سموم لا أذكر لها نظيرا فى شدتها وحرها اللافح ، فقد التهب الهواء من حولنا كأنه نار الله الموقدة ، وكادت الرمال التى تسفيها الريح علينا من كل جانب تزهق أرواحنا لو لا لطف الله بنا.

ويدأ مركب صغير يوسق حمولته (واسم المركب منها فى البحر الأحمر «صاى») فأخبرت الأغا بأننى معتزم ركوبه. ولو كان الوقت غير الوقت ، والظرف غير الظرف ، لقصدت مخا أولا ، فإن الكولونيل ميست ممثل صاحب الجلالة البريطانية بمصر أولانى قبل مبارحتى القاهرة يدأ أخرى فوق أياديه الكثيرة علىّ ، فتفضل بالكتابة إلى عامل شركة الهند الشرقية بمخا ينبئه بأن سائحا بهذا الوصف قد يصل مخا من البر المقابل ، ويطلب إليه أن يمدنى بما أحتاج إليه فى أسفارى القادمة من مال. وكنت فى وقت من الأوقات أنوى التوغل فى جبال اليمن حيث أصول معظم قبائل البدو الذين يسكنون شبه جزيرة العرب ، وحيث تجد

٣٦١

أكثر عاداتهم وتقاليدهم القديمة باقية على نقائها القديم وفطرتها الأولى. فلما بارحت صعيد مصر كان فى نيتى الذهاب إلى مخا ـ سواء من مصوع أو من سواكن ـ ومن مخا إلى صنعاء عاصمة اليمن حيث أنضم إلى الحجاج اليمنيين فى رحلتهم السنوية إلى مكة عبر الجبال ، وكان القيام برحلة كهذه خليقا بأن يسدى لجغرافية بلاد العرب أجل خدمة ، ولعله كان يكشف عن حقائق هامة فى تاريخ بلاد العرب. بيد أن ما جمعت فى سواكن من معلومات عن حرب الحجاز زهدنى فى هذا المشروع ، فقد كانت الطائف آنئذ مقرا لقيادة جيوش محمد على ، وكانت طلائع جيشه على مسيرة أيام جنوبى هذه المدينة ، فى نفس الجبال التى كان علىّ أن أسلكها ، وفيها احتشدت كثرة الجيوش الوهابية. ولم يكن عندى بصيص من أمل فى النجاة بجلدى من هؤلاء المتهوسين الذين سيحسبوننى لا محالة جاسوسا تركيا ويضحون بى على مذبح انتقامهم.

وأمر الأغا ربان السفينة بأن يعفينى من أجرة السفر. وأمر بشىء من البلخ والسكر ـ وهما أفخر ما فى مخازن بيته ـ يحمل لى زادا فى السفينة. وأقلعنا مساء السادس من يوليو. وقد ندمت على ركوب هذه السفينة حين رأيت ما احتشد على ظهرها من جمع غفير. ولكنى فهمت بعد ذلك أن كل مركب يبحر من سواكن ابتداء من هذا الوقت لغاية شهر الحج (وهو نوفمبر) يغص بالركاب كما غص مركبنا. وكان أصحابى التجار السود هم وعبيدهم من الكثرة بحيث لا يجدون فى هذا المركب متسعا ، لذلك قرروا الانتظار حتى تحين لهم فرصة أخرى. وقد بلغوا جدة بعد أن بلغتها بثلاثة أسابيع. وكان لمركبنا ـ أو على الأصح قاربنا ، فهو لم يزد على ثلاثين قدما أو أربعين طولا ، وعلى تسعة أقدام عرضا فى أوسع نقطه ـ كان للمركب شراع واحد. وهو مكشوف لا ظهر له ولا مظلة. وكان قد وسق ذرة ليحتفظ بتوازنه على الماء. وكانت عدول الذرة (١) مغطاة بطبقات عديدة من الحصر والجلود أعدت مهادا لمائة وأربعة من الركاب بما فيهم الملاحون. ومن

__________________

(*) تنقل الذرة من التاكة إلى سواكن فى عدول يؤلف العدل منها حمل جمل ، وفى هذه العدول تشحن إلى جدة.

٣٦٢

هذا العدد خمسون من التكارنة رجالا ونساء. وخمسون من عبيد التجار السود أو السواكنية المسافرين بالمركب. وفى الليل رد إلى الشاطىء نحو خمسة عشر شخصا أعاد إليهم الريس أجرة ركوبهم التى كانوا قد دفعوها مقدما ، ولكن كان لا يزال بالمركب تسعة وثمانون راكبا حين أقلعنا صباح الغد. وهذا الجشع الذى يدفع أصحاب المراكب إلى حشدها بالركاب كثيرا ما يكون وبالا عليهم ، فمن ذلك أن سفينتين كانتا تبحران قبل ستة أشهر من جدة إلى سواكن وعليهما عدد من الحجاج السودانيين فتحطمتا على الساحل غير بعيد من شمالى سواكن ، ولم ينج من ركابهما غير عدد قليل ، أما شحنتهما فقد غرقت بأكملها. ولا تخلو سنة من حوادث كهذا الحادث ، ولكن الريس العربى يقول «الله أكبر!» ثم يفعل ما كان آباؤه وأجداده يفعلون.

٣٦٣
٣٦٤

الرّحلة من سواكن إلى جدة

٣٦٥
٣٦٦

٧ يوليو ـ لبثنا فى الثغر طوال الصبح ننتظر زادا من الماء. ويؤدى التكارنة وعبيدهم ريالا عن كل شخص لقاء هذه الرحلة. ويعلق كل منهم قربته على جانب المركب ، ويحفظون الماء الذى يلزم الريس والنوتية والتجار السواكنية خلال الأيام الثلاثة التى تستغرقها الرحلة فى أزيار كبيرة على مقدم المركب. وقد أوسع النوتية والسواكنية الزنوج ضربا ، وكان هؤلاء يقتتلون على الأماكن فى السفينة. وأقلعنا مساء ثم رسونا بعد أن انتصف الليل عند مدخل خليج سواكن حيث طالعنا برج صغير متهدم. وهنا غادرنا الربان الذى قاد سفينتنا ليقفل عائدا إلى القيف برا.

٨ يوليو ـ أقلعنا بعد الشروق تحدونا ريح مواتية ، وكانت الطريق تتجه شمالا بحذاء الساحل وعلى أربعة أميال منه أو خمسة بين الصخور والشعاب المرجانية. وفى نحو الثالثة بعد الظهر دخلنا خليجا ضيقا جدا ، والسير فيه محفوف بالخطر ويسمونه دجوراتاج. ولا يكاد عرض الخليج فى مدخله يسمح لمركب أيا كان حجمه بالدوران ، ولكن الماء بعيد الغور إلا قرب شاطئه. والبر رملى محصب ينمو فيه بعض الشجر. ثم أقبل السكان البدو ـ وهم من قبيلة الأمرأر ـ يطلبون إتاوتهم ، وهى ذرة قيمتها نحو ريال فرضت على جميع السفن التى تقف بهذا المرسى. وقد باعنا القوم لبنا. ويسمى العرب هذه المرافىء كلها «مراسى». ٩ يوليو ـ أبحرنا عقب الشروق ، والقاعدة المتبعة فى جميع سواحل البحر الأحمر أن تقلع السفن فى هذه الساعة وترسو فى أحد المرافىء بعد الظهر ، وهى قاعدة لا يحيد عنها الملاحون إلا إذا تهيأوا للعبور إلى البر المقابل. وجهل العرب بفنون الملاحة يحملهم على السير بحذر شديد فى هذا البحر الخطر ، وشعورهم بقلة درايتهم وبعدم كفاية مراكبهم يجنبهم الخروج إلى عرض البحر أو التعرض لريح معاكسة. ولا تجد على ظهر المركب الصغير من مراكبهم مقياسا للسرعة أو إبرة من إبر الملاحين ، فإذا وجدت هذه الآلات لم يستعملوها إلا نادرا. وكانت خطة الريس أن يسير بحذاء الساحل حتى يبلغ جيل مكور ، وتلك طريق المراكب السواكنية إبان هبوب الرياح الشمالية ؛ لأن الريح تكون فى العادة مواتية من هذه النقطة للعبور إلى جدة. والمراكب

٣٦٧

الذاهبة من سواكن إلى مخا تسير عادة محاذية للساحل الإفريقى راسية فى مرفأ من المرافىء كل مساء حتى تصل مصوع ومنها تعبر إلى البر العربى. وفى القسم الشمالى من البحر الأحمر ترى المراكب الذاهبة من القصير إلى جدة تعبر إلى أقرب نقط البر المقابل ثم تسير محاذية للساحل حتى جدة. أما المراكب الذاهبة من جدة إلى القصير فتتبع الساحل حتى عرض رأس محمد (قول) ومنه تعبر إلى البر المقابل مستعينة بالريح الشمالية. ومراكب العبيد السواكنية أحوج السفن إلى السير بقرب الساحل لاحتشادها فى الغالب بالركاب والعبيد بحيث لا يستغنى الحال فيها عن التزود بالماء كل يوم.

وهبت علينا هذا الصباح ريح غربية مواتية. وأصاب السودانيين جميعا دوار البحر ، ولم يجد الراكب منا متسعا لمد أطرافه ، ولزمنا أماكننا طوال النهار تحت لفحات الشمس المحرقة ، واضطر الملاحون للسير فوق أجسام الركاب ليؤدوا عملهم وأصبح المركب كله مسرحا للفوضى والاضطراب والشجار. ومررنا فى الصباح بضريخ شيخ يدعى «الشيخ برغوت» ، وللضريح قبة بناها على البر الملاحون السواكنية الذين يقدسون الشيخ ويعتبرونه وليا لهم وحاميا. ورأينا الكثير من الدلافين ، وهى فى حجمها وشكلها شبيهة بما تراه منها على ساحل مصر قرب مصاب النيل. ولم يسمح لى البحارة أن أرمى واحدا منها برمح لأن جرح دلفين منها فى اعتقادهم شؤم على الرحلة. وبعد الظهر رسونا على خليج جيايا ، وكنا طوال الصبح نسير وسط صخور لا تعلو عن الماء إلا قليلا. وفيما نحن نمخر الخليج جنحنا إلى بره ، وكثيرا ما يحدث هذا للسفن فى هذه الخلجان ، فقد ألف الملاحون أن يدخلوها ناشرين قلوعهم للريح ، فإذا أصبحوا على مسافة معلومة من البر طووها بسرعة وتركوا السفينة تجرى إلى المرسى ، ولكنهم قد يخطئون حساب هذه المسافة ، ولما كانت سفنهم بغير «هلب» فما أسرع ما ترتطم بالبر قبل أن تستطيع الدوران حول نفسها. وما إن ينزل الشراع حتى يقفز إلى الماء ثلاثة رجال أو أربعة معهم حبال مربوطة فى خطاطيف فيحكمون ربطها فى صخر مرجانى أو شجرة على البر ثم

٣٦٨

يمضى الركاب إلى البر كل عشية وقد ينفقون هناك الليل كله. ولما لم يكن معنا قارب صغير ، ولما لم يكن تقريب السفينة إلى البر أمرا ميسورا فى جميع الحالات ، فقد كنا نضطر أحيانا إلى خوض الماء أو السباحة إلى البر (١). وكان الزنوج يضربون خيامهم كل مساء على طريقتهم حين يسافرون فى الصحراء. ولفت تظرى هذا المساء امتلاء البر بالودع ، وكانت المياه التى تتخلل المرجان غاصة بالسمك مختلف الأشكال والألوان. وأرونى محار «السر مباق» الذى يأكله العرب على طوال ساحل البحر الأحمر ، لا سيما فى هذه المنطقة.

وقد رأيت بين الأصداف المتكلسة صدفة جراد البحر (٢). ووفدت إلى البر جماعة من بدو الأمرأر يبيعون الماء والغنم (بسعر ثلاثة خراف سمان بما قيمته ريال من الذرة) ، والمحار والسمك المسلوق والأرانب الجبلية (٣) ، ويأخذون من الريس العطايا التى ألفوا أخذها. وكانوا يجهلون العربية جهلا مطبقا ، ومع أننا كنا نفوقهم عددا فإنهم لم يعبأوا بنا ، وكانوا يعاملوننا فى غير احتفال ولا أدب. وخليج جيايا من أفضل مراسى هذا الساحل ، وتستطيع السفن حتى الكبيرة منها أن تحتمى فيه حين يضطرب الجو وتشتد الأنواء.

١٠ يوليو ـ ساقتنا ريح طيبة قبل الظهر إلى خليج درورو ، وهناك رسونا لأن فى جواره بئرا غزيرة الماء. وقد مررنا أمس واليوم بخلجان أخرى تمخرها المراكب الريفية. وكل ربان على بينة من مواقعها ، ولكن الخبرة الطويلة بها ضرورية للتعرف على مداخلها دون خطأ ، وتقع هذه المداخل وسط تيه من البرك الضحلة. ومضى التكارنة وملأوا قربهم من البئر ، ولما عادوا ردهم الريس ليملأوا للملاحين قدرا كافيا من الماء. وكان هؤلاء المساكين

__________________

(١) فى مرة من هذه المرات سقط فى الماء جراب من جربانى كنت أودعته مجموعة الصخور التى جمعتها فى شندى ، وذلك بسبب إهمال أحد البحارة ، وقد بقى معى قليل من عينات هذه الصخور.

(٢) Lobster

(٣) كثيرا ما كنت أرى الأرانب الجبليه فى سوق سواكن ، وقد أخبرونى أن البدو فيما جاور المدينة يقصّون آثارها فى الرمال ويأخذونها على غرة ثم يقتلونها فى الهجير وهى تتفيأ ظلال الشجر.

٣٦٩

يلقون دائما أشد الإساءة والهوان مع أن أحد منهم لايدين بفضل للريس ، فقد أدوا جميعا أجرة ركوبهم. وكان السواكنية والملاحون يوسعوبهم سبا وضربا فى النهار ويلزمونهم بالعمل فى المركب بينما هم جلوس يدخنون فى راحة ودعة. وكان النوتية لا يكفون عن سرقة زاد هؤلاء الحجاج المساكين ومائهم ويحشدونهم فى مكان ضيق كما يحشد ثلاثة أشخاص فى عربة لا تتسع إلا لاثنين. وكان جماعة الملاحين والتجار يخبزون الذرة صباح مساء فى فرن صغير على مقدّم المركب ، أما الزنوج فكانوا يصومون النهار كله ـ لأن استعمال الفرن حرام عليهم ـ إلى أن يرسوا على البر فيظهوا عشاءهم. ولو تجرأ أحدهم وأخرج ورقة من أوراقه ، أو قرأ صلاة أو كتبها ، لرشه بالماء سواكنى منهم وأتلف له كتابه. وفى سواكن يتعرض التكارنة قبل ركوبهم البحر لمضايقة أخرى ، ذلك أن بعض التجار السودانيين ألبسوا عبيدهم مرات لباس الحجاج تهربا من الرسوم المفروضة عليهم ، فلما عرف عنهم هذا اتخذ الأغا منه ذريعة لتحصيل الرسوم على الحجاج الأحرار زاعما أنهم عبيد متخفون ، فهو يتقاضى من الحاج منهم ريالين حتى ولو استطاع أن يثبت كذب هذه الدعوى. وتغص سواكن بالتكارنة قبل موسم الحج بثلاثة شهور أو أربعة ، ولو لا هذه الإساءات التى يلقونها على أيدى السواكنية ، ولو لا ما يحفّ الرحلة عبر البحر الأحمر من مخاطر ـ وكثير منهم تفت فى عضدهم هذه الرحله أكثر من رحلتهم إلى الساحل ـ أقول لو لا هذا لازداد عددهم فى سواكن أضعافا.

١١ يوليو ـ كانت الريح مضادة ، فوجدنا أنفسنا محصورين بين الصخور ، ومررنا بحصن أو برج كبير خرب على ميلين من البر. وأخبرنى السواكنية أن واليا قديما لسواكن بناه بقرب بئر ، وأنه كان محطة على درب بين القصير وسواكن كان فيما مضى مطروقا. وكنت قد سمعت من أهل الصعيد بوجود هذا الدرب فى جبال النوبة من قديم ، وبأن والى سواكن كان يتخذه فى سفره من مصر إلى مقر حكمه ، وأضاف السواكنية إلى ذلك أنه كانت تقوم أبراج كهذا البرج عند كل محطة على الطريق. على أنهم لم يعرفوا هذا إلا سماعا ، فإن أحدا منهم لم يسافر بهذا الطريق.

٣٧٠

وفى الجبال الواقعة شرقى دراو بالصعيد ، وعلى ثلاث مراحل منها صوب البحر الأحمر ، سهل به آبار ماء عذب ، واسم السهل «الشيخ شادلى» نسبة إلى ضريح هذا الشيخ الذى مات هناك فيما يروون على الطريق الممتد من القصير إلى سواكن والذى تقع عليه الآبار. وللضريح منزلة كبيرة عند المصريين ، وقد بنى أحد بكوات المماليك فوقه قبة ، وكثيرا ما ينذر الناس زيارة الضريح وينحرون فيه شاة إكراما للشيخ. وتحفل الوديان المحيطة به بالشجر ، وإذا صدق الرواة فإن هناك خرائب مبان ، وكهوفا منقورة فى الصخر. وقد اشتهر الجبل منذ القدم بالزمرد ، ويؤيد معظم جغرافيى العرب هذا الرأى فى كتبهم ، ولما بلغت الرواية مسامع محمد على باشا أرسل إلى الشيخ شادلى عام ١٨١٢ نفرا من جنده يرافقهم جواهرى رومى من القاهرة زعم أنه خبير بالأحجار الكريمة ، وأخذت البعثة معها مئات من الفلاحين ، وبعد أن لبثوا أياما يحفرون الأرض الصخرية والسهل المجاور للضريح فى مكان قيل إن أحد بكوات المماليك وجد فيه حجرا نفيسا لا يقدر بثمن ، أخرجوا بمحض الصدفة الغريبة قطعة من الزجاج المعتم الأخضر يبلغ حجمها ثمانى بوصات مكعبة ، وعلى القطعة مسحة من لون الزمرد ، فأعلنوا على الفور أنهم وجدوا زمردة أصيلة ، ثم حملوها ظافرين إلى القاهرة. وكنت قد وصلت إسناتوا حين مر هذا الجوهرى بها. فرأيت الكنز المزعوم فى بيت الحاكم ، ولكنى كرهت أن أطفىء فرحة رئيس البعثة بعد أن حسب نفسه فى عداد الأثرياء. وسمعت بعد ذلك أن نبأ هذا الكشف السعيد قد حمل إلى القاهرة قبل وصول الكنز إليها ، وأن مكتشفيه قد حظوا بجائزة سنية من الباشا ، وأنه مضى زمن طويل قبل أن يجرؤ خبير من خبراء الجواهر على مصارحة الباشا بأن الزمردة المزعومة ليست سوى قطعة من الزجاج. وكانت البعثة قد وجدتها فى طبقة سميكة من الجبس بين جدران قديمة ، ولست أشك فى أن مصنع زجاج قديم كان يقوم على هذه البقعة يوما ما. والجبال المحيطة بهذا المكان كثيرة الشجر ، ويحرق العبابدة من سنطها قدرا كبيرا يصنعون منه الفحم البلدى ، ويحملونه إلى النيل فيشحنه التجار بالمراكب إلى القاهرة. وتكثر فى هذه الجبال أعشاب الشيح والروثة ، ومنها يصنعون أفضل أنواع

٣٧١

القلى أو الصودا ، كذلك يكثر الرمل فى الوديان. لذلك كانت هذه البقعة مناسبة جدا لإقامة مصنع للزجاج ، ومن الثابت أن المصريين القدماء كانوا يستعملون الأوانى الزجاجية ، وفى أنقاض مدنهم جميعها شظايا من هذه الأوانى مختلفة الأشكال والألوان ، بل إنهم لا بد حذقوا هذه الصناعة حذقا عظيما وحاولوا صناعة زجاج يقلد الأحجار الكريمة ، ففى أثناء إقامتى بأسنا كشف عن كثير من القطع الزجاجية الصغيرة فى خرائب إدفوApollinopolis Magna ، وكانت تزييفا متقنا للجمشت والياقوت.

وقبل الظهيرة دخلنا خليج الفجع (١) ، ومدخله سهل ومرساته واسعة. وقد أصيبت قارية المركب هذا الصباح بعطب من جراء جهل البحارة بالقيادة ، والحق أنك لا تجد أعقد ولا أفسد من هذه الطريقة التى يقودون بها هذه السفن الريفية ، فليس لأحد من الملاحين فيها عمل معين اختص به ، وكل حركة على السفينة تشيع فيها الفوضى والاضطراب ، وليس للرّيس سلطان حقيقى على رجاله ، فهم يفعلون ما بدا لهم دون احتفال بأوامره أو أوامر الربان. ولكن جبنهم الشديد يقلل من وقوع الأضرار التى يصح أن تنجم عن هذا الجهل ، فكلما هبت ريح طوى الملاح العربى قلوعه وأرسى مركبه على البر وقبع هناك إلى أن تهدأ الريح. وإذا دنت السفينة من خليج قبل الظهر وكان هناك شك فى إمكان الوصول إلى الخليج التالى قبل المغرب يسبب حالة الريح ، بادروا بدخول الخليج الأول وأنفقوا بعد الظهر كله عاطلين ، فإنهم متى شدوا السفينة إلى البر بقوا حيث هم مهما تكن الريح مواتية.

والفجع مرسى مشهور على هذا البر ، وسرعان ما بدأنا سوقا مع بعض البدو الذين أتونا بماء زلال. وتستمر الجبال محاذية للساحل بطوله على نحو أربعة أميال أو خمسة من البر ، ويرتفع البر شيئا فشيئا نحو سفوحها. والساحل رملى فيه طبقات طباشيرية كونها الصدف المتكلس ، وأينما تلفت وجدت الأصداف الكثيرة ، وقد

__________________

(*) هذا اسم عربى ، أما أسماء الخلجان التى مررنا بها إلى الآن فبشارية.

٣٧٢

خيّل إلىّ أن كل ضرب منها اختصت به بقعة من الشاطىء. على أن بخليج الفجع أشتاتا من هذا الصدف ، لفت نظرى منها السر مباق ، والصدف الأبيض الصغير الذى يسمونه فى القاهرة «الودع» ، وتستعمله نساء الفجر فى الإنباء بالبخت ، فيضربن بعضه ببعض وهن يذكرن اسم الشخص ويلحظن موقع الودع من الأرض حين يقع.

١٢ يوليو ـ هبت علينا ريح مواتية ، ولكن افتقارنا إلى الماء أكرهنا على دخول خليج عراقية قبل الظهر بكثير. وكان من عادتنا ألا نقلع فى الصباح إلا إذا ارتفعت الشمس فى الأفق ارتفاعا يتيح لنا رؤية المياه الضحلة والشعاب على بعد كاف ، فإن عين الربان هى دليله الوحيد فى أكثر هذه الخلجان المتشابكة. وجلب العرب هذا المساء على الإبل والحمير قدرا كبيرا من الماء استقوه من مستودع لماء المطر موجود فى الجبال على ثلاث ساعات أو أربع. والخليج كله من الأصداف المتكلسة ، وهو مرفأ أمين للسفن الكبيرة. وفى هذا الموضع اشتبكت فى شجار عنيف مع بعض التجار السواكنية الذين لم يكفوا عن الإساءة جهدهم إلى الزنوج المساكين ، والذين أبوا أن يستمعوا إلى شىء من توسلاتى من أجلهم. وعلى الرغم مما رأوا من الاحترام الذى عوملت به فى سواكن فقد أسقطونى من عيونهم لأنى لا أملك ثوبا جديدا ، ولأنهم ظنونى مسرفا فى عشرة هؤلاء السود الصعاليك على حد قولهم. وقد آزرنى فى جهودى للدفاع عن التكارنة رجل من الأروام المسيحيين قدم معنا من سواكن ، وكانت صحبته مبعث تسلية لى فى الرحلة ، واسم الرجل «اسطافا» وهو من أهالى الجبل الأسود ، والبحر صناعته. وكان قد زار إنجلترة قبل سنوات على مركب حربى بعثه محمد على باشا ليرجو الإذن له بالإبحار إلى البحر الأحمر بطريق رأس الرجاء الصالح ، وأقام الرجل فى بلاد الإنجليز عاما كاملا تعلم فيه شيئا من لغتهم ، ولما عاد عينه الباشا قبطانا لمركب فى البحر الأحمر. أما ذهابه إلى سواكن فلاسترداد بضع مئات من الريالات كان قد استدانها منه سواكنى ، وكان الآن عائدا إلى جدة. وقد خالنى الرجل ـ كما خالنى غيره من ركاب السفينة ـ شاميا ، وأخذ يحدثنى

٣٧٣

فى عربية ركيكة. وأضحكنى كثيرا ما رواه عن أسفاره فى أوربا وعن مشاهداته فى انجلتره وعن عادات أهلها ، وكله هراء ظاهر وتلفيق مكشوف. أما معاملتى على ظهر المركب فلست أرى فيها ما يدعو للشكوى إذا قارنتها بمعاملة غيرى من الركاب ، وقد نفحت الريس بريال من عندى ـ وكان رجلا من أهل جدة ـ فزاده هذا رغبة فى توفير أسباب الراحة لى ، وكان الراكب من التجار يؤدى عن سفره ريالين.

١٣ يوليو ـ كانت الريح معتدلة ، فبلغنا خليج تاضه فى الثانية صباحا مستعينين بالمجاذيف ، وكثيرا ما كنا نلجأ إليها. وكانت هناك قرية للأمرار ملاصقة للبر. ولم تعرف عن هؤلاء البدو الأمانة أو الذمة ، لذلك وقفنا على مسافة كبيرة من البر. وسبح بعض البحارة إليه ليتفقوا مع شيخهم على الإتاوة التى يؤديها المركب. وقد اضطررت ـ واضطر معى القبطان الرومى ـ إلى أداء نصف كيلة من الذرة فوق المبلغ المشروط ، بحجة أننا فى خدمة الباشا ، وأننا لسنا عربا كالباقين. ثم رسونا على رمث صغير كان يسحب من البر بجانب المركب. وقد أحسن البدو الذين احتشدوا حولنا معاملتنا ، أو قل إنهم تركونا وشأننا دون مضايقة. وهم ينتمون إلى عشيرة كوباد من أمهات عشائر الأمرأر ، ويسكنون هنا فى خيام من شعر الماعز الأسود كخيام عرب شبه الجزيرة. وجملة الخيام ثلاثون أو أربعون ، وخيمة الشيخ مضروبة إلى جوار قبر جده ، وكان رجلا جليل القدر بين قومه ، لذلك شيدوا له قبرا من الحجر. وفى المساء أقبلت القطعان الكثيرة من الإبل والغنم والماعز تعدو إلى البر لتشرب من عيون تنبع وسط الشجر بقرب البحر ، وعدد العيون ست ، وماؤها كلها زعاق فيما خلا واحدة. وصوف هذه الغنم قصير ردىء النوع ، أما شعر الماعز فطويل. وفى الجبل خزانات لمياه الأمطار ، ولكن البدو ألفوا ماء العيون ، لذلك لا يكلفون أنفسهم مشقة جلب الماء العذب من بعيد ، ويستحيل الشاطىء ـ غير بعيد من الآبار ـ صخريا جدا ، وتكسوه الأحجار الهشة الكبيرة ، ثم يرتفع فجأة صوب الجبل ، والصخور ـ على قدر ما أسعفنى النظر ـ كلها من الجرانيت

٣٧٤

الأشهب. وأنفقنا الصباح كله فى المساومة على شراء اللبن ، فبعد أن شربت النوق حلبها أصحابها ووضعوا اللبن أمامها فى أوعية كبيرة من السمار المجدول جدلا رقيقا كتلك التى يصنعها البرابرة جنوبى أسوان. وكنا قد جلبنا معنا قدرا من الذرة والتبغ ـ وهما خير ما يتعامل به الناس فى هذا البر ـ فكان الرجل منا يضع بجوار كل وعاء ما يراه ثمنا مناسبا من الذرة أو التبغ ، ولكن البدوى منهم كان يقول بكل برود «كاك» (١) (أى امش) ويمضى فى ذلك إلى أن يزيد الرجل التبع أو الذرة إلى القدر الذى أضمره البدوى كاملا غير منقوص ، فهو لا يقبل المساومة إطلاقا. وقد وجد بعض التجار السواكنية والملاحين نساء لهم بهن صلة قديمة ، وبالرغم من أن الريس كان قد أمر الركاب أن يعودوا جميعا إلى المركب بعد الغروب فقد ظل هؤلاء على البر ، وكنا نسمع غناءهم الصاخب طوال الليل. والنساء هنا سافرات يتمتعن بحرية واسعة. ولباس الرجال القميص المألوف من الدمور ، وسلاحهم الحراب والدرق ، ويحمل بعضهم السيوف. وأمتع الأشياء عندهم وأحبها شرب البوظة شأن النوبيين جميعا. وقد يتعرضون لغارات الأعداء لكثرة ما يقتنون من ماشية. ويفد أهل ينبع من حين لحين فى مراكب صغيرة مسلحين بالبنادق فينهبون ماشية المنطقة كلها محتجين بأنهم يثأرون من الأمرأر لأنهم قتلوا بعض بنى جلدتهم ممّن تحطمت بهم سفينة على هذا البر.

١٤ يوليو ـ بينما كنا واقفين خارج الخليج كانت تدخله سفينة قادمة من جدة ، والسفن القاصدة منها إلى سواكن تعبر البحر عادة من هذه النقطة ثم تلتزم الساحل جنوبا حتى تبلغ نهاية رحلتها ، وندر أن تعبر البحر رأسا إلى سواكن ما لم تكن الريح مواتية جدا. ولو أسعفتنا الريح لعبرنا من هذا الخليج ، ولكنها كانت ريحا جنوبية ، لذلك يممنا شطر جزيرة صغيرة على أميال

__________________

(*) تلك عادة بدو الشام أيضا حين يبيعون خيلهم ، فيعرض المشترى الثمن الذى يبغى دفعه ، ويقول البائع عند كل عرض «حط» دون أن يذكر المبلغ الذى يريد ، حتى يصل المشترى إلى الرقم الذى أضمره فى نفسه.

٣٧٥

من تبادة ، وهناك دخلنا خليجا جميلا لنرتقب فيه هبوب ريح شمالية. واسم الجزيرة «جبل مكور» ، وسميت كذلك لأنها تكاد أن تكون كلها جبلا صخريا واطئا. ومكور مشتقة من كوّر يكوّر ، وهى فى لهجة بحارة اليمن العبور إلى البر المقابل (١). أو الإقلاع بغرض العبور. ويعبرون البحر من هذه الجزيرة لسببين ، فوقوعها فى عرض أعلى من عرض جدة يتيح للسفن الإفادة من الرياح الشمالية إفادة تامة ، والمعبر منها خلو من البرك والصخور الخفية التى تجعل الملاحة فى الليل محفوفة بالخطر. ويستغرق العبور عادة يومين بليلة.

وتفرقنا بين الأشجار القصيرة التى تزخر بها سواحل الجزيرة والتى ينمو بعضها حتى فى الماء ، وتشبه أوراقها أوراق الصبر (٢) وخشبها هش قصم. ومحيط الجزيرة ـ على قدر ما تبينت ـ يناهز أميالا ثمانية ، وعلى جانبها الشمالى والشرقى جزيرة أكبر منها كثيرا. وقد أردت التوغل فى داخل الجزيرة ، ولكنا أمرنا بأن نكون على أهبة الرحيل حال تنبيهنا إذا تحولت الريح شمالية. وصخور الجزيرة صخور ثانوية (رسوبية) يخالطها الطباشير ، وهى جرداء فيما عدا الساحل الذى ينمو عليه الشجر. وعلى برها الغربى مرسى آخر ولكنه أضيق من الجنوبى الذى رست عليه سفينتنا. وتسكن الجزيرة نحو عشرين أسرة بشارية ، وقوام غذائهم السمك ، ولا يملكون من الغنم والماعز إلا ماندر لأن الجبل شحيح الكلأ. وفى شمال الجزيرة بصنع آبار ، ولكن ماءها زعاق يعافه الجميع حتى أهل الجزيرة. وفى الشتاء يجدون ماء المطربين الصخور ، أما فى الصيف فيعبرون كل أسبوع إلى بر القارة على الطوف الذى يستخدمونه فى صيد السمك ـ ولا يبعد البر عنهم أكثر من ميل أو ميلين ـ فيستقون

__________________

(١) فيقولون «نحن كورنا البحر فى اليوم الفلانى» أو «نحن كورنا من الجبل إلى جدة». أما فى الأنحاء الشمالية من البحر الأحمر فيستعملون فى المعنى الثانى الفعل «دفع» فيقولون «نحن دفعنا من راس محمد إلى البر الغربى».

(٢) Aloe

٣٧٦

الماء من عيون إلى الشمال من تبادة. ويلوح أنهم يعتمدون فى غذائهم على السمك والمحار والبيض ، هذا إلى قليل من اللبن يأخذونه من غنمهم التى لا تزيد على الثلاثين عددا. ويصيدون بالشباك والصنانير التى يشترونها من السفن السواكنية ، ويصنعون الدرق المدور والمربع من جلد صفيق يأخذونه من سمكة كبيرة لا علم لى بها ، وقطر الدرقة منها نحو قدم ونصف ، وهى من القوة والمتانة بحيث تثبت لضربة الرمح. ويجمعون من الجبال فى هذا الفصل عددا هائلا من بيض طائر من فصيلة النورس (١) كثير الانتشار فى هذه البقاع. وأقبل إلى الخليج نحو اثنى عشر رجلا وامرأة يسوقون بعض الغنم ويعرضون للبيع شيئا من اللبن والبيض. وكانوا يكومون صفار البيض المسلوق على درقهم أكواما ويحملونه على رءوسهم. وقيل لى إنهم يحفظونه الأسابيع على هذه الحال. وكان رجالهم ونساؤهم نحافا مهزولين ، أما العربية فيجهلونها. وكنت أريد المقايضة على شىء من اللبن ، ولكن مظهرى روع النساء ترويعا نفرهن من أى معاملة معى. وكانوا كلهم يتلهفون على الذرة التى لا سبيل للحصول عليها إلا من السفن الراسية فى برهم ، ولكن غنمهم كانت أعز عليهم وأغلى ، لذلك أبوا التفريط فيها برغم ما عرضنا عليهم من ثمن مجز.

وتبدأ أملاك البشارية من النقطة المجاورة للجزيرة من بر القارة ، وتمتد إلى الشمال رحلة ثمانية أيام إلى حدود بلاد البدو العبابدة. ويتعرض أهل مكور لغارات الأمرأر تأتيهم من تبادة إذا نشبت الحرب بين القبيلتين ، وفى هذه الحالة يلجأون إلى بر القارة. ويبدو أن أهم أهدافهم فى سكنى الجزيرة هو الاتجار مع السفن التى ترسو عليها فى طريقها من جدة إلى سواكن أو العكس. وقيل لى إنهم يعدون الجزيرة ملكا لهم ، وأنه غير مسموح لسواهم من البشاريين بسكناها. وقد ظن بعضهم أنها «جزيرة الزمرد» ، ولكن ملاحى العرب يطلقون هذا الاسم على بضع جزائر تقع إلى الشمال بين هذه الجزيرة وبين القصير.

__________________

(*) Sea ـ gull

٣٧٧

وقيل لى فى الجزيرة إن على رحلة يوم آخر إلى الشمال ـ أى من عشرين ميلا إلى خمسة وعشرين ، وهو معدل ما تقطعه هذه المراكب فى اليوم ـ خليجا كبيرا يتوغل فى الأرض ، واسم الخليج «مرسى دنقلة» وعلى مدخله جزيرة. ويشتهر الخليج بصيد اللؤلؤ ، وقد ذهب إليه مرة قبطان مركبنا «الريس سيد مصطفى الجداوى» ، وعاد منه بكمية طيبة من اللؤلؤ المتوسط الجودة أخذها منه الشريف غالب بعد ذلك فى جدة. وذكر لى الرجل أن قاع البحر فى هذا الخليج حافل بأصداف اللؤلؤ ، وأن صيدها ميسور لقلة غور الماء. على أن القوم لا يرتادونه اليوم لصيد اللؤلؤ ، فهم من جهة يخشون غدر البشاريين الذين يسكنون هذا المرسى ، ومن جهة أخرى ـ وهو السبب الأهم ـ يخاف أصحاب السفن أن يشاع عنهم أنهم وجدوا كنوزا من اللآلئ فيسترعى ذلك انتباه حكومة جدة فورا. وقد أكدوا لى غير مرة أن ربابنة السفن فى سواكن والقصير لا خبرة لهم إطلاقا بالملاحة على الساحل الواقع إلى الشمال من جبل مكور فى طريقك إلى القصير ، وأن هذا الساحل لا يعرفه من ملاحى جدة إلا نفر قليل من قبيلة عرب الزبيدية ، وعلمهم به ضئيل. وليس بين القصير وسواكن تجارة ولا مواصلات مباشرة ، وندر من أهل البحر الأحمر من يجرؤ على الملاحة فى هذا الشطر من الساحل أو فى الشطر الشمالى الواقع بين القصير والسويس. وقد يرسو عرب الزبيدية دون غيرهم على مرفأ علبة ، وهو على رحلة أربعة أيام من مرسى دنقلة ، وعلى رحلة خمسة أيام من جبل مكور. ويقال إن اللؤلؤ يوجد على طول هذا الساحل حتى مصوع جنوبا ، ولكنه أوفر ما يكون فى مرسى دنقلة.

وقد اضطررنا أن نصلح ثقبا فى السفينة أحدثه ارتطامها أمس بصخر مرجانى. كذلك تم توزيع الشحنة والركاب توزيعا يترك للملاحين متسعا لقيادة السفينة فى رحلتها عبر البحر ، وهى رحلة لا يؤديها العرب إلا جزعين خائفين مستغيثين بالنبى والرسل والأولياء جميعا.

١٥ يوليو ـ هبت صبيحة اليوم ريح مواتية فخرجنا الى عرض البحر ، وجىء ببوصلة من مخزن أخشاب السفينة ، ولكن ذلك لم يكن إلا إجراء شكليا ،

٣٧٨

فقد اختلف الريس والربان على الجهة التى يقع فيها الشمال بالضبط. وأقبل المساء فاشتدت الريح ، واستبدل الملاحون بالشراع الكبير شراعا أصغر منه. وأرخى الليل علينا سدوله فكان بريق الماء حين بهتز يثير دهشة الزنوج وعجبهم ، وعبثا حاولوا فهم علة هذه الظاهرة من البحارة. وأنفقنا ليلة باردة مضنية ، فقد أعوزنا المكان الكافى للنوم ، وبدا على جوّابى الصحراء الشجعان شدة الخوف والفزع فى عرض البحر ، فكان ذلك مبعث تسلية للسواكنية.

١٦ يوليو ـ طالعنا فى الصباح الباكر ساحل بلاد العرب ، واتضح الآن جهل الربّان ، فبدل أن نجد أنفسنا تجاه ساحل جدة ـ حيث كان ينبغى لو أنه استرشد بإبرة الملاحين فى سيره ـ وجدنا أنفسنا جنوبها بخمسين ميلا على الأقل. ودخلنا خليجا صغيرا والريح تملأ شراعنا ، وكاد يغرقنا إعصار هب آنئذ. ووجدنا الشاطىء بلقعا لا آبار فيه ولا عيون إلى مسافة كبيرة ، ولم نر فيه أثرا للبدو. واشتد كربنا لقلة الماء ؛ فقد أوشك أن يفرغ ما أخذناه منه أخيرا فى عراقية ، ولم يبق فى قرب التكارنة قطرة. وكانت الريح معاكسة ولا أمل لنا فى بلوغ جدة فى أقل من يومين. وفى المساء ترك أكثر التكارنة السفينة قاصدين جدة سيرا على الأقدام ، فقد أوهمهم البحارة أنها أقرب كثيرا مما كانت ، وأشاروا لهم على جبل يبعد عن مرسانا اثنى عشر ميلا قائلين إن به عين ماء. ولكن الجبل ـ كما علمت فيما بعد ـ خلو من العيون ، ولم يكن هدف البحارة من هذا التضليل إلا التخلص من الحجاج خشية أن يكرههم العطش آخر الأمر على أخذ ماء البحارة غصبا (١). وقلّ أن تصل جدة سفن حجيج سواكنية لم يقاس فيها الركاب عذاب الظمأ ، فهم يحشدون فيها حشدا يستحيل عليهم معه أن يأخذوا من الماء أكثر من زاد أيام ثلاثة ما لم يضحوا بغيره من أسباب الراحة ، وهى تضحية لا يرتضونها. وجبل مكور الذى تقلع منه السفن عابرة للبر الغربى لا ماء

__________________

(*) قضى هؤلاء التكارنة البائسون يومين ونصفا قبل أن يبلغوا جدة ، ومات منهم فى الطريق ظمأ امرأة وغلام ، ووصل الباقون فى حالة من الإعياء يرثى لها ، وقد شكوا من كذب البحارة مر الشكوى.

٣٧٩

فيه إطلاقا ، وقد لقيت بعد ذلك زنوجا فى جدة لم يذوقوا الماء فى هذه الرحلة أربعة أيام بأكملها. واضطررنا إلى البقاء راسين هنا الى الغد. والأصداف فى هذا البر أقل منها فى سابقه.

١٧ يولية ـ أقلعنا حوالى الظهر تحدونا ريح جنوبية ، وعند الغروب رست السفينة على صخر مرجانى غير بعيد من الساحل. وقد عرا الشمس هذا الصباح كسوف يكاد يكون كليا ، واشتد خوف الملاحين ومن بقى بالمركب من التكارنة من هذه الظلمة الغريبة التى لفتهم. وجريا على السنة ركع كل مسلم بالسفينة ركعتين وصلى «صلاة الكسفة» ، وبعدها راحوا يقرعون الأباريق والسيوف والدرق والملاعق بعضها ببعض طوال الكسوف.

١٨ يوليو ـ ركدت الريح هذا الصباح ، واضطر البحارة لاستخدام المجاذيف ، وطال تجديفهم حتى كلت أيديهم. ودخلنا حوالى الظهر مرفأ مقابل ضريح شيخ فوقه قبة ، واسم الشيخ عمرو ، ولم يكن بالمركب قطرة ماء. وقيل إن بالجبل وراء البر يئرماء ، ولكن أحدا فى السفينة لم يعرف موقع البئر على التحقيق. ومع أننا كنا مشرفين على جدة بحيث نسمع أصوات مدافعها فى المساء فإنه كان من المحتمل أن نظل فى السفينة أياما أخرى نتضور فيها ظمأ. لذلك طلبت نقلى إلى البر على طوف كان الريس قد ابتاعه من تبادة ، وتبعنى الراكب الرومى وسواكنيان وعبيدهما. وسارت جماعتنا الليل كله على البر ، وهو أرض قاحلة تكسوها طبقة ملحة ، حتى لقينا الدرب الرئيسى الذى يحاذى الساحل حتى اليمن. وعلى نحو ساعة من جدة بلغنا مخيما لبعض البدو ، فشربنا فيه وجددنا نشاطنا ، ثم دخلنا المدينة سالمين موفورين. وفى صباح ١٩ يوليو هرّبنا من معنا من عبيد إلى جدة ، لأن كل عبد ينزل المدينة من مركب يؤدى عنه صاحبه ربالا. أما السفينة فقد وصلت فى اليوم التالى ، وهو ٢٠ يوليو ١٨١٤.

٣٨٠