رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

جون لويس بوركهارت

رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: فؤاد أندراوس
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة
الطبعة: ٠
ISBN: 977-437-201-8
الصفحات: ٣٩٢

الرحلة من شندى إلى التاكة

٢٨١
٢٨٢

بكرت قافلة سواكن فى القيام صبيحة ١٧ مايو وجاوزت حدود المدينة قبل أن أفرغ تماما من تحميل جملى ، وببنما كنت مشغولا بمهمتى هذه نمى إلى نفر من الدراويين أننى معتزم الرحيل فجاءوا ليصبوا علىّ جام غضبهم لأننى أحبطت تدبيرهم وأفسدت عليهم مكرهم السيىء. غير أنهم جاءوا بعد فوات الفرصة ، فقد كنت أبعد من أن ينالونى بأذى ، ورافقنى العبابدة مسافة قصيرة بعد المدينة ثم ودعتهم وداعا حارا ، ولا عجب فهم منذ غادرت مصر تقريبا أصحاب الفضل فى المحافظة على سلامتى ، سواء بحمايتى أو بالتدخل بينى وبين خصومى ومناصرتى عليهم. على أن معروفهم ما كان لينتهى بعد ، ذلك أن عبدا من عبيد المك تبعنى وأنا أغادر المدينة. ولما ودعت العبابدة ـ والقافلة تسبقنى بنحو نصف ميل على السهل ـ كان العبد يلازمنى كظلى ، ولاحظ ذلك منه أحد العبابدة ، ورأى أنه يحمل سلاحا فارتاب فى أمره ، وقفل راجعا إلينا من فوره فأدركنى فى الوقت المناسب وأنقذنى منه. وكان العبد يقفونى ليأخذ منى غدارتى (١) عنوة مع أنه كان يصيب من طعامنا كل يوم تقريبا فى أثناء مقامنا بشندى ، ولعله خالنى أوثر التفريط فيها على العطل وخطر التخلف عن القافلة ثم اللحاق بها منفردا. وكان العبد قد أمسك بمقود جملى وطلب إلىّ أن أسلمه السلاح ، ولكن العبادى لحق بنا وعنفه على مسلكه هذا أشد تعنيف. وفى العصر وصلنا إلى الحصاة ، وهى قرية واقعة بعد مصانع ملح بيوضة ، وسهلها غير بعيد من المكان الذى حططنا فيه ظهر وصولنا شندى.

١٨ مايو ـ مكثنا اليوم كله مخيمين بالحصاة ، ولحق بنا فى العصر نفر من تجار سواكن وشندى جاءوا مودعين أصحابهم. وكان أعراب الجعليين يحومون ليتخطفوا ما استطاعوا من إبلنا التى ترعى أوراق السنط فى حراسة العبيد ، فاضطرنى هذا إلى شدة اليقظة فى المحافظة على جملى. وفيما أنا أيمم به أحراج السنط الكثيفة لقيت خرائب مبان قديمة بقرب النهر الذى تعلو ضفتاه هنا علوا كبيرا. وهذه الخرائب أسس حجرية للبيوت وجدران من الآجر. ويبدو أن الأسس لبيوت متوسطة الحجم ، وقوامها كتل من الحجر الرملى ، طول الكتلة منها

__________________

(*) عبيد المك دون غيرهم هم الذين يباح لهم حمل أسلحة سيدهم النارية أحيانا.

٢٨٣

ثلاث أقدام أو أربع ، خشنة الصناعة أصابها البلى والتلف. وليس بين الحجر والآجر من التناسب إلا أقله ، وهذا الآجر شبيه بالذى رأيت قرب دوا ، وقد بنيت به جدران المساكن. ولم أر آثارا لسور مدينة أو لأى بناء كبير. ويخيل إلى أن هذا الذى رأيت لم يكن سوى بيوت بلدة صغيرة مكشوفة. ومحيط هذه الخرائب يقطع فى ثمانى دقائق إلى عشر على الأكثر. ولم أستطع أن أتبين فى تصميمها نظاما ولا ترتيبا ، فهى مربعات صغيرة منفصلة بعضها عن بعض ، وهى أقرب إلى الاستطالة ، وتراها منبثة بين الشجر حيثما اتفق. ولم يبق من حيطان الآجر أكثر من قدمين فوق الأرض ، وبقاء هذا القدر ـ على قلته ـ يدعو للغرابة إذا ذكرنا ما تحدثه الأمطار السنوية بهذه المبانى المهجورة الواهية ، ولم أعثر على آثار أخرى من أى نوع فى المنطقة المجاورة. وبقرب هذا المكان مخاضة فى النهر يستعملها عرب الجعليين ثلاثة أشهر أو أربعة قبل موسم الفيضان.

١٩ مايو ـ استأنفنا الرحلة صباحا فسرنا على الحدود الشرقية للسهل المزروع حتى بلغنا قرية الكبوشية ، وهى مقر رجل من أسرة مك شندى ، وتبعد عن الحصاة قرابة ثلاث ساعات. ولما كان بيننا وبين عطبرة ثلاثة أيام طوال فقد ملأنا قربنا من النهر ، ومجراه على نصف ساعة من القرية. وحدث لى ونحن نبدأ المسير حادث من تلك الحوادث التى تضايق المسافر فى الصحراء وتنغص عليه رحلته ، ذلك أننى بعد أن شددت قربى إلى رحل جملى ثقبت إحداها ـ وكانت من أكبرها ـ وتفجر الماء منها كأنها الينبوع. ويسد العرب مثل هذا الثقب بوتد من غصن أخضر يلفونه بقماش ، ولكن خير سدادة له لباب عود من عيدان الذرة ، فهو إذا ابتل بالماء انتفخ فأحكم سد الثغرة. وعبرنا إقليما مستويا تقطعه الوهاد والوديان الحافلة بالشجيرات والقش. ثم مررنا بمخيم كبير للجعليين يبعد أربع ساعات من النهر ، وهم برغم بعدهم هذا من النهر يجلبون منه حاجتهم من الماء كل يوم. وحططنا رحالنا فى ساعة متأخرة من الليل بعد أن سرنا من الكبوشية سبع ساعات أو ثمان

٢٠ مايو ـ قمنا قبيل الشروق ويممنا شرق الشمال الشرقى ، وكان قوام

٢٨٤

قافلتنا ما لا يقل عن مائتى جمل حملت بالبضائع ، وعشرين أو ثلاثين هجينا يركبها أغنى التجار دون أن يثقلوها بأحمال أخر ، ونحو مائة وخمسين تاجرا ، وثلاثمائة عبد ، ونحو ثلاثين جوادا مرسلة لسوق اليمن يسوقها العبيد طوال الطريق ، وأكثر البضاعة تبغ ودمور اشتراه السواكنيون من سنار. وكان زمام القافلة بيد رجل كفء من كبار عرب سواكن تربطه رابطة المصاهرة ببدو البشارية والهدندوة الذين يقع طريقنا فى أرضهم. ولكننى برغم هذا أحسست أن القوم يتوجسون خيفة من البشارية طوال الرحلة. وكانوا يصدعون بأوامر الرئيس (١) فى كل ما يتصل بسير القافلة دون أن يجدوا فى ذلك غضاضة أو بأسا. ولم يكن هناك غرباء بين التجار السواكينيين سوى جماعة من التكارنة (واحدهم تكرورى) أو التجار الزنوج قوامهم خمسة من السادة وعشرة جمال وثلاثون عبدا على التقريب. وإلى هذه الجماعة انضممت ، ولا عجب فكلنا غرباء يسرنا أن يعاون بعضنا البعض. وكنت أحط إلى جوارهم طوال الرحلة إلى الساحل معتزلا التجار السواكنية الذين انقسموا هم أيضا فرقا وجماعات. وما لبثنا قليلا حتى سرت الألفة بينى وبين رفاقى السود فأدوا لى كثيرا من الخدمات الصغيرة ، وما أحوج المسافر فى القافلة إلى مثلها ، ولم أتوان فى رد هذه الخدمات بأحسن منها. وهكذا ظللنا طوال الرحلة على تفاهم ووفاق ولا أقول على مودة وصداقة ، فإن مصادقة الفقير أمر يزهد فيه الناس ولو كانوا من الزنج.

كان أحد هؤلاء التكارنة من دارفور ، والثانى من كردفان ، وثلاثة قدموا أصلا من برنو ، وقد غادروها من زمن مديد فى قافلة فزان ، ومن فزان مضوا إلى القاهرة وكان كبيرهم ـ واسمه الحاج علي البرناوى وهو الذى تزعم جماعتنا ـ

__________________

(*) علمت بعد ذلك أن شيخ القبيلة لا يمكن أن يكون رئيسا للقافلة ، ذلك أن العرب درجوا من قديم الزمان على عادة لا تزال سارية فى الصحارى الشرقية فى الجزيرة ، وهى ألا يولوا شيخ القبيلة قيادة الجماعات المسلحة التى توجهها القبيلة على العدو. وله أن ينضم الى الحملة إن شاء ، ولكن لواءها يعقد للقائد ، وهى وظيفة تقليدية فى الأسرة. ويقول العرب «الشيخ ما يقيد القوم» ولعلى عائد إلى تناول هذا الموضوع فى يومياتى.

٢٨٥

قد طوف فى كثير من أنحاء تركيا تاجرا للرقيق ، ونزل القسطنطينية وعاش بدمشق طويلا (وفى دمشق يشتغل التكارنة فعلة فى بساتين سراة القوم) ، وأدى فريضة الحج ثلاث مرات ، ثم استقر أخيرا بكردفان وانقطع للتجارة فيما بين كردفان وجدة. وقد ذاع صيته بفضل أسفاره وما يتظاهر به من تقى وورع ، لذلك أحسن الملوك والرؤساء لقاءه ، ولم يكن يفوته أن يتحفهم بالهدايا الصغيرة يجلبها لهم من جدة. وهو على إدمانه قراءة القرآن ـ سواء جالسا تحت مظلة مؤقتة من الحصير أو راكبا على جمله فى الطريق ـ رجل شهوان مبطان لاهم له إلا متعة الجسد ونعيم الحياة الدنيا ؛ فهو ينفق على لذاته كل ما يغلّه رأس ماله البسيط من ربح متجدد بتجدد أسفاره. كان يصحب معه جارية من برقو يؤثرها على سواها ويتخذها من دونهن محظية له ، وقد عاشت معه ثلاث سنوات ، وكانت تركب جملها على حين يسير غيرها من الجوارى على الأقدام طوال الطريق (١). أما جربانه الجلدية فقد حفلت بأشهى وأطيب ما حوت سوق شندى ولا سيما السكر والتمر ، وأما مائدته فأفخر موائد القافلة إطلاقا. وقد تسمعه يفيض فى الحديث عن الفضيلة والدين فتخاله لا يعرف عن الرذيلة إلا اسمها ، ومع ذلك فهذا الحاج على الذى أنفق نصف عمره فى التهجد والعبادة .. هذا الحاج نفسه باع فى العام الماضى بنت عمه فى سوق الرقيق بالمدينة المنورة بعد زواجه منها بمكة. وكانت الفتاة قد وفدت عليها حاجة من برنو بطريق القاهرة فلقيها على غير انتظار وطلب يدها بوصفه ابن عمها ، وتزوجها (٢) ، ثم احتاج إلى شىء من المال فى المدينة فباعها إلى الجلابة المصريين ، ولم تستطع المسكينة أن تقيم الدليل على أنها حرة الأصل فأذعنت لقضاء الله وقدره. وكان القوم فى القافلة يعلمون من أمره هذا ، ولكن علمهم به لم ينل شيئا من قدره وسمعته بينهم.

كان التكارنة يعاملوننى كما يعاملون أى مسافر غيرى وكما جرى القوم على معاملة المسافرين ؛ فكل مسافر مشغول بتوفير أسباب راحته ، اللهم إلا أن يمد

__________________

(١) كان لنفر من التجار السواكنية خليلات ، وهم فى العادة يصطحبونهم فى أسفارهم.

(٢) ابن العم فى جميع الأقطار الإسلامية مقدم على غيره إذا طلب يد ابنة عمه.

٢٨٦

إلى جاره من حين إلى حين يد المعونة فى وسق جمله. على أننى ما كنت أطمع فى أكثر من هذا ، وما كنت فى حاجة ماسة لمعونة أحد ، ولا أذكر أنه قد نالنى من التجار السواكنية إساءة أو شبه إساءة لم يقاسمنى إياها التكارنة على قدم المساواة. وكنت يقظا حذرا مؤدبا مع الجميع متحاشيا مخالطة العبيد ، وكان القوم ينظرون إلىّ نظرتهم إلى هؤلاء العبيد تقريبا. ثم إننى قاومت أشد المقاومة كل محاولة يقصد بها ابتزاز شىء من بضاعتى أو زادى ، وأحسبنى بهذا المسلك قد عرفت بين القوم بأننى رجل نشيط دءوب صعب المراس ، أنانى شديد الحرص والحدب على مصلحته.

كانت صخور السهل الذى قطعنا طوال الصبح من الصوان ، وانبسطت إلى يميننا بعض الوديان والمنخفضات. وحططنا للراحة بعد عشر ساعات أو إحدى عشرة. ومن عادة القوم أن يبدأوا المسير مع الشروق ، ويقيلوا ساعات الظهيرة أو من العاشرة صباحا إلى الثالثة أو الرابعة عصرا ثم يستأنفوا السير حتى العشاء ، بل قد يتصل سيرهم إلى ما بعد منتصف الليل.

٢١ مايو ـ ما زال طريقنا يشق السهل. وقد هبت اليوم سموم هوجاء ، ولما كان التجار السواكنيون قد استكثروا من البضائع التى حملوها جمالهم فإنهم لم يحملوا من الماء إلا قليلا بالقياس إلى عدد العبيد والخيل. لذلك فرغت أكثر قربهم منه عند الظهر. وأقبل رئيس القافلة على جماعتنا وأخذ من كل منا ربع مائه أخذا يشبه أن يكون غصبا. ومررنا ساعات الظهيرة فوق سهل أسود محصب قرب أشجار من السنط. وبعد أن قطعنا فى هذه المرحلة الطويلة عشر ساعات أو إحدى عشرة متجهين شرق الشمال الشرقى ثمنا فى واد مشجر عميق الرمال. ونامت القافلة كلها ظمأى ، وكان أكثر الدرب الذى سلكنا فى الصحراء مطروقا يسوق عليه أهل عطبرة ما شيتهم إلى سوق شندى. ولقينا فى الطريق نفرا منهم ميممين شندى بحصر من سعف صنعت فى عطبرة.

٢٢ مايو ـ سرنا ثلاث ساعات بين السهول الرملية ، ثم أشرفنا على نهر عطبرة ودخلنا الأحراج التى تكتنف ضفافه ، وكانت الأشجار الباسقة تحدق بنا

٢٨٧

من كل صوب فيبعث مرآها النشوة حتى فى أفئدة الجلابة القاسية. قال أحدهم مشيرا إلى المفازة الجرداء التى قطعناها «بعد الموت الجنة». ومشينا نحو ربع الساعة بين أشجار فارعة اشتبكت أحمالنا بأغصانها فكنا نخلصها معها بصعوبة. ورأيت من التنوع الكثير فى نبات هذا الإقليم ما لم أره فى أى مكان على ضفاف النيل بمصر ، فكانت هناك صنوف مختلفة من المموزا ، ودوم ضخم أسالت عناقيده الفاخرة لعاب العبيد ، وأشجار من النبق ناضجة الثمار ، ثم اللالوب وهى فى حجم النبق ، فضلا عن كثير من الأنواع التى لا عهد لى بها. وإلى هذا كله عشب برى موفور ينمو فوق تربة خصبة غنية كتربة مصر. وتأوى إلى الشجر أسراب كثيرة من الطير تصدح بالغناء الذى يندر أن يسمعه المسافرون فى مصر. ولم تكن الطيور غنية بالألوان بل طيورا صغيرة من فصائل مختلفة ، وقد راقتنى منها أنغام لم تطرق أذنى من قبل ، ولم ينقطع من أذنى هديل الحمائم الرقيق طوال سيرى. وانطلقنا صوب النهر وهبطنا ضفافه الواطئة فى لهفة لنروى من مائه غليلنا ، وقطعت بعض الجمال مقاودها حالما وقع بصرها على الماء وألقت أحمالها عنها وهى تندفع أو تتعثر فوق الشاطىء فأحدثت كثيرا من الجلبة والفوضى.

لم يطل مكثنا بالمكان ، فاستأنفنا المسير نحو ساعة على ضفة النهر ، وكان أكثر سيرنا بين نخل يحف أطراف الصحراء ، وهو أكبر من أى نخل رأيته بمصر. وبعد ساعة عبرنا النهر خوضا فى غير مشقة إذ لم يكد ماؤه يجاوز ركب الجمال ، ولم يمض نصف ساعة حتى جئنا قرية عطبرة ، ويسمونها كذلك لقربها من النهر. وكان مقررا أن تظل القافلة أياما هنا ، لذلك اهتم كل منا قبل كل شىء باختيار مكان ملائم ينزل به. أما التجار السواكنية فنزلوا ساحة مكشوفة أمام القرية وقسموا أنفسهم فرقا وجماعات ، وأما أنا والتكارنة فحططنا بأرض من الأشجار الشائكة فى جنب من القرية ، ومهد كل منا لنفسه ببلطته مهادا صغيرا يتسع له ولعفشه ، وأما العبيد فأمروا بالنوم أمام مدخل هذه الأرض ، وبهذه الطريقة أمنّا على متاعنا من اللصوص ، ونشرنا فوق الأشجار حصرا فكان لنا منها ظل طيب.

٢٨٨

وقرية عطبرة ـ وهى أقرب إلى المخيم منها إلى القرية ـ صفوف مستطيلة غير منتظمة من أكواخ قوامها الأبراش وسعف الدوم ، ويسكنها نحو مائتى أسرة من البشارية. هذه الأكواخ هى مسكن القوم فى جميع المفازة الواقعة بين مصر والحبشة ، فهم يستعملون البرش لأن الماعز والغنم النوبية لا صوف لها ولا شعر حتى يصنعوا منه الخيام كما يصنعها البدو الشرقيون ، وهم يدقون فى الأرض صفا من الأعمدة يبلغ طول العمود منها اثنتى عشرة قدما أو خمس عشرة ، ويدقونها متقابلة بحيث تتقارب فى أعلاها ، ويثبتون فوقها أعمدة أخرى فى وضع أفقى ، ثم يلقون الأبراش بحيث تكون فى كل أوضاعها مائلة ميلا يتيح لماء المطر أن يجرى من فوقها. وفى كل كوخ عنقريبان أو ثلاثة تكاد تملأ فراغه كله فلا يبقى منه غير حيز ضئيل للوقوف ، والبشارى فى غنى عن هذا الحيّز على أى حال لأنه ينفق جل وقته متكئا على العنقريب (١). وفى الأكواخ الصغيرة يعيش الرجال والنساء معا ، أما الأكواخ الكبيرة ففيها فواصل من وراء العنقريب تقسمها إلى غرفة أمامية وأخرى خلفية ، وتشغل النسوة الخلفية منهما ـ ولو أنهن لا يفكرن البتة فى الاحتجاب عن الغرباء ـ وتستعمل مطبخا كذلك. ولكبار القوم أكواخ خاصة بالحريم يلحقون بها أحيانا سقيفة يستقبلون فيها الضيوف. والبدو يقيمون هذه الأكواخ أنى حطوا وينقلون معهم الأعمدة والأبراش وما إليها على الجمال.

__________________

(*) فاننى أن أذكر فى موضع سابق من هذه اليوميات أننى رأيت القوم فى جميع بلاد النيل التى زرتها وفى صحراء النوبة أيضا يستعملون مساند خشبية صغيرة طول المسند منها نحو خمس بوصات ، وله رأس بهذا الطول وعرضه ثلاث بوصات أو أربع ، وهو شبيه فى جملته برأس العكاز. والمسند قطعة واحدة من الخشب الصلب ، وخير أنواعه ما جلب من سنار ، ويضعه النائم تحت رأسه ، ويستند إليه بذراعيه حين يتكىء. وإذا خرج وجيه من وجوههم حمل له تابعه مسندا من المساند ، وفى كل بيت أو خيمة تجد مسندا يقدمونه للضيف ، ولكنك لن تستشعر الراحة فى استعماله ما لم تمرن على ذلك منذ صغرك. وحملنى على ذكر هذه العادة ما قرأت فى كتاب مستر سولت من أن أهل الحبشة يستعملون مثل هذا المسند ، ويبدو لى من الأوصاف التى ساقها هو ومستر بروس أن عادات الأحباش شديدة الشبه بعادات السكان غلى حدود وادى النيل.

٢٨٩

وعطبرة مقر شيخ قبيلة الحمداب. ولا يخلط القارىء بينها وبين قبيلة الحميداب ، وهى إحدى قبائل العبابدة. والحمداب من أقوى (١) قبائل البشارية ، وقد سافر شيخهم معنا من شندى بعد أن ابتاع من سوقها العبيد والخيل. ولا تخلو عطبرة من قوم يتجرون مع شندى وينتظرون عندها وصول قوافل سواكن. وما إن علم الجيران أن قافلة قد وصلت وأنها تعتزم البقاء أياما حتى توافدت علينا أفواج البشاريين يحملون الذرة والغنم والسمن واللبن ويريدون المقايضة عليها بالدمور والتوابل لا سيما المحلب والقرنفل واللبان ، وكلها مجلوب من الغرب. وقلّ من هؤلاء القوم من يفهم العربية اللهم إلا المتجرون منهم مع بربر وشندى ، ولكن أكثر عبيدهم يفهمونها ، ذلك أنهم تربوا بين سكان ضفاف النيل. ولباسهم ـ وأخلق بى أن أقول عريهم ـ واحد فى كل مكان ، فهو لا يخرج عن قميص من الدمور يلبسه الرجل والمرأة على السواء. وخيّل إلىّ أن نساءهم على جانب كبير من الحسن ، وفيهن سمرة شديدة وعيون فاتنة وأسنان رائعة ، ولهن قدود نحيلة ممشوقة ، ولم يكن يبدو عليهن أثر للخوف من إضرام الغيرة فى لوب أزواجهن أو آبائهن. فقد قصدن خيامنا ضاحكات عابثات ، ومن كانت منهن تجهل العربية حاولت أن تترجم عما تريد بالاشارة. وظهر لى أن حسانهن شاعرات كل الشعور بما حباهن الله من مفاتن ، ولكن كان من الواضح أنهن ما عابثننا إلا ليبعننا الذرة واللبن بثمن أغلى مما تبيع به أخواتهن اللاتى لا يدانيهن جمالا. على أى حال كن جميعا سواء فى خراب الذمة. وكنت قد سمعت فى مصر أن البشاريين لا يغارون على نسائهم ، فمن أصول الشرف عندهم ألا يرتاب الرجل فى امرأته حتى

__________________

(*) إن كثيرا من القبائل البشارية لا تحتقر الزراعة مع بداوتها ، فينزل أفرادها ضفاف عطبرة عقب الفيضان ليزرعوا الذرة ، ويبقون بها حتى يضموا المحصول ثم يقفلون راجعين إلى جبالهم. فإذا اشتد الحر وجف الكلأ فى الصحراء هبطوا ثانية من الجبال إلى ضفاف النهر انتجاعا للمرعى. ومثل هذا يصدق على التركمان المجاورين لحلب ، فهم يجمعون بين البداوة والزراعة.

٢٩٠

تثبت له خيانتها بالدليل الحاسم. وقد يرى البشارى غريبا يقبل امرأته فيصرف المسألة بضحكة ، ولكنه قاتلها لا محالة إن أمسكها ترتكب الفحشاء.

وبشاريو عطبرة ـ كغيرهم من البشاريين ـ سلالة تمتاز بوسامة الخلقة وجرأة الطبع ، وهم لا يضعون سلاحهم قط ولا يفيقون من عراكهم وقتالهم. ويتفشى السكر بينهم تفشيه بين عرب شندى ، ولم تمض ليلة لم نسمع فيها صخبهم وضجيجهم فى مشارب البوظة ، وهم ميالون إلى مد أيديهم لمتاع التجار ، وعلى الرغم مما اتخذنا من حيطة وحذر فإن أحدا منا لم يسلم من لصوصيتهم. ففقدنا أشتاتا من متاعنا ، وسرق من الجمال بعضها ولكنها ردت بفضل تدخل رئيس القافلة الذى حصل من أصحابها على هدية طيبة لقاء جهوده. وولعهم بالسرقة ليس شرّ ما فى طباعهم ، فإن فيهم ـ على ما بدالى ـ غدرا وقسوة وحرصا وحبا للثأر ، وهم ينقادون لهذه النزوات فلا يردعهم عنها رادع من دين أو قانون. أذكر أن رجلا من أهل القرية ـ وكان قد صحبنا من شندى ـ افتقد عند وصوله جملين من أفضل جماله فإذا هما مسروقان ، واشتبه الرجل فى جار له فجاء إلى التكارنة يستعين بسحرهم على تأييد شبهته ولكنهم أبوا أن يعطوه جوابا شافيا أو أن يتدخلوا فى الأمر ، فأقسم الرجل ليذبحن عيال اللص لو عرفه وليقطعن إبله تقطيعا وليهدمن بيته حتى يخرج إلى الأحراش يلتمس قوته كما تفعل البهائم. والبشاريون على بكرة أبيهم مسلمون ، ولكنهم لا يعبأون بشعائر دينهم ولا يؤدون فريضة من فرائضه ، فهم فى هذا على نقيض الحجاج الزنوج الذين يمرون بهذا الطريق ، والذين لا تفوتهم فريضة من فرائض الإسلام. وبخل البشاريين على الضيف يكنفى وحده دليلا على أنهم إفريقيون لا غش فيهم ، ولكن لغتهم تؤيد هذا الظن تأييدا لا يترك للشك مجالا. وآية بخلهم أننا لم نستطع أن نظفر منهم بقطرة من اللبن دون أن نؤدى ثمنها ، وقد اقتضتنا النسوة أجرة استعمالنا قدورا من الفخار عتيقة كنا فى حاجة إليها أثناء مكثنا بينهم ، بل إن أحدا منهم لم يرض أن يقوم مترجما بيننا وبين من يجهلون منهم العربية ، دون أن يأخذ لقاء ذلك حفنة من الذرة على الأقل. لهذا الجشع تلحظه فى كل تصرفاتهم ، وهو لا يظهر فى معاملتهم لركاب القوافل فحسب ـ فهؤلاء بطبيعة

٢٩١

الحال مطمع لا شك فيه ـ بل فى معاملتهم للحجاج الزنوج المساكين الذين يمرون من هنا فى طريقهم إلى التاكة ، فهم يشكون مر الشكوى من سكان عطبرة الذين تحجرت قلوبهم وخلت من كل أثر للرحمة.

ويزرع القوم الذرة وقليلا من اللوبيا فى الغابات القريبة من النهر دون أن يمهدوا لها التربة أى تمهيد. وهم لا يعرفون السواقى ، وتمتد الأرض الخصبة على ضفتى النهر على مسافتين متساويتين ، ولكن الضفة اليسرى خلو من الزرع لما يقوم به عرب الجعليين من غارات للسلب والنهب. ويجلب القوم زادهم من التاكة فى السنوات التى لا يفيض النهر فيها على ضفافه. وتنمو الأشجار التى رأيتها على الضفة الغربية قرب القرية ، وأكثرها نبق ، وثمره موفور حتى أنهم يطعمون عليه الجمال أحيانا. وينمو العشر بين الشجر الكبير ولا يكاد يترك لزراعة الذرة متسعا. وكانت تحوم فى الجو أسراب كثيرة من الحمام واليمام ، ولها عدو كثير العدد هو ضرب من النسر لا يكبر الرخم المصرى إلا قليلا ، وجسمه أسود فاحم ورأسه عار من الشعر تكسوه حمرة أرجوانية قاتمة كرأس الديكة الرومية. ويزعم البشاريون أن غاباتهم تحفل بالنمر ، وأنهم يصادفون فيها الحيات الكبار أحيانا ، ولكنى كنت أعبر الغابات يوميا لأستقى من النهر فلا تقع عينى على حيوان من ذوات الأربع اللهم إلّا جيوشا من الجرذان السمينة تسرح وتمرح بين جذور الذرة المتخلفة فى الأرض. وكان العبيد يقتلون منها الكثير ويلتذون أكله ، ولا تجد للنمل الكبير الذى يقال إنه يسبب أذى كبيرا فى كردفان ودارفور أثرا فى أى بقعة شرقى النيل. وتظهر التماسيح فى النهر وقت فيضانه ، ولكنك لا تجد فيه أفراس النهر ، أما الخرتيت فلا يعرفونه.

وماشية البشاريين ماشية طيبة النوع كثيرة العدد. وحين ألممت بهم كانوا قد أرسلوا إبلهم إلى الجبال الغربية ترعى فيها الكلأ النضر عقب هطول المطر عليها. أما جمالنا فكنا نسوقها كل صباح إلى الغابات لترعى أغصان السنط. وكانت قطعان الضأن والماعز تساق إلى الجبال بعد أن سيقت إليها الإبل. وابتعنا كبشين كبيرين بدمور يساوى ريالا. ويقتنى شيخ البشاريين وبعض أقاربه الخيل ويلبسون الزرد ، ولكل خيمة عندهم حماران.

٢٩٢

ويتصل عطبرة بالمقرن على مسيرة يومين من هذه القرية ، وبعدها يسمى الملتقى بالمقرن. ويقال إن منبع المقرن فى جبال البشارية ، ولكن ماءه فى الصيف يكاد ينضب. وهو حتى فى موسم المطر لا يبدو أكثر من مجموعة سيول ، ولا يخترقه الطريق المباشر من هنا إلى سواكن ، وهذا دليل واضح على أن مجراه لا بد أن يكون أبعد إلى الشمال مما تجده عادة فى الخرائط. وقد أسلفت القول إننا لم نجد فى عطبرة من الماء إلا قليلا جدا ، ولا بد أنه من أسابيع كان جافا تقريبا ، لأننا لم نجد فى قاع ملتقى النهر ـ حين عبرناه قرب الدامر ـ إلا بركا راكدة الماء. وفى أثناء مقامنا بعطبرة كانت السماء تمطرنا بالليل رخات خفيفة ، أما النهار فكان ملبدا بالغيوم ، وكثيرا ما كان الضباب ينتشر فى الصباح. وفى الثالث والرابع من يونيو هبط مستوى النهر فجأة فإذا أكثر مجراه جاف ، وقد لحظت بعد ذلك فى طريقنا إلى التاكة أن مقدار الهبوط كان على الأقل قدما. ولا تعلو ضفافه عن خمسة وعشرين قدما. ولم أقس عرض النهر ، ولكنى أقدر ، حسبما انطبع فى ذهنى حين رأيت مجراه ، أن ما بين الضفتين لا يزيد على أربعمائة خطوة أو خمسمائة ، وكان تيار الماء من الضعف بحيث لا تكاد تتبينه.

وإذا مات لنساء عطبرة قريب عزيز حلقن رءوسهن حدادا عليه ، وهى عادة جرى عليها كثير من القبائل العربية المشتغلة بالفلاحة فى صعيد مصر. والثأر قانون البشارية الذى لا يعرفون فيه هوادة على ما علمت ، وقبائلهم لا يفتر لها حرب ولا قتال ، وأعداء جنسهم الشكرية من ناحية والهدندوة من ناحية أخرى. وجيران الحمداب الساكنين عطبرة هم قبيلة بنى كرب فى مصعد النهر صوب قوز رجب ، وقبيلة البطراب ، وكلاهما بشارى. ويزرع الحمداب شطئان عطبرة الدانية حتى ملتقاه بالمقرن ، وبعد هذا الملتقى تبدأ أملاك الجعليين. وتقطع المسافة من هناك إلى بربر فى أربع مراحل طوال ، ولكن الدرب لا يكاد يطرقه أحد ، فلا تعدو البلاد التى يتصل بها القوم شندى وقوز رجب والتاكة وبشارية الجبال الواقعة إلى الشمال منهم.

وبعد أن مكثنا بعطبرة ثلاثة أيام أو أربعة جبى المك ضريبة المرور من كل فرد حسب عدد عبيده. ويؤدى عن العبد ثوب دمور ، ومثله عن كل حمل مهما احتوى ،

٢٩٣

أما التجار الذين يظن أنهم يحملون ذهبا أو يعرف عنهم هذا فتفرض عليهم ضريبة تعسفية ، وبديهى أن هذا الإجراء يثير منازعات كثيرة. وقد أديت عن بضاعتى كلها ثوبا ونصف ثوب من الدمور ، ولكن التجار السواكنية استاءوا من تشدد الشيخ وتعسفه أشد استياء وأنذروه بأنهم لن يعودوا قط من هذا الطريق. على أنه فى الواقع أسلم الطرق إلى سواكن ، فالصحراء فى هذه الناحية تسكنها قبائل صديقة للحداربة ولسواكن ، وقد علمت أن شيخ عطبرة مضطر إلى إشراك كثير من هذه القبائل فى الأموال التى يجبيها من القوافل. أما الطريق من سواكن إلى الدامر فيخترق مراعى تمتلكها قبائل بشارية قوية الشوكة معادية لسواكن ، فلا يستطيع عبوره من القوافل غير القوى القادر على رد الاعتداء. وفى الغد بعث الشيخ لكل طائفة من التجار طاجنا من عجين الذرة السائل وطرفا من البوظة. وكان على القافلة أن تنقسم إلى جماعتين بعد مبارحتها عطبرة ، تتخذ إحداهما طريق الصحراء إلى سواكن رأسا ، وتسلك الأخرى طريق التاكة. وينحرف الطريق الأول فى الأيام الثلاثة الأولى مشرقا عن اتجاه سواكن حتى يبلغ بئر قنقراب ثم ييمم صوب سواكن فى خط مستقيم مارا بثلاث آبار بين الواحدة منها والأخرى مسيرة يومين. وتستغرق الرحلة كلها عشرة أيام أو اثنى عشر ، والطريق حافل بالكلأ ، وتكثر مضارب البدو فى الوديان الخصبة التى تسقيها سيول الشتاء فينمو بعدها العشب النضر الغزير. أما الفريق الذى قصد التاكة فكان فى نيته أن يبيع فيها ما اشترى فى سنار من دمور وتبغ ، وكان بعضهم يريد العودة بعد ذلك توا إلى شندى ، على حين نوى بعضهم الآخر المضى قدما إلى سواكن. أما أنا فقد قررت أن أتخذ طريق التاكة ، وقد سرنى أن أرى رفقائى من التجار الزنوج يحذون حذوى ، فقد كان معهم كثير من العبيد ، وكانت جمالهم ضعيفة ، والماء فى طريق التاكة ميسور كل يوم.

٣١ مايو ـ سافر التجار القاصدون سواكن مساء أمس ، أما نحن فبكرنا فى السير مع عطبرة سالكين سهلا عرضه ميلان تكسوه أشجار الدوم والعشر التى ما زالت تقوم بينها جذور الذرة. ورأيت حللا منبثة بين أحراج السنط الكثيفة

٢٩٤

على مقربة من النهر. وأنفقنا فى هذا ثلاث ساعات حططنا بعدها على شاطىء رملى قرب النهر رأيت على أرضه هياكل عظمية لتماسيح متوسطة الطول. واستوت الأرض أمام ناظرى فلم يبد فيها أثر لتل ولا لنجد ، فأنى سرحت الطرف وجدت الأفق منبسطا لا نشز فيه. والإقليم سهل مستو على يمين النهر ويساره. وكانت الجرذان الكثيرة تعدو بين قوائم الإبل فى كل خطوة تخطوها ، والعبيد يلهون بصيدها اليوم كله. ومن هذا الموضع اتخذنا طريقا مستقيما مخلفين النهر إلى يميننا ، وسرنا فوق سهل محصب رملى متجهين جنوبا ثم عدنا إلى النهر ثانية بعد رحلة عشر ساعات فى يومنا هذا.

أول يونيو ـ مضينا نتبع مجرى النهر. وتحفل الضفتان بالشجر ، والإقليم ملك لبنى كرب ، وأرضه خصبة ولكن لا يبدو عليها أثر لزراعة ، ويظهر أن سكان الحلل أو المضارب لا يعرفون لهم صناعة غير الرعى. وقد قدرت عرض النهر فى إحدى بقاعه ـ حين دنونا منه ـ بمسيرة عشر دقائق تقريبا. وبعد أربع ساعات مررنا بأم داود ، وهى مضرب كبير من مضارب قبيلة العقاب إحدى قبائل البشارية ، وهذا أقصى حدود أملاك البشاريين جنوبا وبداية أملاك الهدندوة ، وهم قبيلة ذات بأس سأعود إلى ذكرها. وكان ابن شيخهم راجعا معنا من شندى ، لذلك لم يكن هناك ما يثير مخاوفنا منهم اللهم إلا أن نخشى لصوصيتهم. وحطت القافلة قرب القرية فسرت إلى الأكواخ متطلعا ، وأثار مظهرى بين القوم صيحة دهشة ورعب ـ وهو ما كان يثيره على الدوام فى هذه البلاد ـ لا سيما بين النساء اللائى اشتد بهن الفزع حين رأين رجلا ممن لفظتهم الطبيعة ـ أعنى البيض ـ يتطلع داخل أكواخهن ويسألهن بعض الماء أو اللبن. ووضح لى أن أول شعور يبعثه منظرى فى القوم هو شعور التقزز والاشمئزاز ، فالزنوج يؤمنون إيمانا راسخا بأن بياض البشرة أثر من آثار المرض وعلامة من علامات الضعف ، وما من شك فى أنهم ينظرون إلى الرجل الأبيض نظرتهم إلى مخلوق أدنى منهم وأحط شأنا. وأهل شندى أكثر تعودا ، إن لم يكن على رؤية البيض ، فعلى رؤية عرب شبه الجزيرة السمر. ولما كانت بشرتى قد لوحتها الشمس فإنى لم أكن أثير بينهم كبير دهشة.

٢٩٥

ومع ذلك فكثيرا ما كنت أفزع الناس حين أطالعهم فجأة فيصيح الواحد منهم «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». ووقع لى مرة أننى كنت أساوم بسوق شندى فتاة ريفية على بصل معها ، فقالت لى إن خلعت عمامتك وكشفت لى عن رأسك زدتك خمس بصلات. فلم أرض بأقل من ثمان ، فأعطتنيها وخلعت لها عمامتى فجفلت من رأسى الأبيض المحلوق. وسألتها مازحا : أترضين لك زوجا له مثل رأسى؟ فبدت عليها الدهشة والاشمئزاز ، وأقسمت أنها تؤثر على مثل هذا الزوج أقبح عبيد دارفور وأبشعهم خلقة.

ووجدنا كثيرا من شواهد القبور فى الصحراء المجاورة لأم داود ، فقد فتك الجدرى بالأهالى فتكا ذريعا فى العام الماضى. وكانت القبور مغطاة بالحصى من المرو الأبيض جريا على عادة النوبيين ، وفى كل طرف من طرفى القبر عمود مضروب فى الأرض. وهنا التقينا بقافلة كبيرة لبشاريين يسلكون طريقنا نفسة حتى قوز رجب ليشتروا منها ذرة. وتوجس التجار السواكنية شرا لأنه لم يكن بينهم وبين قبيلتهم ود ولا سلام ، وعلى ذلك حرصنا على أن نسير بعيدين عنهم ، وكنا منهم على حذر شديد.

ومضينا مع عطبرة بعد أم داود ، وكنا من حين لحين نسير فى طريق قصيرة عبر الصحراء ، وكانت وجهتنا الجنوب الشرقى بانحراف إلى الجنوب. وبعد مسيرة تسع ساعات ونصف حططنا بعد أن رأينا قافلة البشاريين تحط على مسافة منا. وكان رئيس قافلتنا يخشى أن نمضى فى طريقنا ثم نحط بعد ذلك لئلا نؤخذ على غرة ، فرأى أن من الحكمة أن يكون العدو على مرأى منا عن أن يكون وراءنا. وبتنا طوال الليل شاكى السلاح ، وأوقدنا نارا ووضعنا متاعنا بحيث يكون دريئة لنا إن هو جمنا. على أن البشاريين كانوا فى الغالب يخشوننا كما نخشاهم ، فقد لزموا مكانهم فى الصباح بينما مضينا نحن قدما.

٢ يونيو ـ سرنا فى الصبح أربع ساعات متجهين جنوبا بشرق ، وكان سيرنا فوق سهل من أرض صالحة للزراعة وإن بعدت عن النهر أميالا. ولم نر أثرا لجبال. وقيلنا فى حرج من أشجار النبق والسيال واللالوب. ورأيت هنا فصائل من طيور

٢٩٦

لا عهد لى بها ، وكان طير منها شبيها فى حجمه وشكله بالشحرور ، وله ذيل طويل ذو خطوط بيض. ورأيت غربانا كبارا برقاب بيض. ويبدو أن البشاريين لم يكن فى لغتهم أسماء لهذه الطيور المختلفة. وأكل لحم الطير عندهم عار كبير ، وقد سمعتهم غير مرة ينعتون المصريين «بأكلة الطير» سخرية منهم وتهكما بهم. واستأنفنا السير فدخلنا الصحراء الرملية متجهين شرق الجنوب الشرقى. وفى العصر طارد التجار السواكنية ـ وقد ركبوا أخف هجنهم ـ وحشا رأوه من بعيد ، وكانوا يدعونه حمار الوحش. ولم يكن الوحش على قرب يتيح لى التحقق من شكله ، ولكنهم يقولون إنه فى حجم الضبع ، وإن له رأسا وذيلا شبيهين كل الشبه برأس الحمار وذيله ، وإنه بغير قرون. ويعرف أهل الصحارى العربية حيوانا يطلقون عليه هذا الاسم نفسه ، ولست أدرى على التحقيق أهو هذا الحيوان بعينه أم غيره. وكانت الأرض أنى اتجهت تحمل آثار أقدام غزلان لا حصر لعددها ، وبعض هذه الآثار لفصائل أكبر كثيرا مما عرض لى من شتى فصائل الغزلان. وبعد مسيرة أربع ساعات وقفنا بواد مشجر ، وكان هجير النهار لا يطاق. وأمطرتنا السماء فى الليل وابلا ، وكنت على طول الطريق أتبين شكل الكثبان الرملية والشجر فأرى الأدلة الواضحة على تعرض الإقليم للرياح الشرقية العاتية. ورأيت جبلا منعزلا عاليا فى السهل المشرق على أربع ساعات منا.

٣ يونيو ـ رأينا ونحن نقطع السهل هذا الصباح سرابا أزرق صافيا شبيها فى وضوحه وصفائه بما رأيت فى الصحراء بين مصر وبربر. وبعد مسيرة أربع ساعات إلى الجنوب بلغنا النهر ثانية تجاه قرية كبيرة هى قوز رجب ، وهو اسم عربى. وكانت الأرض على الضفتين جرداء قاحلة. وحططنا تحت أشجار من العشر كانت من الكبر بحيث أظلت القافلة كلها ، وكان فى نيتنا البقاء بهذا الموضع أياما لأن الحداربة كانوا يرون فى قوز رجب سوقا صالحة لبيع شطر من بضاعتهم. ولما دنونا من النهر رأيت على كثب تلين منفصلين يقومان متجاورين على السهل غير بعيد من النهر. وحين اقتربنا منهما أدهشنى أن أرى على قمة التل الأكبر بناء أثريا ضخما ، ولما كنت أشكو قصرا طبيعيا فى نظرى استفحل

٢٩٧

أمره حين أصبت بالرمد مرتين فى الصعيد ، فإننى لم أصدق عينى ، لذلك سألت رفاقى عن هذا الذى يبدو فوق التل كأنه بناء ، فقالوا ألا ترى أنه كنيسة (وهو لفظ كثيرا ما يطلقه المصريون على المعابد المصرية القديمة التى ينسبونها للمسيحيين) ، وهى بلا شك من صنع «الكفار» ، ومضينا نحو التل وحططنا على مسيرة ساعة منه. وما إن نزلنا عن جمالنا ورتبنا متاعنا حتى انطلقت صوب التل وبى شوق لفحص هذا الأثر الإثيوبى ، ولكن صيحة عالية من السواكنية ردتنى على عقبى. قالوا «إن المنطقة كلها ينبث فيها فلاحو قوز رجب ، ولن تستطيع السير وحدك مائة خطوة حتى يهاجموك». والواقع أننا رأينا أشخاصا مريبين يختبئون بين الأشجار التى تحف ضفاف النهر بعيدا منا. وأضاف أصحابى أن التل موطن للصوص الهدندوة ، فهم يسكنون مغاوره ، وهم فى حرب مع جيرانهم أجمعين ، ولما لم يكن لهم فى خداعى مصلحة فقد صدقت تحذيرهم وعدت أدراجى ، لا مطلقا فكرتى بل مؤملا أن أستطع فى الغد تدبير زيارة لهذه الآثار فى صحبة بعض الأهالى الذين قد يوافوننا للبيع والشراء. وصح عزمى على هذه الزيارة مهما كلفتنى ، ولكننى لم أستطع لسوء الحظ أن أحقق هذا الأمل ، ولن أغتفر لنفسى هذا التردد الذى منعنى ساعتها من زيارة أهم أثر صادفته فى رحلتى هذه.

عبرت جماعة منا النهر إلى قوز رجب لتستطلع حالة السوق ، ثم عادت بعد الغروب بساعتين ، وكنا نتأهب للنوم (١). وإذا رئيس القافلة يقبل علينا وهو يصيح «استعجلوا يا ناس الجلابة ساقت إذا قعدنا يقتلونا يالله دلوا قربكم وشدوا على جمالكم» فى مثل هذه الحالات تطغى رغبة المحافظة على النفس على كل رغبة سواها. وهكذا نسيت المعبد مؤقتا وعدوت إلى النهر بقربتين بينما تولى غلامى إعداد الجمل ، فما إن عدت بقربتى الممتلئتين حتى وجدت رئيس القافلة قد رحل. وتفسير ما حدث أن الغريق الذى ذهب إلى قوز رجب ترامى إليه سرا أن جماعة كبيرة من البشاريين اعتزمت أخذنا على غرة ، فأصبح من الحكمة أن ترحل القافلة لساعتها لأن فى عبورنا النهر ليلا للاحتماء بقوز رجب مشقة أى مشقة ، ثم إننا قد نحاصر فيها إذا التجأنا إليها ويطول علينا الحصار. لذلك مضينا على ضفة النهر فى صمت ، ومررت

__________________

(*) إذا مرت القافلة بإقليم يهددها فيه الخطر قام المسافرون كلهم بالحراسة على نوبتين ، ففريق يحرس حتى منتصف الليل وآخر من منتصف الليل إلى الصباح.

٢٩٨

بسفح التل ، ولكن الليلة كانت غائمة فحجبت ظلمتها عن عينى كل أثر للمعبد. ودلنى نباح الكلاب على صدق ما ذهب إليه أصحابى من أن الجبل موطن للصوص الهدندوة. وبلغ الرعب من التجار غايته ، فسكنوا سكونا عميقا ، ولم يسمح لأحد بإشعال قصبة لئلا تنبىء النار بمكاننا ووجهتنا. ولم يخرق هذا السكون غير أنين الجوارى المهزولات اللاتى أضناهن السير ، ووقع السياط يلهب بها السادة الغلاظ ظهورهن ليكرهوهن على المسير وراء القافلة بعد أن أعاروا دوابهم لقوم من القوز أرادوا أن ينقلوا عليها بضاعة إلى التاكة. ورميت ببصرى إلى هذا الأثر الذى كنت أتلهف على رؤيته وأسفت للحظ العاثر الذى عاقنى عن زيارة معبد صليب بالمحس فى العام الماضى بعد أن بلغت أقصى رحلتى فى وادى النيل جنوبا ، والذى عصف بأملى اليوم أيضا بعد أن بلغت نهاية رحلتى جنوبا ، وحرم الناس من شىء قد يكون فى نظر البعض أشهى ثمار هذه الرحلة المضنية. فلعل الفرصة تواتى سائحا آخر أسعد حظا أو أجرأ قلبا فيزور هذا المعبد الذى لم أستطع إلا الإشارة العابرة إليه.

وصخور هذه التلال من الجرانيت ، فقد التقطت منها أحجارا ونحن نمر بها ليلا فلما فحصتها فى الصباح وجدتها من الجرانيت الوردى غليظ الحبيبات ، ويبدو أن التل الذى يقوم عليه المعبد هو أعلى تلال المنطقة ، فهو يرتفع عن النهر ثلاثمائة قدم أو أربعمائة ، وله جوانب مدرجة تكسوها كتل ضخمة غير منتظمة وصخور كبيرة. أما جانبه المشرف على النهر فقائم ، وبينه وبين النهر مسافة تبلغ ثلاثين ياردة يمتد فيها الدرب الذى سلكناه. ويلوح أن البناء مشيد على الجرف

وأنه يطل على النهر ، ولم أميز من تفاصيله غير حائطين عاليين ضخمين وسقف مستو كبير ، وعلى السقف شبه قبة عمودية الجوانب ، ولم أر أعمدة ولا بناء آخر.

٢٩٩

أما المعبد نفسه فيحيط به من كل جوانبه صخور عالية تحجب معظمه عن البصر. ولم يتح لى فى النهار أن أبصره من أمام ، وقد خيل إلى أن ارتفاع جدرانه يتراوح بين ثلاثين قدما وخمسين ، وأنها مبنية من الجرانيت لأنها بدت لى فى لون الصخور المحيطة بها. ولم يكن معى منظار مقرب ، لذلك لا أستطيع أن أذكر للقارىء من تفاصيل هذا الأثر شيئا ، ولكن يبدو لى أن المعبد كله ـ باستثناء السقف المدبب ـ أخشن ما يكون بناء ، وأنه عريق فى القدم. وسألت التجار السواكنية هل رأوا مثل هذا الأثر فى النواحى المجاورة لهذا الموضع فقالوا إنهم لم يسبق لهم التصعيد مع النهر بعد هذا المكان ، لذلك لم يستطيعوا أن يمدونى بمعلومات وثيقة فى الموضوع ، ولم أر من أهل المنطقة من أستطيع سؤاله.

وقرية قوز رجب تقوم فوق السهل الرملى على نحو ربع ميل من ضفة النهر اليسرى ، ويسمونها قوز لموقعها بين الرمال ، وأهلها على ما علمت خليط من العرب والبشاريين والهدندوة والجعليين والشكرية الذين نزلوها للاتجار قبل كل شىء. وبدا لى أنهم لا يشتغلون بشىء من الزراعة ، وقد فهمت أنهم يجلبون من إقليم التاكة القريب كل زادهم من الذرة. ولهم ماشية تنتجع ضفة النهر صيفا وقلب الصحراء شتاء. وتدخل القوز فى أملاك سنار ، وحاكمها ـ كحاكم شندى ـ من أسرة ود عجيب الحاكمة. ولأهلها تجارة نشيطة مع سنار وشندى وقد يقصدون أسواق الدامر يبيعون فيها ما شيتهم كما يبيعونها فى شندى. ولا ينقطع العبيد من سوق قوز ، ويؤمها التجار السواكنية أحيانا ، ولكن بدو البشارية والهدندوة أكثر غشيانا لها ، فعلى الرغم من أنهم أعداء للأهالى جرت هذه البلاد ـ كما جرى البدو الأعراب ـ على إباحة السفر فى بلد العدو بقيود معلومة. وقوافل سواكن التى تقصد سنار ولا تريد المرور بعطبرة أو شندى تسلك طريق القوز ومنها تشق الصحراء رأسا إلى سنار. وتكثر برك الماء فى الرمل شتاء ، أما فى الصيف فتضطر القوافل إلى حمل الماء معها رحلة ستة أيام كاملة ، ويقال إن هذه الصحراء جرداء لا شجر فيها. ولا تسلك القوافل هذا الدرب إلا صيفا لأن بدو الشكرية يضربون خيامهم هناك فى الشتاء فيهددون سلامة المسافرين.

٣٠٠