رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

جون لويس بوركهارت

رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: فؤاد أندراوس
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة
الطبعة: ٠
ISBN: 977-437-201-8
الصفحات: ٣٩٢

أن أنضم إليهم ، وبذلك أصبح موقفى خيرا مما كان ، فإن رفاقى الدراويين دأبوا على أرذل المزاح وأسخف العبث طوال مقامنا فى بربر للاساءة إلىّ والغض من شأنى. ولما أيقنوا آخر الأمر أننى أصلبهم عودا ـ وقد ثبت هذا حين صارعت أقواهم غير مرة فصرعته ـ حاول غلمانهم إرهاقى بمعاكسات لا تنقطع ، ولم يكن من السهل على أن أردعهم عنها ، فرأيتنى مضطرا إلى احتمالها مخافة أن أعرض نفسى ـ إذا تركت جماعتهم فجأة ـ لشر مبيت لا أعرف مداه ولا أستطيع له دفعا.

واستقبلنا حمزة فى فتور شديد ، وظللنا ببابه سحابة يومنا قبل أن يرسل إلينا طعاما ، وقال رفاقى إنه لو سمع أن أحدا منا أصاب حظا من زاد فى أثناء مقامنا ببابه لعد ذلك منا إهانة له وتحديا لأننا ضيوفه. ومضى إليه اثنان من أصحابنا التجار يفاوضانه فيما يؤدى له من إتاوة ، أما الباقون فقد شغلوا كلهم بالذود عن متاعهم ودفع الأهالى الجشعين الذين تزاحموا حول المتاع أول الأمر يسألوننا عن حالنا متوددين ، ثم ما لبثوا أن حشروا أنفسهم وسطه. على أننا لم نلتحم بهم التحاما صريحا ، ولكن أشياء كثيرة فقدت من المتاع ومن بينها قصبتى. وأنبئنا آخر الليل أن المك لا يرضى بأقل من عشرة ريالات عن كل حمل وأربعة عن كل تاجر. وقد حسبت واحدا من التجار ، وأدينا الضريبة بعضها نقدا وبعضها عينا. أما العبابدة فقد أعفوا منها ، بل إنهم استطاعوا أن يعفوا بعض أحمال المصريين بحجة أنها أحمالهم لقاء بعض العطايا التى أخذوها منهم. وكنت أخاف أن يستولى المك على بندقيتى ، وحملنى على هذا الخوف ما سمعت من استيلائه على ما يقع تحت يده من أسلحة نارية ، لذلك تظاهرت فى الليلة السابقة بأننى أساوم شيخ العبابدة على بيعها له أمام رجال القافلة ، وكنت على يقين أننى إن لم أفعل هذا فسيشى بى رفاقى للمك ، وأعلن الشيخ لأصحاب المك أن البندقية ملكه ، ولم يستطيع أحد أن يكذبه ، وهكذا أنقذت بندقيتى ، ولكن الشيخ ظفر منى بريال جزاء صنيعه.

وبقى المك ببيته طوال الليل فلم نلقه ، ولكن ابنه أقبل يطلب لنفسه بعض الهدايا فكان جوابنا الرفض الصريح. فطلب أن يرافقه منا إلى البوظة نديم مرح يسمر معه ، فتقدم إليه أحد المصريين ، وشرفه ابن المك باصطحابه إلى ماخور قريب

٢٠١

جعلا يشربان ويقصفان فيه حتى مطلع الفجر.

٩ أبريل ـ هلت علينا هذا الصباح طلعة المك حمزة. خرج من داره وسار فى السهل ثم جلس على مصطبة من الحجر قرب أحد البيوت أمام متاعنا. وكان متجردا من ثيابه لشدة القيظ ، لا يلبس إلا وزرة مشدودة إلى حقويه ، وشعره ملطخ بالدهن ، وفى ركابه من الرقيق ستة أو ثمانية ، يحمل أحدهم قربة ماء صغيرة مصنوعة من الجلد السنارى صنعا بديعا ، ويحمل ثان سيفه ، وثالث درقته ، وهكذا ظهر جلالته فى كامل أبهته وخيلائه. وريع لمظهره أصحابنا التجار ، وكانوا قد عللوا أنفسهم بأنه سيأذن لهم بالرحيل فى الصباح الباكر ، ولكنهم أوجسوا الآن من شر ضريبة جديدة قد تفرض عليهم. ومضينا إليه جميعا فقبلنا يده ، ووقفنا بين يديه فى خشوع واتضاع. وقال جلالته إنه مغتبط برؤيتنا ، وإنه صديق صدوق للتجار ، ولكنهم قد غدوا بخلاء مقترين. ثم أصر على أن نعطى ابنه هدية ، وتطلع إلى القافلة فإذا فيها حمار طيب فأمر ابنه أن يمتطيه. وعرض عليه صاحب الحمار ستة ريالات يفتديه بها ولكنه أبى ، وسيق الحمار إلى إسطبل المك ، ثم أذن لنا فى الرحيل. وتشاء المصادفة أن يكون هذا الحمار هو الذى طويت على ظهره الصحراء. وكنت فى أثناء الرحلة قد أدركت ما للحمير المصرية من سمعة طيبة فى الأقطار الجنوبية ، حتى ليتهافت الناس لا سيما وجوههم على اقتنائها ، وكان حمارى قد اشتهر فى القافلة بصلابة عوده وعظم نشاطه ، فقدرت أننى لن أستطيع أن أدفع عنه جشع الأمراء والرؤساء ، لذلك قايضت عليه فى الليلة السابقة لوصولنا بربر بحمار أصغر حجما وأقل صلابة ، وكان الحمار لأحد التجار الدراوبين ، وظفرت منه فى هذه الصفقة بريال. ولست أشك فى أنه كان يضحك من غفلتى بينه وبين نفسه ، ولم يدر بخلده أن الحمار قد يؤخذ منه عنوة وغصبا ، وكان يقدر أنه سيبيعه بعشرة ريالات أو اثنى عشر. واستطاع الرجل فى بربر أن ينقذ الحمار من برائن المك نور الدين ، أما المك حمزة فكان صلبا لاتلين له قناة ، وندم الرجل على الصفقة ولات حين مندم ، وطالبنى فى إلحاح برد حماره القديم ولكن العبابدة انحازوا إلى صفى ، بل إنهم امتدحونى ـ بينى وبينهم ـ لأنى ورطته فى هذا المأزق.

٢٠٢

وكانت تخيم على مقربة من راس الوادى جماعة كبيرة من البشاريين أتوا ليبتاعوا زادهم من الذرة للصيف. وعلمت أن أخا المك حمزة ذهب مؤخرا إلى سواكن فى طريقه إلى شبه جزيرة العرب ، وصحب معه عددا من الرقيق والخيل العتاق ليهديها إلى الشريف حمودة أمير اليمن أملا فى الظفر ببعض الهدايا المناسبة بطبيعة الحال. وهذا الضرب من التجارة شائع فى هذه البلاد.

وقد رأيت بعض هجن المك حمزة فإذا هى من صفوة الهجن ، وكانت على لجمها ورجالها زينة براقة ، ويقتنى كل شيخ من شيوخ القبائل هنا هجينين من خير الفصائل يظهر بهما أمام الناس ليسترعى الأنظار ، ويركبهما عبدان من عبيده ويسيران فى ركابه أنى سار.

وبارحنا راس الوادى فى الضحى يصحبنا رجلان من أسرة المك إلى حدود أملاكه وكان شطر من الطريق رمالا جرداء ، وفى شطر آخر منه تفرقت أشجار السنط. وبعد ساعتين مررنا بعدد من النزلات فيها الكثير من شجر الدوم وإلى جوارها جزيرة كبيرة ظهرت فى عرض النهر. ويقال إن أهل هذه النزلات من أعرق اللصوص ، ولعل هذا هو الذى حمل دليلينا على أن يقفا بنا هنا ويطالبانا بعشرة ريالات أجرا لاصطحابهما إيانا حتى هذه البقعة ، ولم ير التجار مفرا من الإذعان فدفعوا الأتاوة وأنفهم راغم. وكان الركب قد تناقص حتى بلغ العشرين ، فقد انسلخ عن جماعتنا بعض صغار التجار تفاديا لدفع ضريبة المرور وسبقونا عابرين الصحراء ليلا شرقى راس الوادى ، كذلك استأجر غير هؤلاء ممن لا جمال لهم خبيرا من القوز صحبهم ليلا فى طريق خطر بحذاء ضفة النهر ثم انضموا إلينا ثانية بعد أن جازوا أملاك المك حمزه.

وعلى مقربة من النزلات أبصرنا عددا هائلا من شواهد القبور الجديدة التى تنطق بما حلّ بالبلاد من غارات الجدرى المدمرة ، وكان كل قبر مغطى بالحصى الأبيض وقطع المرو جريا على عادة النوبيين ، وهى العادة التى لحظتها من قبل فى بلاد البرابرة. وسهل الصحراء الشرقية تقطعه هنا بعض التلال من الرمل والحصباء. ومررنا بأحراج من السنط ، ثم وصلنا بعد أربع ساعات إلى نهر مقرن لا مارب كما يسميه

٢٠٣

يروس ، فاسم مارب لا يعرفه القوم هنا ، وهبطنا جرفا عاليا ثم سرنا زهاء الميل فوق رمال عميقة كست قاع النهر حتى جئنا بركة من الماء الآسن عرضها نحو عشرين خطوة وماؤها يصل إلى خلخال القدم ، وأمثال هذه البركة كثير فى عرض النهر ولكن الماء فيها كلها راكد لا يجرى. وقدرت علو الشاطئين بثلاثين قدما ، أما ارتفاع الماء عن القاع فقد دل أثره على أنه لا يزيد على عشرين قدما ، وواضح من هذا أن النهر لا يمكن أن يفيض على جانبيه ويغمر الأرض المحيطة به ، وقد أيد لى هذا أصحابى فقالوا إنهم فى أثناء فيضان النهر يعبرونه فى قارب يجلب من الدامر لهذا الغرض ، وإنهم لم يروا هذه الأرض مغمورة من قبل بماء نهر سوى نهر النيل. وكان منظر ضفاف مقرن الخضراء تكسوها الأعشاب اليانعة وشجيرات الطرفاء الخضراء منظرا بهيا رائعا أجلت فيه الطرف ساعة كاملة ، وكنت فى انتظار الركب الذى تعطل حين تعثرت بعض الإبل وهى تهبط جرف النهر القائم وسقطت عنها أحمالها.

ونهر مقرن هو الحد بين إقليم راس الوادى والدامر. ورأينا السواقى على ضفافه الجنوبية ترفع الماء من البرك. ودلنا ترتيب الحقول هنا ونظامها ، ووجود المساقى الصغيرة ، على أن الزراعة تلقى من العناية قسطا لا تلقاه فى الأقاليم التى جزناها من قبل. ويسكن العرب من بدو الجعليين ضفاف مقرن فى مساحة تقطعها فى يومين بعد التقائه بالنيل ، وهم مستقلون استقلالا تاما وعشائرهم منبثة فى هذه الأرجاء حتى بلوغك سنار. وهم أقوى القبائل العربية هنا شوكة وأشدها بأسا ، ويزرعون الذرة على ضفاف النهر ويرعون الماشية الكثيرة.

وبعد أن عبرنا مقرن سرنا فوق سهل رملى قاجل تكسوه أشجار العشر التى بلغ ارتفاع بعضها عشرين قدما ، ثم دخلنا الأرض الزراعية ثانية ، وهنا قابلنا شيوخا من الدامر أرسلتهم إلينا طلائعنا ليحرسونا من لصوص الجعليين الذين كان بعض فرسانهم يحومون حولنا لشر يبيتونه بلا ريب. ودخلنا الدامر فى الأصيل بعد مسيرة ست ساعات ، والدامر بلد ذو صيت ذائع فى هذه الأقطار ، وقد أثلج صدرى أن أرى أهله أنبل من جيرانهم أهل بربر ، ومضيت مع جماعة

٢٠٤

العبابدة التى انضمت إليها إلى المنزل الذى نزلوا ، وكان بيت تاجر دنقلى من قدامى أصحابهم ، وكان الرجل غائبا عن داره ، ولكن زوجه رحبت بمقدمنا أيما ترحيب ، ونظفت لنا فى الحوش غرفتين أودعنا فيهما بضاعتنا ومتاعنا. والتقينا بتجار من كردفان كانوا قد قدموا من دنقلة حديثا بطريق شندى ، فأتونا بآخر أخبار المماليك.

الدامر من ١٠ ـ ١٥ أبريل ـ الدامر قرية ، أو بلدة (١) كبيرة قوامها خمسمائة بيت. وهى نظيفة تفضل فى شكلها بربر لما فيها من مبان جديدة ولخلوها من الخرائب. وفى بيوتها شىء من التنسيق ، وشوارعها منتظمة ، وتنمو فى كثير من أرجائها الأشجار الوارفة الظلال. ويسكنها عرب من عشيرة آل المجذوب ، ويردون أصلهم إلى شبه جزيرة العرب ، وجلهم من رجال الدين أو الفقراء. وليس لهم شيخ يتزعمهم ، بل فقيه يسمونه «الفقى الكبير» ، وهو الرئيس الفعلى والقاضى الذى يفصل فى خصوماتهم. ويشتهر آل المجذوب الذين أصبح هذا المنصب وقفا عليهم من قديم بما تنجب عشيرتهم من سحرة وعرافين مهرة لا يحجب عنهم غيب ولا تقاوم لهم تميمة. ويروون عن سحرهم القصص التى لا حصر لها ، من ذلك أن أبا الفقيه الحالى ـ وكان اسمه عبد الله ـ جعل شاة تثغو فى بطن اللص الذى سرقها وأكلها. ويحتكم القوم إلى الفقيه فى سرقاتهم ، وليس عسيرا عليه أن يأتى بالعجب العجاب فى الكشف عن سر هذه السرقات لخوفهم من علمه الواسع الذى يخترق الحجب كما يزعمون. ويخيل إلى أن وظيفة الفقى الكبير وراثية ، ولا بد أن يتوافر فيمن يليها بطبيعة الحال الذكاء ورجاحة العقل والتفقه فى الشريعة لأن هذه كلها من مقومات وظيفته. على أن الفقى الكبير ليس ساحرهم الأوحد ، فغيره من الفقهاء الأقل شهرة كثيرون ممن يؤمن الناس بهم على قدر تقواهم وعلمهم ، وهكذا اكتسبت بلدة الدامر بأسرها صيتا ذائعا. وفى البلدة مدارس عدة يؤمها الطلاب من دارفور وسنار وكردفان وغيرها من أنحاء السودان ليدرسوا الفقه دراسة تتيح لهم أن يكونوا فى بلادهم فقهاء كبارا.

__________________

(*) لا يفرّق أهل البلاد هنا بين القرى والمدن. فكل مكان مأهول يسمونه بلدا ، فإذا كان صغيرا فهو نزلة. أما لفظ المدينة فلا يستعمل قط فى هذا الشطر من السودان.

٢٠٥

ويقتنى فقهاء الدامر من الكتب الشىء الكثير ، ولكنها لا تتناول من المواضيع غير الدين والشريعة. ورأيت فيما رأيت نسخة من القرآن لا يقل ثمنها عن أربعمائة قرش ، ونسخة كاملة من تفسير البخارى تساوى ضعف هذا المبلغ فى مكتبات القاهرة. وقد جلب هذه الكتب من القاهرة الشباب من فقهاء الدامر أنفسهم ، فكثير منهم يجاور فى الأزهر الشريف أو فى المسجد الحرام بمكة ، ويظلون سنوات ثلاثا أو أربعا يعيشون على الصدقات والجرايات. فإذا عادوا إلى الدامر علموا الطلبة تلاوة القرآن وأعطوهم دروسا فى التفسير والتوحيد. ولهم جامع كبير حسن البناء ولكنه بلا مئذنة ، وتسنده عقود من الآجر وأرضه مفروشة بالرمل الناعم. وجو الجامع ألطف أجواء المدينة وأرطبها إليه ، وإليه يأوى الغرباء للتقيل بعد صلاة الظهر. ويلحق بالجامع مكان مكشوف تحيط به حجرات الدرس. ولكثير من الفقهاء زوايا صغيرة إلى جانب بيوتهم ، ولكنهم لا يصلون فريضة الجمعة إلا فى الجامع الكبير. ويحيط كبار الفقهاء أنفسهم بمظاهر الورع والتقوى ، ويعيش الفقى الكبير عيشة العابد المتقشف ، فهو يسكن بناء صغيرا يقوم وسط ميدان كبير من ميادين البلدة ، وقسم من البناء مصلى والقسم الآخر حجرة مساحتها نحو اثنى عشر قدما يقيم فيها ليل نهار لا يبرحها ، بعيدا عن أسرته ، وحيدا لا خدم معه ولا أتباع. وهو يعيش على ما يرسله له أصدقاؤه أو أتباعه من فطور وعشاء. فإذا كانت الساعة الثالثة عصرا بارح حجرته بعد اعتكافه سحابة نهاره للقراءة والدرس ، ثم اتخذ مجلسه على مصطبة من الحجر أمام داره ، وألم به إخوانه وأتباعه ، فجعل يصرّف أعماله حتى الغروب بل بعده. وذهبت مرة لأقبل يده فراعنى منه محيا وقور وطلعة جليلة ، وكان يلتف بعباءة بيضاء تغطيه كله ، وسألنى من أين أنا آت ، وفى أى مدرسة تعلمت القراءة ، وأى كتب قرأت؟ وبدا لى أنه اقتنع بجوابى عن أسئلته. وكان يجلس إلى جواره شيخ مغربى من مكناس قدم من مكة ليشتغل له كاتبا ، ويصرف له كل أعماله الرسمية. وذكروا لى أن هذا المغربى استطاع أن يجمع من وظيفته مالا طائلا.

٢٠٦

ويلوح أن شئون هذه الدولة الدينية الصغيرة تصرّف بمنتهى الحكمة والتعقل. وجيرانها يكنون للفقهاء أعظم الاحترام والإجلال ، فقد ألقوا الرهبة حتى فى قلوب البشاريين الغادرين فلم يسمع أحد أنهم اعتدوا على دامرى يعبر الجبال من بلده إلى سوا كن. وأخوف ما يخافه البشاريون أن يقطع الفقهاء عنهم المطر بسحرهم فتهلك أغنامهم ومواشيهم. وتسير القوافل من حين لحين بين الدامر وسوا كن لأن من الفقهاء تجارا كثيرين. ووجدنا خارج المدينة مضارب للبشاريين والجعليين الذين قدموها ليبيعوا غنمهم. وتوجد الآبار العامة فى المدينة وفى الطرق المؤدية إليها على أبعاد متقاربة.

وجل تجارة الدامر مع دنقلة وشندى ، ولا تصلها ببربر إلا القوافل المصرية المارة بها. ويصنع القوم قماشا قطنيا خشنا هو تقليد للدمور الذى تصنعه سنار ، ومعظم البضائع المصرية فى متاجر الدامر. وليس فى البلدة سوق يومية ولكن فيها سوقا أسبوعية يعرض فيها كل تاجر بضاعته. وذكروا لى أن المبيع من الماشية فيها كثير ، وأن الحصر الدامرية المصنوعة من خوص الدوم تلقى رواجا كبيرا فى البلاد المجاورة كلها. وفى بلد كالدامر يخلو من السوق اليومية ولا يعرض البائعون فيه سلعهم إلا مرة فى الأسبوع يعانى الغريب الأمرين فى شراء ما يحتاج إليه من سلع بسيطة. من ذلك أنى احتجت لقليل من ذرة عليقا لحمارى ، ولكن أقل عملة معدنية يتعامل بها القوم هى الريال ، ومقدار ما يشتريه من الذرة يفوق كثيرا ما أستطيع حمله معى. لذلك اضطررت إلى أن أحذو حذو رفاقى ، فطفت بالبيوت أعرض على أصحابها مسابح من خرز بسعر أربع حفن من الذرة للمسبحة. وجنيت من وراء هذه الطريقة ربحا قدره ٦٠% من الثمن الأصلى ، وأتيح لى فوق ذلك أن أدخل كثيرا من البيوت. وأدهشنى أن أكتشف عددا كبيرا من مشارب البوظة وبيوت اللهو منبثة فى أرجاء المدينة برغم تزمت الفقهاء وصرامتهم. وأعدت طوافى بهذه البيوت يوميا فى أثناء مقامى بالدامر ، وفى عصر يوم كنت أنادى على مسابحى فأقبل على فقيه وسألنى هل أقرأ القرآن؟ فقلت نعم ، فطلب إلى أن أتبعه إلى بيت قد أصيب فيه غداء طيبا ،

٢٠٧

ثم قادنى لبيت وجدت فيه حشدا من الناس يحيون ذكرى قريب لهم مات حديثا ، وكان هناك عدد من الفقهاء يقرءون القرآن فى صوت خافت. ثم أقبل فقيه كبير فكان ذلك مؤذنا لهم بترتيل القرآن ترتيلا عاليا على نحو ما يفعل المقرئون فى الشرق. وقد شاركتهم هذا الترتيل ، ومضينا فيه زهاء نصف الساعة حتى جىء لنا بالغداء ، وكان موفورا لأن القوم نحروا بقرة لهذه المناسبة. واستأنفنا التلاوة بعد أكلة شهية ، وأخرج شيخ منهم سلة ملئت بالحصى الأبيض فقرئت عليها الأوراد. وينثر هذا الحصى على قبر الميت كما رأيت على كثير من القبور الجديدة ، وقد استفسرت من الشيخ عن هذه العادة التى لم أرها تمارس فى أى بلد إسلامى آخر ، فقال إنها لا تعدو أن تكون عملا طيبا مشكورا ، وإنها ليست فرضا محتوما ، إنما يعتقد القوم أن روح الميت إذا زارت قبره سرها أن تجد هذا الحصى فتستخدمه مسبحة تسبح عليها الخالق الصمد. ولما فرغنا من التلاوة بدأ النسوة يولولن ويعددن مناقب الفقيد. وهنا بارحت الحجرة ، وفيما أنا أستأذن رب البيت الكريم فى الرحيل نفحنى ببعض ضلوع من اللحم المشوى لعشائى.

ويزين نساء الدامر غرف جلوسهن بعدد كبير من الصحون الخشبية الواسعة يعلقنها على الجدران فتبدو كأنها الصور الكثيرة ، أما الأرض فيغطينها بالحصر الجميلة مختلفة الرسوم والألوان ، ولا غرو فالقوم خبيرون بصبغ خوص الدوم. كذلك رأيت بيض نعام وريش نعام أسود معلقا على الحائط فوق الباب للزينة.

وعلى ضفة النيل الغربية تجاه الدامر قرية صغيرة تدعى الدامر غرب ، وتصلهما معدية بدائية الصنع هى جذع شجرة نبق منقور.

وتلقى الزراعة فى الدامر من العناية ما لا تلقاه فى أى بلد آخر من دنقلة إلى شندى. فيروى الفلاحون الأرض ريا صناعيا بالسواقى على أعناق البقر كما يفعل أهل مصر ، ويحصلون بذلك على محصولين فى السنة ، ولم تقاس الدامر من أهوال المجاعة ما قاسته جاراتها ، ولكن الجدرى فتك بأهلها فتكا ذريعا. وأهم محاصيلها الذرة ، ويزرعون بعض القمح ولكنهم لا يصدرونه ، إنما يأكله كبار الفقهاء الذين تعلموا هذا الترف فى أثناء مقامهم بمصر. كذلك تزرع البامية والمقادير الكبيرة

٢٠٨

من الشطيطة الحمراء التى يصدر بعضها والتى يولع القوم ولعا شديدا بتتبيل طعامهم بها. وينتج هذا الإقليم القطن الكثير ، كذلك ينتج قليلا من التبغ لسوق البشاريين ، وهو فى أحط الأنواع ، أما الفقهاء أنفسهم فلا يدخنون قط. وقد خيل إلى أن ماشية الدامر أجود وأسمن من ماشية بربر ، وهم لا يربون من الخيل إلا القليل ، أما الحمير فكثيرة ، وقد اشترى أصحابنا التجار بعض الإبل وباعوا شيئا من بضاعتهم. ولا يتقاضى الفقهاء ضريبة مرور فإن أهم مواردهم يأتيهم من الزراعة والتجارة ، وهذا هو السر فى ازدهار الدامر وثرائها ، لأن القوافل لا تجد أى بأس من المكث بها أياما. وكان مضيفنا فى مطالبه منا معتدلا بعيدا عن الشطط ، وشعرت وشعر أصحابى ونحن نغادر البلدة أنا راضون عن أهلها كل الرضى. وأرسل العبابدة أقماعا من السكر للفقى الكبير ، ولكنهم أعطوها بمحض اختيارهم.

١٥ إبريل ـ بكرنا فى الرحيل بصحبة فقيهين يحرساننا حتى حدود إقليم شندى. وهذا الطريق خطر وأهله لصوص ، ولكن خوف الفقهاء تغلغل فى قلوب القوم بحيث كان مجرد رؤية فقيهين يسيران أعزلين على رأس القافلة كافيا لبعث الرهبة فى نفوسهم. وكثيرا ما أقبلوا نحونا ليلثموا أيديهما ثم يعودوا أدراجهم. ولو لا معونة هؤلاء الفقهاء لاقتضى عبور هذا الطريق قوة مسلحة ، وقد درجت القوافل القادمة من الجنوب على الوقوف بحدود شندى الشمالية حتى يصلها فقيه من الدامر ليحرسها.

وعلى الرغم من وجود دليلينا كان كلهم نهبا للوساوس والمخاوف ، ولصق بعضها ببعض خشية أن يفتك اللصوص بالمتخلف منا بين الأحراج. وحملت بندقيتى فى يدى ، وكنت أعلم أنها خليقة بأن تروع عصابة بأسرها ، ولكننى كعادتى فى أسفارى لم أر ضرورة لتعبئتها. وأقبل علىّ كبير التجار الدراويين ، ولما علم أن البندقية فارغة أمرنى فى صلف أن أعبئها بمقذوف ولكنى أبيت. وعلى إثر ذلك نشب بيننا شجار حاد ، فسبنى بأقذع الألفاظ ورمانى بالجبن ، وزعم أننى غير جدير بحمل السلاح ، فأجبته «قد يكون هذا صحيحا ، ولكنى على أى حال ألفت حمله ، أما أنتم فتجدون العصا أو المنجل أليق لأيديكم من السيف». ووجد الرجل فى

٢٠٩

هذا الجواب ما يجرح كبرياءه ، فأهوى على كتفى بضربة من عصاه كادت تصرعنى ، وسدد إلىّ ثانية صددتها ببندقيتى ، وهممت بضربه بمؤخرها لو لا أن أصحابنا حالوا بيننا وانتزعوا السلاح من يدى. وقد اغتبطت بما فعلوا حين فكرت فى الأمر مليا ، فلو أننى ضربت الرجل لأصبته بجرح ولاستفحل الأمر. لذلك اكتفيت بقذفه بوابل من الشتائم تنفيسا لغضبى ، وأنحى عليه الجميع باللائمة ، لا سيما العبابدة الذين جهروا بأنهم لن يسكتوا على أى إهانة توجه إلىّ بعد الآن. ولم أستطع أن أدون فى هذه المرحلة ما درجت على تدوينه من مذاكرات ضافية وافية ، وذلك لاشتباكى فى هذه المشاجرة ولعدم إمكانى اعتزال الركب خشية أن يهاجمنى اللصوص. وبعد أن بارحنا الدامر دخلنا حرجا من شجر السلم ومضينا فى طريق غير بعيد من الأرض الزراعية. وشهدنا على مقربة من النهر عددا من القرى والنزلات منبثة بين أحراج الدوم ، ويسكن هذه القرى عرب المكابراب ، وكانوا يخضعون لأمراء شندى ، ولكنهم استقلوا عنهم منذ زمن طويل ، وهم اليوم يعيشون من محصول أرضهم ومن السرقة. والحرب قائمة بينهم وبين جيرانهم أجمعين ، ويخشى هؤلاء الجيران بأسهم الشديد وما اشتهروا به من بسالة عظيمة ، ولا ينجو المسافرون من سطوهم ما لم يرافقهم فقيه أو أكثر من فقهاء الدامر.

وتركنا النيل بعد الدامر بست ساعات شاقين لنا طريقا قصيرا عبر التلال ، فبلغنا حوابة بعد تسع ساعات ، وهذه القرية هى اليوم الحد الشمالى لإقليم شندى. وتمتد حدود شندى قانونا إلى نهر مقرن ، فتدخل فى نطاقها الدامر ، ولكن فقهاء الدامر كما مربنا مستقلون. ونعمنا بأمسية بديعة بعد نهار شديد القيظ ، ومضينا جميعا إلى النهر نسبح فيه ، وقد وجدت الحصى يكسو قاعة قرب الشاطىء. وكان مضربنا فى ساحة مكشوفة وسط القرية ، وقيل لى إن القرية مأمونة ، فأخذت بعض المسابح لأقايض عليها بالخبز. وطوفت فيها دون أن ألقى توفيقا ، حتى لقينى رجال فدعونى لبيتهم زاعمين أن نساءهم سيبتعن المسابح. فمضيت معهم حتى بلغنا زقاقا ضيقا مهجورا ، وإذا هم ينقضون علىّ ويختطفون مسابحى وعمامتى ، ولما رأونى ما زلت أقاومهم

٢١٠

مع أنتى كنت أعزل جردوا سيوفهم ، فما كان منى إلا أن أطلقت ساقى للريح ولحقت بأصحابى ، فلما رويت لهم ما حل بى ضحكوا منى وأشاروا على بأن أشكو أمرى إلى شيخ القرية وهو كفيل بالكشف عن اللصوص. ولقيت الشيخ آخر الليل فى مشرب من مشارب البوظة يحيط به جماعة من السكارى ، ووصفت له اللصوص فلم يمض قليل حتى ردت إلىّ المسابح والعمامة. ثم ألح على الشيخ فى أن أجالسه وأشاربه ، فلما اعتذرت صحبنى إلى قومى ، واضطررت آخر الأمر أن أنفحه بما يساوى ضعف ثمن المسروقات. وقد سقت هذه الواقعة مثالا لما يتعرض له المسافر فى هذه الأنحاء من خطر السرقة إذا سار فيها وحيدا.

١٦ أبريل ـ بلغنا قرية قباتى بعد مسيرة أربع ساعات من حوايه. ويبنى القوم هنا قراهم الكبيرة كما يبنيها سكان المرتفعات فى صعيد مصر ، أعنى على منحدر تلال الصحراء غير بعيد من الأرض التى يزرعونها. ورأيت فى قباتى بناء غريبا يقوم فوق ضريح أحد الأولياء ، والبناء مخروط منتظم يعلو نحو الثلاثين قدما ، ويرتكز على قاعدة مربعة ارتفاعها خمس أقدام أو ست. وفيها باب منخفض.

والبناء كله من اللبن ، وقد وجدت بابه موصدا ، وقيل لى أنه لا يفتح إلا أيام الجمعة. وشكل البناء من بعيد كشكل الهرم بالضبط ، ولعل الإثيوبيين كانوا أول من استخدم هذه الأبنية قبورا من قديم العهود ، ولعلها الأصل فى مقابر منف العظيمة. ورأيت فى شندى بناء منها ولكنه أصغر حجما ، وفيما خلا هذين لم أصادف لها مثيلا على كثرة قبور الأولياء والمشايخ فى شتى القرى الكبيرة.

وسرنا من قباتى على السهل الزراعى تارة وعلى التلال الرملية تارة أخرى. وأعرض ما يبلغه السهل من التلال إلى النهر أربعة أميال. وكان القوم قد ضموا

٢١١

محصولهم من أمد طويل ، ولكن سيقان الذرة كانت ما تزال تكسو السهل كله متفرقة فيه لا مزدحمة متقاربة كما ترى فى مصر ، وهو دليل واضح على ما تلقى الزراعة هنا من إهمال شديد. وفى الحقول الكثير من أشجار النبق ، أما أطراف الصحراء فتكسوها أشجار العشر. ومررنا بعدد من النزلات فى التلال القائمة إلى يسارنا ، وبعد مسيرة عشر ساعات جئنا قرية جبيل [أم على] ليلا ، فوجدناها قرية كبيرة جاثمة بين التلال ، وفيها عدد من المساجد الصغيرة والمبانى الجيدة. ويحكمها قريب من أقارب ملك شندى الذى يمتد إقليمه إلى حواية. وحططنا فى ساحة مكشوفة خلف القرية ، وبعد أن مضينا لنصيب حظنا من الراحة أيقظنا خدم فقيه القرية الكبير حاملين لنا من قبله عشاء طيبا. وفى أثناء مسيرنا هذا النهار كنا نلقى كثيرا من المسافرين فى الطريق ، وجلهم على ظهور الحمير ، كذلك التقينا بقافلة صغيرة قادمة من شندى قاصدة بربر. ورأيت سدودا أثرية من الثرى لم ألمح فيها أثرا للحجر أو اللبن ، وقنوات كثيرة شقت لرى السهل ولكنها كادت تغص بالتراب فلم يعد لها نفع. وتبدأ قرب جبل أم على سلسلة من الجبال صخورها من الحجر الرملى ، وتمتد جنوبا محاذية للنهر.

١٧ أبريل ـ بعد أن غادرنا جبيل أم على بساعتين مررنا فى أثناء عبورنا الأرض الزراعية بتلال منخفضة من الأنقاض والآجر ، طول التل منها ثمانون خطوة تقريبا ، وتمتد بعرض الأرض الزراعية ميلا على الأقل إلى الشرق ، وخيل إلىّ أنها تنحرف فى نهايتها نحو الجنوب ، والآجر فجّ الصنعة لا يدانى ما يصنع منه اليوم فى مصر. ويلوح أن هذه التلال كانت تستعمل سورا وإن لم يبق منه آثار يكوّن منها الناظر رأيا فيه. وقد مررنا فى شماله وجنوبه بأسس مبان متوسطة الحجم بنيت بالحجر المنحوت ، وهذا كل ما رأيت من أطلال ، ولم أشهد ـ على قدر ما أسعفنى بصرى ـ أثرا لحجارة مبعثرة بين تلال الأنقاض ، ولعلى كنت واصلا إلى كشوف أمتع من هذه لو أننى أنعمت النظر فى المكان وأطلت فحصه ، ولكنى وأنا مقيد بالسير مع الركب ـ ما كنت لأستطيع الوقوف بأطلال لأفحصها ولو كانت عجائب طيبة. وجئنا قرية صغيرة تدعى روّا بعد مسيرة ثلاث ساعات ،

٢١٢

وعندها يزداد انحراف التلال شرقا ، فتترك سهلا عرضه لا يقل عن عشرة أميال. والسهل يزخر بالنباتات البرية تخالطها كل ضروب السنط الشوكى ، وتنبث فى أرجائه الأكواخ والنزلات ، وهو منتجع العرب الجعليين ، تسرح فيه قطعانهم من البقر والإبل والغنم. ولهؤلاء العرب بعض السواقى ويزرعون المقادير الكبيرة من البصل يغذون بها سوق شندى ويصنعون أكواخهم من الحصر ، وقد طرقت بعضها ولكنى لم أستطع أن أظفر من أهلها بقطرة من اللبن دون أن أؤدى الثمن ذرة. وكانت الأعشاب البرية وأغصان السنط المتدلية تزحم الطريق وتعرقل سير إبلنا المحملة.

ومضينا ساعتين أو ثلاثا وسط هذا الإقليم الخصيب ، ثم دخلنا ثانية سهلا رمليا تكسوه أشجار السيال الضخمة ، فحططنا على ضفة النهر العالية ساعات الظهيرة وسقينا الإبل. ومرت فوق رءوسنا أسراب كبيرة من اللقالق ميممة شمالا. وطوينا هذا السهل الرملى بعد سبع ساعات من قيامنا فى الصباح ، ودخلنا بقعة أقل منه اتساعا تدعى بيوضة ، ولكنها فى خصوبة السهل السابق. وتشتمل بيوضة على نزلات كثيرة بيوتها من غرفة واحدة تفى بجميع الأغراض. وهنا تقوم مصانع الملح التى تغذى بهذه السلعة جميع هذه الأرجاء حتى بلوغك سنار ، ويجمع العرب التربة أكواما على جانب الطريق ، وهى فى هذه المنطقة وفى أميال حولها مشبعة بالملح ، ثم يفصلون الملح عن التربة بغليها فى قدور كبيرة من الفخار ، ويغلون الجزء الملح مرة ثانية فى قدور أصغر ، ثم يقرّصون الملح المتخلف أقراصا صغيرة مستديرة قطر القرص منها قدم وسمكه ثلاث بوصات ولونه أبيض ناصع ، وله مظهر الملح الصخرى ، ويعبأ اثنا عشر قرصا من هذه الأقراص فى سلة ، وحمولة الجمل أربع سلال منها. والملح سلعة هامة فى تجارة شندى ، ويشترى تجار سنار المقادير الكبيرة منه لأسواق الحبشة ، ويقايضون عليه بالذهب والرقيق فى الجبال المحيطة براس الفيل ومصانع الملح هذه ملك لأمير شندى ، وكان على النارحين مررت بها عشرون قدرا.

ووراء سهل بيوضة ، حيث يدخل الطريق مرة أخرى فى صحراء رملية جرداء ، تقوم

٢١٣

نخلة فارعة هى الوحيدة التى تراها فى هذه البلاد ، ولا غرو فالنخل لا يزرع من دنقلة إلى سنار. ويتهلل التجار لمرآى هذه النخلة فهى بشيرهم بختام موفق لرحلتهم. وكان فى انتظارنا جماعة من أهل شندى جاءوا يحيون أصحابهم ويلقون على بضاعتهم نظرة. ولا يدخل التجار شندى نهارا ، لذلك حط الركب حتى غربت الشمس ، ثم عاودنا المسير إلى المدينة هونا حتى بلغناها بعد مغادرتنا جبيل أم على بتسع ساعات تقريبا.

شندى من ١٧ أبريل إلى ١٧ مايو ـ نزلنا بيتا فسيحا لصديق من أصدقاء العبابدة ، وكان فى أطراف المدينة من ناحية الصحراء. إلا أن مك شندى أوفد إلينا فى الصباح عبدا ينبئنا بأنه يطلب البيت لجارية من جواريه الحبشيات ستطعم بلقاح الجدرى ، وكان يريدها أن تقضى فترة مرضها فى بيت منعزل خلوى متجدد الهواء. وأمر المك بأن يعد لنا بيت آخر فى وسط البلدة ، فمضينا إليه فى الغد ، ووجدنا رب البيت غائبا ، ولكن امرأته احتفت بمقدمنا.

وشندى أكبر بلد فى شرق السودان بعد سنار وكوبى (بدارفور) ، ويقول التجار إنها أكبر من عاصمتى دنقلة وكردفان. وتتألف من عدد من الأحياء تفصلها عن بعضها البعض الميادين العامة أو الأسواق ، وقوامها ثمانمائة بيت إلى ألف. وهى مبنية فوق السهل الرملى على نحو نصف ساعة من النهر ، وتشبه بيوتها بيوت بربر ، ولكنها أعمر منها بالمبانى الكبيرة وأقل منها خرائب. ولا تكاد تجد لشوارعها نظاما ، فالبيوت منبثة فوق السهل فى فوضى عجيبة ، ولم ألحظ الآجر فى مبانيها ، وتشتمل بيوت المك وأقاربه على حيشان مساحة الحوش منها عشرون قدما مربعة تحيط بها أسوار عالية ، ويصدق هذا على سائر بيوت شندى. وعلى رأس الحكومة مك اسمه نمر ، وتنتمى أسرته للعشيرة التى تحكم سنار ، واسمها ود عجيب وهى من عشائر الفونج كما فهمت. وكان أبو نمر عربيا من قبيلة الجعليين ، ولكن أمه من عشيرة ودعجيب الحاكمة ، ويبدو من هذا أن للنساء الحق فى وراثة العرش ، ويتفق هذا وقصة بروس الذى روى أنه وجد على عرش شندى امرأة تسمى ستنا. ومك شندى خاضع لملك سنار ، شأنه فى ذلك شأن ملك بربر ،

٢١٤

ولكنه فى واقع الأمر مستقل كل الاستقلال إذا استثنيت ما يؤديه من إتاوة عند ارتقائه عرشه وما يرسل للملك ووزيره (١) من هدايا بين الحين والحين ، وهو مطلق التصرف فى حكم إقليمه الذى يمتد مسيرة يومين إلى الجنوب.

وقد اتصلت الحرب سنوات بين نمر وعرب الشايقية قبل أن يصل المماليك دنقلة ، فقتل الشايقية نفرا من أقاربه وأغاروا مرات على أرضه وأملاكه على ضفة النيل الغربية بفرق كبيرة من فرسانهم فتركوها خرابا يبابا. ثم اصطلح عرب الشايقية معه ليفرغوا إلى قتال المماليك قتالا مجديا ، فانقلب عليه أخوه الذى وكل إليه حكم الشاطىء الغربى وأشهر عليه الحرب ، واستمرت الحرب بينهما سجالا سنوات دون أن تنتهى بظفر أو هزيمة يؤبه بهما لأن النهر يقوم حدا بينهما فلا تستطيع عبوره من جيوشهما إلا شراذم صغيرة.

وحكومة شندى أقوى من حكومة بربر ، فلملكها سلطة مطلقة لا تحد منها عصبية الأسرة القوية التى لا هم لها فى هذه البلاد إلا الإخلال بالنظام ، وهو لا يلجأ إلى ما يلجأ إليه مك بربر من ابتزاز مال الغرباء ابتزازا يفزعهم من هذه البلدة ، ولعل الفضل فى احتفاظه بهذه السلطة المطلقة راجع إلى تعدد القبائل العربية النازلة بشندى ، وإلى أنه ليس فيها قبيلة بلغت من القوة مبلغا يتيح لها التصدى لقبيلة المك وبطونها الكثيرة. وأكبر هذه القبائل النمراب والنافعاب والهلبون ، وجلها ما زال يحيا حياة البداوة. وطبقة التجار هى أجل طبقات الناس فى شندى قدرا وأوفرها اعتبارا ، وبين هؤلاء كثير من النزلاء وفدوا عليها من سنار وكردفان ودارفور ودنقلة ، وأكثرهم نفرا هم الدناقلة ، ويشغلون حيا كاملا ولكنهم أقل هؤلاء النزلاء قدرا فى عيون أهل شندى ، فهم ينعون عليهم شحهم ، وقد أصبح ولعهم بالمال مضرب الأمثال ، وزاد فى تلويث سمعتهم اشتغالهم بالربا ، وهى تجارة تكاد تقتصر عليهم ، حتى إنك لو دعوت عربيا من أهل شندى ب «الدنقلاوى» لعدها منك إهانة لا تغتفر ، فالدنقلاوى هنا كالهودى فى أوربا.

__________________

(*) يقولون إن وزير سنار ـ وهو من أسرة غدلان ـ هو السيد المهيمن عليها ، أما المك فليس له من السلطلة إلا ظلها.

٢١٥

وتزكو التجارة فى شندى لأن المك لا يبتز من التجار ضرائب ، وقد أكد لى كثيرون أنه لا يجرؤ على هذا خشية أن يغضب وزير سنار. ولست أدرى مبلغ ما فى هذا الزعم من صحة ، ولكن الواقع أن القوافل معفاة من المكوس أيا كانت ، ولا يقدم المسافرون للمك سوى هدية صغيرة ليبسط عليهم مزيدا من حمايته الخاصة ، ويضيفون إليها هدية أخرى لأحد إخوته ، وهو من وجوه المدينة. وقد أرسل أصحابى العبابدة للمك لفة صغيرة من الصابون والسكر أسهمت فيها بنصف ريال. ولم أسمع بوجود وظائف أخرى أدنى من وظيفة المك فى حكومة شندى ، ويبدو أن ملكها قد جمع فى يده كل السلطات ، وأقرباؤه يحكمون القرى التابعة للإقليم ، وقوام بلاطه ستة من الشرطة وكاتب وإمام وخازن وفرقة حرس جلها من الرقيق. أما أخلاق أهل شندى فكأخلاق أهل بربر سواء بسواء. نعم إن المك يلزمهم بعض الحدود ، ولكن اللؤم والبغى لا يجدان رادعا ، ولا غرو فهم يعلمون أن القانون لا يملك إلا أن يحاول منع وقوع الجرائم ولكنه قلما ينزل بهم العقوبة الرادعة. وكثيرا ما يساق إلى المك لصوص سطوا على الناس ليلا ، وسكارى اعتدوا على الأغراب ، وسارقون ضبطوا فى الأسواق ، إلى غير هؤلاء من المجرمين ، فيقتصر فى عقابهم على الحبس يومين أو ثلاثة ، وما سمعت قط أنه أمر بإعدام مجرم منهم أو حتى جلده ، مع أن مثل هذه الجرائم كانت تقترف يوميا خلال مقامى بشندى. وكان يؤذن لمقارفيها بالعودة إلى بيوتهم مطمئنين بعد أن يدفعوا غرامة صغيرة للمك ورجاله. أما فى كردفان فعقاب السرقة الإعدام فيما سمعت.

وبيوت الليل ومشارب البوظة منتشرة هنا انتشارهما فى بربر ، بل إن المشارب أكثر انتشارا. ولم تمر بى ليلة لم أسمع فيها أصوات السكارى يتصايحون بأغانيهم فى مجالس البوظة مع أن الحى الذى نزلنا كان من أهدأ أحياء المدينة ، وهو حى الدناقلة الذين يعصمهم الحرص على المال من الانغماس فى اللهو وإدمان هذه المعاصى. وبينما كنت فى بربر أرى البغايا لا يختفين لم ألقاهن فى الطرقات بشندى إلا قليلا ، وإن كنّ ، فيما يقال ، داخل البيوت يكدن يبلغن فى الكثرة أخواتهن فى بربر. ولباس أهل شندى وعاداتهم وآدابهم لا تختلف عما وصفت فى غيرها من

٢١٦

البلاد التى مررت بها ، ويبدو أنها هى بعينها حتى بلوغك دارفور وسنار. وقد لحظت أن نسبة المتأنقين فى لباسهم بشندى أكثر من نسبتهم ببربر ، كذلك كانت ثياب القوم أنظف. والذهب من السلع الكثيرة التداول فى سوق شندى ، لذلك ترى بين نسائها من يلبسن الأقراط فى أنوفهن وآذانهن أكثر مما ترى بين نساء بربر. والقوم هنا أيسر حالا ، ومن المألوف أن ترى الأسرة منهم تملك اثنى عشر عبدا يخدمون فى البيت وفى الحقل.

وأهل شندى كأهل بربر رعاة وتجار وزراع. على أن القوم قلما يكترثون للزراعة ، فهم يتركونها لزراع العرب المجاورين للمدينة. والأرض الزراعية القريبة من شندى ضيقة الزمام ، ولكن فى شمالها وجنوبها بعض السهول الخصيبة. وسواقى الماء شائعة الاستعمال ، ومعظمها قائم على شطئان النهر العالية التى يعجز أعلى الفياضانات عن غمرها بالماء. وهى تتيح للزراع محصولا سنويا واحدا ، وفى إمكانهم أن يزرعوا محصولا ثانيا وثالثا كما يفعل أهل الصعيد فى أراضيهم العالية التى قل أن يرقى إليها ماء النهر ليغمرها بفيضانه ، ولكن فى طبعهم من الكسل وفتور الهمة ما يقعد بهم عن بذل الجهد فى رية ثانية أو ثالثة. والذرة أهم المحاصيل ، ويزرع القليل من الدخن والقمح ، فأما الدخن فيأكله التجار القادمون على شندى من الغرب ، وأما القمح فيكاد يقتصر استهلاكه على الأسر الغنية. وتعرض السوق على الدوام المقادير الكبيرة من البصل ، وبعض الشطيطة المجلوبة من كردفان ، والبامية والحمص والملوخية والترمس (١) وكلها أخضر أو مجفف. ويزرعون فى موسم الفيضان شيئا من البطيخ والخيار ، ولكن المزروع منهما لا يتجاوز حاجة حريم المك.

وماشية شندى طيبة ، ويقول أهلها إنها تجود وتكثر كلما صعدت فى النهر. ولم أر هنا من الحيوان الأليف ما لا يوجد مثله فى مصر. وأول ما تلقى الفيلة فى أبو حراز على مسيرة يومين أو ثلاثة شمال سنار ، ولم تر قط مجاوزة هذا الإقليم

__________________

(١) يستعمل دقاق الترمس فى مصر بديلا عن الصابون فى غسل الرأس والجسم.

٢١٧

الذى تحده سلسلة من الجبال تقطع عرضا فى ست ساعات أو ثمان ، وهى سلسلة تمتد حتى تحدق بالنهر. وقد ذكروا لى أن النمر كثيرا ما ترى فى الوديان الواقعة إلى الشرق من شندى ، أما الزراف فيعيش فى جبال الدندر ، وهو إقليم يقع فى اتجاه عطبرة على ست مراحل أو ثمان من شندى جنوبا بشرق ، ويصيده عرب الشكرية والكواهلة ، وينشدون منه جلده الذى تصنع منه أمتن أنواع الدرق. ورأيت كثيرا من التياتل الجبلية جلبت إلى سوق شندى ، وكانت من أوفر ما رأيت جسما ، ولها قرون طوال تنثنى حتى تبلغ منتصف ظهورها ، وبطرى القوم لحمها اللذيذ إطراء شديدا. ويطلقون على التيتل هنا اسم الآريل ، وهو اسم يطلق على الظبى الأحمر فى سوريا ، أما فى صعيد مصر فاسمه التيتل ، وفى سوريا البدن ، ويقتنصه البدو الجعليون فى فخاخ على نحو ما يقتنصون النعام. والنعام كثير الذيوع أيضا فى هذه الأرجاء ، على أن ريشه لا يبلغ فى الجودة مبلغ ريش نعام الصحارى الغربية. وأغلى الريش فى مصر ما جلب من كردفان ودارفور ، وتحمله قوافل دارفور إلى أسيوط. وبجلب فلاحو الجعليين ريش النعام إلى السوق حزما اختلط فيها الطيب بالردىء ، ويقايضون عليه بالذرة. وكان ثمنه يوم كنت بشندى عشر ثمنه بالقاهرة التى كانت تباع فيها أجود أنواعه بسعر مائتين وثمانين قرشا للرطل. وقد أدخل الباشا مؤخرا ريش النعام ضمن السلع التى يحتكر تجارتها.

وفرس البحر أو البرنيق قليل فى شندى وإن ظهر فيها حينا بعد حين. واتفق وجود فرس فى النيل قرب بيوضة خلال مقامى بشندى ، وكان يغير على الحقول غارات مدمرة. ولم يكن يظهر فوق الماء نهارا ، فإذا هبط الليل خرج إلى البر وأتلف بأرجله الضخمة من الزرع ما أتلف ، والتهم منه بنهمه ما وسعه أن يلتهم. ولا يعرف القوم وسيلة لقتل هذه الأفراس. أما فى سنار حيث يكثر عددها ، فيقتنصها الأهالى فى حفر يخفونها بالغاب فتسقط فيها الأفراس أثناء طوافها ليلا. ويجمع القوم على أن الرصاص لا يصرعها إلا إذا أصابها فى مقتل ، ومقتلها فوق الأذن. وتصنع السياط أو الكرابيج المأخوذة من جلدها فى سنار ، فإذا صادوا فرسا منها قطعوا على الفيل جلده سيورا دقيقة ، طولها خمس أقدام أو ست ، مستدقة

٢١٨

الأطراف ، ثم يطوى كل سير منها بحيث يلتئم طرفاه ويكونان أنبوبة تربط رباطا وثيقا وتترك فى الشمس لتجف. ولا بد من ذلك هذه الكرابيج بالسمن أو الشحم لتصبح لدلة طيعة. وتباع فى شندى بسعر اثنى عشر كرباجا أو ستة عشر للريال الإسبانى. أما فى مصر ، حيث يكثر استعمالها وحيث يبعث مرآها الفزع فى أفئدة الخدم والفلاحين ، فثمن الواحد منها من نصف ريال إلى ريال. وهى فى الأجواء الباردة ـ حتى جو سوريا ـ تصبح قصمة وتتشقق وتفقد لدونها.

وتكثر التماسيح حول شندى ، وقد لحظت على وجه العموم أن هذا الحيوان يلتزم من النيل مناطق خاصة قل أن يجلو عنها. فهو قد اختفى مثلا من دلتا النيل اختفاء تاما مع أنه لا يوجد عائق معقول يعوقه عن الانحدار إليها مع النهر ، أما فى الصعيد فآثر البقاع عنده اليوم إخميم ودندرة وأرمنت وأدفو ، وقل أن تراه فيما بين هذه البلاد. كذلك شأنه فى بلاد النوبة حول دنقلة. وفى بربر لا يخشى أحد أن يلقى فى النهر تمساحا ، وكثيرا ما سبجنا فيه هناك وأوغلنا إلى وسطه ، أما فى شندى فالتماسيح تلقى الرعب فى قلوب الناس ، فالعرب والعبيد والنسوة الذين يقصدون شاطىء النهر القريب من المدينة صباح مساء ليغسلوا ملابسهم يجب ألا تغفل لهم عين ، أما السابحون منهم فى مياه النهر فيحذرون التوغل فيها. وقد شهدت غير مرة ظهور التمساح على القوم ورأيت مبلغ ما يلقيه مرآه من هلع فى قلوبهم فيرتدون جميعا إلى البر فى لمح البصر. وفى أثناء مكثى بشندى اقتنص التمساح رجلا أشاروا عليه بالسباحة فى النهر بعد إبلاله من الجدرى ففتك به. وكثيرا ما يؤتى إلى سوق سنار بالتماسيح فيباع لحمها فيها. وقد ذقت هذا اللحم مرة بإسنا ، ولونه أبيض مربدّ لا يختلف عن لون لحم العجل ، وفى رائحته أثر من رائحة السمك. وقد صاد هذا التمساح بعض الصيادين بشبكة قوية ، وكان طوله يزيد على اثنتى عشرة قدما. وأمر حاكم إسنا فجىء به إلى فناء داره ، وأطلقت عليه أكثر من مائة رصاصة دون أن تصيب منه مقتلا ، وأخيرا طرحوه على ظهره وأفرغوا مرودا صغيرا من الرصاص فى بطنه ، وهو أرق جلدا من ظهره. وقل أن يصطاد عرب شندى السمك ، ويبدو أنهم لا يعرفون الشباك ، ولكن أطفالهم يتلهون بصيد السمك بالسنانير.

٢١٩

ومحصول حقول شندى وما جاورها لا يسد حاجة أهلها التى تتزايد لوفود القوافل عليها وفودا لا ينقطع. فتستورد الذرة من أبو حراز على الأخص ، وهى فى الطريق إلى سنار. وقد وصلت منها فى أثناء مكثى بشندى قافلة تحمل الذرة قوامها أكثر من ثلاثمائة جمل ، وكان ثمن الذرة يوم وصولنا ريالا لكل اثنى عشر مكيالا فهبط إلى ريال للعشرين. ويتقلب ثمن الذرة كل يوم تقريبا إذ تتأثر السوق بوصول كل قافلة من قوافل التجار الذين يبتاعون منها المقادير الكبيرة طعاما للرقيق وعليقا للابل. كذلك يحتكر المك تجارة الغلال ما وسعه الاحتكار ، ويقال إن الذرة موفورة جدا فى أبو حراز وسنار ، فالأربعون مكيالا تباع بريال ، وهى فى شكلها وحجمها شبيهة بذرة شندى والصعيد ، ولكنها غبراء اللون ، وغذاؤها فيما يروون أقل ، لذلك فهى أرخص بطبيعة الحال.

والخيل فى شندى أوفر منها فى بربر ، ويقولون إن فى وسع المك أن يحشد فى شندى نفسها من مائتى فارس إلى ثلاثمائة. ويؤثر بدو الجعليين ركوب الأفراس على ركوب الفحول كعادة العرب الشرقيين ، أما سكان شندى فيؤثرون ركوب الفحول. ورأيت عند أخى المك ـ وهو الراس سعد الدين ـ جوادا اشتراه من الجنوب بثلاثة عشر عبدا ، وهو أجمل ما رأيت من الخيل. وقد احتشد فرسان شندى عن بكرة أبيهم فى يوم مهرجان أقامه المك نمر بمناسبة ختان ولد له ، وطافوا المدينة مع أسرة المك وجيادهم تثب وتخطر ، ولكنى لم أر فيهم شيئا من المهارة ، ولم يحاول أحدهم ضربا من تلك الألعاب التى اشتهر بها فرسان المماليك ، وكل ما فعلوه هو الوثب أماما وخلفا ، ولم ألحظ بينهم فارسا مقداما جسورا. ومع ذلك فهؤلاء الفرسان هم عماد المك ، وعليهم المدار فى جميع المعارك التى يكره على أن يخوضها مع أعدائه. وتشبه سروج الخيل ولجمها ومهاميزها ـ التى لا يضعون فيها غير كبرى أصابع القدم ـ نظائرها عند أهل بربر وعند عرب الشايقية الذين يشتهرون بالفروسية فى هذه البلاد اشتهار المماليك بها فى تركيا فيما مضى. ويقتنى نمر زهاء اثنتى عشرة بندقية اشتراها أو أخذها من التجار المصريين ، وهو يسلح بها عبيده المقربين إليه ، ولكن قل منهم من تتوافر له الشجاعة الكافية لإطلاق النار ، وليس منهم من

٢٢٠