رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

جون لويس بوركهارت

رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: فؤاد أندراوس
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة
الطبعة: ٠
ISBN: 977-437-201-8
الصفحات: ٣٩٢

ومن عادة قوافل سواكن أن تسافر فى رتل واحد طويل كما تفعل قوافل الحجاز ، أما قوافل مصر ففى جبهة عريضة. على أن الطريقة الأولى أمثل ، ذلك لأنه إذا اختل حمل جمل من جمالها أمكن تنحيته عن الصف وإصلاح الحمل قبل أن تلحق الإبل المتخلفة بالركب. أما فى الطريقة الثانية فلا بد من وقوف القافلة كلها إذا وقع لجمل منها حادث. والقوافل السائرة من بغداد إلى حلب ودمشق ـ وقد تبلغ القافلة منها أحيانا ألفى جمل تمشى والجمال سائرة جنبا إلى جنب على مساحة تزيد على الميل. وكان أصحابنا التجار السواكنية يأمرون عبيدهم بسوق الجمال من مقاودها ، فإذا زل جمل أو تعثر أهووا بالسوط على قائده.

ووقع لى اليوم ونحن مقيلون أمر أضحكنى ورفه عنى كثيرا. ذلك أن التجار السود اشتروا شاة وذبحوها ثم وزعوا بعض لحمها على العبيد. وقد قدموا لى شطرا من هذا اللحم ولكنى رفضته لأن أكل اللحم يثير فى الظمأ الشديد للماء ، وكذلك فعل بهؤلاء العبيد بعد أن أكلوه ، ولم يكن فى قرب سادتهم ماء لسوء الحظ. فجاءنى منهم غلام يحمل عظمة لم يكد يفرغ من نهشها ، وقدمها إلى زاعما أنها ما زالت ملبسة بأكثر لحمها ، لآخذها لقاء شربة ماء ، ثم قال «لقد أرسل سيدى إلى قنقراب مع السواكنية فى طلب الماء ، فإذا عادت قربه ملأى فإنى أعدك صادقا برد هذه الشربة إليك». وليس فى الإمكان أن يصور المرء الخلق الشرقى فى الطبقات الوضيعة خيرا مما صوره هذا الغلام فى النهامه نصيبه من اللحم بهذه الشراهة ، ثم فى محاولته غشى بتقديمه العظمة إلىّ وبذل وعد يعرف أنه لا يستطيع إنجازه. على أن حيلته لم تنطل على ، وشربت أنا وغلامى آخر قطرة من الماء فى قربتى.

وسرنا فوق السهل الملح مرحلة طويلة بعد الظهر ، ورأيت فى أثناء مسيرنا غزالا كبير الحجم يوشك أن يكون فى طول الظبى ، وله قرون طوال مدببة. واقترب منه سواكنى ورماه برمحه ولكنه أخطأه. وقبيل الغروب طالعتنا سواكن من بعيد ، وحططنا قرب قرية صغيرة ـ أو قل دوار ـ بعد أن قطعنا فى يومنا عشر

٣٤١

ساعات أو إحدى عشرة. وانطلق معظم التجار إلى المدينة من فورهم ، أما أنا ورفاقى فقد رأينا أن من الأصوب الانتظار إلى الغد.

٢٦ يونيو. بلغنا مشارف سواكن بعد ساعتين ، وضربنا مظالنا الصغيره على مسيرة عشرين دقيقة من المدينة.

سواكن ـ تقع سواكن على نهاية خليج ضيق يبلغ طوله اثنى عشر ميلا وعرضه ميلين. وفى نهاية الخليج عدد من الجزائر شيدت المدينة نفسها على واحدة منها ، ويفصلها عن ضاحية القيف القائمة على ساحل القارة لسان من البحر عرضه خمسمائة ياردة. وتقع الميناء على الجانب الشرقى من المدينة ، وقد كونها نتوء فى القارة. ولسان البحر الواقع فى الغرب لا تستطيع أن ترسو فيه سفن أيا كان حجمها. والجزائر وسائر الأرض المحيطة بالمدينة رملية لا ينبت فيها غير شجيرات قليلة أو قصيرة. والمدينة القائمة على الجزيرة مبنية على نظام جدة ، فالبيوت من طابق أو طابقين ، وهى مشيدة من قوالب من عرق اللؤلؤ (١) أنيقة المظهر ، ولكن أكثرها تقادم عليه العهد وأدركه البلى. أما ضاحية القيف فآخذة فى النمو ، وسكانها يتزايدون ، وهى اليوم أكبر من المدينة نفسها. وتقوم على الجنوب الشرقى من المدينة على مقربة من الميناء أسوار عتيقة هى آثار حصون قديمة ، وفى داخل هذه الأسوار يسكن الأغا ، وترسو السفن عادة تحت نوافذ منزله. وعلى أنقاض هذه الأسوار المتهدمة ترى مدفعين أو ثلاثة من الحديد الذى أكله الصدأ ، وهو دفاع لا يمكن أن يرد عن المدينة شرا أو يوفر لها أهون حماية. ومنزل الأغا صغير حقير ولكنه يشرف على منظر رائع فوق الخليج صوب البحر ، وعلى مقربة منه تقوم بعض المخازن ، ورصيف انتشرت عليه هياكل سفن صغيرة محطمة ، وذلك لأنك لا تجد عند أحد من الناس هنا الوسائل أو المهارة لإصلاح المراكب حين يصيبها العطب. وفى سواكن نحو ستمائة بيت ، ثلثاها متهدم لأن قوالب عرق اللؤلؤ التى بنيت بها سريعة البلى إذا لم يتعهدها القوم بالترميم المستمر. وليس بالمدينة من المبانى العامة سوى مساجد ثلاثة. وفى ضاحية القيف بعض بيوت من الحجر تلحظ فيها

__________________

(*) madrepore

٣٤٢

أسلوب العمارة السودانى لا العربى ، ولها حيشان كبيرة. وسائر البيوت بعد ذلك من الحصر كبيوت البدو النوبيين. وبالقيف مسجد واحد لا غير.

وعلى مسيرة نصف ساعة من القيف تقع الآبار التى تمد بالماء سواكن وضواحيها والسفن التى ترسو بمينائها وعدد هذه الآبار اثنتا عشرة تقريبا ، وبين البئر والبئر خمسون ياردة ، وعلى مقربة منها تنمو بضع أشجار من النبق. ومنها بئر واحدة مبطنة بالحجار ، أما سائر الآبار فليست إلا حفرا منقورة فى الأرض. وماء بعضها لا بأس بمذاقه ، ولكن ليس فى إحداها ماء عذب سائغ. وفى المدينة صهاريج أقيمت لحفظ ماء المطر ولكنها تهدمت وليس من راغب فى الإنفاق على ترميمها. والجزيرة مسكن لكل مشتغل بتجارة البحر وبالشحن على المراكب وبأشغال الحكومة ، أما الأهالى العرب والتجار السودانيون فيسكنون القيف وهى مقر السوق.

وأهل سواكن ـ كأهل ثغور البحر الأحمر جميعا ـ أخلاط من الناس. على أنك تلحظ فيهم عنصرا هاما متميزا عن سواه ، فأسلاف الأسر الكبيرة من عرب سواكن كانوا من أهل حضرموت ، وكان جلهم من مدينة شاهر ، وهى ثغر حضرموت الواقع على المحيط الهندى. وقد نزلوا سواكن ـ فى رواية ـ قبل قرن من الزمان تقريبا ، وفى رواية أنهم نزلوها عقب انتشار الإسلام هناك. ومن هنا ينسب الأجانب أهل المدينة إلى هؤلاء فيسمونهم الحضارمة (١) (الحداربة). أما أهل المدينة أنفسهم فيميزون أدق التمييز بين الحضاربة الخلص من سلالة أهل حضرموت وبين سواهم من النزلاء الذين يسمونهم سواكنية. ويدخل فى هؤلاء السواكنية عدد كبير من قبائل البدو الهدندوة والأمرأر والبشارية وغيرهم من أصل عربى وتركى. ويختلط هؤلاء البدو اختلاطا كبيرا بالحداربة ، ويحتفظون بأسمائهم البدوية حتى إذا سكنوا المدينة. وأكثر أسلال الترك منحدر من الحامية التركية التى أرسلها

__________________

(١) هذا هو نطق الكلمة بلهجة الحجازيين ، فهم يجمعون حضرميا على حضاربة لا على حضارمة. ويشتهر أهل حضرموت بحب الهجرة ، وتجد منهم أفواجا كثيرة من النزلاء فى مدن اليمن والحجاز ، وهم يؤلفون أكثر سكان جدة والطبقة الفقيرة من أهل مكة.

٣٤٣

السلطان سليم بعد فتحه مصر لتعسكر فى سواكن كما أرسل غيرها من الحاميات لاحتلال أسوان وإبريم وصاى. ويزعم كثير منهم أن أجدادهم من ديار بكر والموصل ، ولكن سلالتهم الحالية تتميز بالسحنة والطباع الإفريقية ، ولا يمكن أن تفرق بينهم وبين الحداربة فى شىء. كذلك تجد فى سواكن التجار والربابنة واللاجئين وغيرهم ممن انحدروا من مستعمرين أحدث عهدا من الأولين ، ولكنهم نسوا التركية من زمن مديد ، وتربطهم اليوم روابط المصلحة ووشائج الدم بأسلال الوافدين من حواضر العرب ـ وهم هنا كثيرون ، وزيهم زى حضر الحجاز وطباعهم وعاداتهم هى طباع أهل الحجاز وعاداتهم. وعلى ذلك تجد فى سواكن سلالتين متميزتين (١) البدو من حداربة وهدندوة الخ .. بما فيهم أحفاد الترك القدامى (٢) الحضر ، وهم إما عرب من الساحل المقابل أو ترك محدثون. ويتزاوج البدو فيما بينهم ، ولكن يصعب على الحضرى أن يتزوج بدوية لأن بنات الأسر الكبرى لا يزوجن إلا للبدو. ويسكن البدو ضاحية القيف. أما الحضر فيسكنون الجزيرة.

وزمام سواكن فى يد أمير الحداربة ، ويختار من كبريات أسر القبيلة وعددها خمسة ، ويميزونها عما عداها من الأسر بكلمة «أرتيقة» وهى كلمة بشارية تعنى الأشراف. وقضاء القيف موكول إلى الأمير ، ولكن سلطانه على البدو ضعيف وإن رأس محاكمهم. وهو تابع لباشا جدة اسميا ، غير أن سلوكه رهن بقوة متبوعه أو ضعفة. فحين كان أمر جدة إلى الشريف غالب ـ وكان الوهابيون آنئذ يشددون عليه النكير ويحدقون به من كل جانب ـ كان الأمير مستقلا عنه تمام الاستقلال ، أما بعد أن فتح محمد على والى مصر الحجاز فقد فاوض الباشا وأبرم معه اتفاقا. ويثبته حاكم جدة ـ أيا كان ـ فى مركزه سنويا ويخول له السلطة فى أن يجبى من القيف المكوس التى يفرضها الحدرابة على القوافل القادمة من الداخل. ولقد مضت عليه أعوام لم يدفع فيها للشريف شيئا نظير هذا الامتياز ، أما اليوم فإن خوفه من محمد على باشا قد حمله على شراء حق الجباية سنويا بنحو أربعين أوقية من الذهب أو ما يعادل ٨٠٠ ريال إسبانى.

٣٤٤

وليس للأمير من مظاهر الملوكية غير خفّيه التركيين الأصفرين اللذين لا بد له من انتعالهما جريا على التقاليد القديمة ، وغير طاقيته العربية الصغيرة. والتنافر ظاهر بين الخفين والطاقية وبين سائر لباسه البدوى. ولما كان لبس الطاقية لا يليق على شعر البدو الكث فقد اضطر الرجل أيضا إلى حلق رأسه. ويستخدم الأمير فى داره رجلين أو ثلاثة نستطيع أن نسميهم موظفين أو عيونا يتجسسون له ما تحمل كل قافلة من عبيد وبضاعة على وجه الدقة. ويسكن الأمير القيف ، وهو غير شيخ الحداربة ، فهذا لا علاقة له بالحكومة التركية ، إنما ينتخبه القوم لتصريف شئونهم الداخلية فحسب.

ويمثل الحكومة التركية فى سواكن جاب حكومى يسكن الجزيرة ويحمل لقب أغا. وهو يحكم المدينة ، ولكن يحد من سلطانه أشد الحد ما للحداربة من شوكة ونفوذ. وسلطانه اليوم لا يعتد به ، ولا بد أنه كان مثارا للازدراء الشديد قبل فتح محمد على لبلاد العرب. وباشا جدة وال على سواكن أيضا ، وله بهذه المثابة الحق فى أن يرسل إليها ممثلا له ، وهو حق لم ينازع فيه السواكنية قط ولو أنهم ما زالوا يروون لك ما جرت عليه السنة القديمة فى سواكن قبل أن تضم إلى جدة ، فقد كان لها واليها الخاص المبعوث من القسطنطينية. وليس للأغا من سبيل إلى الاحتفاظ بالبقية الباقية من سلطانه إلا بمسالمة الأمير والتفاهم معه ، فهو يسمح له ، أو قل يساعده ، فى أن يبتز بعض المال من المستضعفين بالقيف لقاء معاونة الأمير له على جباية المكوس بالجزيرة. وقد التزم الأغا فى السنوات الأخيرة بجباية المكوس التى تحصل على تجارة البحر فى سواكن ، وهو يدفع لخزانة الدولة فى جدة كل عام ٣٢٠٠ ريال مقابل هذا الامتياز ، وأكبر الظن أن هذا يغلّ له ألفى ريال أو ثلاثة آلاف كل عام ، وقد يتضاعف هذا المبلغ لو جبيت المكوس بدقة ، ولكن الحدارية ، وهم أقدر الناس على أدائها ، قوم ضنينون بمالهم أشد الضن. وتجبى الضرائب على الواردات كلها ولا سيما سلع الهند وتوابلها التى ترسل إلى أسواق السودان ، وكذلك على السلع الواردة من السودان ـ وأهمها العبيد والخيل والتبغ ـ والتى تشحن فى جدة

٣٤٥

للأقطار الأخرى. ويؤدون عن كل عبد ريالين وعن كل جواد ثلاثة. ويعفى من المكوس الذرة وغيرها من السلع التى تبقى فى سواكن.

ويجدد تعيين الأغا كل عام أو يعين غيره. والأغا الحالى رجل من أهل جدة يدعى يمك كان أبوه حاجا موصليا استوطن الحجاز ، وكان يمك ، على عهد الشريف ، مهرج القصر وسمسارا بسوق جدة ، فلما وصل محمد على استطاع الرجل أن يتودد إلى العثمانيين بما يعرف من تركية قليلة ، وبعد أن استخدموه وسيطا بينهم وبين الشريف وعينا عليه قلدوه وظيفته الحالية. وحدّث عن لؤم الرجل ولا حرج ، وقد زاده اصطناع العادات والتقاليد التركية فى بلد كسواكن هزءا على هزء ، فتراه يخلع على أتباعه الصعاليك الألقاب التى يخلعها الباشا على كبار موظفيه ، فهذا خازنداره (أى أمين بيت ماله) وذاك سلحداره (أى حامل سلاحه) وثالث قهوجى باشا (أى حامل كأسه) ورابع باشكاتبه (أى كبير كتابه) وهلم جرا. ثم هو بحيط نفسه بالغلمان كأنهم صغار المماليك ، ويتكلم فى زهو وخيلاء وأبهة كأنه وال جليل القدر عظيم الخطر ، ويخلط عربيته السوقية ببعض العبارات التركية. ويحتفظ الأغا بخمسة جنود أو ستة من مرتزقة اليمن الذين تجدهم عند شريف مكة وغيره من أمراء العرب ، ويدفع لهم رواتبهم من ماله الخاص ، وليس لسواكن حامية سواهم ، ومن هنا يسهل غلى القارئ أن يدرك عدم احتفال القوم هنا بسلطان الترك. ولا يجرؤ هؤلاء الجند على الخروج من الجزيرة مخافة أن يشتموا ويهانوا ، أما الأغا فلا يطأ القيف لأسباب واضحة ، ذلك أنه إذا وقعت معارك تدخل الحدارية واضطر الأغا إلى كف يده. ولا يؤدى البدو من المكوس إلا نصف ما يؤديه غيرهم من التجار ، وطالما سمعتهم يقولون للأغا صراحة إنهم لن يدفعوا له أكثر مما دفعوا. وكثيرا ما يكون حظ الجند الذين يأمرهم الأغا بالبقاء فى المراكب الراسية تحت نوافذه لمراقبة المهربين «علقة طيبة» ، بل إن الأغا نفسه قد يسب فى عقر داره ، ولكنه يحتمل هذا كله راضيا ، ويقول للقوم إنه لو لا حبه لهم لكتب أشد الشكاوى وأعنفها إلى الباشا فجلب غضبه على رءوسهم. ومن عجب أن يهينه البدوى منهم فما إن يولى قفاه حتى يأخذ صاحبنا فى سبّه

٣٤٦

بالتركية ثم يفرغ جام غضبه على خدمه وأتباعه. وأذكر أن شجارا احتدم يوما بينه وبين بدوى فقال له الرجل وهو يتميز غيظا «أنت كذاب». وما إن بارح البدوى الغرفة حتى قال لى الأغا «أنت ترانى صابرا على هؤلاء القوم ، ولكنهم سيعلمون فى النهاية كيف تغضب حكومة الترك ؛ فإن انتقام الترك مريع إذا أثيرت ثائرتهم. ولقد كنت ، وما زلت ، أردعنهم غضب الترك ونقمتهم ، فإن حملة واحدة يرسلها الباشا كفيلة بأن نهدم المدينة كلها وتودى بحياة الكثيرين من الأبرياء». والواقع أنه لو لا توجس القوم فمن حملة كهذه تنقض عليهم من جدة بسهولة فتهدم بلديهم لما ترددوا فى خلع نير الحكومة والجهر باستقلالهم ، ولكن أحقر مركب حربى يستطيع أن يكره المدينة على التسليم. وقبل عشرين سنة أو ثلاثين أرسل أحد ولاة جدة فرقة قوامها مائتان من الجند نهبوا القيف ثم حاصرهم البدو فى بيت الحاكم وما جاوره من المبانى ولكنهم استطاعوا فى النهاية أن يفلتوا بما غنموا. وبعد أن فتح الوهابيون مكة أوفدوا مبعوثين إلى سواكن لإقناع القوم باعتناق الوهابية ولكن لم يؤذن لهم بالمضى فى رحلتهم إلى القيف واضطروا إلى ركوب البحر عائدين بعد حين. وقد سمح الوهابيون ـ حين كان زمام الأمور بيدهم ـ لأهل سواكن بالاتجار مع جدة ، ولكن سعودا زعيمهم رأى بمكة بعضهم وقد بيضوا بالدهن شعورهم الكثيفة فألزمهم تغطية رءوسهم بالمناديل على نحو ما يفعل البدو الأعراب.

ويشارك الحداربة وبدو سواكن البدو النوبيين سحنهم ولغتهم وزيهم ، ولباسهم من الدمور المجلوب من سنار ، ولكن سراتهم ـ رجالا ونساء ـ يلبسون القمصان النوبية المصنوعة من البفتة الهندية. على أنهم لا يرتدون إلا ثوبا واحدا ، وقل أن تجد لهذا نظيرا فى سائر أنحاء النوبة. ويتألف من قطعة طويلة من البفتة يلف أحد طرفيها حول الخاصرة ويلقى الطرف الآخر على الصدر والكتف اليسرى ويتدلى على الظهر تاركا الساقين وأكثر الجذع عاريا ، ذلك هو الثوب الفضفاض الذى يفضله الحداربة ، فإذا أضفت إليه خفين جميلين ، وثلاث تمائم كبار أو أربع كتلك التى يلبسها القوم فى وادى النيل متدلية على المرفق الأيسر ، وسيفا

٣٤٧

وكرباجا فى يد الرجل ، وشعرا كثا بيضه بالدهن ، وسيخا خشبيا طويلا دسه فيه ليحك به رأسه ـ فقد اجتمعت لك صورة لا بأس بها لبدوى سواكن. ولهؤلاء البدو سحن معبرة ولحى خفيفة قصيرة ، وفى بشرتهم سمرة شديدة توشك أن تكون سوادا ، ولكنهم براء من السحنة الزنجية ، ثم إنهم يمتازون بالجسم القوى والعضل المفتول.

وليس للسواكنية مهنة غير التجارة سواء بالبحر أو مع السودان. وهم يصدرون السلع التى تأتيهم من القارة الإفريقية إلى شتى ثغور الحجاز واليمن حتى مخا ، ولكن أهم هذه الثغور جدة والحديدة. ولهم فى جدة حى خاص بهم ، ومساكنهم فيه أكواخ من الغاب كمساكنهم فى القيف. ومن البدو الحداربة من يمضى فى الرحلة إلى ساحل بلاد العرب بعد أن يؤم سوق سنار ، ومنهم من يبيع سلعه الإفريقية للتجار فى سواكن فيتولى هؤلاء تصديرها إلى بلاد العرب. ولا تقلع سفينة فى سواكن إلى جهة من ساحل بلاد العرب دون أن توسق ذرة من التاكة فوق ما وسقت من سلع شندى وسنار (وهى العبيد والذهب والتبغ واللبان وريش العنام) ، وتزود السفن معظم الحجاز بقرب الماء والجربان الجلدية والجلد المدبوغ. ويشترى القوم القرب فى حواضر الحجاز الكبرى ـ وهى خمس ـ وفى ريفه أيضا. أما الجربان فلا يشتريها غير البدو ، وفيها يحملون زادهم. ويغل الاتجار فى هذه السلع أرباحا طائلة ، فالماشية نادرة فى الحجاز لقلة المرعى ، وحجاج مكة يحتاجون إلى عدد كبير من القرب ، لذلك كان ثمن القربة المصنوعة من الجلد بجدة يعادل ثمن الشاة بسواكن. كذلك تصدر القرب إلى اليمن ولكن بكميات أقل ، وقد رأيتها معروضة بسوق السويس ، وهى تفضل سائر أنواع القرب لجودة الدباغة ومتانة الحياكة. وتدبغ الجلود كما تدبغ فى الصعيد ووادى النيل ، أعنى بالقرض ، وهو ثمر السنط الذى اشرت إليه غير مرة. ويبيع البدو المجاورون لسواكن الجلود فى سوقها لقاء الذرة. وفى بلاد العرب يصنعون النعال من الجلد المدبوغ وجلود الأبقار الخامة المصدرة إلى جدة ، ولكن أفضل ما يرد للحجاز من الجلود مجلوب من مصوع. كذلك تصدر سواكن السمن (١) إلى جدة. وفى موسم

__________________

(*) وهو سائل لا جامد ، ولا يستعمل فى السوان من الزبد سواه. ويصنعون الزبد كما يصنعونه فى مصر وبلاد العرب بخض اللبن فى القرب حتى ينفصل الزبد على حدة.

٣٤٨

الحج تعتمد مكة وجدة على سواكن ومصوع قبل غيرهما فى زادهما من السمن ، وتستهلكان منه المقادير العظيمة ، فجميع الطبقات تأكله ، وإن أشدهم فقرا لينفق نصف دخله اليومى ليحصل على قدر كبير من السمن يطبخ به غداءه ويشرب منه فى فطوره ربع رطل على الأقل. وحين كنت مقيما بجدة ارتفع ثمن السمن فوق ثمنه العادى بمقدار النصف لأن سفينتين محملتين من مصوع باعتا حمولتهما منه فى اليمن بدل أن تمضيا فى الرحلة إلى جدة. كذلك تحمل السفن الحصر المصنوعة من سعف الدوم ، ويأخذ كل مركب منها مقدارا ، وتستعمل فى جميع أنحاء الحجاز واليمن حيث الدوم نادر ، وحيث لا ينزل إلى كسب الرزق بالعمل اليدوى إلا القليلون. وتفرش أرض المساجد فى مكة والمدينة بهذه الحصر ، وتجدد كل عام تقريبا بفضل هبات الحجاج ، وقل من الحجاج من يبرح مكة بغير حصيرة سواكنية صغيرة مصنوعة صنعا دقيقا على هيئة سجادة يؤدى عليها فريضة الصلاة. ويصنع هذه الحصر البدو فى الجبال المجاورة لسواكن. ويصدر إلى جدة نوع صغير من المحار منتشر على السواحل الإفريقية ، ويأكله الأطفال وفقراء الناس على الأخص ، ويسمونه «السر مباق» ، ويزعمون أنه دواء للدوسنتاريا لما له من خواص قابضة. كذلك تصدر الذرة والقرب والحصر للحديدة ببلاد اليمن ، وهى أكبر سوق للجياد التى يجلبها تجار سواكن من وادى النيل. وقد قلت إن شريف اليمن شغوف بشراء الفحول الإفريقية يزود بها فرسانه. والجواد الذى يساوى فى شندى خمسة وعشرين ريالا يباع فى الحديدة بمائة أو مائة وخمسين ، ولكنها تجارة محفوفة بالخطر ، وكثيرا ما تنفق الجياد فى رحلة البحر لافتقارها إلى العناية الصحيحة التى لا تجدها على ظهر مركب ريفى صغير. وتنقل الهجن البشارية ـ وهى أنجب الهجن قاطبة ـ على المراكب الكبيرة إلى جدة ، فإذا وصلتها سالمة بيع الهجين منها بستين ريالا إلى ثمانين ، وهو ثمانية أضعاف ثمنها بسواكن. على أن نصف الهجن المشحونة على الأقل ينفق فى الطريق ، ويكلف نقل الهجين منها عشرة ريالات.

ويشترى تجار سواكن من جدة كل ما تحتاجه الأسواق الإفريقية من

٣٤٩

بضائع هندية ، وكذلك الكماليات التى تروج سوقها فى سواكن ، كثياب النساء وحليهن ، والأوانى المنزلية ، وشتى ألوان الطعام كالسكر الهندى والبن والبصل والبلح على الأخص ـ وهو ليس من حاصلات شرق النوبة. كذلك يجلب من جدة الكميات الكبيرة من الحديد لصنع الحراب والمدى ، ويصنعها الحدادون العاديون ـ ولم أجد غيرهم من مهرة الصناع بسواكن ، اللهم إلا البنائين والنجارين ـ ويزودون بها جميع البدو المحيطين بسواكن على رحلة خمسة عشر يوما.

ولا يدخل مرفأ سواكن من السفن الأجنبية كما علمت إلا القليل ، اللهم إلا إذا أكرهتها رداءة الجو على الالتجاء إليها. وتقوم بتجارة البحر مراكب يملكها قوم من سواكن وجدة لا صناعة لهم إلا الملاحة بين الساحلين. ولا يمضى أسبوع لا يصل فيه مركب من جدة أو يقلع إليها مركب. وفى أثناء مقامى أبحرت إلى الحديدة سفينة واحدة وإلى مخا أخرى وإلى جدة تسع سفن. أما السفينة القاصدة مخا فقد شحنت بشطر كبير من العبيد القادمين معنا فى قافلة شندى ، فمعظم بلاد اليمن يقيم فيها سواكنية وهم يعملون وكلاء لمواطنيهم ، ووصلت من جدة سفينة ومن اللحية قارب صغير ، وإلى ذلك كان بالميناء أربع سفن أو خمس وجهتها ساحل بلاذ العرب. وكثيرا ما يكون ملاحو هذه السفن من البدو ، وهم يحذقون استعمال حبالها حذقهم حزم أحمال أبلهم ، ولكن أكثر الملاحين صوماليون من الساحل الإفريقى الواقع بين الحبشة ورأس غردفوى ، وهم أنشط الملاحين فى البحر الأحمر. وربان السفينة فى العادة من أهل جدة أو اليمن والسواكنية من أنشط صيادى الأسماك ، ولهم نحو اثنى عشر قارب صغير تشتغل بالصيد فى البحر. ولا تخلو سوق سواكن من السمك فى أى وقت ، ولكن لا يقربه من البدو إلا الأقلّون. وقد يجد الصيادون اللؤلؤ فى المياه القريبة من سواكن. ويمكن أن تعد سواكن ـ على العموم ـ سوقا من أهم أسواق العبيد فى شرق إفريقية ، فهى تستورد كل عام من شندى وسنار عددا من العبيد يختلف من ألفين إلى ثلاثة آلاف ، ولا يضارعها فى هذا غير إسنا وأسيوط من مدن مصر ، ومصوع من مدن الحبش (ويمر بها كل عام نحو ثلاثة آلاف عبد

٣٥٠

وخمسمائة مجلوبين من الداخل كما قيل لى فى جدة بعد ذلك). ومن هذه النقط الأربعة ، ومن ثغور الحبشة الجنوبية ، ومن ساحل الصومال وموزمبيق ، يصل مصر وبلاد العرب مدد سنوى من العبيد يقدر بخمسة عشر ألفا أو عشرين جلبوا من قلب إفريقية.

وتنصب سوق سواكن بالقيف فى ساحة مكشوفة تحيط بها أكواخ تعرض فيها نفس السلع التى تعرض فى سوق شندى تقريبا ، وفيها يقايض البدو على الجلود ويأخذون حاجتهم من الذرة والدمور. ويجبى الحداربة والهدندوة الذين يحتكرون التجارة مع التاكة الأرباح الطائلة من بيع الذرة للبدو الشماليين. ورأيت فى سوق القيف كيزان الذره معروضة للبيع ، ولم أكن رأيتها منذ أربعة شهور ، ولا غذاء لفقراء سواكن سوى هذه الكيزان يأكلونها بالسمن. ويتعامل القوم فى جميع الصفقات الصغيرة بالذرة ، ويكيلونها بالحفنة أو بالمدّ المعاير المستعمل فى شندى. أما فى الصفقات الكبيرة فالعملة المتداولة هى الريال دون غيره ، فهم لا يعترفون بالقرش ولا بالبارة ولا بعملة الذهب التركية. على أن عندهم ضربا من البارات القديمة يقطعونه أرباعا ويشترون به السلع الرخيصة. ويؤدون الثمن فى أغلى الصفقات بالأوقية من الذهب ، وقيمتها بالريال محددة.

وخلق السواكنية هو خلق القوم فى داخل البلاد على ما وصفت من قبل ، وعندى ما يحملنى على الاعتقاد بأنه هو الخلق السائد فى شرق إفريقية كله ، بما فيه الحبشة ، فليس بين طباع أهلها ـ كما وصفها بروس ـ وطباع النوبيين فرق يذكر. ويؤسفنى أن أضطر إلى رسم هذه الصورة القاتمة لجميع الشعوب الإفريقية التى رأيتها إلى الآن. ولو كانت خبرتى بهم خبرة سطحية لأحجمت عن الحكم عليهم هذا الحكم القاطع ، ولكنى جبت بلادهم فى زى أتاح لى معرفتهم معرفة وثيقة (١) ، لذلك أرانى مضطرا إلى مصارحة القارئ برأيى فيهم ، فهم قد تفشت بينهم ـ بدرجات متفاونه ـ رذائل خراب الذمة والجشع وإدمان الخمر وما إليه.

__________________

(*) إن سوء معاملته ـ وهو سر تحامله عليهم ـ يرجع إلى ارتيابهم فى أمره : أهو جاسوس؟ وإن صح ذلك فلمن ، ألمحمد على؟ أللماليك؟ أللأوروبيين؟ الخ هذا هو السر كله. (غربال)

٣٥١

والسواكنية يشاركون جيرانهم بدو الصحراء هذه الرذائل ويفوقونهم غلظة وقسوة. وإذا كان التجار السواكنية فى القافلة قد أمسكوا عن الإساءة إلىّ فلا يتخذن القارىء هذا دليلا على رقة فيهم أو حنان ، فإن خوفهم من الترك ـ وهو خوف أشاعة فى قلوبهم فتح محمد على للحجاز ـ وخوفهم من أن يناقشوا أعسر الحساب لو عرف فى سواكن وجدة أنهم أساءوا معاملة «عثمانلى (١)» مثلى ـ هذا الخوف كان على الأرجح وازعا قويا يكف عنى أذاهم ، وإن لم يبلغ من القوة مبلغا يحملهم على إبداء أقل عطف نحوى خلال الرحلة. ولست أذكر أنهم تنازلوا ولو مرة فعاونونى على وسق جملى أو ملء قربتى ، أو فسروا لى مرة ما يعجم علىّ من كلام القوم ، أو أدوا لى خدمة من هذه الخدمات الصغيرة التى يؤديها المسافرون بعضهم لبعض. بل إنهم ـ على نقيض ذلك ـ أكرهونى غير مرة على أن أقاسمهم زادى ومائى ، وكثيرا ما أرسلوا إلىّ فى العشاء عبيدهم يسألوننى بعض عشائى لسادتهم أو يستأذوننى فى أن يشارك أحد عبيدهم عبدى طعامه بحجة أنه لم يجد وقتا يطهو فيه عشاءه. وقد كانت مخالطة السواكنية للبدو النوبيين ، وعدم استقرار حكومتهم ، أهم الأسباب فيما أصاب أخلاقهم العربية القديمة من انحلال وتدهور. وأنت تجد لهم ـ أنى تنقلت بين سواحل البحر الأحمر ـ طابعا واحدا يتميزون به هو الجشع والعقوق ، أو كما قال عنهم عربى من أهل ينبع «حتى إذا سقيتهم من ماء زمزم فيخلوك تموت من الظمأ ولو كان بيرهم مليان». ويشهد على هذا الطبع كل من أتيح له الاطلاع على دخائل بيوتهم. وفى سواكن لا يحترم الناس غير قانون الغابة وحده ، ومن العبث أن تحاول أداء مصلحة لك فى المدينة ما لم تشتر حماية حدربى ذى بأس. وتنشب المعارك الدامية بين السكان كل يوم ، وترى على جسومهم ـ ولا سيما على ظهورهم ـ ندوب الجراح التى يصابون بها فى هذه المعارك. وليس القتل عندهم نقيصة تغض من قدر الرجل ، بل إنه ليفاخر بعدد صرعاه فى هذه المشاجرات وبما أدى من دية عنهم. وقبل ثلاث سنوات أو أربع روع أهل المدينة كلها عبد لأحد كبار الحداربة. وكان العبد

__________________

(*) اتخذت لنفسى لقب «عثمانلى» حين بارحت شندى بعد أن سمعت فيها أن للباشا عاملا بسواكن وآخر بمصوع.

٣٥٢

نسيج وحده قوة وبأسا وجرأة واقتحاما ، وبعد أن ارتكب أبشع الجرائم وقتل نيفا وعشرين شخصا ترك سيده ، وكان ما يزال يبسط عليه حمايته بدافع الخوف منه. ثم لقى العبد حتفه آخر الأمر على يد فتى حاول العبد أن يغتصب أمه. وكنت ذات يوم جالسا مع الأغا فإذا ملاح مسكين يدخل علينا وجنبه يقطر دما من طعنة سيف وهو يستغيث به من حدربى أراد الفتك به ، فأوصاه الأغا أن يفض خصومته مع الرجل بالحسنى ، ثم نفحه بكيلتين من الذرة ليطيّب خاطره. وأهل سواكن ـ كأهل التاكة ـ لا يعرفون لقرى الضيف معنى ، وتنتشر هناك المواخير انتشارها فى أى ناحية من نواحى النوبة ، ولكنى لا أعتقد أن امرأة من الحداربة تجرؤ على احتراف الدعارة جهرا. ولا يملك محال للعطارة بالسوق سوى عاهرات من عتائق الحبشيات .. ونساء القيف سافرات ، أما نساء الجزيرة فيتحجبن ويلبسن لبس النساء فى شبه جزيرة العرب.

وبالجزيرة مقهى واحد يقضى فيه أهل المدينة والحداربة أهم مصالحهم ويؤدون ثمن القهوة ذرة. ووسيلة الانتقال بين القيف والجزيرة الطوف أو الرمث ، ويعطون الرجل الذى يديره حفنة من الذرة ، ولكن السواكنية ضنينون حتى بهذا الأجر الضئيل ؛ فترى الرجل منهم يخلع ثوبه ويعقده مع خفيه وسيفه فوق رأسه ثم يعبر القنال سانحا كما يعبر المصريون النيل. ولم أر سباحين أحذق منهم ولا أبرع ، وهم أمهر ما يكونون فى الاحتفاظ بالجسم حتى قمة الكتف منتصبا فى الماء بينما يسبح الرجل باطرافه السفلى كأنما يمشى على أرض ثابتة ، ولا تكاد سرعته فى السباحة تقل عن سرعة السائر على الأرض (١).

والبشارية هى لغة الكلام الغالبة فى سواكن ، أما العربية فيتكلمونها بلهجة سقيمة مع أن أهل القيف جميعا يفهمونها ، ولكن أهل المدينة يتكلمونها بوصفها لغتهم القومية ، وينطقونها بلهجة أهل جدة. وقد رأيت بين جيرانهم الهدندوة الذين يجلبون لسوق القيف السمن والغنم كثيرين يجهلون العربية جهلا مطبقا.

__________________

(*) يسمى هذا الضرب من السباحة فى بحيرات سويسرة «دوس الماء»

Das Wasser Stampfen

٣٥٣

ولأهل الجزيرة قاض ومفت ومدرسة أميرية ، وفقيه أو فقيهان ينتميان إلى طبقة العلماء ، وقد تقلد زعيمهم وعين أعيانهم وظيفة الأغا إبان حكم الشريف ، أما اليوم فهو يتزعم حركة المعارضة للأغا الحالى الذى نصبه محمد على ، والذى استحق نقد خصمه على تصرفاته الرسمية. وقبل أن أبرح سواكن أرسل إلىّ القاضى فوافيته سرا فى بيته ، وسلمنى رسالة رجانى أن أحملها إلى الحجاز ، وأسلمها لمحمد على شخصيا. وتتضمن الرسالة شكاوى من يمك والحداربة ، فقد نعتهم الكاتب بالعصيان والتمرد ، وآية ذلك أنهم أبوا التعامل فى بلدهم بعملة محمد على وبالقروش المصرية ، ونكلوا عن فريضة الجمعة حين أضيف الدعاء فى الخطبة للسلطان والباشا. أما يمك فقد رماه الكاتب بأنه معرة للاتراك ، وزعم أنه يرتعد فرقا من البدو ، وأنه لوث مركزه بالانغماس فى شهواته المنحرفة (١). وكان إنشاء الرسالة خليطا عجيبا ما أنزل الله به من سلطان ، فقد خلعت على الباشا أسخف الألقاب وأبعثها على السخرية ، فأطلقت عليه فيما أطلقت «أسد البر وفيل البحر». وقد وقعها وختمها اثنا عشر متظلما ، وبالرغم من أننى لم أسلمها بنفسى فى الحجاز ، فقد استوثقت من أنها سلمت للباشا كما طلب إلىّ.

ولا يستعمل السواكنية من الأسلحة إلا أقلها ، وندر من أهل القيف من يجرؤ على إطلاق النار. وسلاحهم سلاح النوبيين ، أى السيف والرمح والدرقة والمدية. وفى المدينة نحو اثنى عشر جوادا. فإذا نشبت الحرب امتطى أشجع شجعانهم الهجن وباغتوا العدو. ويكاد كل بيت فى القيف يملك هجينا. وبدو القيف ليسوا أكثر من بدو الصحراء احتفالا بدينهم ، ولو تحريت مدى علمهم به لما وجدت بينهم من يعرف كيف يصلى الفريضة إلا الأقلّين ، بل إنهم ـ فيما روى لى ـ قل أن يصوموا رمضان. أما فى المدينة فالقوم يدققون فى القيام بالفرائض تدقيق كل الشعوب المشتغلة بالملاحة.

__________________

(*) قد تكون هذه هى الرذيلة الوحيدة التى لم تتغلغل بعد فى قلب إفريقية ، فقد سمعت الإفريقيين من جميع الطبقات يستهجنون أشد الاستهجان ما يرويه الحجاج العائدون إلى أوطانهم عن انحرافات الترك والأعراب.

٣٥٤

ويبلغ عدد سكان سواكن ـ حسب تقديرى ـ ثمانية آلاف نسمة ، يعيش ثلاثة آلاف منهم فى الجزيرة ، ويسكن الباقون القيف.

ويملك بدو سواكن الماشية الكثيرة جدا ، وهم لا يبقونها فيما جاور المدينة إلا فى أعقاب الفصل المطير مباشرة حين ينبت الكلأ فى السهول المحيطة ، أما فيما عدا ذلك من الشهور فإن رعاتها يطلقونها لتسرح فى مضارب الهدندوة بجبل دئيب أو جبل لنقاى. وبين المدينة وهؤلاء البدو المجاورين مواصلات يومية لا تنقطع.

وعلى مسيرة ثلاث ساعات من سواكن واد بجبل دئيب يرويه نهر ويملؤه النخيل ، وكله من ذكور النخيل التى لا تثمر. وينزل الوادى اليوم بعض الهدندوة. ويروى السواكنية أنه حين كان لمدينتهم وال خاص بها ، كان بهذا الوادى مدينة يختلف إليها السواكنية كثيرا وينفق فيها الباشا نفسه شطرا من الصيف ينعم فيه بهدوئها وجوها اللطيف.

وحين تهطل الأمطار يزرع بعض الهدندوة من سكان القيف سهلا خصبا يسمى طوكر على نحو يومين جنوبى المدينة غير بعيد من البحر. والوادى فسيح خصب تكتنفه الجبال وترويه السيول ، ولكن نسبة غلته إلى استهلاك المدينة نسبة ضئيلة جدا.

وعلى نحو خمس ساعات شمالى سواكن تقترب سلسلة دئيب المذكورة اقترابا شديدا من البحر ، والنتوء الحاصل هو الحد الشمالى لأملاك بدو الهدندوة ، وفيما وراءه تبدأ قبيلة الأمرار ، وهى قبيلة مستقلة لا صلة لها بالقبائل السابقة بهذا الاسم ، والتى تجد مضاربها على الساحل كله حتى بلوغك جزيرة جبل مكور. وهؤلاء الأمراء على صفاء مع الهدندوة ، ولكنهم خصوم للبشاريين مع أن القبيلتين منحدرتان من جد واحد فيما يقال.

واستفسرت عن الطريق الساحلى إلى مصوع ، وهل هو مطروق أو مهجور ، فقيل لى إن أحدا لا يحاول سلوكه ، وإن المواصلات الوحيدة مع الجنوب هى

٣٥٥

بطريق التاكة. ومن سواكن إلى أسوان رحلة عشرين يوما إلى أربعة وعشرين فيما يقال ، ولكن الدرب غير مطروق. وحدث فى العام الماضى حين كان اللص نعيم يقطع الطريق على المسافرين بين شندى والصعيد أن جماعة من مغامرى التجار السواكنية نظموا رحلة إلى مصر تسلك بلاد البشاريين مؤملين جنى ربح وفير مما يحملون من إبل وعبيد وسلع هندية شتى. وعلى الرغم مما بينهم وبين البشاريين من عداوة وحرب فقد استأجروا دليلين بشاريين ليضمنا سلامتهم وليرشداهم إلى المسالك والدروب ، واتفقوا على مقدار ضرائب المرور التى يؤدونها لشيوخ البشاريين. ويسافر التجار فى بلاد العرب بهذه الطريقة آمنين على أنفسهم فى أرض الأعداء ، فهم لا يجرءون على مسهم بسوء ما داموا فى صحبة نفر من قبيلتهم. بيد أن الإفريقيين أقل تحرجا من أهل جزيرة العرب ، فما إن نصفت قافلة السواكنية الطريق حتى أبيدت على بكرة أبيها فلم ينج منها فرد. لذلك ليس من المحتمل أن يسلك أحد هذا الدرب بعد هذا الذى وقع. وليس هناك اليوم اى اتصال بين الحداربة وبين القبائل البشارية التى تسكن الصحراء إلى الشرق من الأمرأر والهدندوة ، وإلى الشمال من الأمرأر حتى بلوغك أملاك العبابدة والأمرأر والهدندوة ـ على خصومتهم للبشاريين ـ لا يكرهونهم هذا الكره الدفين الذى يكنونه للحداربة ، وليس بين الفريقين من الصلات التجارية إلا أقلها. ويشترى الأمرأر من سواكن الذرة والدمور والتبغ ، ويقايضون بها على ماشية البشاريين وجلودهم. ولعل أهم بلدة من بلاد البشاريين علبة ، وهى جبل عال ملاصق للبحر دو مرفأ صغير ، وهو على مسيرة عشرة أيام أو اثنى عشر من سواكن ، ونحو خمسة عشر من دراو بصعيد مصر. ويخيم شيوخهم فى وديان هذا الجبل الغنى بالكلأ فيما يقال ، وتسكنه القبائل الشديدة البأس ، ويعرفه أهل الصعيد جيّد المعرفة ، وكثيرا ما يختلف إليه بدو العبابدة يحملون الذرة والمنسوجات القطنية المصنوعة بمصر. كذلك يختلف إليه شيوخ العبابدة ليجمعوا إتاوة يؤديها أهل الجبل نظير الإذن لهم بإطلاق ماشيتهم فى الفصل المطير

٣٥٦

لترعى فى ذلك القسم من جبال شمال النوبة الذى يزعم العبابدة أنه ملكهم ، ولكن تكرار نشوب الحروب بين الفريقين يجعل أداء هذه الأتاوة غير منتظم.

وقيل لى غير مرة فى الصعيد وفى سواكن إن فى الصخور القريبة من الساحل المجاور لجبل علية مساكن منقورة فى الصخر يبدو أنها من صنع «الكفار». وعلبة بشهادة كثير من الملاحين هو المرفأ الوحيد الذى تستطيع أن تعتبره صالحا لرسو السفن على الساحل الإفريقى بين القصير وسواكن. وللبشاريين فيه سوق منتظمة تتزود بالسلع من صعيد مصر وبربر ، ومن سواكن بطريق غير مباشر. وقد تقصد هذه السوق القوارب الصغيرة من بلاد العرب طلبا للجلود والسمن وإن يكن هذا نادر الحدوث ، ولكن أصحاب السفن يخشون خيانة البشاريين ، لذلك تراهم يزهدون فى هذه المغامرة التى تعرضهم لغدرهم فضلا عن الأخطار التى تكتنف الرحلة ، وذلك على الرغم مما قد يجنونه من ورائها من ربح طائل. ويقال إن الإبل موفورة جدا هناك ، وإن غذاء البشاريين يكاد يقتصر على لبنها ولحمها. وهم لا يزرعون وديانهم وإن لم تخل من الأنهار الصغيرة. لذلك يشتد عندهم غلاء الذرة لأنها تجلب لهم من بعيد ، فما يساوى منها فى صعيد مصر ريالين يشترى فى علبة بعيرا طيبا. وقد يكون من الممتع أن يزور المرء هذا الثغر الذى أحسبه قد غاب عن جميع السياح والملاحين المحدثين ، ولعل ارتياده يجلو نقط الخلاف على جغرافية هذا الساحل (١)

ولما بلغنا مشارف القيف صباح ٢٦ يونيو توقعت أن ندخل المدينة لساعتنا ، ولكن القوم لم يجروا على هذا. وانطلق التجار السواكينة إلى بيوتهم فى حين نزل التجار الأغراب عن دوابهم على مسيرة عشرين دقيقة من المدينة بقرب الآبار التى تمدها بالمياه ، وهناك وجدنا عددا كبيرا من الحجاج الزنوج ينتظرون منذ أسابيع سفينة تقلهم إلى جدة ، ولما كان علبنا أن ننتظر بهذا الموضع حتى بت أمير سواكن فى أمرنا ـ وهو يفرض المكوس على جميع القوافل ـ فقد أقام

__________________

(*) راجع يومية ١٤ يولية.

٣٥٧

كل منا لنفسه خيمة من عيدان ربطنا عليها الحصر. وفى العصر زارنا أخو الأمير ، وفى الغد أقبل الأمير نفسه ، فتقاضانا نصف ريال عن كل عبد ، وهى الإتاوة المقررة. ولما كان التجار السود يحملون بضاعة لا رسوم محددة عليها ، ولما كان هناك شك فى أنهم يحملون فى حقائبهم ذهبا ، فقد تم الاتفاق وديا على أن يأخذ الأمير جملين من جمالهم ـ وكان لهم به معرفة قديمة. ويتقاضى رئيس القافلة من كل تاجر غير حدربى ريالا فوق ذلك. أما أنا فقد اشتهر جملى فى القافلة بشدته وخفته اشتهارا حمل الأمير على طلبه منى ، فزعم لى أن كل إبل يجلبها التجار الأعراب من السودان هى حق له غير منازع ، لذلك أصر على الاستيلاء على جملى. وكنت قد رتبت أن أبيعه هنا لأوفى أجرة سفرى إلى جدة ، وكنت على ثقة من أن مثل هذا القانون لا وجود له ، لذلك أبيت أن أذعن لطلب الأمير ، وأصررت على الاختصام إلى الجابى التركى ، ولا غرو فأنا الآن فى بلد أستطيع أن أفيد فيه من الفرمان الذى أعطانيه إبراهيم باشا ، ومن فرمان قديم كان قد أعطانيه أبوه محمد على حين غادرت القاهرة قبل ثمانية عشر شهرا ، وذلك قبل ذهابه إلى الحجاز. ولكنى أمسكت عن الإشارة إلى الفرمانين لجهلى بطباع هؤلاء البدو ومدى طاعتهم لسلطان الباشا ، واكتفيت بطلب الاحتكام إلى الأغا وأعلنت أننى سأنزل على حكمه من فورى إذا أمرنى بتسليم جملى. وكان الأمير قد منعنى ـ من أول يوم وصلنا فيه ـ من العبور إلى الجزيرة ، أما الآن فقد بيّنت أن يأتمر مع الأغا نفسه على سلب هذا الذى خاله مستضعفا لا يبسط عليه أحد حمايته. فأبلغ نبأ وصولى إلى الأغا ، وما عتم أن صحبنى بنفسه إلى بيت الأغا بالجزيرة. ودخلنا على الرجل فألفيناه جالسا يستمع إلى بعض الملاحين ، فانحنيت له احتراما ، أما هو فقد وجّه إلىّ الخطاب بالتركية بعبارات لا يخاطب بها غير الخدم ، فلما لم أجب بالتركية صاح بالعربية يسبنى ويزعم أننى أتظاهر بجهلى التركية مع أننى قادم من عند إخوانى المماليك بدنقلة. والواقع أننى كنت أبدو ـ بسحنتى ولحيتى ـ أشد شبها بالمماليك منى بأى جنس آخر من المشارقة ولكن كل فرد بالقافلة كان يعلم أننى قدمت من مصر إلى شندى ، وأننى لا أمت

٣٥٨

إلى المماليك بصلة. ولا تبعد دنقلة عن سواكن أكثر من رحلة عشرة أيام إلى ستة عشر ، لذلك خيف من زمن أن يحاول المماليك التقهقر إلى هذا المرفأ ويتحالفوا مع الوهابيين فى بلاد العرب على محمد على عدوهما المشترك. وقد مر بسواكن أحد كشّافهم ـ واسمه حسن جوهر كاشف ـ قاصدا مكة فى عام ١٨١٢ حين كان الشريف غالب يلى أمر جدة ، وعرف الناس أنه اجتمع مرات بسعود أمير الوهابيين. لذلك ظن الأغا أنه إذا اتهمنى بأننى مملوك متجسس أو هارب ـ وهى تهمة لست أحسبه مؤمنا بها فى قرارة نفسه ـ وإذا قبض علىّ بهذه التهمة استطاع أن يستولى على بضاعتى وهو فى مأمن من اللوم ، واستحق فوق ذلك شكر رؤسائه فى جدة وحمدهم له يقظته وفطنته. قلت للرجل فى هدوء إننى آت لأسمع من فمه هل للأمير الحق فى الاستيلاء على جملى ، فأجاب «ما هو الجمل بس ، بل ناخد عفشك كله ونفتشه وندبّر شغلك مع أفندينا حقا ، ولا تخمن إنك تحيّل علينا يا ... ، واستكثر بخيرنا إذا ما رمينا رقبتك» قلت له إننى لست إلا تاجرا منكود الطالع ، وتوسلت إليه ألا يزيدنى عذابا على عذاب ، وكنت أبغى بالطبع أن أهدىء من ثائرته دون إبراز الفرمانين إذا كان ذلك ميسورا. ولكن سرعان ما أكرهنى يمك على نبذ هذه الفكرة ، فقد شرع يسبنى ويلعننى بالتركية ، ثم نادى شيخا أعرج كان قد خلع عليه لقب «الولى» (أى ضابط البوليس) وأمره أن يضع الأغلال فى يدى ويلقينى فى السجن ويأتيه بعبدى وأمتعتى. هنالك تبين لى أن قد حان الوقت لإبراز فرمانىّ فأخرجتهما من جيب خفى فى زعبوطى أما الفرمان الأول فمكتوب بالتركية على ورقة طولها قدمان ونصف وعرضها قدم ، وممهور بخاتم محمد على الكبير ، وأما الثانى وهو أصغرهما فمكتوب بالعربية وعليه خاتم ابنه إبراهيم ، وقد لقبنى فيه «رجلنا إبراهيم الشامى».

وما إن رآنى يمك أبسط الفرمانين حتى طار لبّه ، أما الحاضرون فقد أخذوا يرمقوننى بنظرات ملؤها الدهشة. ولم يستطع الأغا أن يقرأ من الفرمانين إلا المكتوب بالعربية ، ولكنه قبّلهما جميعا ووضعهما فوق رأسه ، وقال لى فى ذلة ومسكنة إنه ما دفعه إلى صنع ما صنع إلا الحرص على المصلحة العامة دون غيرها ، ثم طلب

٣٥٩

عفوى المره بعد المرة. أما حق الأمير فى الاستيلاء على جملى فقد أصبح فى خبر كان ، ثم قال إنه أعفانى من أداء الضريبة عن عبدى وإن تكن من حقه. وسألنى الأغا بطبيعة الحال عن سبب هذا المظهر الذى كنت أبدو فيه. فهذه الثياب التى لم تكن فى بداية الرحلة وجيهة ولا فاخرة قد غدت الآن أسمالا بالية. فأجبته أن محمد على باشا أوفدنى لأتجسس على المماليك وأستطلع حالة بلاد الزنج. وأنى اتخذت زى المتسولين لأكون فى مأمن من الرقباء. هنالك عظم قدرى فى عين يمك. فبدأ يخشى بأسى ويخاف مغبة ما قد أنقل إلى الباشا عن مسلكه وحكمه فى سواكن ، وأصبح الرجل غاية فى الخنوع والتذلل. وأهدانى جارية وحلة من حلله. ولكنى رفضت الهدية. وكنت طوال إقامتى بسواكن أختلف إلى داره كل يوم لأصيب عداء طيبا ما كان أحوجنى إليه ، ولأنعم بتدخين تبغه العجمى. وكان أهل المدينة يسخرون لتذلل الرجل وتقربه إلى صعلوك مثلى بما خاله مجلبة لرضائى. أما أنا فكان هدفى أن أظفر بالحماية ما دمت فى صحبته. وأن أجدد ما فقدت من قوتى ونشاطى بالمشاركة فى طعامه الجيد. وأن أقتصد فى النفقة لأنه لم يبق معى الآن سوى ريالين.

ولقيت فيمن يختلفون إلى مائدة الأغا شريفا كان فيما مضى جابيا للشريف غالب وأغا فى مصوّع ؛ وقد ثبّته محمد على أول الأمر فى وظيفته هذه ولكنه طرده من خدمته بعد قليل لما ارتكبه من غش وتدليس ، فالتجأ إلى سواكن. وقد عرف الرجل مستر صولت فى أثناء زيارته للحبشة ، وأنبأنى أن الشريف غالبا كان قد أمره مشددا بأن يمنع الأوربيين ـ لا سيما الإنجليز ـ من دخول الحبشة ما استطاع إلى معهم سبيلا. ولم يكن الرجل على علم بحقيقة أمرى ؛ لذلك لم أجد ما يدعونى للتشكك فى صحة أقواله. ولم ينس القوم زيارة لورد فالنشيا القصيرة لسواكن ، وكانوا يتكلمون عنها كأنها حدث فريد.

وبقيت طوال إقامتى بسواكن مساكنا للتجار الزنوج خارج القيف على الرغم من إلحاح الأغا فى استضافتى بداره. وقد عاونتهم على تهريب كثير من عبيدهم إلى المدينة ، فردّوا إلىّ هذا الصنيع بأن أمروا عبيدهم أن يجهزوا لى طرفا من اللحم المجفف آخذه فى رحلتى عبر البحر الأحمر.

٣٦٠