رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

جون لويس بوركهارت

رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: فؤاد أندراوس
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة
الطبعة: ٠
ISBN: 977-437-201-8
الصفحات: ٣٩٢

ما يشبه الحجرة القائمة بذاتها فى وسط المعبد ، وهو أسلوب فى العمارة لحظته فى معبد الدكة ثم فى معبد فيلة. وفى داخل الهيكل عمودان واطئان. ورأيت فى قدس الأقداس حطام أعمدة ملقاة على الأرض ، ولم أر مثل هذا فى قدس أى معبد مصرى. وفى جدران القدس فجوات مظلمة واطئة ، ونوافذ أو كوى كتلك التى تراها فى معبد دندرة ، وسقفه من كتل حجرية تمتد بعرضه ، وسمكها يزيد على ثلاث أقدام. وخلف القدس حجرة شبيهة بما فى معبد الدكة ، ويصلها به بابان. وقد سقط سقف الحجرة ، ولكن الزائر يستطيع الحكم بأن هذه الحجرة كانت أوطأ من القدس ، وأن حجرة أخرى كانت مبنية فوقها. وفى جدران هذه الحجرة فجوات عديدة تؤلف الفجوة منها خلوتين واحدة وراء الأخرى ، ويفصلهما باب ضيق ، ولا تتسع الخلوة إلا لشخص واحد ، والخلوتان تغلقان من أمام بحجر يمكن رفعه عند الحاجة. ولعل هذه الحجر الصغيرة كانت زنزانات يحبس فيها المتمردون من القساوسة ، أو صوامع يوضع فيها الراغبون فى احتراف الكهانة تحت الاختبار. وشاغل الحجرة فيها كان رهين محبسها بكل معنى الكلمة ، فإنك لن تجد فيها ـ بعد أن تثبت الحجر الخارجى فى موضعه منها ـ ما يشعر بوجود فجوة خلف الحجر. وقد لحظت داخل حجرة منها حجرا مجوفا لعله تابوت ، ولكننى لست واثقا من هذا.

وجدران الهيكل وقدس الأقداس تكسوها الرسوم التى ما زالت ألوانها محتفظة بروائها أكثر من رسوم معبد فيلة ، والفضل فى هذا راجع إلى طبقة الملاط التى كسا الاغريق بها الجدران ليرسموا عليها صور قديسيهم ، ولكن أكثر هذه الطبقة تساقط. والألوان الغالبة فى رسوم المعبد هى الأحمر والأزرق والأخضر والأسود. وقد لون أوزيريس الصقرى الرأس ، الحامل العكاز فى إحدى يديه ، بلون أخضر فاتح ، وطليت نسوة ممسكات بأزهار اللوتس بلون أسود ، أما الثياب المخططة الملونة التى يرتديها أوزيريس ذو التاج فزاهية براقة. والشعر فى كل هذه الرسوم أسود اللون وإن يكن فى بعضها أزرق. وتملأ النقوش الهيرغليفية الحمراء اللون ما بين هذه الرسوم من فراغ. وفى أسفل جدران القدس الجانبية رسوم لأفراد بجانب كل منهم حيوان ، وهو إما ثور أو غزال أو إوزة. وعلى جدران المعبد

١٠١

الخارجية رسوم لأشخاص بالحجم الكبير ، وهى شبيهة برسوم دندرة وإدفو وإن لم تبلغ ضخامتها ، وصنعتها خشنة لا تتناسب مع جمال النقوش التى نراها فى داخل الحجر وتبرز رءوس أبى الهول من جدران المعبد على نحو ما ترى فى معبد دندرة ، ولعل الكهنة كانوا يذيعون منها نبوءاتهم على الناس.

هذا وقد مدّت جدران الرواق بطول المعبد كله ، ويقطعها جدار مستعرض فى مؤخر الحجرة الواقعة خلف قدس الأقداس ، فقام بذلك سور عال يحيط بالمعبد ، وعلى نحو عشرين قدم منه سور خارجى يحتوى البناء كله بين جدرانه ، ويصل هذا السور الخارجى إلى سفح التل الذى نحت نحتا رأسيا ليكون الحائط الخلفى للسور. وفى الزاوية الجنوبية الغربية من المنطقة التى تخلفت حول المعبد بهذه الطريقة مربع تؤلف ضلعا من أضلاعه ثلاثة أعمدة ، ويؤلف الضلع الداخلى المجاور لهذا جدارا قصيرا يقطع المنطقة عرضا. وهنا نحتت فى الصخر العمودى مغارة أو مقبرة ـ على نحو ما رأيت خلف معبد دندور ـ هى حجرة واحدة لا يحليها من النقوش غير رسم الشمس المجنحة على بابها. ويهبط الزائر من البوابة بضع درجات إلى شرفة مبلطة تمتد إلى أساس بناء مستطيل يقع فوق النهر مباشرة ، وترى فيه بقايا أعمدة. ولعل زوار المعبد زمن الفيضان كانوا ينتقلون من سفنهم إلى هذا البناء مباشرة.

وهذا المعبد ، هو ومعبد الدكة ، من أثمن آثار مصر القديمة. ومعبد كلابشة. شبيه ويعدّ فى موقعه بمعبدى دندرة وأدفو ، وقد بنى فى أزهى عهود العمارة المصرية ، وإن كان ببعض أجزائه آثار إهمال وعجلة لا نجدهما فى المعبدين المذكورين. وبناء الجدران فى غاية الإتقان ، وتحمل العمد المتخلفة تيجانا كتيجان معبد فيلة ، لكنها دونها أناقة ودقة.

وقد حول الإغريق هذا المعبد كنيسة ، ولا تزال الجدران تحتفظ بصور كثيرين من قديسيهم. وقد نسخت النص التالى من رواق المعبد.

وعلى ربع ساعة من المعبد يقوم فى شماليه الغربى معبد صغير منحوت فى الصخر. والطريق إليه وسط أطلال المدينة القديمة وبين تل من الأنقاض والحجارة

١٠٢

يمتد ميلا وربع الميل على شاطىء النهر. وأمام المعبد ساحة مكشوفة ـ نحتت هى أيضا من الصخر ـ ومنها تدخل إلى الهيكل ، وطوله ثلاث عشرة خطوة وعرضه ست ، ويرتكز سقفه على عمودين مضلعين ، وفى جدرانه طاقتان صغيرتان فى كل منهما ثلاثة تماثيل. وبجانب الهيكل قدس الأقداس ، وهو حجرة صغيرة محيطها ثمانى أقدام. والرسوم والنقوش الهيرغليفية الجدارية شبيهة بنقوش معبد الدر فى خشونتها. وتتكرر مجموعة برياريوس على جانبى المدخل (١). وعلى جدران الساحة الأمامية المكشوفة نقوش تصور موضوعات تاريخية على جانب عظيم من الأهمية ، فترى على جانب الجدار معركة تدور رحاها ، ونرى القائد المظفر يركب عجلة يجرها جوادان مطهمان ينهبان الأرض نهبا ـ وهو المنظر الذى تراه فى معبد الكرنك ـ وهو بسوق أمامه أعداءه المدحورين الهاربين إلى بلد يزخر

__________________

(*) يلاحظ أن شعر برياريوس ـ فى رسومه الموجودة على معابد النوبة ـ محلوق على طريقة العرب والنوبا ، وأنه يلبس قرطا فى أذنيه كما يفعل النوبا والمحس تماما. ولعل الأصل فى برياريوس هذا شيخ كبير من شيوخ القبائل الصحراوية أوقع به فرعون الهزيمة ثم صوره الكهنة وحشا متعدد الرؤوس ، وهذا يطابق قولا يردده الشرقيون فى معرض الكلام على لصوص البدو ، وهو «اقطع راس الواحد تطلع ماية عوضه».

١٠٣

بأشجار الفاكهة مختلفة الأشكال والحجوم ، ولبعض هذه الأشجار أوراق كبيرة مستديرة ، وتتدلى فيها عناقيد الفاكهة وتقفز القردة بين أغصانها ، وخلف عجلة القائد المظفر عجلتان على غرارها ولكنهما أصغر ، يجر كلا منهما جوادان منطلقان كالريح ، وفيها امرأة واقفة منتصبة القامة وأمامها سائق ممسك بأعنة الجياد ، وفى جانب آخر من هذا الحائط موكب النصر يمر أمام أوزيريس الجالس على العرش ، فترى أولا رجالا عراة الأجساد يحملون على مناكبهم كتلا كبيرة من خشب لعله الأبنوس (١) ، ويسوق أحدهم تيسا بريا ، ويحمل ثان نعامة ، ويمسك ثالث درعا كبيرة في يد وغزالا فى الأخرى ، ويأتى رابع بقرد أمام الحضرة الملكية. ثم يلى هؤلاء رجل يحمل كتلة من الخشب الثمين كالكتل السابقة ، ويسوق أمامه جاموستين كبيرتين. ويختتم الموكب بزرافة طويلة معها سائقها ومن خلفهما أسيران عاريان إلا من جلد وحش يلفانه على الخاصرة. وفوق هذا القسم مباشرة قسم آخر من الحائط ترى عليه رسم أسد كبير وحارسه ، وترى حيوانا آخر فى حجم التيس الكبير وله قرنان مستقيمان طويلان ، ثم زوجا من الجاموس وتجاه هذين القسمين ترى الملك وبين يديه أكوام من الكنانات والسهام وأسنان الفيلة وجلود الوحوش وفرائها ، وصف من القرع لعله كان يحتوى على دهن وعطور ثمينة. وعلى شطر من الحائط المقابل رسم الملك جالسا ، وقد جىء بين يديه بأسرى ملتحين مغلولى الأيدى ، وتستطيع أن تميز بينهم صفا من الجوارى لا بسات أردية طويلة وغطاء عاليا للرأس كهذا يطرحن الرداء من فوقه. وفى جانب آخر من الحائط ملاصق لهذا ترى أسيرا يضحى به ، وعلى مسافة منه لوحة لمعركة صور فيها الهجوم على قلعة العدو والاستيلاء عليها ، فترى رجلا ممسكا ببلطة يحاول أن يفتح ثغرة فى الأسوار ، وترى بعض جنود الحامية يلقى بهم من فوق الأسوار ، بينما يؤتى بالباقين أسرى. وقد نقشت كل هذه الموضوعات نقشا غائرا دقيقا لم أر له ضريبا بين النقوش التاريخية التى شهدتها فى معابد وادى النيل ، بل

__________________

(*) رأيت فى إحدى الحجرات الصغيرة بمقبرة من مقابر الملوك بطيبة ، بين رسوم الأناث المصورة على الجدران ، كومة من الكتل الخشبية شبيهة فى شكلها بهذه ، مما يدل على أنها كانت تستعمل فى صناعة أفخر الأثاث.

١٠٤

إنها تبدو أكثر حيوية من نقوش طيبة ، وتتميز صور الحيوان على الأخص بالأمانة والدقة ، وتتضح أهمية هذه النقوش حين يتأمل المرء الموضوعات التى صورتها ، فهى سجل لحقيقة تاريخية لم يرد ذكرها فى أى معبد مصرى آخر. فقد حمل فرعون ألويته إلى بلد تسكنه الأسد والزراف والقردة والفيلة ، وهى حيوانات لا تعيش فى النوبة أو دنقلة ، فالفيل والزراف يسكنان ضفاف النيل عند سنار والغابات الواقعة على حدود الحبشة وضفاف عطبرة (١) والنيل الأزرق (٢) التى تجلب منها اليوم أيضا لمصر أجمل الجوارى وأغلاهن ثمنا ، فهذه الغنائم كلها تشير إلى أن المعارك لا بد قد دارت فى البلاد الواقعة جنوبى إقليم مروى القديم المتحضر ، لأن الأسرى اللابسين جلود الوحوش دليل على أن العدو أمة متوحشة. أما مناظر المعارك التى تراها على معابد طيبة ـ سواء فى الأقصر أو الكرنك ـ فيبدو أنها تشير إلى ميادين حربية أقرب من تلك. أفلا يجوز أن تكون القلاع المرسومة على هذا المعبد ذات صلة بجزائر بطن الحجر التى كان بها حصون ترى من مخلفاتها الأطلال الكثيرة من الآجر؟ ومظهر رءوس الهاربين (التى اختلطت على البعض فحسبوا شعورها المحلوقة طواقى) ، ولحاهم القصيرة الرقيقة المرسلة تحت ذقونهم .. كل هذه سمات يتميز بها أهل نوبا الذين لم تبلغ سمرتهم درجة السواد ، إنما هى سمرة نحاسية قاتمة يؤثر الرسام الذى لم يحذق مزج ألوانه أن يعبر عنها بالحمرة الداكنة لا بالسواد. وليس من العسير أن يتصور المرء أن سكان المناطق الجدباء فى النوبة وبطن الحجر كانوا يتطلعون إلى خيرات مصر وثرائها بعين الحسد ، فكانوا يغيرون الفينة بعد الفينة من حصونهم على أقاليم مصر المجاورة حالبين عليهم بذلك سخط ملوك طيبه ونقمتهم.

والمعبد الصغير الذى أوردت وصفه يسميه الأهالى بيت الوالى ، ويتعذر على المسافر فى النيل أن يراه إلا إذا استفسر عنه. وفى التل المجاور له المحاجر التى اقتطعت منها الأحجار لبناء المدينة ومعبدى كلابشه. ولا ريب فى أن هذه المدينة هى نلميس

__________________

(١) Astaboras

(٢) Astabus

١٠٥

Talmis القديمه ، وتدل تلال الأنقاض القائمة على البر الشرقى على آثار المدينة القديمة المواجهة لهاContra ـ Talmis ، ولا بد أن تلميس هذه قد أثرت من التجارة لا من الزراعة ؛ فالوادى بقربها لا يتجاوز عرضه الأربعين ياردة ، ولعل تجارة البلح كانت فى القدم ـ كما هى اليوم ـ مورد رزق هام يعتمد عليه النوبيون الساكنون وادى النيل من حلفا إلى فيلة. كذلك كان من اليسير جنى أرباح طائلة من مرور السفن المحملة بالبضائع من مروى ، ولعل أصحاب هذه البضائع كانوا يفرغونها فى سكوت ويحملونها على ظهور الإبل فى بطن الحجر ، على أن الراجح أن الجانب الأكبر من البضائع التى كانت تحمل من هذه المدينة القديمة إلى مصر كان ينقل برا بالطريق الذى تسلكه اليوم قوافل سنار. ولو أنه كان ينقل بالنيل لوجدنا فى ظنى بقايا مدن تجارية عند طرفى بطن الحجر لتفريغ البضائع وشحنها ثانية ، وذلك لاستحالة الملاحة فى هذا الإقليم الوعر. وإذا ذكرنا الجنادل التى تعترض النهر فى بلاد الشايقية ، وفى جنوبى دنقلة ، وفى كوكا والمحس ، وفى وادى دال وبطن الحجر ، وذكرنا أن المسافة من القوز إلى الدر ، بطريق دنقلة سيرا مع النهر يستغرق قطعها خمسة وعشرين يوما فى حين لا يستغرق الطريق الذى تسلكه قوافل العبيد عبر الجبل سوى ثمانية أيام ، لظهر لنا أن القوافل القادمة من الجنوب كانت على الأرجح تهبط وادى النيل تجاه أبو سمبل ، حيث يمكن استئناف الملاحة فى النيل شمالا (١).

وقفنا بعد بيت الوالى بقليل لنقضى الليل فى قرية تابعة لكلابشه ، تجاه جزيرة دارموت ، واسمها خرطوم ، بعد أن ركبنا فى يومنا ست ساعات ونصف. وأمطرت السماء وابلا فى الليل ، فأصابنى أنا ودليلى برد شديد ، واشتد علينا قيظ النهار بعد أن كان الجو معتدلا جدا فى رحلتى صوب الجنوب ، وأثرت فينا تلك الطفرة التى أحدثها هطول المطر فى الجو ، فنقلتنا فجأة من وقدة الصيف إلى زمهرير الشتاء.

__________________

(*) النقل البرى رخيص رخص النقل البحرى فى البلاد التى تكثر فيها تربية الإبل. فنقل حمل من البضائع وزنه من ستمائة رطل انجليزى إلى سبعمائة ، من بغداد إلى حلب ـ وهى مسافة تبلغ ستمائة ميل ـ يكلف أربعة جنيهات إنجليزية. فكم يكلف شحن سبعة قناطير بحرا ، من لندن إلى هل؟

١٠٦

٢٩ مارس ـ ارتقينا الجبل الذى يقطع الطريق المحاذى للنهر. ورأيت على قمته حطام أعمدة وتيجان مصرية صغيرة جدا على مقربة من بعض المبانى العربية ، ولم أر بجوارها أى بناء أثرى. والصخور فى السفح الجنوبى للجبل من الجرانيت والفلسپار ، أما فى السفح الشمالى فمن الحجر الرملى. وبعد ساعتين عدنا إلى النهر ثانية عند قرية طافية ، قرب البقعة التى عندها يبرز الصخر عموديا فى الماء. وهنا توجد أطلال معبدين صغيرين. ويتألف أحدهما من حجرة مربعها عشر خطوات تهدم سقفها وأحد جوانبها ، وما زال بالحجرة عمودان قائمان قطر كل منهما قدمان ، ولهما تاجان يمثلان سعف النخل. وكان يجاور هذه الحجرة قدس الأقداس الذى تهدم فلم يبق منه غير أساسه ، وترى على مدخله قرص الشمس المجنح الذى لم أر سواه من رسوم أو نقوش هيرغليفية. وقد رسم الإغريق قديسيهم على جدران هذا المعبد كغيره من المعابد ، كذلك ترى عليها تقويما إغريقا ونصوصا رديئة الخط.

أما المعبد الثانى فحجرة مربعة صغيرة ، وهى سليمة لم تتهدم ، وبها ستة أعمده شبيهة فى حجمها وشكلها بعمودى المعبد السابق. وليس بالمعبد نقوش سوى قرص الشمس المجنح. وإلى جوار المعبدين انتشرت أطلال بيوت السكان الأقدمين ، وجدرانها سميكة مبنية بالحجر بناء جيدا. وقد أكثر النوبيون من استعمال الحجر فى بنائهم عوضا عن الآجر لأنه كان فى متناولهم.

ويزعم فلاحو طافية (ولا بد أنهاTaphis القديمة) أنهم سلالة المسيحيين القلائل الذين كانوا يسكنون المدينة ، والذين اعتنقوا الإسلام حين فتح المسلمون البلاد ،

١٠٧

أما معظم إخوانهم فقد لاذوا بالفرار أو قتلوا. وما زالوا يدعون «أولاد النصارى» إلى اليوم وعلى الضفة الشرقية أطلال تخلفت من طافية شرق Contra ـ Taqhis

ومن طافية إلى دهميت شمالا يطلق على الوادى اسم وادى أمبركاب وعرب أمبركاب عشيرة من الكنوز. وتغزر السنامكى فى الحقول غير المزروعة فى هذا الوادى. ومررنا بهنداو بعد ثلاث ساعات ، وبقرتاس بعد أربع. وهنا يرى المسافر بجوار النيل سورا حجريا كبيرا يبلغ طوله مائة وثلاثين خطوة وعرضه مائة. وتنتشر فى نطاقه أكوام من البيوت الحجرية المتهدمة. ويدخل المرء إلى هذا الفناء من بوابة كبيرة شبيهة بالبوابة التى تقوم على واجهة المعبد القريب من مرواو. ويبلغ سمك الأسوار نحو عشر أقدام ، وعلى سطحها من الجانبين أحجار منحوتة ، أما وسطها فقد حشى خليطا من النقارة لا يمسكه ملاط ، ولا شك أن هذه الأسوار بنيت دفاعا عن البلاد ، ولعل هذه كانت محطة من محطات الرومان التى أقاموها ليدفعوا هجمات البلميس. وقد حاولت عبثا أن أجد عليها آثار رسوم أو نقوش هيرغليفية. وعلى نحو ميل إلى الشمال ترى على قمة تل أنقاض معبد شبيه فى بنائه بمعبد أوزيريس الصقرى الرأس فى فيله. ولم يبق من المعبد إلا الرواق ، وكان يتألف أصلا من ثمانية أعمدة بقى منها ستة ، وهناك حائط يربط هذه الأعمدة بعضها ببعض ربطا جزئيا ، وارتفاع الحائط نصف ارتفاع الأعمدة ، وهو يحيط بها جميعا. ولم يبق من أحجار السقف غير حجر واحد لا يقل طوله عن ست عشرة قدما ، ويمتد بعرض المعبد كله ، ويرى الزائر أربعه من هذه الأعمدة ما زالت محتفظة بعتبها من فوقها ، وتاجا العمودين الباقيين عبارة عن أربعة وجوه لإيزيس وعلى رأسها الغطاء الذى تراه فى دندرة بذاته ، ولكنها تبدو هنا أصغر سنا وأقل وجوما ، ولها آذان غريبة المنظر هذا شكلها ، وهنماك رسم محفور على عمود واحد فقط ، أما الأعمدة الباقية فتحمل آثار نقوش هيرغليفية حائلة.

وهناك محاجر واسعة للحجر الرملى إلى الجنوب الغربى من التل الذى شيد عليه المعبد المذكور ، وهى ملاصقة للنهر ، ولعل هذه المحاجر هى التى اقتطعت منها الأحجار التى بنيت بها معابد فيلة ودبودParembole المشيدة بالحجر الرملى ،

١٠٨

فالصخور فى هاتين المنطقتين جرانيت خالص ، وفيما أنا أنتقل بين المحاجر لقيت موضعا اقتطعت فيه من جانب الصخر المسوّى كوة فيها مقعد حجرى لعله كان قاعدة لتمثال ، ومن فوق الكوة نقشت أقراص الشمس المجنحة ، ويبدو أن الكوة قد استخدمها المصريون الأقدمون أولا ، ومن بعدهم الإغريق الوثنيون ، ثم الإغريق المسيحيون ، مزارا يؤمونه لرفع صلواتهم لله ليحافظ عليهم وعلى أصدقائهم. وعلى جانبى الكوة نقشت رءوس القديسين الإغريق على الصخر. كذلك رأيت رسوم أشخاص كاملة ، ورءوسا لأبى الهول لا يزيد طولها على ثلاث بوصات أو أربع ، ولعلها تمثل رءوسا من الذهب أو الفضة كانت تقدم قربانا للآلهة الوثنيين. والصخرة المجاورة للكوة تحفل بالنصوص المصرية والإغريقية. وقد اخترت من بين النصوص الإغريقية ـ وهى أكثر من المصرية ـ هذه النصوص التالية لأهمية مضمونها عما عداها :

١٠٩

١١٠

كذلك رأيت نصا لا تينيا لم أستطع أن أتبين منه غير كلمتين هما.FABIP.CVM وهناك كوى صغرى فى أجزاء أخرى من صخور هذا المحجر ، وعليها رسم القرص المجنح ، ولكنى لم أر نصوصا إلا على الكوة السابقة.

وبعد أربع ساعات ونصف مررنا بوادى حديد ، ويقع تجاهه على البر الشرقى وادى سهراب وهنا يقوم على تل صخرى عمود منفرد ، تخلف وحده من معبد صغير انتشرت خرائبه فى المكان. وقد نحتت فى سفح النيل مقابر صغيرة عديدة تشير أكوام الأنقاض إلى موضع مدينة قديمة. وبعد خمس ساعات وصلنا جعرة ، والوادى منها إلى طافية جيد الزرع. وبعد خمس ساعات ونصف وصلنا دهميت حيث ينتهى وادى أمبر كاب. ودهميت شرق أزكى زرعا من دهميت غرب. وهنا يجد المرء أساس بناء مربع صغير مشيد بالأحجار الضخمة ، وحائطا سميكا من اللبن يمتد موازيا للتلال ومجرى النيل مسافة خمسين ياردة ، ولعله أقيم حاجزا يصد رمال الصحراء وبعد ست ساعات ونصف وصلنا مريس ، وتقع تجاهها على البر الشرقى قرية السيالة. وفى النهر هنا جزيرة عليها أطلال أبنية من الآجر. والصخور هنا من الجرانيت ، وتظل كذلك طوال الطريق إلى أسوان. ويقع الطريق من السيالة على سهل رملى فيه تلال منعزلة من الجرانيت تفصله عن النهر. وعلى الضفة الشرقية إلى الشمال من السياله تقع قرية عبدون. وعلى سبع ساعات ونصف تقوم دبود ، وتتألف من عدة قرى قائمة على ضفتى النهر. وعلى سبع ساعات وثلاثة أرباع الساعة يقوم تل مشرف على الشاطىء ، هو جزء من وادى دبود ، وعليه أطلال مدينة غربية بيوتها من الآجر ، ويبدو أنها كانت بيوتا رحبة حسنة البناء. وفى النهر عدة جسور جرانيتية كبيرة. وحططنا عند تجع لنقضى الليل بعد أن سرنا ثمانى ساعات فى يومنا هذا. وقد مكث المماليك فى هذه النواحى شهورا حتى أكرههم زحف إبراهيم بك على التقهقر ، وقد عزّ العلف فى أثناء إقامتهم فاضطروا إلى إطعام جمالهم بسعف النخل ، فجردوا النخل كله من سعفه ، من هذه البقعة حتى وادى حلفا جنوبا ، وهكذا حرم النوبيون محصول نخلهم سنة كاملة.

١١١

٣٠ مارس ـ ركبنا نصف ساعة فوق سهل جيد الزرع ، ثم جئنا معبد دبود الذى يقوم على مدينةParembole الأثرية.

وللمعبد ثلاث بوابات منفصلة عالية ذات أفاريز كالمعبد القريب من مرواو. وبين البوابة الأولى والثانية ، عشرون خطوة ، وبين الثانية والثالثة عشر ، وبين الثالثة والبهو الخارجى للمعبد خمس عشرة. وأمام البهو أربعة أعمدة يربط بعضها البعض جدار يعلو إلى نصف ارتفاعها. وفى وسط ثلاثة من جدران البهو الداخلية يمتد إفريز من النقوش ، وفيما عدا هذا ترى الجدران عاطلة من النقوش ، وهى ظاهرة لم أرها فى غير هذا المعبد. وإلى يسار البهو حجرة مربعة تبرز جدرانها متجاوزة جانب المعبد فتشوه بذلك تناسقه. ولم أر على جدران هذه الحجرة نقوشا أيا كانت.

أما الهيكل فحجرة مستطيلة تملأ جدرانها الرسوم والنقوش الهيرغليفية ، وعلى أحد جانبيها حجرة مظلمة لها باب يصلها بالبهو ، وفى الآخر سلّم يصعد إلى قمة المعبد ، وتحت السلم عدة غرف صغيرة. أما قدس الأقداس الذى ندخل إليه من غرفة ضيقة عرضها ثلاث خطوات ؛ فطوله عشر أقدام وعرضه تسع ، وعلى حداره الخلفى معبدان بديعان كلاهما من قطعة جرانيتية واحدة ، وارتفاع أكبرهما ثمانى أقدام وعرضه ثلاث ، وعلى كليهما رسم قرص الشمس المجنح. وربما كانا مستودعين لبعض الحيوانات الصغيرة (ولعلها الخنافس) ، وترى مواضع المفصلات التى يدور

١١٢

عليها باب المستودع. ويشبه هذان المعبدان من الجرانيت نظيرين لهما فى فيلة ، ولكنهما يختلفان عن معبد قاوAntaeopolis الذى يكبرهما كثيرا (١) كذلك ليس فى داخل المعبدين نقوش هيرغليفية ، أما معبد قاو فداخله حافل بالرسوم والنقوش وبعض هذه النقوش يمثل الجعارين. وعلى كل جانب من جانبى القدس فى معبد دبود غرفة صغيرة تتصل بالحجرة الضيقة الواقعة خلف الهيكل. وجدران الغرفتين عاطلة من النقوش ، ولكنها تحتوى على كوى خفية كتلك التى تجدها فى معبد كلابشة ، ولعل الغرض منها هو نفس الغرض المقصود من كوى معبد كلابشة. وكان لإحدى الغرفتين طابق علوى كحجرة معبد كلابشة ، ولكن هذا الطابق تهدم. أما سائر حجرات المعبد فسليم ، ونقوش الجدران الداخلية مشوهة ، ولكنك تستطيع أن تتبين آثارا ضئيلة من ألوانها الحائلة ، أما الجدران الخارجية فقد خلت من النقوش. وكان يحيط بالمعبد كله ـ بما فيه البوابات الثلاث التى تقوم على واجهته ـ سور هو اليوم متهدم. ولحظت فى أرض البهو المحطمة أسسا حجرية عميقة بنى عليها المعبد ، ولن أستغرب إذا أسفرت الكشوف فى هذا المعبد وفى غيره من المعابد المصرية عن حجرات تحت الأرض ، فهذا يستقيم تماما مع الروح التى اتسم بها الكهنوت المصرى القديم.

ويخيل إلىّ أن معبد دبود قد بنى فى بدء اضمحلال الفن المصرى ، فأعمدته ونقوشه تحكى أعمدة فيله ونقوشها ، ولكن شتان بين جمال الأصل والتقليد. ويبدو أن معبد مرواو الصغير يرجع إلى هذا العهد نفسه وإن كانت صنعته أدق. وهكذا تقدم لنا أرض النوبة نماذج من شتى عصور العمارة المصرية ، والحق أنك لا تستطيع تقصى تاريخ هذه العمارة إلا فى النوبة ، إذ يبدو أن ما تخلف من معابد فى أرض مصر (فيما خلا معبد القرنة) قد بنى كله فى عهد بلغ فيه فن المعمار الغاية أو ما يقرب من الغاية. ولو طلب إلىّ أن أرتب المعابد النوبية حسب عصور بنائها لرتبتها كما يلى.

(١) أبو سمبل ، (٢) قرشة. (٣) الدر (٤) سمنة. (٥) بلّانة (٦) الحصاية. (٧) السبوع. (٨) العمارة وكلابشة. (٩) الدكة والمحرقة

__________________

(*) بالقرب من طريق الكباش الغربى بالكرنك معبد من كتلة حجرية واحدة ملقى على الأرض ، وهو شبيه بمعبد قاو ولكنه أصغر.

١١٣

(١٠) قرتاس. (١١) مرواو (١٢) دبود. (١٣) قورتة. (١٤) طافية.

وارتقينا الجبل الرملى بعد قليل ، وبعد مسيرة ساعة عدنا إلى النهر ثانية عند وادى شيمة الواح. وهنا معدية صغيرة أردت أن أعبر عليها إلى البر الشرقى لرغبتى فى زيارة جزيرة فيلة ، فليس على البر الغربى طريق صالح لسير الإبل ، والطريق المعروف من دبود يخترق الجبل حتى يبلغ البر المواجه لأسوان. ولما لم يكن لدينا قرب منفوخة نشد إليها عنقى البعيرين ، فقد شددنا حبالا حول جسميهما ، وقطرناهما للبر الشرقى إلى جوار القارب. ولكن القارب كان مثقوبا ، ولم يكن به غير صبيين يجذفان ، فأنفقنا أكثر من ربع ساعة فى العبور ، ووصل أحد البعيرين إلى البر وقد أشرف على الهلاك. وليس هناك أكثر من ستة قوارب للعبور فى المسافة بين فيلة والدر ، وتجدها عند دبود وكلابشة ودهميت وقرشه والدكة والسبوع. أما فى جنوب الدر فلن تجد قاربا واحدا حتى تبلغ حدود دنقلة. ويدفع كل فلاح للمعداوى حفنة مما يحمل من زاد ، أو ملء ذراعه تبنا أو نحوه ، أما النسوة فيعبرن مجانا. ورسونا عند ساق الجمل ، وهى القرية التى بت فيها ليلة رحيلى عن أسوان ، ومن ثم عبرنا الجبل ثانية قاصدين فيلة من نفس الطريق الذى سلكناه من قبل.

كان الوقت ظهرا حين زرت هذه الجزيرة المشهورة. ولأهالى البربا (وهى قرية صغيرة على البر الشرقى) قارب ينقلون به زوارها الكثيرين ، فقلّ من يعود من التجار المصريين ، الذين يقصدون أسوان فى تجارة ، دون أن يزور الشلال وفيلة. ولما لم يكن فى هذه الناحية حكومة منتظمة ، فقد استغل أهالى البربا اضطرار الأغراب من الزوار لاستخدام قاربهم ، فاشتطوا فى الأجر الذى يتقاضونه منهم. فما ان يدنو الزائر من القارب حتى يطبق عليه ستة منهم يزعمون له أنهم أصحاب القارب ، ويطلبون أجرة عبوره فيه ، فى حين يطالبه ستة آخرون ، يزعمون أنهم سادة الجزيرة ، بمبلغ آخر نظير سماحهم له بزيارتها. ودخلت القارب ، وكان الأهالى يحسبوننى رسول الباشا فى طريقى إلى الدر ، فتكاثروا علىّ ، وطلبوا منى ستة قروش لقاء عبورى للبر والسماح لى بزيارة الجزيرة ، وهو بلا ريب أجر زهيد لمشاهدة أثمن أطلال مصر القديمة. ولكنى صممت هذه المرة على ألا يغرر بى هؤلاء اللصوص ،

١١٤

فلم أقدم لهم سوى قرش واحد يتقاسمونه فيما بينهم (١). ولما أبوا أن يقبلوه ، خلعت ثيابى وسلمتها للدليل ، ووضعت محفظتى فى عمامتى ، ثم سبحت إلى الجزيرة. وما إن وطئتها قدماى حتى أسرع القارب خلفى. وما كان أشد اغتباطهم بعد ذلك بأن يعيدونى بالقرش. ولما زرت الجزيرة ثانية بعد يومين ، وجدتهم أقل شططا فى مطالبهم. وقد أنبئت بحالات ابتزوا فيها من الزوار أكثر من عشرين قرشا ، وذلك بهديدهم إياهم بالعودة إلى البر وتركهم وحدهم على الجزيرة. والبربا خاضعة لحكام النوبة ، أما زمام أسوان الخاضعة لمصر فيبدأ شمال فيلة.

وليس فى نيتى أن أعلق بشىء على زيارتى فيلة أو جزيرة البجة المجاورة لها ، فقد تناول هذه الآثار كلها الكتاب الفرنسى العظيم «وصف مصر» تناولا لا يترك زيادة لمستزيد.

وعدت إلى أسوان فى العشية ، فوجدت. خادمى وقد تطرق إليه اليأس من رجوعى. ولم أكن أصبت من الراحة فى رحلتى التى غبت فيها خمسة وثلاثين يوما سوى يوم واحد قضيته بالدر حين بلغتها أول مرة. وكان طوال السفر أضنانى وأضنى بعيرى ، فعزمت على الاستجمام أياما ، واستأجرت غرفة فى الوكالة ، ومكثت خمسة أيام زرت فى أثنائها أرباض المدينة على مهل ، وكان مجرى النهر بين أسوان وجزيرة إلفنتين ، التى كنت أقضى فيها صباحى ، جافا تقريبا. وسوف يعيى السائحين طول البحث عن مقياس إلفنتين ما دامت الأنقاض تغطى ضفاف النيل العالية. أما المقياس الذى بناه معاوية فما زال موجودا ، وهو كوة منخفضة فى مستوى النهر فى قاعها درجات ، كانت تقاس بها زيادة الماء بسهولة ، وتقع قرب طرف الرصيف الذى يكوّن مرفأ أسوان. وليس هذا الرصيف جسرا رومانيا كما خاله بعض الرحالة ، وإنما هو بناء عربى.

وعلى الضفة الغربية إلى الشمال قليلا من أسوان دير قديم يقوم على سفح التل الرملى الذى بنيت على قمته مقبرة القديس المشهورة باسم «قبة الهواء». وفى الصخور الواقعة تحت الدير عدة معابد ومقابر أثرية منحوتة فى الصخر لم يشر إليها أحد من الرحالة. وهى طريفة لعراقتها فى القدم ، ويتألف المعبد منها من حجرة

__________________

(*) أجرة المعدية فى مصر هى عادة بارة واحدة.

١١٥

مربعة تكسوها النقوش الهيرغليفية ، وتقوم بها أعمدة مربعة لا تيجان لها ، ومحيط أكبرها قدمان ونصف ، وعلوها خمس عترة قدما ، وصناعتها كلها فجة. وفى بعض المعابد أربعة أعمدة ، وفى غيرها ستة أو ثمانية ، وقد قلب الإغريق معظم هذه المعابد إلى كنائس ، ولا يزال فى كثير منها حفر الدفن الواسعة.

ومعبد القديس لورنس المتهدم على البر الغربى ، تجاه أسوان ، غير جدير فى رأيى بالوصف البليغ الذى أغدقه عليه دينون. وقد قرأت النص التالى على شاهد قبر ملقى على أرض حجرة من حجره نسخته لرداءة حروفه وغرابة مظهرها.

وفى التاسع من إبريل قفلت راجعا إلى إسنا ، وإلى القارىء ملاحظات عامة على النوبيين وتاريخهم (١) أضيفها إلى ما سبق. وكانت إقامتى بينهم من القصر بحيث لا تتيح لى تناول هذا الموضوع تناولا مفصلا ، وكان فى مشاهداتى قصور سببه جهلى باللغة النوبية التى كان يستخدمها النوبيون فى حديثهم فى أثناء وجودى بينهم. قلت إن النوبة قسمان ، وادى الكنوز ووادى النوبة (وكثيرا ما يطلق على الأخير وحده اسم الصعيد) ويمتد الأول من أسوان إلى وادى السبوع ، ويشتمل الثانى على الأصقاع المحصورة بين السبوع والحد الشمالى لدنقلة. وسكان القسمين تفصلهم اللغة ، ولكنهم فى عاداتهم وطباعهم متماثلون.

__________________

(*) أخبرنى أمين الحاكم «حسن كاشف» بالدر أن هناك أخبارا عن تاريخ النوبة وردت فى تاريخ مدينة البهتسا ، وهذا الكتاب من المخطوطات العربية التى أرسلتها لإنجلترة من حلب. وأفضل من كتب عن النوبة من مؤرخى العرب هو «ابن سليم الأصوانى فى أخبار النوبة» ولكنى لم أر كتابه لا فى الشام ولا فى مصر.

١١٦

ويقول رواتهم إن النوبيين الحاليين أصلهم من بدو جزيرة العرب (١) الذين غزوا هذا القطر بعد انتشار الإسلام أما معظم الأهالى المسيحيين الذين رأيت كنائسهم منتشرة فى النوبة حتى سكوت ، فقد هربوا من وجههم أو قتلوا (٢) وقليل منهم من اعتنق دين الغزاة كما ذكرت آنفا ، وترى اليوم أحفادهم فى تيفة وسرّه شمالى وادى حلفا. واستولت قبيلتا الجوابرة والغربية (وهى فخذ من أفخاذ زناته) على الإقليم من أسوان إلى وادى حلفا ، ونشر عرب القبيلتين بعد ذلك سلطانهم على كثير من العشائر الصغيرة التى سكنت ضفاف النيل أيام الفتح ، ومن بين هذه العشائر الكنوز ، وأصلهم من نجد والعراق. واحتلت قبيلة الجعافرة الكبيرة ضفاف النيل من إسنا إلى أسوان ، وسكنت بطن الحجر أسر قليلة من الأشراف ، واستولت عشيرة من عشائر قريش على المحسّ. وظل هؤلاء العرب يحتلون النوبة قرونا لا تنقطع فيها حروبهم ومناوشاتهم. وفى غضون ذلك استطاع ملوك دنقلة أن يفرضوا عليهم سلطانهم وأن يكرهوهم فى النهاية على دفع الجزية. وكان الجوابرة قد أوشكوا على هزيمة الغربية وإخضاعهم ، فاستغاث هؤلاء بالسلطان سليم الأول فى القسطنطينية ، فأرسل إليهم بضع مئات من الجنود البشناق تحت إمرة قائد يدعى حسن ، قوسى واستطاع هؤلاء أن يكرهوا الجوابره والدناقلة على الجلاء عن النوبة والارتداد إلى دنقلة. ومما هو جدير بالذكر أن سراة دنقلة اليوم أصلهم من قبيلة الجوابرة. على أن بعض أسر الجوابرة ظلت فى موطنها تعيش مسالمة ، وما زال أسلالهم الذين يسكنون الدر ووادى حلفا يعرفون بهذا الاسم إلى اليوم.

وقد بنى الجنود البشناق القلاع الثلاثة ، أو على الأصح أصلحوا هذه الأبنية الثلاثة الموجودة فى أسوان وإبريم وصاى. وحصلت حاميات هذه القلاع على امتيازات لهم ولأبنائهم وأحفادهم الذين احتلوا بعدهم القلاع والأراضى الملحقة بها. ومن بين هذه الامتيازات إعفاؤهم من شتى ضرائب الأرض التى فرضها السلطان سليم على أملاكه كلها. كذلك رؤى أن البلد لا يستطيع أن ينتج ما يكفيهم من

__________________

(١) كذلك ينحدر معظم فلاحى مصر ـ إلى الشمال من بنى سويف ـ من قبائل مغربية أو عربية. بل إننى لقيت فى مصر قوما أصلهم من بدو الشام.

(٢) ينقض هذا الزعم ما ثبت فى كتابات الباحثين المحدثين من الأوربيين من أن انتشار الإسلام والعروبة حدث يفضل استيطان العشائر العربية بين الجماعات النوبية وقيام المصاهرات بين القادمين وأصحاب البلاد الأصلية (غربال)

١١٧

طعام ، فاجرى عليهم معاش سنوى من خزينة السلطان بالقاهرة. وكان يدفع لحامية إبريم أربعة أكياس ، تعادل اليوم مائة جنيه فقط ، ولعلها كانت تساوى فى ذلك الوقت أربعة أمثال هذا المبلغ. كذلك جعلت هذه الحاميات مستقلة عن ولاة مصر. وكان معاشها يدفع لها ما دام للولاة سلطان على مصر ، إلا أن المماليك كانوا يحبسونه عادة. وقد حكم حسن قوسى النوبة بجنده ، ومعظمهم من الفرسان ، وكان دائم الحركة فى أرجائها ، وكان يدفع لوالى مصر «الميرى» كل سنة ، ولكنه كان فيما خلا ذلك مستقلا عنه. وما زال أحفاد هؤلاء الحند البشناق الذين صاهروا عرب الغربية والجوابرة يحتلون الأرض التى منحت لأجدادهم فى أسوان وإبريم وصاى ، وما زالوا يتمتعون بالإعفاء من شتى الضرائب والالتزامات ، وهم يسمون أنفسهم «قلعتجية» أو أهل القلاع ، أما النوبيون فيسمونهم «العثمانلية». وقد طال نسيانهم للغتهم القومية ، ولكن قسمات وجوههم تنبىء بأصلهم الشمالى ، ولون بشرتهم أسمر فاتح ، أما بشرة النوبيين فأقرب إلى السواد وهم مستقلون عن حكام النوبة الذين يحسدونهم أشد الحسد ، وكثيرا ما يشتبكون معهم فى حرب سافرة. ويحكمهم أغواتهم الذين يعتزون إلى اليوم بالفرمانات التى لم تجعل لهم سيدا سوى السلطان.

وحدث قبل خمسين عاما أن شيخ عرب الهوارة ، واسمه همام بسط سلطانه على الإقليم من أسيوط إلى أسوان ، ثم مد نفوذه على النوبة التى زارها مرات ، وبلغ نفوذه المحسّ. أما اليوم فحالة البلاد السياسية يمكن أن تشبه ، من الناحية الشكلية على الأقل ، بحالتها يوم بسط حسن قوسى سلطانه عليها. والحكام الثلاثه الحاليون (١) ـ حسين وحسن ومحمد ـ هم أحفاده ، وكان أبوهم يدعى سليمان ، وقد اشتهر أمره لحزمه وسطوة حكومته. ولقب كاشف الذى اتخذه الإخوة الثلاث يمنح فى مصر لحكام الأقاليم. ويدفع الإخوة ضريبة سنوية قدرها ١٢٠ جنبها لوالى مصر ، وهو ما قدّر به ميرى النوبة الذى يحاسب عنه الباشا أمام الباب العالى. وقلما كانت تدفع هذه الضريبة فى عهد المماليك ، ولكن محمد على يتسلمها بانتظام منذ ثلاث

__________________

(*) حين احتلت العساكر التركية التى يقودها إبراهيم بك النوبة حتى وادى حلفا ، بعد أن طردت المماليك إلى الجبال الشرقية ، تقهقر الحكام الثلاثة هم وأتباعهم إلى دنقلة وظلوا بها حتى انسحب الترك إلى أسوان ، فعاد الحكام إلى الدر.

١١٨

سنوات ، ويستخدم الإخوة الثلاث نحو مائة وعشرين فارسا معظمهم من ذوى قرباهم أو من العبيد. ولا يتقاضى هؤلاء الجنود مرتبات ثابتة ، ولكنهم يتلقون الأعطية بين الحين والحين ، ولا يلتزمون بأعمال وظيفتهم إلا حين يطوف سادتهم بالبلاد. ومقر حكام النوبة هو الدر ، ولكنهم دائبو الحركة والتنقل فى أرجاء البلاد لجمع الضرائب من رعاياهم الذين لا يدفعونها إلا حين تكرههم على ذلك قوة قاهرة. ويرتكب الإخوة الثلاث فى طوافهم بالبلاد أبشع أعمال الجور والطغيان حيثما كانت المقاومة معدومة ، وكثيرا ما تنعدم. ويقتسم الثلاثة إيراد البلاد بالتساوى ، ولكن كلهم جشع يحسد أخاه ويختلس لنفسه ما وسعه من مال. وإيرادهم السنوى ، حسب تقديرى ، يبلغ ٣٠٠٠ جنيه لكل منهم ، أو من ٨٠٠٠ إلى ٠٠٠ ر ١٠ جنيه للثلاثة معا. ولا تتجاوز نفقات الواحد منهم ٣٠٠ جنيه فى العام. ومعظم ثروتهم من الريالات والعبيد. وهم يصطنعون فى طباعهم ومسلكهم غطرسة كبار الأتراك وعجرفتهم ، وهو تكلف يفضحه ما يرتدون من لباش زرى يأنف من ارتدائه حتى صغار الجند من الترك.

وفى النوبة لا يقدر الإيراد على مساحة الأرض أو عدد الأفدنة كما يفعلون فى مصر والشام ، وإنما يكون التقدير على السواقى التى يستخدمها الأهالى للرى بعد الفيضان وفى أثناء الصيف. وهذه الطريقة منتشرة على ضفاف النيل حتى سنار. وفى القرى الفقيرة تجد الساقية الواحدة يمتلكها ستة من الفلاحين أو ثمانية ، أما المزارعون فيملكون سواقى عديدة. ويتراوح عدد السواقى المنبثة من أسوان إلى وادى حلفا ، أى من الشلال الأول إلى الثانى ، بين ستمائة وسبعمائة ، وتروى الساقية الواحدة من ثلاثة أفدنة إلى خمسة ، وتحتاج إلى تشغيل ثمانى أبقار أو عشر بالتناوب. وحين يزكو الزرع تغل الساقية من قمح الشتاء أو شعيره من ثمانين إلى مائة أردب. ونسبة ما يزرع من هذين المحصولين هى الربع قمحا ، والثلاثة الأرباع شعيرا (١). وتتفاوت الضريبة فى الجهات المختلفة ، ففى وادى حلفا

__________________

(*) فى شهر نوفمبر ١٨١٣ وصل إسنا محمد كاشف فى طريقه إلى أسيوط ليزور إبراهيم باشا حاكم الصعيد ، وهو الذى يضمر للنوبة نوايا سيئة كما هو معلوم. وكان شديد الرغبة فى استرضاء الباشا ، فجلب معه هدايا من العبيد والجمال والخيل الدنقلية. ولكن قصده الأهم من هذه الرحلة كان ـ

١١٩

مثلا ، يدفع سنويا عن كل ساقية ستة أغنام سمان وستة مدّات من الذرة ، وفى المحس يجبى الملك عن كل ساقية ستة أغنام وأردبين من الذرة وثوبا من الكتان (١) كذلك يجبى الحكام عن كل نخلة مهما كان محصولها ، سباطتين من البلح ويتقاضون مكوسا عن المراكب المحملة بلحا فى الدر (٢). على أن نظام الضرائب فى جملته فى غاية التعسف والفوضى ، وهو مجلبة للخراب العاجل على القرى الفقيرة التى تعجز عن دفع المطالب الجائرة التى تفرض عليها ، فى حين يخف عبء هذه الضرائب على القرى الغنية التى يخشى الحكام إثارة أهلها واستفزازهم. كذلك يقوم أبناء كاشف بوظائف القضاء فى النوبة فتغل عليهم إيرادا كبيرا ، لأن القضاء عندهم لا يعدو أن يكون تجارة.

وإذا قتل نوبى آخر أكره على دفع دية لأسرة القتيل وغرامة للحكام قوامها ستة جمال وبقرة وسبعة أغنام. فإذا أتى اقتضاها الحكام قسرا من أسرته. ولكل

__________________

ـ الشكوى من أخيه الأكبر حسن الذى منح أخيرا ولديه الكبيرين ، داود وخليل ، نصيبا فى حكم النوبة وأكره أخويه على قسمة الإيراد بالتساوى مع ولديه ، فجعل للنوبة بذلك خمسة حكام وفى إسنا لقى محمد كاشف جيشا قوامه مائة جندى جرده ابراهيم على النوبة. ورأى محمد أن من العبث المضى فى رحلته لأسيوط. فعاد لوطنه مع الجنود الترك. وما إن اقترب الجنود حتى هرب أخواه إلى جزيرة أكمه ، بعد شلال وادى حلفا ، على الرغم مما وعدابه من أمان. ومضى الترك فى طريقهم إلى وادى حلفا ، يجمعون باسم إبراهيم باشا ضريبة من كل ساقية. وقد منحوا محمد كاشف جزءا من اثنى عشر من جملة الإيراد لمعاشه. وواضح أن هذه الحملة كانت تستهدف القبض على الحكام جميعا ، ولكنها لم تحقق هدفها. وبعد أن مكث أفرادها زهاء العام فى النوبة يجبون ضريبة الأرض من محصول الزراعة الصيفية أيضا عادوا إلى صعيد مصر. وفى عام ١٨١٥ رجع الجنود الترك إلى النوبة ثانية ، وأكرهوا الفلاحين على دفع الضرائب جمالا بدلا من الغلال. وما إن رحلوا عن البلاد حتى عاد أبناء كاشف الدر ، وجمعوا الخراج هم الآخرون من الأهالى الذين أصبحوا نهبا لجشع الترك والحكام على السواء ، وكلا الفريقين لا يعرف شفقة ولا رحمة لأنه لا يعلم على التحقيق كم من الزمن يحتفظ بسلطانه على البلاد.

(١) بلغت الضريبة التى جبيت عن كل ساقية عام ١٨١٣ ثمانية أرادب ، يضاف إليها ضريبة إضافية من أربعة أغنام وأردب من الغلال تدفع إذا ذهب الحاكم بشخصه للقرية للجباية ، وذلك لإطعام أتباعه وجياده.

(٢) يختلف مقدار البلح الذى تستورده مصر من النوبة بطريق أسوان بين ١٥٠٠ و ٢٠٠٠ أردب كل عام حسب حالة المحصول. وأجرة الشحن من أسوان إلى القاهرة خمسة قروش للاردب يحصل حاكم أسوان لنفسه نصف قرش منها ضريبة مرور. وقد وضعت الحكومة يدها على معظم هذه التجارة الرابحة.

١٢٠