رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

جون لويس بوركهارت

رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: فؤاد أندراوس
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة
الطبعة: ٠
ISBN: 977-437-201-8
الصفحات: ٣٩٢

وعلى الرغم من الخطر الذى كثيرا ما يهدد صحة العبيد من جراء إقفار هذا الطريق وخلوه من الماء صيفا ، يفضل التجار أن يسلكوه عن أن يتحملوا نفقات الإقامة بشندى وأداء إتاوة المرور بعطبرة. وسرنا نحو أربع ساعات فى الليل ثم استرحنا فوق أرض رملية عميقة على مقربة من أشجار من الشوك والطرفاء.

٤ يونيو ـ قمنا قبل الشروق ، وكان مسيرنا فوق سهل فسيح لا أثر فيه لمرتفع غير التلين اللذين ذكرتهما واللذين كانا يقومان إلى يسارنا ، وكانا فى الصباح يتجهان إلى الشمال الشرقى بانحراف للشمال ، أما حين حططنا للقيلولة فكان اتجاههما إلى الشمال الغربى. وتربة السهل من الطفل يتخلله القليل من الحجر ، وهى تقترب فى خصوبتها من تربة ضفاف النيل ، وتحفل بفصائل شتى من العشب البرى ، ولفت نظرى أن فصيلة منها كانت تشغل بقعة قائمة بذاتها لا تكاد تختلط بغيرها من الفصائل بحيث بدا السهل كله رقعة هائلة من الصخور المختلفة ، وكان كثير من هذه الحشائش قد ذبل.

كانت وجهتنا شرق الجنوب الشرقى ، وفى الصباح انفصل عن القافلة بعض الرفاق واتخذوا سمتهم إلى أقصى حدود التاكة الجنوبية سالكين إليها طريقا أكثر انحرافا للجنوب. وطالعتنا قرب الظهر أشجار من بعيد ، وكانت الشمس حامية فخففنا إلى الظلال نلتمسها. وكان على سطح الأرض وعلى الشجر من الشواهد ما يدل على أن المكان فى مهب الرياح الشرقية العاتية. وفى العصر دخلنا سهلا مستويا أجرد لا ترى فيه أثرا لشجر ولا لعشب أيا كان ، ولا ترى فيه مرتفعات ولا معالم من الأرض تهدى المسافر فى طريقه. وفى المساء ومضت البروق الساطعة فصححت وجهتنا بعد أن تبين القوم الجهة التى تنبعث منها البروق. وكان الجو غائما ينذر بالمطر ، وبعد مسيرة إحدى عشرة ساعة حططنا بواد مشجر وقد أخذ منا التعب كل مأخذ لأن فئة منا ضلت طريقها فى الليل.

٥ يونيو ـ يبدو أن القافلة عن بكرة أبيها قد ضلت طريقها أمس لانبساط السهل وخلوه من الشجر ، فقد بدأنا مسيرنا اليوم ميممين شرق الجنوب الشرقى ، وبعد مسيرة ساعة وصلنا حدود إقليم التاكة ، فوجدنا تربة غنية لها نعومة التربة النيلية

٣٠١

ولونها. وكانت أحراج العشر والسنط الكثيفة تعرقل سير الإبل ، وهبت علينا ريح عاتية أثارت الغبار والرمل حتى حجبت عن أبصارنا كل شىء فلم نعد نبصر ولو على عشر ياردات. وضللنا طريقنا بين الشجر ، وطفقنا نخبط خبط عشواء برهة أفزعنا فيها بعض الرعاة إذ حسبونا من أعدائهم البشاريين فساقوا قطعانهم على عجل ، وبعد ثلاث ساعات بلغنا خياما لبدو من الهدندوة فحططنا هناك. وكان خبير من كبار خبرائنا زوجا لإحدى قريبات شيخ المخيم ، ونزلنا فى الساحة التى تحيط بها الخيام ، وكانت مضروبة على شكل دوّار أو حلقة كما هى العادة فى شبه جزيرة العرب أيضا. وفى المساء هبت علينا عاصفة أخرى لا أذكر أننى رأيت لشدتها مثيلا ، فقد ظهرت أول الأمر غيمة زرقاء قاتمة تعلو نحو ٢٥ درجة فوق الأفق ، ولما دنت وعلت اربدّ لونها وشابتها صفرة خفيفة ، وراع جلال هذه الظاهرة من لم يألف رؤيتها من قبل. ولما دنت الغيمة منا شاعت فيها الصفرة على حين كان الأفق أصفى ما يكون زرقة. ثم دهمتنا وهى تسرى حثيثا ولفتنا فى ظلمة دامسة وأشاعت الاضطراب فى صفوفنا ، فلم يكن الرجل منا يميز شيئا على خمس أقدام أو ست ، وامتلأت عيوننا بالغبار ، وعصفت الريح بمظالنا المؤقتة حالما مستها ، وعصفت معها بما هو أمكن منها من خيام الهدندوة. أما الخيام الكبيرة فصمدت للعاصفة برهة ثم أذعنت فإذا المخيم كله صعيد جرز ، وزاد اضطرابنا أن الإبل همت بمقاودها ـ والفزع يملؤها ـ فقطعتها فرارا من الهلاك المحدق بها. واتصل هبوب الريح نصف ساعة لم تعرف فيها هوادة ، ثم سكتت فجأة ، وصفا الجو ، ومضت الغيمة الرهيبة فى طريقها شمالا تحمل معها الخراب والدمار. ومثل هذه العاصفة كثير فى هذا الموسم ، على أن تدميرها لا يعدو ما ذكرت ، فما هى إلا دقائق حتى نصبت الخيام من جديد وعاد كل شىء كما كان.

لم نلق من الهدندوة إكراما يذكر ، وحططنا فى وسطهم خشية التعرض لهجوم بالليل ، وبتنا نحرس بضاعتنا مخافة أن تمتد إليها أيديهم بالسرقة على ما هو معهود فيهم. وكانت عيون الماء بعيدة عن المضارب ، وكان على قاصدها أن يشق طريقه فى الغابة ، وهو طريق محفوف بالخطر على الغرباء ، لذلك ألزمنا الهدندوة

٣٠٢

بدفع ثمن الماء الذى جلبوه لنا منها. أما الخبير فقد أولم له أقرباؤه وليمة نحروا فيها كبشا احتفاء به ، وأرسلوا من مائدتهم إلى جماعة التجار السود الذين كنت أساكنهم أرطالا من اللحم المشوى. وبعد هنيهة بعث شيخ الدوار عبده يطلب شيئا من القرنفل فلم نستطع رده لأنه كان من الواضح أنهم إنما طلبوه ثمنا للحم ، ولو بدرت هذه الخسة من بدوى فى صحارى العرب لو صمته هو وقبيلته كلها بالخزى والعار.

٦ يونيو ـ لم يشأ أصحابى أن يمكثوا مع الهندندوة أكثر مما مكثوا ، فإن صغر مخيمهم وبعده عن الأسواق لم يفسحا أمامهم المجال لبيع بضاعتهم. لذلك استأنفنا السير هذا الصباح ـ على رغم اعتراض الرئيس ـ وسرنا جنوب الجنوب الشرقى فوق سهول التاكة الخصبة ، وهذه السهول غنية فى كل أرجائها ولكنها غير مزروعة ، وفيها الشجر الكثير والعشب الموفور. وبعد أن سرنا فى الغابات ثلاث ساعات فى طريق طويلة بلغنا مخيما كبيرا عزمنا على أن نحط عنده ، واسم المخيم فريق ، ودخلناه من إحدى المنافذ المفتوحة فى السياج الكثيف العالى الذى تؤلفه الأغصان الشائكة ، وكل هذه المضارب تلفها الأشجار الكثيفة ، ثم ضربنا خيامنا فى الساحة المربعة. وكان لكثير من التجار أصحاب هنا فنزلوا فى خيامهم.

وظل التجار السود يلازم بعضهم بعضا. ولما كنت أعلم أننا سنمكث بهذا المكان بضعة أيام على الأقل فقد استأجرت بدويا لينصب لى تعريشة من الحصير أستظل بها ونقدته لقاء ذلك حفنة من التبغ. بلاد التاكة ـ بلاد التاكة أو القاسه كما يسميها أهلها أيضا ، معروفة فى هذه الأرجاء كلها بخصبها العظيم. وتنبسط جنوبا بشرق ، وطولها ثلاث مراحل طوال وعرضها مرحلة ، وأهلها كلهم قبائل تجمع بين البداوة وسكنى الحضر. وعلى مسيرة يوم إلى الجنوب الشرقى من مضرب الهندندوة المسمى فريق تبدأ مضارب لبدو يدعون الملسكناب ، وأبعد منهم ينزل بدو سقولو. وعلى مسيرة يوم من بدو الملكناب تبدأ قبيلة الحلنقة ، وهى عشيرتان عليا وسفلى ، وتبعد الأولى عن الثانية

٣٠٣

مرحلة. والتاكة جزء من بلاد البجة (١) وتشمل مجرى عطبرة من قوز رجب ، وتمتد ـ على ما قيل لى ـ جنوبا حتى الجبال (وهى فى ظنى جبال الحبشة) ، أما فى الشمال فحدود البجة هى سلسلة جبال لنقاى ، وعلى ذلك تدخل فيها مفاور ونجاد كثيرة. ولكن التاكة نفسها أرض منبسطة تمام الانبساط ، أو قل أرض منخفضة تحدها الصحارى فى الشمال والغرب ، وتحدها من الجنوب الشرقى سلسلة جبال تدعى النقيب قيل لى إنها تمتد محاذية للبحر الأحمر. أما حدودها الجنوبية فلا أستطيع أن أفيد القارىء بمعلومات كثيرة عنها ، ولكنى أعتقد أنها إقليم تخترقه الجبال والوديان الخصيبة.

والفضل فى خصوبة التاكة وعمرانها راجع لما يغمرها من فيضان منتظم ، وهى حقيقة لا يخامرنى فيها شك ولو أنه استحال على استقاء المعلومات الدقيقة عن أسباب هذا الفيضان أو ملابساته. ففى أخريات يونيو ـ وقد يتأخر هذا إلى يوليو ، لأنه يبدو أن فصل الفيضان ليس له ثبات فيضان النيل (٢) ـ تتدفق على الإقليم السيول الغزيرة مقبلة من الجنوب والجنوب الشرقى ، فما هى إلا أسابيع (أو أيام ثمانية فى رواية بعضهم) حتى يغمر الماء الأرض كلها بطبقة يتفاوت عمقها بين القدمين والثلاثة. ويقال إن هذه السيول تتبدد فى السهل الشرقى بعد أن تفيض على الأرض ، ولكن الماء يظل فى التاكة فوق الشهر ، فإذا انحسر خلف وراءه طبقة غرينية سميكة شبيهة بما يخلفه النيل فى فيضانه ـ هذا إذا صدقت روايات من رووا ذلك لى ممن عرفوا النيل ، فاستطاعوا المقارنة بين النهرين. والثابت أن البدو يبذرون الحب على التربة الغرينية حال انحسار ماء الفيضان عنها دون تمهيد أيا كان. ويصحب الفيضان عادة أمطار غزيرة تبدأ قبيله ويشتد هطولها إذا بلغ الفيضان غايته. وقيل لى إن المطر تمهد له عواصف هوجاء عاتية تهب من الجنوب كل عشية عقب مغيب الشمس. ويطول هطول الأمطار أسابيع بعد الفيضان ، ولكنها لا تتصل ، بل تهطل منها الشآبيب الغزيرة فى فترات قصيرة. ويتزود أهل

__________________

(١) (والبجة سكانها يسمون بجاوا).

(٢) علمت من سواكن فيما بعد أن فيضان هذا العام بدأ حوالى ٢٦ أو ٢٩ يونيو.

٣٠٤

التاكة بالماء فى الشتاء والربيع من آبار عميقة متدفقة المياه منبثة فى أرجاء البلاد وإن تكن المسافات بينها بعيدة ، وهى مجموعات كل مجموعة منها ست ، وحولها أحواض كبيرة بنيت من اللبن لشرب الماشية ، وهى تغص طول النهار بالرعاة وقطعانهم لأنها مورد الإقليم المجاور الذى يمتد أميالا أربعة أو خمسة. والماء فى أكثر هذه الآبار ملح زعاق ، ولكن يقال إنك لا تعدم فى كل مجموعة بئرا ماؤها مقبول. ويحفرونها إلى عمق يختلف بين خمس وعشرين قدما واربعين ، ولا يبطنون جوانبها بحجارة ولا آجر

والمحصول الذى تنتجه أرض التاكة ضئيل إذا قيس بما يمكن أن تغله تربتها الخصبة التى تتمتع كل أجزائها بفيضان قلّ أن يخيب. ويبدو أن أهلها يجهلون الزراعة ، فليست لهم حقول منظمة ، وهم يبذرون حب الذرة ـ وهو غلتهم الوحيدة ـ بين الأشجار الشوكية والعشر ، بحفر ثغرات كبيرة فى الأرض يرمون فى كل ثغرة منها حفنة. فإذا ضمّوا المحصول رجع الفلاحون إلى مواشيهم يرعونها. ولعلهم لم يفكروا قط فى رى الأرض لغلة ثانية بالماء الذى يمكن أن تجده أينما حفرت عليه فى الإقليم. وليس أقل من أربعة أخماس الأرض يترك بورا. ولكن غلتهم من الذرة تكفيهم عادة وتفيض عنهم ، لذلك لم يفكروا فى العمل على زيادتها وإن كان الأهلون يقاسون الأمرين من القحط والعوز فى الفيضانات المتوسطة ، أو الشحيحة ـ ولا أقول فى الجدب التام ، لأن أحدا لا يذكر أن الفيضان امتنع فى سنة من السنين. وكان القوم هنا يبيعون ٢٤ مكيالا من الذرة بثوب من الدمور. أما فى شندى فالثوب يساوى سبعة مكاييل ، فإذا حسبت الثمن بالريال ، كان ثمن الذرة ريالا إسبانيا ، كما هو الحال فى صعيد مصر ، وهو أرخص أسواق الغلال فى الشرق بأسره (١). والذرة من أجود الأنواع ، وهى من الفصيلة التى تجدها فى الصعيد وسائر أراضى النيل. ولكن ذرة التاكة أكبر حبا وأبيض لونا وأطيب مذاقا ، لذلك يشتد عليها

__________________

(*) حين كنت بالصعيد كان ثمن الأردب من أجود القمح (ويعادل ١٥ بوشلا) * پاتكات أعنى ١١ پوشلا بريال اسبانى. وقد احتكره الباشا وباعه فى الإسكندرية بأربعين باتكا للاردب (أعنى ١١ بوشلا بثمانية ريالات).

٣٠٥

الطلب. وحين كنت بسواكن فى بيت الجابى التركى أكلت خبزا صنع من الذرة التاكية فلم يكن خبز القمح يفضله إلا قليلا. وتباع ذرة التاكة فى سوق جدة بثمن يزيد ٢٠% على الذرة المصرية ، وفى ظنى أن أهل التاكة لا يزرعون من المحاصيل غير الذرة ، اللهم إلا قليلا من البامية واللوبيا ، ولهم شغف عظيم بالبصل ، وقد أصبح ضربا من العملة يتعاملون به مع تجار سواكن ، ولكن أحدا لم يحاول زرعه فى التاكة.

وشهرة التاكة بالماشية لا تقل عن شهرتها بالذرة ، فهى تملك منها القطعان الكثيرة. وأبقارها على الأخص طيبة ، وهى ذات سنام كأبقار وادى النيل ، ويتعامل بها الناس كما يتعاملون فى دارفور وكردفان. وكان ثمن البقرة الكبيرة السمينة أربعة مقاطع دمور ، أو ستة وتسعين مدا من الذرة ، أى ما يساوى أردبين تقريبا أو ثلاثين بوشلا. وثمن البعير القوى يزيد ربع هذا. على أننى لم أر فيها من الماشية إلا قليلا لأن الفصل كان آخر فصول العام ، وهو الذى يسبق الفصل المطير مباشرة وتكون الأرض فيه جافة جرداء ، وكان القوم قد أرسلوا قطعانهم من شهور إلى الصحراء الشرقية جريا على عادتهم كل سنة ، وهناك نرعى الماشية فى الجبال والوديان الخصبة ، ويتوفر لها الماء فى العيون. فإذا انقضى الفيضان عادوا بها إلى السهول. ويتهافت الناس على إبل التاكة لأنهم يعتقدون أن أغصان السنط الغضة التى تأكلها فى الغابات تعطيها من الشدة والقوة ما لا يتاح لغيرها من الإبل التى تطعم غير هذا الغذاء. ويأخذ القوم جلد عنق الجمل الطويل بعد أن يخيطوه من جنب ويتركوه من جنبه الآخر فيستعمل غرائر يحملون فيها غلتهم فى السفر ، وشكل الغرائر ملائم جدا للتحميل. ولو لا الوحوش الضارية التى تأوى إلى الغابات وتفترس الكثير من الماشية لزاد عددها زيادة كبيرة. وأهم هذه الضوارى الأسد ، وكذلك النمر فيما يقولون ، ولكنى لا أحسب نمرهم إلا فهدا. على أن بصرى لم يقع قط على هذه الوحوش ، إلا أننى كنت أسمع زئيرها كل ليلة. وفى المساء تساق الغنم التى ترعى على مقربة من المخيم إلى ساحته الكائنة فى قلب الدوار ، وتسدّ الثغرات المفتوحة فى السياج الشوكى الذى وصفته بكوم من الشوك. ولا يجرؤ أحد على

٣٠٦

الخروج من هذا السياج فى أثناء الليل ، وهو من القوة بحيث يمتنع على السباغ التى تجوس الأرض طوال الليل ، وتملأ الفضاء بعوائها المنكر الذى يجيب عليه الكلاب من داخل المضرب بنباح متصل. ويندر أن يقتل القوم أسدا أو نمرا فى هذه الأرجاء ، فإذا فعلوا فدفاعا عن النفس ، ذلك أن الأهالى لا يعرفون من السلاح إلا السيوف والرماح (١) ، وهو لا يعينهم كثيرا على الفتك بملك الغابة الذى استطاب سكنى الإقليم فيما يبدو. ويحتفظ بعض الشيوخ بجلود الأسود فى خيامهم ، ولكنهم قلة لا تذكر. ويخيل إلى أن هذه الجلود متوسطة الحجم ، ولكن الأسد فى هذه النواحى ـ إذا صدق الهدندوة ـ قد يدانى البقرة حجما ، وكثير ما تفتك هذه الأسد بالناس. والغابات حافلة بالذئاب والغزلان والأرانب ، ويرى البدو القصص عن الأفاعى العظيمة التى قد تفترس الأفعى منها خروفا برمته. ولكن ليس بين وحوش هذه الغابات ما هو أشرس من البجاوة أنفسهم. ويقتنى هؤلاء البدو الحمير الكثيرة. ويقال إن الزراف يكثر جدا فى جبال النقيب ، وقد رأيت فى خيمة رجل من الهدندوة قطعة من جلد زرافة. والجراد كثير فى التاكة ، ويبدو أنه يتوالد فيها ثم ينتشر منها لسائر أرجاء النوبة. ولا تستطيع أرجال الجراد مهما تكثر أن تأتى على كل أخضر فى الإقليم كما تفعل أحيانا فى مصر والشام. وما رأيت منه كان أكبر حجم عرفته ، وأجنحته العليا حمراء والسفلى صفراء. ويحفل الشجر بالحمام والأسراب الكبيرة من الغربان. ولا أذكر أننى رأيت هناك طيرا زاهى الريش. ويجمع الصمغ العربى من السنط ويباع فى سواكن لتجار جدة ، ومن جدة ينقل إلى مصر ، ولكنه ردىء النوع ، ولعل هذا راجع لرطوبة التربة ، فإن أجود أنواع الصمغ يؤخذ من أجف الصحارى.

وبدو الهدندوة ـ ولم أر من أهل التاكة غيرهم ـ ينتمون إلى نفس الجنس الذى ينتمى إليه البشاريون وسائر النوبيين الشرقيين ، ولهم قسماتهم

__________________

(*) كذلك حال التجار السواكنية فهم لم يألفوا استعمال الأسلحة النارية. وقد يمر بهذا الطريق بعض العرب المسلحين بالبنادق البسيطة فى صحبة قوافل سواكن قاصدين شندى أو سنار.

٣٠٧

ولغتهم وطباعهم وعاداتهم. وهم أشد قبائل التاكة الأربع بأسا ، أما أضعفها فالملكناب. وكل هذه القبائل تشتغل بالزراعة حينا وبالرعى حينا ، ولكل قبيلة قريتان كبيرتان فى الصحراء على حدود الأرض الزراعية التى لا تخلو قط من بعض السكان ، والتى يعود إليها السكان جميعا فى موسم الأمطار ، اللهم إلا نفرا منهم يقومون على الماشية فى الصحراء. فإذا انحسر الماء انتشر البدو فى الأرض يتخيرون المرعى الطيب فتضرب فيه الجماعة دوارها ولا تفتأ متنقلة من شهر إلى شهر حتى يجف الكلأ وتحرقه حرارة الشمس ، وفى غضون ذلك يزرع ساكنو القرية الأرض الملاصقة للصحراء. والدوار أكواخ من الحصير كتلك التى يقيمها أهل عطبرة ، وإلى هذه أكواخ قليلة ذات جدران من الطين ، وهى شبيهة بأكواخ الوادى ولكنها دونها حجما. على أن أكثرهم ـ حتى من سكن منهم القرى ـ يفضل تعريشة فى الخلاء عن سكنى هذه الأكواخ المقفلة. وغير هذه القرى التى وصفت قرى أخرى فى الأقاليم الخصبة بنيت على بقاع رملية منعزلة ترتفع قليلا عن مستوى الأرض العام كأنها الجزائر. وسألت هل فى التاكة مستنقعات أو برك كبيرة من الماء الراكد فقيل لا.

وكان بالمخيم الذى نزلناه مائة وخمسون خيمة إلى مائتين ، وهو أربعة دوارات يفصلها عن بعضها البعض سياجات أوطأ من سياج الشوك الكبير الذى يحيط بالمضرب كله. ورأيت فى كل مضرب بالتاكة ـ كما رأيت فى شندى وعطبرة ـ الكثير من مشارب البوظة وبنات الليل. وقد ألم بهن التجار السواكنية حتى أرفعهم قدرا فى عيون القوم. وخيل إلىّ أن هؤلاء النسوة كن أكثر حشمة ممن على شاكلتهن ببلاد وادى النيل ، فهن على الأقل لا يخرجن بالنهار إلا فيما ندر ، أما أولئك فتراهن يجلن فى المدينة فى كل وقت. ويلبس القوم ـ رجالا ونساء ـ اللباس النوبى المعروف ، أعنى القميص من الدمور والثوب منه يلقونه على أكتافهم. ولفتت نظرى عادة غريبة بين النساء هى لبسهن الخواتم من النحاس أو الفضة فى أصابع القدم ، ومنهن من ترتدى مئزرا من الجلد بدلا من قطعة الدمور التى تلفها النساء النوبيات على خصورهن. وهذه العادة منتشرة بين

٣٠٨

بدو الحجاز أيضا. وفى الخيام يعلقن الحلى المختلفة من الودع الأبيض المجلوب من البحر الأحمر مختلطا بريش النعام الأسود. ونساؤهم سافرات ، ولا تجد المرأة غضاضة ولا حرجا فى لقاء رجل فى خيمتها ، ولا تحس عارا إذا رؤيت تتحدث معه فى غياب بعلها. على أن هذا لم يقع لى قط ، فكلما أقبلت على خيمة تلقانى النسوة بصيحات عالية وأشرن إلىّ بأيديهن أن أغرب عن وجوههن فورا. ولم يرعهن منى أكثر من لحيتى وشاربى ، ذلك لأن لحى البدو لا تطول ولا تغزر ، وهم يقصرون شواربهم لأن إرسالها عيب ، وهو إلى ذلك عنوان البذاذة كاللحية الطويلة عند الأوربيين.

ووجدنا فى كل قرية تقريبا رجلا أو رجلين أديا فريضة الحج ، وكانا يقومان بما يقوم به الفقهاء من مهام. هؤلاء الرجال وحدهم هم الذين يهتمون بإقامة شعائر الدين ، أما سائر القوم فأجهل الناس بشرائع الإسلام وتعاليمه. فهم من بعض الوجوه يقلبون هذه التعاليم رأسا على عقب ، فيأكلون مثلا دم الحيوان المذبوح بأن يضعوه على نار حتى يجمد ، وبعد ذلك يرشون عليه الملح ويصبون عليه السمن. وأفضل دماء الحيوان وأصلحها لهذا اللون من الطعام دم البقرة. وهذه الأكلة يعرفها أهل دارفور كما يعرفها أهل التاكة على ما علمت من الرقيق الدارفوريين. ولا يأكلون من اللحم نيئا غير الكبد أو الكلى ، وكذلك يأكلها بالملح البدو من الأعراب وأهل الشام. ومن ألذ الأشياء عندهم أكل نخاع البقر نيئا. وحين تكون ماشيتهم قرب مضاربهم ترى طعامهم لا يكاد يخرج عن اللبن لا سيما لبن الناقة. فإذا اجتمع منهم نفر وضعوا قدرا منه على الأرض وسطهم ثم أديرت عليهم القدر كل خمس دقائق تقريبا فيرشف منها كل منهم رشفة. فإذا فرغت ملئت ثانية ، وهكذا دواليك ما دام الضيوف موجودين.

وفى الهدندوة كسل مفرط ، فالرجال يكلون شئون البيوت لنسائهم وعبيدهم وينفقون سحابة نهارهم إما فى التسكع والزيارات الفارغة للجيران ، أو فى البيوت متكئين على العنقريب يدخنون الأعواد ويعاقرون الخمر حتى يثملوا بها قبل النوم. وهم فيما بينهم كرام أسخياء ، ولكنى لم أر أشح منهم ولا أبخل على الغريب ،

٣٠٩

وهذا أدعى إلى الدهشة لأنه نقيض ما ألف البدو ، فالبدوى يعنى أشد العناية بحاجات الغريب ، ويبدو أن البخل على الغريب صفة تفرد بها الهدندوة والسواكنية ، وآية ذلك أننى لم أستطع أن أحصل من القرية القريبة من دوارنا ـ وفيها تنصب السوق ـ على قطرة من الماء دون أن أؤدى ثمنها ذرة ، كذلك اضطررت فى دوارنا إلى دفع إيجار حصير لأجفف عليها شيئا من دقيق الذرة دقائق معدودات. ويشكو الحجاج الزنوج المساكين الذين يمرون بالتاكة فى طريقهم إلى مكة مر الشكوى من بخل القوم على الغرباء ، وكان بعض هؤلاء الحجاج ملمين بالدوار ونحن به ، وكانوا يطوفون فى العشية بصحافهم الخشبية فيستجدون القوم قليلا من الخبز وهم يتعشون ، فما كانون يستطيعون أن يظفروا من مائتى خيمة بما يكفى لعشائهم. وكنت ورفاقى نضطر لاستضافة اثنين منهم أو ثلاثة كل عشية. والملاحظ أنه إذا انعدم الجود والسخاء فى قوم اتسع المجال لكثير من الرذائل والدنايا. وتلك حال أهل التاكة ، فخراب الذمة يؤثر عنهم كما يؤثر البخل. والتطاحن والتناحر لا ينقطعان فى صفوفهم ، ولكنهما لا ينتهيان بالعداء السافر بل بحرب خائنة غادرة يحاول فيها الرجل أخذ عدوه على غرة والفتك به غيلة. وتراهم مدججين برماحهم وسيوفهم ودرقهم حتى فى دوارهم ، فإذا ابتعدوا عنه لا يسيرون إلا جماعة. وقد قتل مجهولون رجلين منهم فى أثناء مقامى عندهم ، ولم يكن رجال القافلة يجرءون على الخروج من الدوار إلا فى جماعات كبيرة. وكان من عادتنا فى المساء أن يلتئم شملنا فى قافلة صغيرة لنمضى إلى الآبار نملأ منها قربنا حريصين على أن يلزم بعضنا بعضا قدر الاستطاعة. والقوم لا يعتبرون الخيانة جريمة ولا عارا ، ولا يجد الرجل من الهدندوة عيبا فى المفاخرة بذمته الخربة ما دامت أعانته على نيل مأربه. وأهل التاكة ـ على ما زعم لى السواكنية ـ قوم لا يتقيدون بأيمان ولا يرتبطون بعهود ولا مواثيق. وقد يتحرجون من الحنث بيمين واحدة لا ثانى لها ، هى قول الرجل منهم «وحياة عافيتى». وقل أن يتردد أحدهم فى الفتك بصاحبه فى الطريق طمعا فى أتفه الغنيمة ما دام يرى نفسه فى مأمن. وهم يثأرون لقتلاهم ما استطاعوا إلى الثأر سبيلا. ورووا لى نبأ عادة منكرة جرت عليها قبيلة الحلنقة ـ وأصلها من الحبشة ـ فى ثأرها

٣١٠

لقتلاها. ذلك أن أقرباء القتيل إذا قبضوا على قاتله أولوا وليمة لأفراد الأسرة وجاءوا به فى وسطهم موثقا على عنقريب ، ثم ذبحوه بشفرة ذبحا بطيئا وهم يتلقون دمه فى قدر تدار على الحاضرين فيشربون من دم الضحية وهى تلفظ أنفاسها الأخيرة. ولست أستطيع الجزم بصحة هذه الرواية وإن يكن كثيرون قد أكدوا لى حقيقتها ولم أسمع أحدا ينفيها. ولعلى كنت قادرا على معرفة بعض عادات هؤلاء الهمج لو كنت ملما بلغتهم أولو لقيت منهم عددا كبيرا يتكلم العربية ، إذ لا يكفى فى ذلك أن أجد منهم واحدا أو اثنين يعرفان العربية ، فهم لا يطيقون إرهاقهم بالأسئلة ما لم يكن فى الإجابة عليها مغنم ، ومثلى لا أمل له فى الحصول على معلومات كهذه إلا بالإنصات إلى حديث القوم بعضهم مع بعض ، أو بمحاولة الاستطراد بهذا الحديث إلى هدفه هو على غير وعى منهم.

وقد ابتلى أهل التاكة برذيلة أخرى فوق الغدرو الخيانة ، وهى ولعهم الشديد بالسرقة. وقد أصابنا جميعا شواظ من هذا الولع ، ولكن أشدنا اكتواء بنارهم كان سواكنيا ينزل خيمة بدوى كبير فى الدوار ، فقد شرطوا جرابه الجلدى فى الليل وسرقوا منه مائة أوقية من الذهب. وكنا كل صباح نكتشف سرقة توافه من متاعنا ، ولكنا اتخذنا من أسباب الحيطة والحذر ما استحال معه عليهم أن يسرقوا الأشياء الثمينة دون إيقاظنا. وكنت يوما فى السوق أكيل بعض الذرة فإذا رجل ينشل من فوق كتفى فردات دمور أعرضها للبيع ، ولم أفطن إلى السرقة لتوى مع أن الواقفين جميعا رأوا الرجل وهو يفر بها. وما إن اكتشفت فعلته حتى اقتفيت أثره ، ولكنى وجدته يحمل سلاحا ، ووجدته لى قريعا بل أكثر من قريع ، ثم إن بعض القوم انحاز إلى صفه ، لذلك رأيتنى محظوظا حين استعدت منه ثلثى ثمن الدمور ذرة ، واحتفظ اللص بالباقى مكافأة له على ما كابد من عناء فى سرقة الدمور كله.

وقد أصبح سكان التاكة أهل حرب وقتال بفضل ما بينهم من تناحر ، وما بينهم وبين البشاريين أعداء جنسهم من خصومة لا هوادة فيها. وسلاحهم سلاح أهل وادى النيل ، ولا يعرفون فى حربهم سهاما ولا قسيا. ويقتنى شيوخهم الجياد ويلبسون الزرد. وهم فيما يقال شجعان صناديد ، ولكنى لم

٣١١

أر آثار الجراح إلا على ظهورهم ، ومثل هذا رأيته عند أهل النوبة جميعا. فلم ألق منهم رجلا يحمل ندوبا على صدره ، أما ظهور أكثرهم فتحمل ندوبا كبيرة يبدو أنهم فخورون بها. ويقال إن الدرق يدرأ عن جنوبهم الطعنات. ووجدت عندهم عادة كنت فى رحلتى إلى دنقلة قد سمعت بوجودها بين البشاريين ، ذلك أنه إذا ازدهى شاب آخر ببسالته الفائقة ، استل هذا مدية فطعن بها ذراعيه وكتفيه وجنبيه ، ثم أعطاها لذلك التياه الفخور بشجاعته ، فيضطر هذا ـ نزولا على قواعد الشرف عندهم ـ إلى طعن جسمه طعنات أغور من طعنات صاحبه ، فإن لم يفعل كان لغريمه قصب السبق. وما من شك فى أن القوم أشداء لا تدانيهم فى قوة البأس وصلابة العود قبيلة ممن عرفت من البدو. ويكاد غذاؤهم فى الشتاء يقتصر على اللحم واللبن ، أما الخبز فلا يصببون منه إلّا أقله ، وإلى هذا يعزون قوتهم. ولا يروّعهم من الأمراض سوى الجدرى ، وقد اجتاح قبيلتهم فى العام الماضى ولم يفارقهم بعد تماما ، فما زال مضرب من المضارب القريبة موبوءا به ، لذلك قطعت المواصلات بينه وبين سائر المضارب المحيطة به. وأول من جلب المرض إلى هنا التجار السواكنية ، ثم انتشر من هذا الإقليم إلى سائر بلاد النيل.

وعلى أطراف الصحراء قرية تدعى سوق الهدندوة (ويستعمل الأهالى فى لغتهم كلمة «سوق» العربية) ، وتقع على ربع ساعة من دوّارنا ، وهى مقر الشيخ الأكبر لهدندوة التاكة. وفى كل أسبوع تقام على الرمال المنبسطة خلف القرية سوق يؤمها العدد الغفير من البدو والريفيين. وقد زرتها مرتين فكنت بين الوافدين عليها مبعث دهشة بالغة ومصدر تسلية كبيرة لما رأوا فى منظرى من غرابة وطرافة. على أننى كنت على الدوام أثير فى النساء من الاحتقار والتقزز أكثر مما أثيره فى الرجال. ورافقنى إلى هذه السوق مساكنىّ من التجار السود فبعنا فيها سلعا مختلفة جلبناها من شندى وتقاضينا ثمنها ذرة ، وهى العملة المتداولة هنا. وقل أن تجد فى التاكة بدوا يرضون بالريال عملة ، ولكن الطلب شديد على الدمور. وقد

٣١٢

جلب الريفيون إلى السوق سلعا أخرى بالإضافة إلى الماشية ، منها الحصر والسلال المختلفة المصنوعة من الجريد وسعف الدوم الذى يكثر فى الوديان الصحراوية شمالا وشرقا ، والقدور من الفخار للطهو ، وأباريق الوضوء التى يشتريها السواكنية ويحملونها إلى الحجاز. وكل زنجى أو حاج فقير يحمل منها إبريقا لوضوئه اليومى ، ورحال الإبل ، والحبال من السّمار ، والجلود ، والقرب ، والدجاج الذى تراه فى أرجاء النوبة كلها ، ولحم الجمل المجفف (أما السمن فلم يكن من سبيل للحصول

عليه لبعد الشقة بيننا وبين القطعان) ، وفاكهتا اللالوب والنبق ، ويصنعون من النبق ضربا من المربى طيب المذاق ، والتاما ـ وهى قشر شجرة شبيهة بالقرفة التى رأيتها فى شندى سواء فى شكلها أو طعمها أو الأغراض التى تستعمل فيها ، وتسمى الباسنيا فى الجبال الواقعة جنوب الحلنقة ـ ، والصمغ العربى ، والقرض ـ وهو تمر السنط الذى يدبغ به الجلد ـ ، والملح المجلوب من سواكن وهو سلعة هامة ، وريش النعام الأسود المأخوذ من أنثاه ، أما الريش الأبيض فيباع سرا لتجار سواكن. وفى السوق حدّادون ، فترى العبد ينفخ بالمنفاخ بينما يعكف سيده على إصلاح المدى ورءوس الحراب والقيود الحديدية التى يربطون بها فى الليل قائمتى الجمل الأماميتين.

وأهم ما يبيعه التجار الأجانب التبغ سواء منه ما جلب من سنار أو من العجم واليمن. وهذا الأخير يسمى تبغا سودانيا فى هذه النواحى ، وهو بعينه التبغ ذو الأوراق الصفراء الذى يسمونه قى الحجاز ومصر تمباكا ، والذى يدخنه الشرقيون فى النارجيلة. ونظرا لما يمتاز به التبغ السنارى من قوة وحرارة يفضله القوم فى التاكة لا سيما فى صناعة النشوق الذى يكلفون به أشد الكلف ، وبحضرونه بخلط النطرون أو الملح بالتبغ المسحوق. وليس منهم رجل أو امرأة يسير بغير وعاء صغير فى حجم بيضة الإوزة يحمل فيه نشوقه. كذلك يبيع التجار السواكنية النطرون الذى يجلبونه من شندى ، والتوابل بكافة أنواعها ـ ويقبل على شرائها الحلنقة إقبالا عظيما لا سيما القرنفل ـ وكذلك يبيعون اللبان والخرز

٣١٣

والآلات الحديدية ، ولكن أهم سلعهم التبغ والدمور والقرنفل ، ويقايضون عليها كلّها بالذرة ، وهى أهم ما ينشده تجار سواكن التى تعتمد فى زادها من الذرة على التاكة ، لأن الإقليم المجاور لها لا يكاد يزرع منها شيئا. وتجلب ذرة التاكة إلى سواكن بمقادير كبيرة بحيث يمكن أن يشحن القوم منها فى أى وقت شاءوا مراكب إلى جدة التى لا تفرغ أسواقها من الذرة. ولست إخالنى فى حاجة إلى القول بأن هذا ينشط المواصلات بين التاكة وسواكن تنشيطا عظيما ، فقل أن يمضى أسبوعان دون أن يفد على التاكة قوم من سواكن ، وأجرة السفر بينهما ضئيلة لرخص الابل. ومع ذلك فقد كان ثمن الذرة بسواكن اربعة ضعاف ثمنها بالتاكة ، فكانت الاثنتا عشرة كيلة تباع بريال ، ولكن هذا الثمن على ارتفاعه يسمح للتجار بنقل الذرة إلى جدة وبيعها بثمن مجز. وكانت التاكة إبان القحط الأخير تمد بالذرة وادى النيل كله من شندى إلى مقرات. وبالاقليم عدة أسواق كالسوق التى وصفت ، وسوق الحلنقة فيما يقال اكبرها ، والذرة فيها أرخص منها فى هذا القسم من التاكة. وكان ثوب الدمور هناك يساوى من اثنين وثلاثين مدا إلى ستة وثلاثين ، وقد ركب بعض اصحابى إليها ليبيعوا فيها تبغهم.

ويهدد سلامة المسافرين بالطريق المباشر من التاكة إلى شندى غارات الشكرية مما يضطر التاكيين القاصدين شندى إلى سلوك طريق قوز رجب وعطبرة. وقد تذهب القوافل الصغيرة أحيانا من التاكة إلى سنار مباشرة طلبا للدمور والتبغ ، فتسافر من أقصى الحدود الشمالية للحلنقة نصف يوم إلى قرية منان ، ومنها سفر ثلاثة أيام فى صحراء رملية لا ماء فيها حتى عطبرة ، ويسكن ضفافه هناك عرب عمران الذين يتكلمون العربية. ومن عطبرة رحلة يومين فى الصحراء إلى عرب الضباينة الذين يملكون القطعان الكبيرة من البقر والجمال ، ومن هناك رحلة يوم فى الغابات والمزارع إلى قرية الدنور ، ثم رحلة يومين عبر الصحراء يبلغون يعدها سنار بعد رحلة مجموعها ثمانية أيام أو تسعة من السير الوئيد

٣١٤

فى طريق غير مستقيم. وكثيرا ما يسلك الحجاج الزنوج هذا الطريق. وقد أحاطنى علما بهذه المسافات رجل من دار صليح قام بالرحلة مع غلام ولم يكن لهما فيها دليل. وقد أحسن عرب عمران معاملة الرجل ، ومن خيامهم اتجه صوب منان مخترقا الصحراء ولا دليل له إلا نجوم السماء. وروايته ـ فى اعتقادى ـ موثوق بها. وإنى أسوق إلى القارىء فيما بلى ما سمعت عن الطريق إلى راس الفيل ، ولكنى لست مقتنعا بدقته اقتناعى بدقة الرواية الأولى.

يقطع المسافر بعد مغادرته آخر قرى الحلنقة مرحلة واحدة طويلة تبلغ به عرب الفحارة ، ومن هناك يسير يوما ونصف يوم إلى وادى عمران ، ثم يوما إلى عبابة ، ثم يومين إلى راس الفيل على الطريق بين سنار وغندار. وعلى مسير ثلاثة أيام من عرب عمران ـ صوب القوز على عطبرة ـ قرية كبيرة للشكرية تدعى قباريب قيل لى انها فى اتساع شندى ، وكثيرا ما سمعت القوم فى التاكة يرددون اسمها فى أحاديثهم.

وبين الحلنقة والحبش عداء شديد ، ولا يذكر الحلنقة الحبش إلا ألصقوا بهم نعتا من النعوت المعيبة ، وأهونها الكفر. وسمعت فى الصعيد وفى بربر أن القوافل تقوم أحيانا من الحلنقة إلى مصوع. وروى لى بعد ذلك تجار مصوعيون فى جدة أن الحلنقة يذهبون إليها أحيانا ليعرضوا أبقارهم للبيع ، ولكنى لم أسمع إبان وجودى بالتاكة بمثل هذه التجارة. وبين الحلنقة وأحباش إقليم وقات روابط تجارية ضعيفة. ولو أنى وجدت الرحلة إلى مصوع ميسورة لما ترددت فى القيام بها ، لأنى رأيت هذا الإقليم غاية فى الطرافة ، ولأننى كنت فى هذه الحالة أمر بالقبائل الكثيرة التى هى همزة الوصل بين الحبش والعرب ؛ وكلها قبائل ذات عادات غريبة جدا. بيد أنى ـ وقد بلوت من خلق أهل التاكة ما بلوت ـ لم أر بصيصا من الأمل فى إمكان المحافظة على بضاعتى القليلة لو أننى افترقت عن رفاقى التجار السواكنية. وقد أيقنت ـ لما خبرت من معاملة هؤلاء القوم للغريب ـ أننى لا

٣١٥

محالة هالك جوعا لو سرقت بضاعتى. ولو استخدمت أحد هؤلاء الهمج دليلا لى لما أغنانى هذا فتيلا حتى ولو كان الرجل مخلصا لى وفيا ، لأنه كان يعجز عن ضمان سلامتى أكثر من يوم واحد ، أعنى لغاية حدود قبيلته ، وكنت عندئذ أقع بين أغراب لاهم لهم إلا نهب كل ما أحمل ، بينما تعوزنى وسائل الدفاع عن نفسى وأسباب التفاهم معهم ، لأن الناطقين بالعربية منهم قلة لا تذكر. فلعل أحدا لا يلومنى على نبذ هذه الفكرة فى وقت كنت أؤمل فيه بلوغ سواكن آمنا ، وهو أمل له ما يبرره. وقد سمعت فى التاكة أن سواكن ومصوع على بعدين متساويين من الحلنقة.

ولم يلحق بى وأنا بالتاكة أى أذى ، ولست أذكر أن حادثا مكدرا وقع لى. على أنه نمى إلى فيما بعد أننى كنت على وشك الوقوع فى بلاء كبير. ذلك أن عبدا كبيرا لأحد رفاقى بيت سرقة جملى وبيعه فى قرية قريبة ، ولست أظنى كنت قادرا على استرداده لو فعل. كانت جمالنا تساق كل صباح إلى الغابات لترعى تحت حراسة العبيد ، وكنت عهدت بجملى إلى غلامى يحرسه. وكانت بعض الجمال تسرق أحيانا فى أثناء نوم العبيد فى قيظ النهار ، ولو لا أن العبد الذى دبر سرقة جملى أسر بالأمر إلى آخر ، ولو لا أن هذا الآخر أبلغنى نبأ هذا التدبير لسرق جملى كما سرق إخوة له من قبل. وقد شكوت العبد إلى سيده فعنفه تعنيفا شديدا. ولم أترك بعدها جملى يرعى بعيدا ، بل كنت أحجزه داخل المخيم وأقدم له الذرة عليقا. ويتخذ التجار الحيطة مخافة أن تسرق خير إبلهم ، فيقيدون قائمتى الجمل الأماميتين بأغلال حديدية ثقيلة يقفلونها بقفل فلا يمكن فكها إلا بفتح القفل بمفتاح ، وبذلك يتعذر على اللص خطف الجمل خطفا على الأقل. وفى غداة وصول القافلة قدم شيخ المخيم لكل جماعة فطورا وعشاء من عجين الذرة الرقيق ، وبعد يومين أمر بنحر بقرتين احتفاء بمقدمنا ، وكان نصيب من هذا اللحم مرسلا لرفاقى التكارنة ، ولكن عبيد التجار السواكنية استولوا عليه فاختفى فى طرفة عين. وردا على هذه الحفاوة اضطررنا إلى إتحاف الشيخ بهدية ، وكانت فردة دمور قيمتها اثنتا عشرة كيلة من الذرة عن كل عبد فى القافلة ، وجملة هذا تقرب من

٣١٦

عشرين ضعفا من ثمن الخبز واللحم اللذين قدمهما الشيخ للقافلة. ولا يؤدى المسافرون ضرائب مباشرة هنا ، كذلك لا يؤدى أهل التاكة ضرائب فى سواكن.

وما وافى الرابع عشر من شهر يونيو حتى كان تجار القافلة قد باعوا كل ما يحملون من أقمشة قطنية وتبغ ، وانطلق بعضهم فى جماعة قليلة عائدين إلى قوز رجب. وقد وصل إلى علمنا أن البشاريين وصلوا فى نفر كبير غداة رحيلنا من المكان المقابل للقوز ، ولكنهم عادوا أدراجهم حين عرفوا مما خلفته القافلة من نيران خامدة ورماد بارد أننا فتناهم بزمان. وفى الليلة السابقة لرحيلنا عن التاكة انضم إلى القافلة عدد من أهل هذه الناحية بأحمال من الذرة. أما تجارنا فقد قايضوا على بضاعتهم كلها بالذرة ، ووسقوا إبلهم على قدر ما أطاقت. كذلك انضمت إلى القافلة جماعة كبيرة من الحجاج الزنوج ، فاجتمع لنا ما لا يقل عن ثلاثمائة من الإبل. وكان رحيلنا غاية فى الفوضى والاضطراب ، فقد قام أكبر شيوخ القافلة فى الرابع عشر ، وكان من رأينا أن نمكث بعده أياما ، وإذا الشيخ الذى ولى أمر القافلة من بعده يقوم فجأة ويوسق جماله. وكان من أثر هذه العجلة أن اضطر أحد رفاقى إلى ترك دين له بالقرية ، فخسر بهذا ما يعادل عشرين كيلة من الذرة. وقد تردد طويلا بين الرحيل مع القافلة أو التخلف عنها حتى يسترد دينه ثم ينطلق إلى سواكن فى قافلة تالية ، ولكن حذره تغلب فى النهاية على حبه للمال ، فانطلقنا فى الصباح الباكر من ١٥ يونيو ، وأحاط بنا أهل الدوار جميعا ـ قبل أن نرحل عنهم نهائيا ـ محاولين الحصول منا على بعض الهدايا الصغيرة. وكانوا طوال مكثنا عندهم يرهقوننا بطلب الهدايا ، لا سيما نساؤهم اللاتى لم يتركن حيلة ولا فنا من فنون الدلال إلا لجأن إليه لنيل مآربهن. وكانت أشدهن لجاجة وإلحاحا عروس حديثة العهد بالزواج ، وهى إحدى بنات عم شيخ الدوار. وكنت على يقين من أنها فى قرارة نفسها تحتقرنى وتسخر منى ، ولكنى لم أتمالك نفسى من الإعجاب بدهائها وملقها وهى تحاول بالإشارة أن تقنعنى بأنها تهيم بى حبا ، وأن تفهمنى أنها لن ترد لى طلبا إذا أعطيتها حفنة من القرنفل. ولعل قومها كانوا يعلمون أنها إنما تخادعنى للظفر منى بشىء ثمين ، وعلى ذلك كان

٣١٧

من بواعث ارتياحى أن أفسد عليها ألاعيبها فتذهب محاولاتها كلها أدراج الرياح.

وكنت فى مقامى بهذه القرية ـ كما كنت فى مقامى بشندى ـ أبدو للناس غاية فى التقوى والورع ، مقلدا جهد استطاعتى الفقهاء الذين يجهلهم أهل هذه البلاد لاشتهارهم بالعلم الغزير والخلق الكريم ، وتلك فى الحق شيمة هذه الطائفة بوجه عام ، وإن كان معروفا أن من أفرادها جماعة لا خلاق لهم ، وأنهم فى كل ما يعملون منافقون. ولعل إيمان القوم بالخرافات واحترامهم لدين يزيده رهبة وجلالا جهل الأكثرين بتعاليمه ، ولعل خوفهم من التعاويذ والرقى ، وما يبديه كل فقيه نحو أخيه الفقيه من احترام وإكبار ، أقول لعل هذا كله أعان على احتفاظ الناس باعتقادهم القديم ، وهو أن الفقيه إنسان يمتاز عن سائر الخلق بالفضيلة والتقى ، فإذا بدا منه نقيض ذلك لم يجرؤ منهم أحد على اتهامه بالمعصية وإلا انقلب عليه رجال الطائفة كلها وناصبوه العداء ، وتلك حال العلماء فى تركيا وشبه جزيرة العرب ؛ فأخلاقهم معلومة للناس حق العلم ، ولكنهم برغم ذلك ما برحوا متمتعين بالسمعة الطيبة لأن أحدا من الناس لا يريد أن يكون البادىء بمناوأتهم ، زد على ذلك أن الحكومة تبسط عليهم حمايتها لأنها تتوسل بهم لاسترقاق جماهير الناس وتوجيه الرأى العام.

وقبل أن نغادر التاكة بيومين روعنا نبأ أتانا من سواكن ومفاده أن رجلا من التاكة قتله أحد الحداربة بتلك المدينة. وقد تدارس الهدندوة الأمر وفكروا فى حجز جميع أفراد القافلة حتى يتبين لهم الأمر ، ولعلهم كانوا فاعلين لو لا أن بدويا آخر خف إلينا بنبأ ثان هو أن السواكنى دفع دية القتيل ففض النزاع على هذا الوجه وسويت المسألة.

٣١٨

الرحلة من التاكة إلى سواكن

٣١٩
٣٢٠