رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

جون لويس بوركهارت

رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: فؤاد أندراوس
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة
الطبعة: ٠
ISBN: 977-437-201-8
الصفحات: ٣٩٢

فى الوادى ساعتين ، وبعد أن أكملنا مسيرة ثلاث ساعات بلغنا صخورا رملية تقطعها طبقات من المرو. ثم صعدنا سهلا هينا ، وبعد أربع ساعات جئنا واديا رمليا فسيحا سلكناه ساعات ووجهتنا جنوب الجنوب الغربى ، حتى إذا أتممنا مسيرة سبع ساعات بلغنا واديا ضيقا يدعى أم الحبال (وسمى كذلك لكثرة ما به من منعطفات) ، وهناك حططنا بعد أن سرنا فى يومنا هذا نحو سبع ساعات ونصف. ويحفل هذا الوادى بالأشجار الشوكية من فصيلة السنط ، وتنسجم أوراقها الخضراء الداكنة انسجاما رائعا مع الصخور الجرانيتية المحيطة بها ، وسطح الصخور مصقول براق ولونها أسود فاحم. وفى مواضع قليلة يتجاوز عرض الوادى ستين ياردة ، وقد يبلغ ارتفاع أعلى قمم صخوره ـ وكلها ربى قائمة ـ مائتى قدم أو ثلاثمائة فوق الأرض المستوية. واستخدمنا وقودا للنار التى أشعلناها هذا المساء الروث الجاف الذى خلفته جمال بركت من قبل فى هذا الموضع. والحق أننا قل أن حططنا مساء بموضع دون أن نجد هذا الوقود ، وذلك لأن التجار قلما يشذّون عن الدرب المطروق ، وهم لا يحطون فى موضع اعتباطا ، إنما هم مقيدون بالمواضع التى يجدون فيها مرعى من الكلأ أو الشجيرات ، أو على الأقل من السنط تقضم إبلهم أوراقه وغصونه ساعات فى المساء. ولم أجد فى مضارب هذه القافلة من النظام ما وجدت عند بعض القوافل التى تجتاز الصحراء الشرقية. كانت عدتنا تسعة وثلاثين بعيرا محملا ، وخمسة وثلاثين حمارا ، ونحو الثمانين رجلا ، وكنا مقسمين إلى اثنتى عشرة أسرة ، يؤلف كل منها جماعة منعزلة قائمة بذاتها. وكان بيننا رجلان من أسوان ، أما الباقون فمن دراو وإقليت وإسنا ، وقليل منهم من قوص وفرشوط. وأهل أسيوط قلما يتخذون هذا الطريق فى رحلاتهم. وكان شيخ العبابدة رئيسا للقافلة يرضى الجميع ، بيد أن التجار المصريين كانوا فى الغالب يحطون ويرحلون وفق هواهم وكما يطيب لهم (١) ، فكانت لا تخلو عشية من شجار حول الموضع الذى نحط فيه.

__________________

(*) يعامل العبابدة التجار المصريين بشىء من الاحترام ويكرهون أن يغضبوهم لأنهم يطمعون فى عطاياهم. ولكن العبابدة يحظون فى كل مكان بما لا يحظى به الفلاحون [أى المصريون] من ثقة ، ولا بد أن ينقاد هؤلاء لرأى العبابدة فى جميع المسائل الخطيرة.

١٤١

ولم يكن التجار يحملون خياما ، فكان مبيتنا جميعا فى العراء ، ولكن أحدا منا لم يكن يغمض له جفن قبل أن يضع متاعه فى وضع يتعذر فيه على اللصوص السطو عليه دون أن يتنبه لهم. ولم نكن نخشى لصوصا من الخارج ، بل كنا على يقين من أن فى نفر من أصحابنا جنوحا إلى السرقة ، وقد سطا هؤلاء على متاع بعضنا المرة بعد المرة خلال الرحلة برغم كل ما اتخذنا من حيطة وحذر.

٦ مارس ـ طفقنا نضرب فى وادى أم الحبال ثلاث ساعات حتى وقفنا عند فج فى سلسلة التلال الغربية ، وهنا ألفينا بين الصخور مستودعا طبيعيا كبيرا لمياه المطر ، وكان ماؤه صافيا عذبا زلالا. واسم المكان ومحبت ، ويطريه العرب كثيرا لأن ماءه قلما ينضب ، وموقعه فى شق من الجبل يبدو أنه من فعل زلزال عنيف. ويجد الداخل إليه أكواما من الكتل الجرانيتية الكبيرة ، تتزايد كلما ارتقى التل إلى ارتفاع كبير ، وهناك مستودعان آخران للماء فى سعة الخزان السفلى وإن كان المرتقى إليهما عسيرا. أما الوادى نفسه فلا يخلو من جمال وروعة أضفتهما عليه الطبيعة ، وعرضه أربعون ياردة ، وهو حافل بشجر السنط ، وتحفه على الجانبين جروف قائمة من كتل الجرانيت المهشمة ذات الأشكال الغريبة. وحين يهطل المطر الغزير ـ وما أكثر ما يهطل فى هذه الأرجاء ـ تتجمع المياه المنحدرة من سلسلة التلال الغربية فتؤلف سيلا كبيرا قيل لى إنه يصب فى النيل قرب قرية دهميت على ثمانى ساعات من أسوان صوب الجنوب ، وعلى نحو أربع ساعات من دمحيت ناحية الجنوب الغربى نبع ماء صاف يدعى المويلح ، وترتاده القوافل الخارجة من أسوان. ومكثنا هنا اليوم كله ، فقد درجت القوافل فى الصحراء الشرقية على أن تسير هونا فى الأيام الثلاثة أو الأربعة الأولى من الرحلات الطويلة حتى تألف الإبل مشقة الرحلة شيئا فشيئا بعد شهور الراحة التى نعمت بها ، وهم يبطئون على الأخص حيث الكلأ الطيب والمرعى الجيد. وليس للوقت وتضييعه على هذا النحو أهمية عند تجار الشرق عموما وعند العرب خصوصا ، وقد روى لى فى دمشق أن القوافل الخارجة منها إلى بغداد قد تستغرق فى طىّ البادية ثلاثة شهور فى الربيع. وصادفنا هنا أيضا أرجالا كبيرة من الجراد.

١٤٢

وقد استفحل أمر هذه الأرجال الشرهة فكانت تنتشر فى الجبال أحيانا انتشارا واسعا فتأتى على كل أخضر مورق ، وكثيرا ما تصل ماشية البدو إلى حالة يرثى لها إذا نكبت بغارات الجراد.

٧ مارس ـ خرجنا من الوادى بعد ساعتين ولقينا بعض العرب البشارين وهؤلاء البدو الذين ذكرتهم من قبل فى معرض الحديث عن رحلتى لدنقلة يقضون الشتاء فى الجبال القريبة من البحر الأحمر ، وهى جبال تحفل بالكلأ عند سقوط الأمطار الشتوية ، فإذا أقبل الصيف اضطرتهم قلة الآبار والعيون إلى الهجرة إلى قرب النيل حيث الآبار موفورة. وكنا الآن نضرب فى سهل رملى مكشوف أجرد تقوم إلى شرقيه الجبال الشاهقة وعلى كثب منه إلى الغرب تلال منخفضة. ووادى أم الحبال كله من الجرانيت. ولكنى لقيت فى هذا السهل الحجر الرملى والمرو مرة أخرى. وقضينا زهاء خمس ساعات فى عبور هذا السهل المسمى بركة دخان. وبعد رحلة سبع ساعات من السير الوئيد صوب الجنوب الشرقى وقفنا عند مدخل سلسلة من الجبال الواطئة وجدنا فيها مرعى طيبا وفيرا. ويكثر فى هذا المكان تمو أعشاب تدعى الطويلة ، وهى طعام جيد للإبل ، ومذ رحلت عن دراو لم ينقطع الخلاف بينى وبين الرجل الذى ابتاع جملى وحمل عليه بضاعتى. ذلك أنه أخذ على عاتقه نقل بضاعة أخرى لم يكن للجمل بحملها طاقة ، فكان يريد التخفيف عنه بمحاولة وضع بضاعتى على حمازى مع أنه تسلم ثمن نقلها. وأعيا الجمل عن السير هذا المساء ، فرمانى الرجل بأننى غششته وبعته بعيرا مهزولا ، وأصرّ على أن أرد إليه نقوده ، ولكنه ما لبث أن عدل عن هذا الطلب. وكان العدل ، والعرف السائد حتى بين التجار أنفسهم ، يقضيان بأن يتحمل الرجل أجر نقل بضاعتى من هذه اللحظة ، ولكنه راح يحلف ويندب حظه على مسمع من الجميع ، وزعم أن الخراب والإفلاس قد حلا به ، وأخذ يحثو التراب على وجهه حزنا وتفجعا حتى رقت له قلوب شيوخ القافلة فانحازوا لصفه ، واضطررت آخر الأمر للاتفاق مع أحد العرب العبابدة على حمل بضاعتى من جديد ، ولما كنا قد سلخنا من سفرتنا ستة أيام فقد خف ثقل الزاد وخف معه حمل الجمل يوما بعد يوم ، وهذا ما يعتمد عليه التجار دائما فلا

١٤٣

يأخذون معهم إبلا احتياطية من مصر كما جرت عادة القوافل الأخرى ، فإذا أعيت بعض الإبل وخارت قواها وزعت أثقالها على غيرها لقاء أجر عادل ، ولا يستطيع رجل فى القافلة أن يرفض تحميل جمله بحصة من هذه الأثقال ما دامت الضرورة تدعو إلى هذا الإجراء وما دام جمله يطيق هذا الحمل الجديد. ثم استأنفنا السير بعد الغروب ، وقضينا ثلاث ساعات أخر نضرب فى الوديان حتى جئنا جبالا واطئة تدعى أم حريذل فحططنا عندها.

٨ مارس ـ وجبال أم حريذل من الجرانيت الأشهب الداكن ، وبعد أن جزناها اخترقنا سهلا رمليا عميقا لا أثر فيه لعشب أو شجر ، وكنا نتجه إلى الجنوب الشرقى ، ورأينا أشلاء الجمال وعظامها مبعثرة على الطريق ، ذلك أنه قلّ أن تقوم قافلة بهذه الرحلة دون أن تلقى بعض جمالها حتفها فى الطريق ، وعلى الأخص فى المناطق المحجرة التى يشق فيها السير ، أو على مقربة من الآبار حيث تهرع الجمال المنهوكة القوى إلى الماء تعبّ منه عبا يضعف من قدرتها على مقاومة التعب واحتمال أثقالها. ومررنا فى الطريق بكثير من التلال الجرانيتية الصغيرة المنعزلة ، ورأينا كثيرا من الكتل الجرانيتية القائمة وسط الرمال. وحططنا قرب الظهيرة عند مدخل سلسلة من الجبال تمتد من الجنوب الشرقى إلى الشمال الغربى ، واسمها جبل هزربة. وقد درجت القوافل على الراحة فى ساعات الظهر لتناول الغذاء وللقيلولة ساعتين ، فإذا كانت القافلة عائدة من السودان ، وكانت الإبل فيها موفورة وكل مسافر فيها راكبا ، فإنها تطيل المراحل وتسرع السير. أما فى حالتنا هذه فقد كان ثلثا القوم راجلين. واستأنفنا المسير حوالى الساعة الثانية ، ثم وقفنا قبيل الغروب. وفى عصر هذا اليوم جزنا هزربة وسرنا فى نفس الاتجاه حتى أدركنا صخورا تدعى بيبان وبذلك أكملنا مسيرة تسع ساعات لم يقع بصرى فيها على عشب أو شجر. والصخور التى حططنا إلى جوارها جرانيتية اختلطت بها كتل كبيرة من الفلسپار.

٩ مارس ـ اضطرتنا حاجتنا إلى المياه للرحيل بعد منتصف الليل بقليل ،

١٤٤

فسرنا خمس ساعات وصلنا بعدها وادى نقيب وبه آبار لها هذا الاسم ، وهو حافل بأشجار السنط ، وعند طرفه بئران عميقتان لا بأس بمائهما.

كانت معاملة رفاقى لى مذ رحلنا عن دراو تنطوى على الإغفال بل قل على الامتهان والازدراء. ولست أشك فى أنه لم يدر بخلدهم قط أننى أوربى ، بل حسبونى تركى الأصل ـ من تركية أوربا أو من الأناضول ـ وهو رأى يكفى فى ذاته لحمل العرب على الإساءة إلىّ وتحقيرى ، لأنهم يكنون للعثمانيين أشد ضروب البغض والكراهية. وكنت أحمل معى فرمانا من حاكم الصعيد إبراهيم باشا بن محمد على باشا ، مشفوعا بخطاب توصية وجهه إلى كل ملوك السودان فى طريق سنار ، وقد سميت فى الفرمان والخطاب بالحاج أو الشيخ إبراهيم الشامى. على أننى لم أطلع رفاقى على شىء من هذا كله لأسباب لا تخفى ، وكل ما فهموه عنى هو أننى حلبىّ المولد ، وكانوا يعلمون أننى صديق حميم لحسن بك والى إسنا الذى تدخل دراو وفى نطاق ولايته ، وصديق لآل حباتر الإسناويين ذوى التجارة العريضة ، وهم الذين أوصوا بى مراسل الوالى فى دراو. ورأى رفاقى أننى لم أجلب من البضاعة إلا أقلها فحسبونى هاربا من مصر بسبب ديونى. ولكنى زعمت لهم أننى أبحث عن ابن عم لى مفقود كان قد غادر أسيوط من سنوات قاصدا دارفور وسنار فى تجارة أودعت فيها كل مالى. وكانت هذه الحجة التى بررت بها رحلتى تلائم عقلية القوم كل الملاءمة ، فإن ما كنت أحمل من بضاعة ضئيلة لم يكن ليبرر خروج رجل يتمتع بقواه العقلية فى رحلة كهذه لا يبغى منها غير الكسب ، فقصارى ما يرجوه من ورائها مهما فسح أمله وعظم تفاؤله هو أن يعود برأس ماله سليما بعد أن يؤدى كل نفقات الرحلة ، لذلك وجدتنى مضطرا إلى اختلاق عذر أبرر به خروجى فيها ، فرحت أردد على مسمع رفاقى أننى كبير الأمل فى العثور على ابن عمى المفقود ، أو على الأقل فى القصد فى النفقة قصدا يجنبنى الخروج من الرحلة خاسرا. ولعل أصحابى لم يكذبوا قصتى ، ولعلهم كذلك لم يستبعدوا أننى خرجت من مصر هروبا من الدائنين ، على أننى تبينت فى الوقت نفسه أنهم لم

١٤٥

يستطيعوا أن يخلوا أنفسهم من الغيرة والحسد ، ولعلهم رأوا أننى إن عدت من هذه الرحلة مقتنعا بما تدره التجارة من ربح فقد لا أعدم وسيلة لرحلة ثانية أخرج فيها للسودان برأس مال كبير. وأحسب أن هذا هو الذى حملهم على إساءة معاملتى حتى أعدل عن أية محاولة أخرى من هذا القبيل. ولقد حاول أتراك كثيرون من الأناضول أو من تركية أوربا ـ فى السنين العشر الأخيرة ـ أن يشتغلوا بهذه التجارة ، ولكن أهل دراو ما فتئوا يجدون الوسائل لتنفيرهم تنفيرا يزهدهم فى إعادة الكزّة من جديد. كان لدى التجار إذن من الدوافع ما يحملهم على الإساءة إلىّ ، ولما تبينوا فىّ فوق هذا كل مظاهر الإملاق ، ورأونى أقطع الخشب وأطهو طعامى وأملأ قربى بيدى ، لم أفضل فى نظرهم أجيرا من الأجراء الذين يستخدمهم التجار لقاء عشرة ريالات ينقدونها الواحد منهم فى الرحلة من دراو إلى القوز أو شندى ثم إلى دراو ثانية. وكنت حريصا على الإبقاء على العلاقات الطيبة بينى وبين آل علوان وكانوا وجوه التجار المصريين فى القافلة ، وخيّل إلىّ أن وساطتهم قد تنفعنى فى بلاد الزنج. ولكنهم حين رأونى بالغا فى الإملاق مبلغا لا يطمعون معه فى الحصول على أى عطاء منى ، نسوا كل ما أغدقت عليهم قبل رحيل القافلة ، وخلت معاملتهم لى من كل أدب واحترام. فبدأوا يغتابون حسن بك والى إسنا ويسبونه بأقذع الألفاظ وراحوا يقولون : أما وقد صرنا الآن فى البادية ، فإن جميع البكوات والباشوات لا يساوون فى نظر ناقلامة ظفر. فلما لم أبال كثيرا بما يقولون راحوا يخاطبوننى بعبارات ملؤها الزراية والتحقير ، وكانوا لا ينادوننى إلا ب «الولد». وكانت إهاناتهم لى تزداد يوما بعد يوم ، ولكنى كظمت غيظى ولم أرد على الإهانة بمثلها ، فغاية ما كانوا يشتهون هو استفزازى حتى إذا رددت على شتائمهم وجدوا تكأة تبرر اعتداءهم علىّ بالضرب ، وكنت فى بداية الرحلة أنضم إلى آل علوان حين تحط القافلة مساء ، وإن كنت أطهو طعامى مستقلا عنهم. على أنهم سرعان ما أقصونى عن جماعتهم ، واضطررت إلى اعتزال الجميع بعد أن أذاع الدراويون أن أشياء سرقت من متاعهم وأنهم يشتبهون فىّ. ولست أريد أن أسرد كل ما أتاه القوم ، ويكفى أن أقول إنه لم تكن تمضى علىّ ساعة دون أن ألقى

١٤٦

الإهانة منهم بل من أحقر خدمهم ، فقد نهج الخدم نهج سادتهم ، بل بزوهم فى هذا المضمار. ولما وصلنا بئر النقيب ومضت الإبل والحمير لتشرب وحملنا القرب لنملأها نزل بعض رجال القافلة إلى البئر جريا على عادتهم ليملأ والدلاء ، فى حين ظل البعض فوقها لسحب الدلاء. ولما لم يكن لى صاحب ينزل البئر ليستقى لى فقد اضطررت للبقاء عند البئر طوال العصر حتى جنحت الشمس إلى الغروب ، مما كان باعث سرور وتسلية لرفاقى ، ولو لا أن أحد الخبراء أعاننى أخيرا وسحب دلوى بعد أن ملأته من البئر لما استطعت التزود بحظى من الماء.

وانضمت إلينا فى النقيب جماعة صغيرة من التجار كانوا قد تعجلوا الرحيل من دراو فغادروها قبلنا بثلاثة أيام ، ولكنهم رأوا من الخرق أن يعبروا الصحراء وحدهم ، فانتظروا أياما فى هذا المكان حتى لحقنا بهم.

١٠ مارس ـ بلغنا وادى حيمور بعد أن سرنا ثلاث ساعات فى إقليم صخرى وعر سلكنا فيه طريقا يحفل بالحجارة المتفتتة. ووادى حيمور مجموعة آبار ذات شهرة ذائعة فى هذه الصحراء. وقبيل بلوغنا هذا المكان مررنا بقبرميت من وجوه المماليك لقى حتفه هناك فأودع أصحابه جثته العارية بين جدران واطئة بنوها بالأحجار الصغيرة ، ثم غطوا القبر بحجر كبير. وساعد جفاف الجو على حفظ الجثة من العطب ، وتطلعت إليها من خلال شتفوق الحجارة المحيطة بها فبدت لى أسلم من أى مومياء رأيتها فى مصر. ورأيت الميت فاغرا فاه ، وروى الخبير أنه مات ظمأ مع أن مورد المياه كان قاب قوسين منه أو أدنى. وتفصيل ذلك أن البقية الباقية من المماليك ـ يقودهم ابراهيم بك الكبير وعثمان بك حسن ـ كانوا قد رحلوا عن ضفاف النيل قرب إبريم سنة ١٨١٠ فرارا من جنود الباشا الذين كانوا يتعقبونهم أينما حلوا ، فاعتصموا بهذه الجبال وحلوا على عرب العبابدة ضيوفا فأنزلوهم مضاربهم ولكنهم لم يتركوا وسيلة إلا التجأوا إليها ليبتزوا منهم كل ما يحملون من مال. فباعوهم الزاد بأفحش الأثمان ، ولما نضبت الآبار لكثرة ما استقت منها جماعة المماليك الكبيرة ، اضطروا للركون إلى أدلائهم العبابدة فى التنقل بهم من بئر

١٤٧

إلى بئر. وكثيرا ما كان العبابدة فى هذه الجولات يطوفون بضيوفهم فى طرق دائرة ليخلقوا أزمة ماء مؤقتة ، فيبيعونهم قرب الماء بأبهظ الأثمان بعد أن يملأوها سرا من نبع قريب. وفى أزمة من هذه الأزمات المفتعلة قضى المملوك المذكور نحبه ، وقضى معه آخرون دفنوا بقربه. أما سائر الجماعة فقد ظلت أسابيع بوادى حيمور ثم أمروا خدمهم وحشمهم الذين لم يكن لهم بهم حاجة بالرحيل ، وكان من هؤلاء راقصات مصريات بارعات الجمال ، وكان ثمن مفاتنهن قد ارتفع فى الجبل بنسبة ارتفاع كافة السلع ، فأصبن بذلك حظا موفورا من المال فى أمد وجيز. وألّف هؤلاء الأتباع والخدم الذين صرفهم سادتهم قافلة ، وأخذت القافلة سمتها إلى أسوان بإرشاد خبراء من العبابدة ، وإذا الخبراء يختفون ليلا قبل أن يبلغ الركب النيل بيوم ، حتى إذا انبلج الصباح هاجمتهم فئة كبيرة من العبابدة ، فسلبتهم ما يملكون وجردتهم من ثيابهم ثم أذنت لهم بمواصلة رحلتهم إلى مصر. ويبرر العبابدة غدرهم فى هذا الحادث وفى غيره من الحوادث التى سطوا فيها على كثير من المماليك الضالين وفتكوا بهم بأن المماليك كانوا البادئين بالعدوان ، وبأنهم أثبتوا أنهم ليسوا أهلا للثقة ولا للرعاية التى هى حق من حقوق الضيف ؛ فقد ذبحوا ماشية البدو واستباحوا نساءهم. ولعل بعض هذا قارفه المماليك ، ولكنه لا يبرىء العبابدة الذين يعلم القاصى والدانى ما فى طبعهم من غدر وخيانة. وتنبع آبار وادى حيمور وسط سهل رملى صغير يقوم بين التلال الصخرية. والماء فى بئر منها أو بئرين لا بأس بمذاقه ، ولكنه فى معظمها زعاق كريه وإن كان يتدفق مدرارا. وعلى حواف الآبار طبقة من النطرون ، وقد رأينا الأرض حول الآبار مغطاة بروث الإبل والخيل المتخلف منذ عسكر المماليك بهذا المكان ، وانتشرت فيه النعال العتيقة وقطع الخيام وخرق الثياب القديمة وسهل حيمور تؤمه جماعات البدو البشارين انتجاعا للكلأ ، ولكنهم يلتزمون بدفع ضريبة سنوية لرؤساء العبابدة لأن الآبار تدخل فى نطاق أملاكهم. وكثيرا ما يلتحم الفريقان لهذا السبب ، ولكن العبابدة أصبحوا اليوم أقوى من خصومهم وأشد خطرا ، وهم كذلك أوفر مالا لما بينهم وبين مضر من تجارة. ولا

١٤٨

يحتك العبابدة إلا بالشماليين من البشاريين. ولم نجد بوادى حيمور من الأسر البشارية إلا القليل ، ومررنا بالسهل مرور الكرام لأننا كنا ملأنا قربنا من ماء النقيب وهى أعذب بالقياس إلى ماء حيمور. ويبدأ بعد وادى حيمور إقليم صخرى وعر لقيت الإبل فى اجتيازه كل مشقة. فصعدنا فى صخور الجرانيت والحجر الرملى زهاء الساعة ، ثم هبطنا إلى السهل ثانية بعد أن سرنا فى يومنا خمس ساعات ونصفا ، وكان اتجاه سيرنا جنوبا بشرق. وتدعى الجبال التى عبرناها عقبة حيمور ، ويراها المسافر مشرفة من بعيد ، والسهل الواقع خلف العقبة سهل رملى يتخلله الكثير من الصخور الجرانيتية المنعزلة. ولم أتبين فى صخوره طبقات منتظمة ؛ فقد كانت الصخور مهشمة مدببة الأطراف تحمل طابع هزة عنيفة انتابت الأرض فى هذا المكان. وبعد ساعة دخلنا واديا طيبا يدعى وادى نحدير أو غدبر (ويشق على التحقق من اسمه الصحيح لأن خطى فى اليومية غير واضح). والوادى حافل بأشجار السنط ، وكنا نأمل أن نعثر فيه على ماء متخلف من الأمطار التى يحتفظ بها خزان كبير صنعته يد الطبيعة هنا ، ولكنا وجدنا الماء قد نضب ، ودلنا روث الإبل المنتشر حول الخزان على أن جماعة من العرب قد نزحوه قبلنا. وعلى ذلك مضينا قدما ، وبعد أن أكملنا مسيرة ثمانى ساعات ونصف حططنا عند طرف الوادى.

١١ مارس ـ سرنا ثلاث ساعات فوق تلال محجرة ودروب صخرية حتى بلغنا بئر المرة ، والبئر جديرة باسمها حين يقارن ماؤها بماء النيل العذب ، ولكن عرب الصحراء الشرقية قلما يبالون بمرارتها لكثرة ما ألفوا من مياه مرة لم يعتدها النوبيون والمصريون. وبئر المرة واسعة يتجاوز عمقها أربعين قدما ، وقيل لى إن ماءها لا ينضب قط. وينبسط وادى المرة مسيرة ساعتين أو ثلاث صوب الشرق. وبعد أن تزودنا بقليل من الماء استأنفنا السير من فورنا حتى وصلنا وادى علاقى

١٤٩

بعد خمس ساعات. ووادى علاقى واد طيب يمتد من الشرق إلى الغرب ، وينتهى أحد طرفيه قرب البحر الأحمر فيما روى لى وطرفه الثانى قرب النيل. وفى موسم الأمطار تتجمع السيول الغزيرة فيه وتصب مياهها فى النيل ، والوادى عامر بالكلأ النضر والشجر الكثير ، وهذه المزايا النادرة تجعل له فى نفوس البدو منزلة أى منزلة. وقد حياه الخبراء حين دنوا منه تحية إكبار وإجلال ، وحمدوا الله على أن بلغوه سالمين «السلام عليك يا وادى علاقى الحمد لله الذى جيناك بالسلامة». وفيما كنا نعبر الوادى ـ وعرضه زهاء مائة وخمسين ياردة ـ أخذ كل منهم حفنة من الذرة وبذرها على الأرض قربانا للروح الطيب الذى يظل الوادى فى اعتقادهم. وبعد ست ساعات دخلنا وادى أم قات وبه خزان لماء المطر تستريح عنده القوافل ولكنا وجدناه جافا. ولم نمرّ للآن بواد حفل بأشجار السنط كما حفل بها هذا الوادى ، ورأينا أرجال الجراد وقد تكاثرت على الأوراق والأغصان الغضة تلتهمها التهاما. أما الأرض فمكسوة بالحنظل ، وهو نبات شائع فى كل أرجاء هذه الصحراء. وأخذ المسافرون يتلهون بقذف كرات الحنظل وصدها بدرقاتهم فى مهارة عجيبة. أما أنا فلم أكن لسوء الحظ أملك درقة فظل أصحابى الدراويون يصوبون كراتهم إلى رأسى فى إسراف اضطرنى آخر الأمر إلى أن أستجير برئيس القافلة ليحمينى ، وقد أنقذ هذا الإجراء أنفى من إصابة لا ريب فيها ، ولكن القوم لقبونى بعده «بالواد الخواف» وعلق بى اللقب أياما حتى خلعوا علىّ شرامنه. وكانت وجهتنا اليوم جنوبا بغرب. وتربة وادى أم قات رملية خالصة ، أما التلال فيزول عنها مظهرها الوعر الشائه وتتخذ شكل السلاسل المنتظمة. ورأيت معظم الأشجار جافا لأن الأمطار لم تهطل عليه ثلاث سنين تقريبا ، وقد أدهشنى ألا أرى فى الرمل آثار أقدام حيوانات متوحشة ولا فى الجو طيورا خلا بعض الغربان. وصادفنا كثيرا من البشاريين ومعهم جمالهم المحملة بالسنمكى يقصدون بها الدر ليبيعوها أو يستبدلوا بها ذرة. ولبثنا العشية كلها نضرب فى الوادى ثم حططنا بعد مسيرة تسع ساعات.

١٢ مارس ـ قمنا قبل الشروق ، فبلغنا نهاية وادى أم قات بعد ثلاث ساعات وتلال هذا الوادى كلها من الجرانيت ، ودخلنا هنا سهلا رمليا فسيحا ، ثم سرنا

١٥٠

ساعتين من بعده مخترقين سلسلة من الجبال صخورها من الحجر الأخضر. وبعد ست ساعات وصلنا وادى الطواشى ، وهو منسوب لأحد هؤلاء الخصيان من سدنة الكعبة الشريفة ، وقد قتل هنا وسرقت منه العطايا التى منحها إياه ملوك دارفور وسنار (١). ولم أستطع أن أعلم على التحقيق فى أية سنة لقى هذا الرجل حتفه ، ولكن أحد الخبراء ذكر لى أن أباه يذكر هذه السنة جيدا. لذلك لست أشك فى أن هذا الخصى هو الذى ورد ذكره فى رحلة بروس تحت اسم محمد طواش ، وهو الذى وجد هذا الرحالة جثته فى هذه البقعة ذاتها بعد أن أسر بدويا من البشاريين القتلة بثلاثة أيام .. وقارىء القصة قد يلحظ التلفيق فى تفاصيلها ، ولكنها صحيحة فى جوهرها. على أن قتلة الرجل لم يكونوا من البشاريين ، بل كانوا الخبراء الذين رافقوه ، وهم جماعة من العبابدة ينتمون لعشيرة حميداب ، وهى إحدى عشائر عشاباب ، ومقرهم بحيرة القريبة من أدفو على الضفة الشرقية للنيل. وقد لامهم أصحابهم أشد اللوم على ما اقترفت أيديهم ، ومنذ ذلك العهد سقطت عشيرة حميداب من عيون الناس وذهبت ريحها. وقبر الطواشى يقوم على سفح الجبل فى البقعة التى سقط فيها صريعا ، وله عندهم مقام أضرحة الأولياء والشهداء. والضريح مبنى بالحجر بيد قبيلة أخرى من العرب. وقد وجدناه مغطى بقليل من الحصر ، وقصدته الجماعة كلها وصلى كثير منهم ركعتين إلى جواره. وفيما هم يرحلون عنه نثروا عليه قربانا من الذرة وغيرها ، وملأوا جرة ماء كان قد تركها عند القبر مسافر قبلنا ، وقامت إلى جوار الضريح عيدان علقت عليها خرق ملونة جريا على عادة العرب ، ورأيت على الأرض رحالا للجمال كان قد وهبها بعض المسافرين إكراما للولى. وأنفقنا ساعات الظهيرة فى الوادى الفسيح إلى جوار الضريح الذى سمى الوادى باسم صاحبه ، ثم استأنفنا السير فوق أرض وعرة من الحجارة والرمال. وكان اتجاهنا طوال اليوم إلى الجنوب بانحراف قليل للشرق. وحططنا

__________________

(*) كان خصيان مكة والمدينة إلى عهد قريب يخرجون إلى السودان فى رحلات لاستجداء المحسنين. من ذلك أن أحدهم خرج إليه فى رحلة عام ١٨١١ فلقى من الإجلال والاحترام ـ بسبب صلته بالأراضى المقدسة ـ ما أتاح له جمع الأتباع وتأليف طائفة قوية استطاع بفضلها الاستيلاء على إقليم يحكمه اليوم بوصفه ملكا عليه.

١٥١

رحالنا بوادى أبو بروشن بعد مسيرة عشر ساعات. وتقوم هنا سلسلة جبال تمتد صوب الشمال الغربى. وفى رمال هذا الوادى الجرداء تنمو بعض أشجار السلم ، وهى ضرب من السنط يطريه العرب لشدة صلابته فيصنعون منه القنا ، ومن أغصانه الرفيعة عصيا فى غلظ إبهام اليد ، طول العصا منها ثلاث أقدام ، وهم يثنون طرفها فى النار وخشبها ما يزال أخضر ، ثم يدعكونها مرارا بالشحم حتى تغدو قوية ثقيلة ، ويحمل الرجل منهم عصا من هذه العصى التى يسمونها سلمة (١). ويؤثر البشاريون فى صنع هذه العصى شجرا آخر غير السلم يدعونه الدّضه ، وينمو على مقربة من البحر الأحمر. وفى وادى أبو بروش لقينا أول فوج من الغزلان مذ بارحنا دراو ، ولا يتوقع المرء أن يكثر الحيوان البرى حيث لا يكون الماء إلا فى الآبار العميقة.

١٣ مارس ـ استأنفنا المسير قبل شروق الشمس ، وبعد ثلاث ساعات بلغنا وادى أم برد ، وهو واد فسيح طيب يزخر بالشجر. وحلقت فوق رءوسنا أسراب كبيرة من طيور بيض ، فى حجم الإوز كانت تتجه صوب الشمال. ويسمى العرب هذا الوادى «أم برد» لأن الهواء فيه يهب باردا حتى فى الصيف ، وهو مفتوح صوب النيل ، ومنه تهب الريح عادة فى هذا الفصل. ووجدنا الوادى حين مررنا عليه فى الصباح الباكر قارس البرد حتى اضطررنا عند وقوفنا به هنيهة أن نستدفىء بنار أشعلناها فى بعض الأشجار الجافة التى تنتشر فى الوادى. قضينا فيه ساعتين ، وعبرنا سلسلة من التلال ، ثم وقفنا بواد آخر لنستريح ساعة الظهيرة. وكانت هذه الوقفات مثار النزاع والشجار طوال الرحلة ، ذلك أن فتيان القافلة كانوا إذا علموا أن شيوخها يزمعون الوقوف بواد ساروا إليه حثيثا ليسبقوا غيرهم إلى أكبر شجرة أو صخرة معلقة يتفيأون ظلها هم وجماعتهم. وكانوا كل يوم يختلفون فيما بينهم أيهم سبق صاحبه إلى الشجرة؟ أما أنا فطالما أقصونى عن الظل الوارف لأصلى نار الشمس المحرقة ، وكنت فى العادة أقضى ساعات الظهيرة فى كرب شديد وألم ممض : ففضلا عن تعرضى للقيظ كان علىّ أن أطهو طعامى ،

__________________

(*) السلمة معروفة فى كافة أرجاء النوبة والتاكة وسواكن ، وقل أن نجد رجلا لا يحمل سلمه إن لم يحمل رمحا.

١٥٢

وهى مهمة لم أفلح فى إقناع أحد الرفاق ـ حتى أفقر الخدم ـ فى أن يتولاها عنى ولو لقاء إشراكه فى طعامى البسيط ، فإذا أتى المساء رأيتنى مضطرا لإعادة الكرة وأداء هذه المهمة الشاقة من جديد وأنا مضنى بعد رحلة اليوم ، وهى رحلة كنت أسير فيها على قدمى أربع ساعات أو خمسا لأخفف العبء عن حمارى ، وما كان أحوجنى بعدها للراحة والاستجمام. ولكن الجوع كان أشدّ من التعب وأقوى ، لذلك لم يكن لى مندوحة عن البحث عن الخشب وقطعه ، وإيقاد النار ، وطهو طعامى ، وإطعام حمارى ثم تجهيز قهوتى التى لم يكن لى من سبيل لاسترضاء رفاقى الدراويين إلا تقديم فنجان منها لهم وهم أشوق الناس إلى ارتشافه. على أن راحة الليل كانت كفيلة بردّ قواى ، ولم أعرف من قبل رحلة كهذه كنت فيها موفور العافية جم النشاط على ما تكبدت فيها من مشقات فاقت ما كنت أنتظر. وكان غذاء المسافرين جميعا الفطيرة ، وهى دقيق يمزج بالماء ويعجن ثم يخبز على الصاج ، ويصب عليه السمن أو الشهد أو المرق المطبوخ من السمن والبامية المجففة. أما العشاء فعدس مطبوخ أو خبز بملح يخبز على الصاج أو الرماد ، ثم مرق من البامية أو البصل يصب على العدس أو الخبز بعد تفتيته. وفى الصباح الباكر يفطر الكل على كعكة ببصلة نيئة أو ببعض التمر. وفى العصر عبرنا أرضا جبلية ثم سهلا رمليا ينتهى بواد انتشرت فيه أشجار الدوم فأشاع منظرها البهجة فى أفئدة المسافرين. ونزلنا بالوادى بعد مسيرة تسع ساعات ، وحططنا قرب آبار نابه ، وفيما كنا نعبر السهل التقينا بقافلة صغيرة قوامها ثمانية من العبابدة كانوا عائدين من بربر إلى دراو ، وكان معهم زهاء ثلاثين عبدا وعدد من الجمال المحملة ، وهم ينوون بيع بضاعتهم فى صعيد مصر. وحمل إلينا هؤلاء العبابدة أنباء لا تسر ، فقد ذكروا أنهم لم يجدوا ماء يذكر فى بئرين على طريقنا ، فأما بئر شقرة ـ إحدى البئرين ـ فقد نجد فيها بعض الماء ، وأما بئر النجيم البعيدة فالأمل فى مائها ضعيف. وقد روعت هذه الأبناء بعض القوم ففكروا فى العودة مع قافلة العبابدة ، ولكن الباقين ثنوهم عن هذا العزم. واشترى الدراويون بعيرا قويا من القافلة الأخرى ليحمّلوه ماء ، وأنفقنا الليل كله نتشاور فيما ينبغى أن نعمل. وبوادى نابه آبار خمس أو ست قريبة من بعضها البعض ، والماء

١٥٣

فى ثلاث منها ضارب إلى الملوحة ، وماء بئرين منها لا بأس به ولكنه شحيح ، وقد استنفدناه حين ملأنا القرب. وفى الصباح اشتجر القوم حول الماء الذى فاض من البئرين فى أثناء الليل ، فكانت كل جماعة تريده لنفسها.

١٤ مارس ـ إن الظل الوارف الذى تبسطه أشجار الدوم على وادى نابه ، وما بالوادى من آبار فياضة الماء ، قد جعلاه أهم موقع على الطريق بعد حيمور وشقرة. وقد درجت القوافل الصغيرة على أن تنزل بهذا الوادى أياما وهى فى طريقها إلى بربر لتسترد الإبل قوتها ، وهم يزعمون أن مياه الوادى تنعش الإبل وتشددها ، وهى من غير شك ذات خواص مسهلة. أما القوافل الكبيرة فيستحيل عليها المكث بالوادى أكثر من ليلة واحدة لقلة مائه المستساغ. وظل شيوخنا طوال الصباح يتشاورون ، فقد كان أمامنا مسيرة يومين إلى شقرة ، ومنها رحلة خمسة أيام لبربر على النيل. وكان تحميل الجمال بمئونة من الماء تكفى الرحلة كلها أمرا مستحيلا ، ولم يكن يرجى العثور على ماء جنوب شقرة ، وما نرجوه فى شقرة نفسها ضئيل قليل. وهناك مورد آخر للماء يدعى نواريك ينبع فى الجبال صوب الجنوب الشرقى على مسيرة أربعة أيام ونصف من نابه ومثلها من بربر ، وكان الأصوب أن نتخذ هذا الطريق لو لا جهل القوم به ، اللهم إلا بشاريا كرهوا أن يركنوا إليه فى إرشادهم. وذكروا لى أن هناك طريقا ثالثا يخرج من نابه متجها للجنوب الغربى بانحراف للجنوب وينتهى إلى النيل بعد رحلة حثيثة تستغرق ثلاثة أيام ونصفا ، ولكن هذا الجزء من النيل يسكنه عرب مقرات ، وهم خصوم لقومنا ، وقد قتل زعيمهم نعيم مؤخرا بيد أحد شيوخ العبابدة. وقد درج المسافرون فى ظرف كهذا على أن يدلى كل منهم برأيه. وكان رأيى أن نقتل حميرنا الخمسة والثلاثين التى كانت تستنفذ من مائنا كل يوم خمس عشرة قربة على الأقل ، وأن نحمل الإبل أقصى ما تطيق من الماء ، ثم نشق لنا طريقا مستقيمة إلى بربر دون أن نميل على شقرة ، وقد نستطيع بهذه الوسيلة أن نتم رحلتنا فى خمس مراحل طوال. ولكنك لن تستطيع أن تحمل العرب فى مناسبات كهذه على اتخاذ قرار جرىء حاسم ، فهم لا يفتأون يعللون النفس بعبارتهم المألوفة «الله كريم». وعلى ذلك فقد قرر القوم أن

١٥٤

يسلكوا الطريق العادى ، وأصلح كل منا قربه وخفّيه ، واغتسلنا بماء الآبار البارد فانتعشنا ، ثم استأنفنا الرحلة من جديد والهواجس تعبث برأسى ، فلم تكن دوابنا تحمل من الماء أكثر من مئونة ثلاثة أيام أو أربعة ، ولا سبيل بعدها للهروب من العواقب الوخيمة التى يجرها الظمأ. ورفعت عن حمارى القربتين الصغيرتين تخفيفا عنه ، ونقدت أحد العبابدة أربعة ريالات ليحمل لى أربع قرب صغيرة إلى بربر ، وقلت فى نفسى لو استطاع الحمار حملى لتحملت العطش يومين على الأقل ، أما إذا خارت قواه وسقط إعياء فسأعجز حتما عن السير يوما كاملا دون أن أشرب فى هذا الجو القائظ. وأنفقنا هذا المساء ساعة سلكنا فيها الوادى ، وساعتين عبرنا فيهما أرضا صخرية ووجهتنا الجنوب الشرقى ، ثم نزلنا لنبيت فى واد ضيق. وكان الإعياء قد بلغ منى مبلغه ، وكنت أشكو التهابا فى عينى منذ بضعة أيام ، وأرقنى التفكير فى موقفنا الأليم. وقد سقط هذا المساء جمل محمل بقرب الماء فانكسرت ساقه وتمزقت القرب وانسكب ماؤها ، ونحر القوم الجمل بالطريقة الشرعية فوجهوا رأسه صوب القبلة وقطعوا حلقومه. وتخلف بعضهم ثم لحقوا بنا ليلا وهم يحملون شرائح من لحم الجمل المذبوح.

١٥ مارس ـ قمنا قبيل الفجر وأنفقنا ساعة ونصفا سيرا فوق إقليم صخرى ، ثم بلغنا سهلا رمليا فسيحا يدعى قب الخيل ، وفى السهل كثير من الصخور الجرانيتية المنعزلة ، وهى شبيهة فى شكلها بالصخور التى وصفتها فى ٦ مارس. وبعد مسيرة أربع ساعات حططنا عند مدخل وادى طرفاوى ، وهو منسوب لأشجار الطرفاء التى تنمو به. ورأينا الأرض مكسوة بشجيرات السنامكى الجميلة التى بدت لنا فى خضرتها ونضارتها منظرا طريفا لا عهد لنا به ، ورأينا ثمر السنامكى قد أنبع واكتمل نضجه فانهالت عليه أسراب الجراد تلتهمه. كذلك ينمو بالوادى كثير من الطرفاء الشوكية وبعض أشجار الدوم ، مما تجعله ألطف وديان هذا الطريق وأشرحها للصدر.

ولقد وجدت بالخبرة أن الصحارى النوبية التى يخشى الناس ارتيادها هى على العموم أقل وحشة من بادية الشام ، ومن صحراء السويس والتيه على الأخص ،

١٥٥

وذلك حكمى عليها حتى شقرة على الأقل. فقل أن مر بنا يوم لم نصادف فيه شجرا وماء قبل شقرة ، والشجر فى هذا الطريق أوفر منه فى طريق القوافل من حلب إلى بغداد أو من دمشق إلى المدينة المنورة. وقد لا يبعث انبساط بادية الشام فى النفس من الرهبة ما تبعثه صخور الصحراء النوبية الجرداء الوعرة ، ولكن لصحراء النوبة ميزة التنوع على الأقل. ولما كنا قد بكرنا فى الوصول إلى محطنا بوادى طرفاوى ، فقد أرسلنا الجمال إلى واد جانبى يقع على مسيرة ساعة ونصف لاستقاء بعض الماء من بركة بالمكان ، وماء البركة ضارب إلى الملوحة ، ولعله لم يتخلف عن المطر فحسب بل نبع من عين فى قاعها. وعادت إلينا الإبل بعد الظهر بقليل. وذبح القوم اليوم بعيرا آخر أيقنوا أنه عاجز عن متابعة السير ، وسرعان ما تكاثرت حول جثته النسور التى يسمونها الرخم لتصيب حظا من لحمه. واشتجر اليوم خبراؤنا العبابدة مع الدراويين طمعا فى ابتزاز مزيد من المال منهم ، ولم يسؤنى هذا الشجار ، ورجوت من ورائه توطيدا للعلاقات بينى وبين العبابدة ، وعللت نفسى بأننا قد نتحالف معا على هذا الخصم المشترك. واستأنفت القافلة السير حوالى الساعة الرابعة بعد الظهر ، وفيما نحن نرحل عن المكان أقبل الأعرابى الذى يحمل قربى الأربعة ، وسلمنى أكبرها وهو يزعم لى أن جمله عاجز عن حملها فوق ما حمل. فأعددت قربتين صغيرتين أفرغت فيهما ماء القربة الكبرى وربطتهما بالحبال ثم وضعتهما على ظهر الحمار. وما إن فرغت من هذا كله حتى كانت القافلة قد سبقتنى شوطا بعيدا ، فاقتفيت آثارها فى الرمال ، ولم أستطع اللحاق بها إلا بعد الغروب. فى مأزق كهذا تمس الحاجة لخادم أو رفيق ، لأن الجلابة قوم لا يعرفون العطف على رفيق يعانى ضيقا أو شدة. وسرنا فى المساء ست ساعات فوق أرض محجرة ، ثم نزلنا ليلا بواد معشوشب يدعى وادى كوع ، وكان سيرنا جنوبا بشرق. ١٦ مارس ـ استرحنا بالوادى ساعات ثم عاودنا السير فوق سهل رملى ، وكانت الجبال الشاهقة تتراءى فى أقصى الشرق. وبعد ثلاث ساعات نزلنا بوادى صفيحة ، ولا تستطيع أن تسميه واديا إلا تجوزا ، فما هو إلا شرايط من أرض منخفضة تمتد فى عرض السهل حيث يتجمع ماء المطر ، فيقوم فيها بعض الشجر ولا

١٥٦

والعشب. ومثل هذا يدعى غديرا فى الصحارى العربية. ومضينا فى السهل بعد الظهر ، وكانت تحيط بنا من كل صوب طوال يومنا بحيرات السراب ، وكان لون السراب أزرق خالصا ، وبلغ من صفاء لونه أن انعكست عليه ظلال الجبال التى تحف بالأفق انعكاسا دقيقا غاية الدقة ، حتى ليخيل للرائى أنه صفحة الماء ما فى ذلك شك. ولقد طالما شهدت السراب فى الشام ومصر ، ولكنه كان يضرب إلى البياض كأنه ضباب الصبح ، وكان دائم التذبذب والاهتزاز لا يستقر له على السهل قرار. أما السراب هنا فيختلف عن هذا كل الاختلاف ، وهو شبيه كل الشبه بالماء ، ولعل الخلاف راجع إلى شدة جفاف الهواء والتربة فى النوبة. كذلك لحظت أن السراب هنا يبدو أقرب للناظر مما يبدو سراب الشام ومصر ، فهو لا يتجاوز المائتى خطوة بعدا ، ولم أره قبل ذلك على مسافة تقل عن نصف الميل. وعددت مرة نحو اثنى عشر سرابا حولنا ، كل منها قائم بذاته ، وجلها فى المنخفضات. وبعد مسيرة ثمانى ساعات وقفنا بوادى أم دوم. واسم الوادى يدل على وجود شجر الدوم به ، ولكنى لم أعثر فيه على دوم ولا على غيره. وقد لحظت أن الوديان جنوبى أم قات تمتد فى الغالب من الشرق إلى الغرب ، فى حين تمتد الوديان الشمالية موازية لطريقنا. وكان اتجاهنا لا يزال جنوبيا شرقيا.

١٧ مارس ـ بارحنا الوادى فى الصباح ودنونا من جبال شقرة الشامخة ، وهى الجبال التى تراءت لنا من بعيد طوال الأمس. وبعد مسيرة ساعتين دخلناها ، ثم ملنا شرقا فجئنا واديا طيبا يزخر بأشجار الدوم وتحفه على الجانبين صخور قائمة لا سبيل إلى ارتقائها. ومشينا مع الوادى تسلك منعطفاته أربع ساعات حتى جئنا عين شقرة فحططنا عندها رحالنا. والجبال المحيطة بنا كلها من الجرانيت ، وتتألف من كتل مختلفة الحجوم مكدس بعضها فوق بعض فى فوضى عجيبة. وتأملت الصخر قرب مدخل الجبل ، حيث ينبع الماء ، وعلى مسافة تحت أعلى القمم ، فوجدته من السماق الضارب إلى الحمرة ، دقيق الحبيبات ذا عروق صغيرة من الفلسپار ، وهو شديد الشبه بالسماق الذى شهدته فى العام الماضى بوادى لامولة بعد الشلال الثانى. والطريق إلى العين شاق لأنه فى نهاية درب ضيق جدا فى فلقة

١٥٧

من الصخر وجدنا فيها فضلا عن العين خزانا لماء المطر. والماء عذب زلال ، ولكنه للأسف ليس غزيرا. على أى حال لم نجد نحن إلا النزر اليسير منه. وكان يحوم حول العين بعض الحمائم. وعين شقرة ذات صيت ذائع فى هذه الصحراء كلها ، وكثيرا ما يضرب البشاريون خيامهم فى الوديان القريبة منها ، ولأحد أوليائهم خرج بجانب العين ، ويقدم المسافرون العطايا والذبائح عند الضريح ، فإذا وجدوا بدوا ضاربين بقربه ابتاعوا منهم الخراف وذبحوها إكراما للولى. وقد عثر أحد جماعتنا خلف صخرة بقرب الضريح على صندوق فارغ جديد من صنع مصر ، ولعل تاجرا أودعه هذا المخبأ بعد أن عجز بعيره عن حمله مؤملا أن يأخذه معه فى إيابه. وقد طالب الخبراء العبابدة بالصندوق زاعمين أنهم سادة الصحراء ، وأن كل ما يعثر عليه فيها فهو لهم. ونزلنا على نصف ميل من العين ، وكان هممنا أن نملأ قربنا أولا. وتلطف العبابدة فسمحوا للتجار المصريين بملء قربهم قبلهم ، ولكن المصريين استغلوا هذا اللطف فسقوا إبلهم أيضا ، فلما بارحوا البئر كان قد نضب الماء أو كاد ، فأعلن العبابدة أنهم مضطرون إلى البقاء حتى تمتلىء البئر ثانية ، وعلى ذلك بتنا الليل كله والعبابدة نيام على فم البئر ليحولوا دون سرقة الماء ليلا.

وفى صباح ١٨ مارس ملأ العبابدة عشرين قربة ولكنهم لم يقنعوا بها ، فآثر التجار أن ينزلوا عن بعض قربهم بشرط الرحيل فورا عن أن يطيلوا المكث بالمكان ويروا مئونتهم من الماء تتناقص ساعة بعد ساعة. أما أنا فقد استطعت بعد لأى أن أملأ قربتين كبيرتين ، وكنت ما أزال محتفظا بصبابة من الماء فى قربى ، فقدّرت أن نصيبى من الماء سيكون على الأقل مساويا لنصيب أى فرد فى القافلة. بيد أن هذا الذى قدرت لم يتحقق ، فقد حملت إحدى القربتين على كتفى إلى مضربنا وتركت الأخرى بقرب البئر على أن أعود بالحمار لآخذها. فلما عدت ألفيتها فارغة ، فقد صبها رفاقى الدراويون فى إحدى قربهم ، واعتذروا بأنهم فعلوا ذلك خطأ ولكنهم أبوا أن يملأوا قربتى من البئر ، والواقع أن ما تخلف الآن فى البئر من الماء كان كدرا عكرا لا يصلح للشرب بسبب ما يكسو القاع من طبقات الطفل الأزرق. وقد عرضت عليهم ريالين ثمنا لقربة ملأى بالماء ، ولكنهم لم

١٥٨

يحفلوا بى وضحكوا منى قائلين إن هذا الثمن الذى عرضته باهظ حقا ، ولكن أحدا منهم لن يفرط فى مائه ، وأنهم لم يألفوا هذا التفريط من قبل. فلم يكن لى مندوحة عن مبارحة البئر والأسى يملأ قلبى ، لأن مئونتى من الماء لن تكفينى أنا وحمارى إلا يومين على أكثر تقدير. ويجدر بى أن أذكر بهذه المناسبة أنه لا يجدى المسافر فى الصحراء أن يحمل من الماء القدر الموفور ، لأن رفاقه سيأخذونه منه عنوة واقتدارا إذا نفد ماؤهم ، فالقاعدة التى يجرون عليها هى أن الخبز والماء مشاعان للجميع ، أى أن القوى يغصبهما من الضعيف. وعرب الصحارى الشرقية يسمحون للفقراء من المسافرين أن يقاسموهم ماءهم مهما كان قليلا ، ولكنك لا تجد هذا الكرم عند الإفريقيين ، وقصارى ما يستطيع المسافر معهم أن يفعله هو أن يتزوّد من الماء بما يكفيه الفترة التى يكفى كبار التجار فيها ماؤهم ، فإن أحدا منهم لن يسعفه بالماء ، أما هو فمضطر للنزول عن كل ما يفضل عن حاجته منه ، بل أحيانا عن كل مئونته ليسدّ حاجة رفاقه الأشداء. وتطلعت حول البئر علّى أجد معالم بناء قديم ظنا منى بأن هذا الموضع كان معروفا مطروقا أيام ازدهار تجارة مروى كما هو شأنه اليوم ، ولكنى لم أجد أثرا لبناء ، ومع ذلك فإن الموقع كان يصلح لأن تشاد عليه قلعة. والطريق المؤدى للكهف الذى فيه البئر تكاد تسده الكتل الضخمة من الحجر ، وعلى مقربة منه عين أخرى سقط فوقها مؤخرا نتوء فى الجبل فطمرها.

ولما علم رئيس القافلة ـ وهو شيخ من العبابدة ـ بما أصابنى من ضر أرسل إلىّ ونحن نهم بالرحيل ، وبعد أن أنحى باللائمة على قسوة المصريين فى معاملتى أهدانى قدرا من الماء يملأ قربة من القرب الصغيرة. وقد شكرت له بالطبع صنيعه وأثنيت عليه ثناء صادقا ، وإن تبينت أن رغبته فى الزراية بالمصريين كانت أشد من غيرته على مصلحتى. وبارحنا شقرة فى الضحى ، وقضينا أربع ساعات نطوى سلسلة جبال شقرة وقد بدت لى أعلى جبال النوبة القريبة ، على أن أعلى قممها لا يزيد ارتفاعها عن السهل على ثمانمائة قدم أو ألف. والجبال كلها من الجرانيت ، وهى فى كل أرجائها وعرة مهشمة كالجبال المحيطة بالعين. وبعد أربع

١٥٩

ساعات خرجنا من الجبل وسرنا فوق منحدر هين فبلغنا سهلا رمليا تكسوه الصخور المدببة. وكان اتجاهنا إلى الجنوب بانحراف قليل للغرب. وبعد خمس ساعات مررنا بوادى قبقبة ، وبعد سبع بوادى زيناتيب ، ويندر نمو الشجر فى هذه الوديان ، وهى لا تعدو أن تكون منخفضات من الأرض تنتشر فيها بعض الشجيرات. ومضينا نضرب فى السهل حتى أوغلنا فى الليل ، ثم حططنا بعد إحدى عشرة ساعة تقريبا. والأرض التى جزناها بعد جبال شقرة سهل رملى كبير تتخلله فى بعض أرجائه بقاع فيها الحصباء والحصى من المرو ، وفى بعض أنحائه كثبان رملية متنقلة. وكانت طريقنا منذ خرجنا من دراو حتى بلغنا شقرة طريقا عريضة مطروقة لا يمكن أن يضل عنها من خرج فى هذه الرحلة من قبل. وقل أن تغير الطريق اتجاهها ، كذلك يستطيع المسافر أن يهتدى بمعالم الجبال الواضحة على الجانبين فى المواضع القليلة التى لا تطمر فيها الرمال على آثار القوافل التى سلكتها من قبل. أما إلى الجنوب من شقرة فلم نجد دربا مطروقا ولا جبالا يهتدى بها ، لذلك لا تستغنى القافلة فى سيرها هنا ـ لا سيما فى أثناء النهار ـ عن بصر البدوى الحديد وخبرته الطويلة.

١٩ مارس ـ سرنا صوب الجنوب الغربى فوق سهل فسيح تحفه التلال الواطئة فى الأفق البعيد ، وبلغنا بعد ساعة وادى دبموكايب (وهو اسم بشارى) ، والوادى حافل بالشجيرات الجافة. وكان النهار شديد القيظ ، وخيل إلى أننى تبينت تغيرا ملحوظا فى المناخ جنوب شقرة ، فالجنوب أدفأ كثيرا من الشمال. وبعد ثمانى ساعات ونصف مررنا بوادى أبوضىّ ، وكل هذه الوديان تمتد من الشرق إلى الغرب. وبعد إحدى عشرة ساعة بلغنا آبار النجيم ، ومررنا فى طريقنا إليها بعد العشاء بعدة قبور تدعى قبور أجواد الأرياب ، وذكر لنا أحد شيوخ القافلة إن هذه البقعة مدفن أبطال الأرياب ، يحمل رفاقهم جثثهم إليها رحلة أيام ليدفنوهم فى ظل الآبار الظليل ، وليذكر فعالهم كل عابر بالطريق ويستمطر عليهم شآبيب الرحمة والرضوان. والأرياب قبيلة بشارية. وكنا قد أوفدنا رحالا سبقونا إلى الآبار

١٦٠