خزانة التّواريخ النجديّة - ج ١

عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح آل بسام

خزانة التّواريخ النجديّة - ج ١

المؤلف:

عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح آل بسام


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٥٤

وحبال شوامخ راسيات

وبحار مياههنّ غزار

ونجوم تلوح في ظلم اللي

ل تراها في كل يوم تدار

ثم شمس يحفها قمر اللي

ل وكل تابع موّار

وصغير وشمط وكبير

كلّهم في الصعيد يوما مزار

فالذي قد ذكرته دلّ على الل

ه نفوسا لها هدس واعتبار

يقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مهما نسيت فلست أنساه بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول : يا معشر الناس : اجتمعوا فكل من مات فات ، وكل آت آت ، ليل داج وسماء ذات أبراج ، وبحر ثجاج ، ونجوم تزهر ، وجبال مرسية ، وأنهار مجرية ، إن في السماء لخبرا ، وإن في الأرض لعبرا ، مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضوا بالإقامة فأقاموا ، أم تركوا فناموا.

أقسم قسّ بالله قسما لا ريب فيه ، إن لله دينا هو أرضى من دينكم هذا ، ثم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رحم الله قسّا ، أما إنه سيبعث يوم القيامة أمة وحده».

قال : وهذا الحديث غريب من هذا الوجه وهو مرسل إلّا أن يكون الحسن سمعه من الجارود ، فالله أعلم.

وقد رواه البيهقي وابن عساكر من وجه آخر فذكر مثله أو نحوه ، ثم رواه البيهقي من طرق ، ثم قال : وإذا روي الحديث من وجه آخر وإن كان بعضها ضعيفا دل على أن للحديث أصلا. انتهى.

وأما بنو أنمار أخو ربيعة ، فدخلت قبائلهم في أهل الحجاز ، وصاروا في خثعم وأكلب ، وقبائلهم مع بطن من عنزة واستوطنوا بيشة

١٠١

ونواحيها ، انتهى ما لخصناه من أنساب العرب الأولين التي تتفرع منها قبائل الزمان ، وتنتسب إليها وإن كان لا يمكن في الغالب إعلاق أجداد المتأخرين بالمتقدمين جدّا جدّا ، فليس إلّا الاستفاضة ، وانتساب كل قبيلة إلى قبيلتها ، والله أعلم [وصلّى الله على محمد].

فصل

قال أهل السير والأخبار : كانت الجاهلية قبل المبعث فيهم بقايا من دين إبراهيم ، مثل : الحج ، والطواف بالبيت ، والسعي وإهداء البدن ، وغير ذلك من تعظيم البيت ، وكانت نزار تقول في إهلالها : لبيك لا شريك إلّا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك.

وقال الشهرستاني في «الملل والنحل» : والعرب الجاهلية أصناف : فصنف أنكروا الخالق والبعث ، وقالوا بالطبع المحيي كما أخبر عنهم في التنزيل : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤] ، وصنف اعترفوا بالخالق وأنكروا البعث وهم الذين أخبر الله عنهم بقوله : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ...) [ق : ١٥] الآية.

وصنف عبدوا أصناما مختصة بقبائل مثل : ودّ ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ونسر ، واللات ، والعزى ، وهبل ، وهو أعظمها ، وكان على ظهر الكعبة.

وكان منهم من يميل إلى اليهودية ، ـ ومنهم من يميل إلى النصرانية ، ومنهم من يميل إلى الصابئة ، مثل الاعتقاد في الأنواء ، وعلم النجوم ، حتى لا يتحرك إلّا بنوء منها ، ويقول : مطرنا بنوء كذا ، ومنهم من يعبد الملائكة ، ومنهم من يعبد الجن.

١٠٢

وكانت تفعل الجاهلية أشياء جاء الإسلام بها ، وكانوا لا ينكحون الأمهات ولا البنات ، وأقبح ما يصنعون الجمع بين الأختين ، وكانوا يحجون البيت ، ويحرمون ، ويعتمرون ، ويطوفون ، ويقفون المواقف كلها ، ويرمون الجمار ويغتسلون من الجنابة ، ويداومون على المضمضة والاستنشاق ، والسواك ، والاستنجاء ، وقلم الأظفار ونتف الإبط ، وحلق العانة ، والختان ، ويقطعون يد السارق اليمنى ، وكانت علومهم علم الأنساب والأنواء والتواريخ ، وتعبير الرؤيا.

فصل

في نسب نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومبعثه ومولده وما بعد ذلك على سبيل الاختصار لاشتهاره في السّير والتواريخ أما نسبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو : محمد بن عبد الله ، بن عبد المطلب ، بن هاشم ، بن عبد مناف ، بن قصيّ ، بن كلاب ، بن مرة ، بن كعب ، بن لؤي ، بن غالب ، بن فهر (وهو قريش) بن مالك ، بن النضر ، بن كنانة ، بن خزيمة ، بن مدركة ، بن إلياس ، بن مضر ، بن نزار ، بن معد ، ابن عدنان إلى هنا متفق عليه.

ولا خلاف أنه من ولد إسماعيل ، وكانت ولادته يوم الاثنين لعشر خلون من ربيع الأول عام الفيل ، وكان قدوم الفيل منتصف المحرم تلك السنة.

ولما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعين سنة بعثه الله إلى الناس جميعا ناسخا بشريعته الشرائع الماضية ، وكانت دعوته إلى الإسلام سرّا ثلاث سنين ، ثم

١٠٣

أمره الله بإعلان الدعوة ، ووقع عليه الأذى من قريش وعلى من أسلم ، فأذن لهم بالهجرة إلى الحبشة.

وكان أبو طالب يذبّ عنه إلى أن مات ، واشتد أذاهم عليه بعد موته.

ثم هاجر إلى المدينة ، ثم أذن له في القتال ، وغزواته وجهاده مشهورة في كتب السير.

فلما كانت سنة عشر جاءته وفود العرب قاطبة ، فدخل الناس في دين الله أفواجا كما قال تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) ثم حج حجّة الوداع ، ثم رجع إلى المدينة فأقام بها حتى خرجت السنة.

ودخلت سنة إحدى عشرة ، فابتدأ مرضه ليلتين بقيتا من صفر ، وتوفي يوم الاثنين من إثني عشرة ليلة خلت من ربيع الأول.

ولما مات ارتد أكثر العرب ، إلّا أهل مكة ، والمدينة ، والطائف ، وأفراد من أحياء العرب.

فلما توفي بايع الناس أبا بكر الصدّيق رضي‌الله‌عنه ، فأقام سنتين ، وثلاثة أشهر ، وتسعة أيام.

وبويع عمر بن الخطاب فأقام عشر سنين ، وستة أشهر ، وخمس ليال ، وقتله أبو لؤلؤة ثالث عشر ذي الحجة ، وأوصى بالخلافة شورى.

فوجهت إلى عثمان ، فبويع في أول المحرم ، وأقام اثنتي عشر سنة ، وتوفي سنة خمس وثلاثين شهيدا في داره.

وبويع علي بن أبي طالب ، فأقام أربع سنين ، وتسعة أشهر ، وقتله

١٠٤

ابن ملجم الخارجي ليلة الجمعة سابع عشر رمضان سنة أربعين.

وبويع ابنه الحسن يوم مات أبوه ، فأقام ستة أشهر ، ثم خلع نفسه طائعا في ربيع الأول سنة ٤١ ه‍ ، مختارا الجماعة على الفرقة ، وحقن الدماء عن سفكها ، وإلّا فقد بايعه أكثر من أربعين ألفا على حرب معاوية ، وصدق عليه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحسن : «إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيميتن من المسلمين».

وفي الحديث : «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكا».

وكان آخر ولاية الحسن تمام الثلاثين ، وحينئذ تمت لمعاوية الخلافة العامة ، وهو أول خلفاء بني أمية ، وكانت بالشام ، وعدة الخلفاء فيهم أربعة عشر ، وكانت أمراؤهم وعمالهم بمصر ، والشام ، والحجاز ، وخراسان ، والهند ، والصين ، والمشرق ، والأندلس ، وسائر المغرب ، وسائر أقطار الإسلام ، ومدتهم اثنتان وتسعون سنة.

فأولهم معاوية المذكور بويع بالخلافة العامة في ذي الحجة ببيت المقدس سنة ٤٠ ه‍ ، وتوفي سنة ٦٠ ه‍ بدمشق ، وآخرهم مروان بن محمد بن مروان الملقّب بمروان الحمار ، فلم يزل يجالد دعاة بني العباس ، وقد قام في محاربته أبو مسلم الخراساني ، وغيره من دعاتهم من أهل العراق وخراسان ، وتلك النواحي حتى أثخنوه.

وأراد الله انقضاء الدولة الأموية يقال : إنه عرض جيشه فبلغ أربع مئة ألف مقاتل ، غارقين في السلاح والعدة ، والخيول ، فلما رأى البوار ورأى أمر أهل العراق يعلو ، ورأى الفشل في عسكره قال : يا له من عدد وعدة ، ولكن إذا انقضت المدة لم ينفع العدد والعدة ، فكسر جيشه واتبعهم عسكر

١٠٥

العراق ، يقتلون ويسلبون ، ولم يزل مروان ينتقل من بلد إلى بلد هاربا ، وكلما مرّ بقرية خذلوه ، والطلب في أثره حتى لحقوه ، في ناحية بوصير من أرض مصر ، عام اثنين وثلاثين ومئة ، فقتل هناك في شهر ذي الحجة.

ثم جاءت الدولة العباسية ، وكانوا بالعراق فتتّبعوا بقايا بني أمية حتى استأصلوهم قتلا ، فلم ينج منهم إلّا من هرب إلى الأندلس ، وغيره ممن تشتّتوا في البلاد ، ونبشوا قبور أمواتهم مثل : قبر معاوية وابنه يزيد وعبد الملك وهشام.

وكان ممن نجا من بني أمية عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك ، هرب إلى المغرب ، ثم استولى على الأندلس سنة ثمان وثلاثين ومئة وبنى سور قرطبة ، ومات بها سنة ١٧١ ه‍.

ولم يزالوا يتداولون الخلافة بالمغرب ، ويخطب لهم بالأمير ، إلى أن تولّى عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك فلم يزل واليا إلى أن توفي سنة ٣٥١ ه‍ ، وكانت إمارته خمسين سنة ونصفا ، وهو أول من تلقّب بألقاب الخلفاء وتسمى بأمير المؤمنين ، وسببه لما وهت أركان الدولة العباسية ، وتغلب القرامطة والمبتدعة ، قويت همته وقال : أنا أولى بالخلافة والتولّي على أكثر الأندلس ، وكان له الهيبة الزائدة ، والجهاد ، والسيرة المحمودة ، استأصل المتغلبين ، وفتح سبعين حصنا ، واستوطن قرطبة.

قال أحمد المقري في كتابه «نفحة الطيب» : قال بعض المؤرخين حين ذكر قرطبة ما ملخّصه هي قاعدة بلاد الأندلس ، ودار الخلافة

١٠٦

الإسلامية ، وأهلها سراة الناس ، وبها أعيان العلماء وسادات الفضلاء ، وهي خمس مدن بين المدينة والمدينة سور عظيم ، وفي مدينتها الوسطى الجامع الذي ليس في معمور الدنيا مثله ، فيه من السواري الكبار ألف سارية ، وفيه مئة وثلاث وعشرون ثريا للوقود ، أكثرها يحمل ألف مصباح ، وفيه من النقوش والرقوم ما لا يقدر على وصفه ، وجملة ما صرف على منبره لا غير ، عشرة آلاف مثقال وخمسون مثقالا ، وفيه مصحف يقال : إنه مصحف عثمان ، وقد اختلفوا فيه ، وفعل له الملوك آنية ، وكراسي ، وأكسية ، وصناديق من الذهب والفضة ، والأشياء الأنيقة وللجامع عشرون بابا مصفحات بالنحاس ، وفيه المنارة العجيبة التي ارتفاعها مئة ذراع ، بالمكي المعروف بالرشاشي.

وأكثر ما توسعت قرطبة وجامعها وزاد في عمارتها الأمير عبد الرحمن ابن معاوية وأكمله سنة ١٧٦ ه‍ ، ثم زاد فيه هشام ابنه عبد الرحمن لما تزايد الناس ، وأتمها ابنه محمد ، ثم ذكر ما جدد الخليفة الناصر ، قال : ولما ولّى الخليفة المنتصر بعد الناصر ، وقد اتسع نطاق قرطبة ، وكثر أهلها ، وضاق جامعها ، زاد فيه الزيادة العظمى.

قال ابن بشكوال : نقلت من خط المنتصر ، أن النفقة في هذه الزيادة انتهت إلى مئة ألف دينار وخمس مئة وسبعة وثلاثين دينارا ودرهمين ونصف ، ثم إن الناصر المذكور بني الزاهرة.

قال المقري عن ابن خلّكان : ما صورته الزاهرة من عجائب أبنية الدنيا ، ابتناها أبو المظفر الناصر ، بالقرب من قرطبة ، وبينهما أربعة أميال وثلثا ميل ، في أول سنة ٢٢٥ ه‍ ، وطولها من الشرق إلى الغرب ألفان

١٠٧

وسبع مئة ذراع ، وعرضها ألف وخمسمائة ، وعدد سواريها ألف وثلاث مئة سارية ، وأبوابها تزيد على خمسة عشر ألف باب.

وكان الناصر يقسم جباية الأندلس خمسة آلاف دينار وأربع مئة وثمانين ألفا ، وهي من أهول ما بناه الإنس ، كان يتصرف في عمارتها من الخدام والفعلة ، عشرة آلاف رجل ، ومن الدواب ألف وخمس مئة دابة ، وكان يثيب على كل رخامة.

وذكر ابن حبان المؤرخ وصاحب الشرطة أنهما قالا : اشتملت على أربعة آلاف سارية ما بين صغيرة وكبيرة ، وحاملة ومحمولة ، والله أعلم.

وقال بعض من أرخ الأندلس : كان عدد الفتيان بالزهراء ثلاثة عشر ألفا وسبع مئة وخمسين فتى ، ودخالتهم من اللحم كل يوم من غير أنواع الطير والحوت : ثلاثة عشر ألف رطل ، وعدة النساء بقصر الزهراء الصغار والكبار ، وخدم الخدمة ستة آلاف وثلاث مئة امرأة ، والمرتب من الخبز لحيتان بحيرة الزهراء اثنا عشر ألف خبزة كل يوم ، وينقع لها من الحمص الأسود ستة أقفزة. انتهى.

وكان الناصر يقسم الجباية أثلاثا : ثلث للجند ، وثلث للبناء ، وثلث مدخر لما ينوب القصر ، وكانت جباية الأندلس يومئذ من الكور والقرى : خمسة آلاف ألف وأربع مئة ألف وثمانين ألف دينار ومن الستوق والمستخلص سبع مئة ألف وخمسة وستون ألف دينار.

وأما أخماس الغنيمة فلا يحصيها ديوان ، قال : وفي بعض تواريخ الأندلس كانت قرطبة قاعدة الأندلس ، وكانت عدة الدور في القصر الكبير أربع مئة دار ونيف وثلاثين ، وعدد دور الرعاية والسواد بها مئة ألف دار

١٠٨

وثلاثة عشر ألف دار ، حاشا دور الوزراء والكتاب ، وأكابر الناس ، وهذا العدد أيام المتونة والموحدين.

وقال في كتاب «مجموع المعرف» : كان جميع ما في الجامع من الأعمدة ألف عمود ، ومئتي عمود ، وثلاثة وتسعين رخما كلها وباب مقصورته ذهب ، وكذلك جدار المحراب.

ولم يزل الأمويون يتداولون الخلافة إلى أن كثر الاختلاف ، واشتدت الفتن ، وتغلب الوزراء ، ورؤساء الرعايا ، فكان آخرهم محمد بن هشام بن محمد ، ثم خلعه الجند وفرّ إلى داره فهلك بها سنة ٢٨٠ ه‍ ، وانقطعت الدولة الأموية من أرض الأندلس أو المغرب. انتهى ما لخّصنا من «نفحة الطيب» ، وغيره.

وإنما ذكرنا هذه النبذة من أحوال بني أمية لما فيها من المواعظ والاعتبار ، والنظر إلى تصاريف الأقدار ، والتنبيه للإنسان بعدم الاغترار ، بما ملك في هذه الدار.

فإن خلافة بني أمية الأولى بلغوا فيها الغاية من الملك ، والرياسة ، والتنعّم ، والسرور ، ثم نكبوا نكبة استأصلتهم ، ثم نجم هذا الفريد الوحيد فساعده القدر وأقام هذه الدولة العظيمة بالمغرب ، وتداولها بنوه وجرى لهم في أيامهم ما ذكرنا من التنعّم واللذّات والسرور ، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، والخيل المسومة ، والأنعام والحرث ، ثم زالت تلك الدولة ، كأن لم تكن وخربت تلك المدائن والقصور كأن لم تسكن.

وبعد هذا استولت عليهم ملوك الطوائف ، من البربر وغيرهم ، ثم

١٠٩

استولت النصارى على قرطبة وما هنالك ، فقتلوا ، وسبوا ، واستأصلوا ، ودمّروا ، ثم عادت خرابا ، فليعتبر العاقل ، ولا يغتر بالدنيا وزخرفها ، قال بعض البلغاء :

دع الدّنيا ولا تركن إليها

فزخرفها سيذهب عن قليل

وإن ضحكت فإنّ الضّحك منها

كضحك السيف في وجه القتيل

ومثله قول أبي الفرج الساوي ، مذكرا وواعظا ، بحال سلطان الشرق والعراقين ، وحالة فخر الدولة ابن ركن الدولة بن بويه الديلمي راثيا له :

هي الدنيا تقول بملء فيها

حذار حذار من بطشي وفتكي

فلا يغرركم حسن ابتسامي

فقولي مضحك والفعل مبك

بفخر الدولة اعتبروا فإنّي

سلبت الملك منه بسيف هلكي

وقد كان استطال على البرايا

ونظّم جمعهم في سلك ملكي

فلو شمس الضّحى زارته يوما

لقال لها عتوّا أفّ منك

ولو زهر النجوم أتت رضاه

تأبّى أن يقول رضيت عنك

فأصبح بعد ما بلغ الزبانا

أسير القبر في ضيق وضنك

يود لو أنّه لو ردّ يوما

إلى الدّنيا تسربل ثوب نسكي

دعي يا نفس فكرك في ملوك

مضوا بلا ارتحالك وبك فابك

هنا؟؟؟ يعطى؟؟؟ هلاك اللّيث شيئا

عن الظبي السليب قميص مسك

هي الدّنيا أشبّهها بشهد

يسمّ وجيفة طليت بمسك

هي الدّنيا كمثل الطّفل بينا

يقهقه إذ بكى من بعد ضحك

ألا يا قومنا انتبهوا فإنّا

نحاسب في القيامة غير شكّ

١١٠

فترجع إلى ذكر بني العباس فنقول :

كان بنو العباس قد تسببوا في طلب الخلافة والمبايعة ، ممن طمعوا به من الرعايا ، وكان أعظم من قام بالدعوة لهم أبو مسلم الخراساني ، وكان قهيرمانا لإدريس بن العجلي ولّاه محمد بن علي بن عباس الأمر في استدعاء الناس في الباطن ، ثم مات محمد ، فولّاه ابنه إبراهيم الإمام ، ثم الأئسة من ولد محمد ، ثم إنه أظهر الدعوة بخراسان سنة ١٢٩ ه‍ ، وجرى بينه وبين نصر ابن سيّار أمير خراسان ، واستولى على بعض بلاد خراسان.

ولما قوى أمره على نصر كتب إلى مروان يعلمه بالحال ، وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد وكتب أبياتا :

أرى تحت الرّماد وميض نار

ويوشك أن يكون لها ضرام

وإن لم يطفها عقلاء قوم

يكون وقودها جثث وهام

فإنّ النار بالزّندين تورى

وإنّ الحرب أوّله كلام

فقلت مز التعجّب ليت شعري

أأيقاظ أميّة أم نيام

وإن يك قومنا أضحوا نياما

فقل هبّوا فقد حام الحمام

وكان إبراهيم وأهله بالشام ، في قرية يقال لها : الحميمية قرب الشوبك ، ولما بلغ مروان الحال أرسل إلى عامله بالبلقاء أن يسير إليه إبراهيم ، فأوثقه وبعث به فحبسه مروان في حران حتى مات في حبسه.

وفي سنة ١٣٠ ه‍ دخل أبو مسلم مدينة مرو ونزل قصر الإمارة وهرب نصر ، وفي سنة ٣٢ بويع أبو العباس السفّاح عبد الله بن محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس بالخلافة ، بعد إقباله من الحميمية بأهل بيته ، منهم : أخوه المنصور وغيره في صفر ، واستخفى إلى ربيع ثم ظهر وسلم

١١١

الناس عليه بالخلافة وعزوه في أخيه إبراهيم ، ودخل دار الإمارة.

ثم بعد ذلك جهّز العساكر مع أبي عون ثم أردفه بعساكر مع عمه عبد الله بن علي ، وتحوّل أبو عون عن سرادق وما فيه لعبد الله ثم التقوا بالزاب فوقعت الكسرة على مروان كما ذكرنا ، وكان أبو مسلم هو الذي دوّخ لهم الرعايا وفتح لهم الممالك الخراسانية وغيرها وكان بعد فراغه من أمر بني أمية ينشد :

أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت

عنه ملوك بني مروان إذ حسدوا

ما زلت أسعى بجهدي في دمارهم

والقوم في غفلة بالشام قد رقدوا

فمن رعى غنما في أرض مسبعة

ونام عنها تولّى رعيها الأسد

وقد كان السفّاح شديد التعظيم له ، فلما تولّى المنصور صدرت من أبي مسلم أشياء أوغرت في صدره فقتله ، وخطب الناس فقال : إن أبا مسلم أحسن أولا ، وأساء آخرا ، وما أحسن ما قاله النابغة :

فمن أطاعك فانفعه لطاعته

كما أطاعك وادلله على الرّشد

ومن عصاك فعاقبه معاقبة

تنهي الظلوم ولا تقعد على ضمد

الضّمد ـ بالفتح ـ : الحقد ، قيل : أحصى من قتله أبو مسلم صبرا ، وقيل : وفي حروبه فكانوا ست مئة ألف واختلف في نسبه ، فقيل : من العرب ، وقيل : من العجم ، وقيل : من الأكراد ، وكان عالي الهمة ، عالما بالأمور ولا يظهر عليه سرور ولا غضب ، ولا يأتي النساء إلّا مرة في السنة.

ويقول : الجماع جنون ، ويكفي الإنسان أن يجن في السنة مرة ، وقيل له ما سبب خروج الدولة على بني أمية؟ قال : لأنهم أبعدوا أولياءهم

١١٢

ثقة بهم ، وأدنوا أعداءهم تألفا لهم ، فلم يصر العدو صديقا بالدنو ، وصار الصديق عدوّا بالإبعاد.

وقال صاحب «ابتلاء الأخيار بالنساء الأشرار» : إنه عرض على أبي مسلم جواد لم ير مثله ، فقال لقواده : لما يصلح هذا؟ قالوا : للغزو ، قال : لا. قالوا : فيطلب عليه العدو ، قال : لا ، قالوا : فلماذا أصلح الله الأمير ، وقال : ليركبه الرجل ويهرب من المرأة السوء والجار السوء.

وعلى ذكر المرأة ما روى أبو هلال العسكري بالإسناد عن عكرمة الضبي قال : كان أصل قولهم أن تسمع بالمعيدي خيرا من أن تراه ، أن رجلا من بني تميم يقال له ضمرة بن ضمرة كان يغير على سوارح النعمان بن المنذر حتى إذا عيل صبر النعمان كتب إليه : أن أدخل في طاعتي ولك مئة من الإبل فقبلها ، وأتاه فلما نظر إليه ازدراه ، وكان دميما فقال : تسمع بالمعيدي لا أن تراه.

فقال ضمرة : مهلا أيها الملك ، إن الرجال لا يكالون بالصيعان ، ولا يوزنون بالميزان ، ولست بحزور تجزر ، وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه ، إن قاتل قاتل بجنان ، وإن نطق نطق ببيان ، وفي رواية : فإذا رزق المرء لسانا ناطقا ، وقلبا حافظا ، فقد استحق الشرف. فقال : صدقت لله درك ، هل لك علم بالأمور ، وولوج فيها ، قال : والله إني لأبرأ منها المسحول ، وأنقض منها المفتول ، وأحيلها حتى تحول ، ثم انظر إلى ما تؤول وليس للأمور بصاحب من لم ينظر في العواقب. فقال : صدقت لله درك ، فأخبرني ما العجز الظاهر ، والفقر الحاضر ، والداء العياء ، والسوأة السوأى.

١١٣

قال ضمرة : أما العجز الظاهر؟ فالشاب القليل الحيلة ، اللزوم للحليلة الذي يحوم حولها ، ويسمع قولها ، فإن غضبت ترضاها ، وإن رضيت فداها.

وأما الفقر الحاضر؟ فالمرء لا تشبع نفسه ، وإن كان من ذهب حلسه.

وأما الداء العياء؟ فجار السوء إن كان فوقك قهرك ، وإن كان دونك همزك ، وإن أعطيته كفرك ، وإن منعته شتمك ، فإن كان ذلك جارك فأخل له دارك ، وعجّل منه فرارك ، وإلّا فأقم بذل وصغار ، وكن ككلب هرار.

وأما السوأة السوأى؟ فالخليلة الصخابة ، الخفيفة الوثابة ، السليطة السبابة ، التي تعجب من غير عجب ، وتغضب من غير غضب ، الظاهر عيبها ، المخوف غيبها ، فزوجها لا يصلح له حال ، ولا ينعم له بال ، إن كان غنيّا لم ينفعه غناه ، وإن كان فقيرا أبدت له قلاه ، فأراح الله منها بعلها ، ولا متّع الله بها أهلها ، فأعجب النعمان حسن كلامه فأحسن جائزته وأجلسه قبله. انتهى.

رجعنا إلى ذكر بني العباس. قال مرعي : كانوا بالعراق وعدتهم بها سبعة وثلاثون خليفة ، آخرهم المعتصم الذي قتله التتار سنة ٦٥٦ ه‍ ، بمكيدة وزيره الخبيث الرافضي ابن العلقمي ، فوقع السيف ببغداد أربعين يوما ، فقتل فوق ألفي ألف ، وبقتله خربت بغداد وانقطعت الخلافة الإسلامية منها ، باستيلاء التتار عليها ، وأقام الناس بغير خليفة ثلاث سنين ، وعلّق التتار المصاحف في أعناق الكلاب ، وألقوا كتب الأئمة في الدجلة ، حتى صارت كالجسر.

١١٤

ومن حينئذ ذهبت محاسن بغداد كأنها لم تكن بعد أن كان بها اثنا عشر ألف خان ، واثنا عشر ألف طاحون ، وأربعة وعشرون سوقا ، وستون ألف حمام ، وثمان مئة ألف مدرسة.

ومن جوامعها : الرصافي يسع مئة ألف ، كانوا يحضرون ابن الجوزي ، وكان سورها المحيط بها أياما بلياليها ، ويقال : كان يمشي على عرضه ستون فارسا ، ومات بها الإمام أحمد ، فحضر جنازته ألف ألف ، وست مئة ألف ، ضبط ذلك بالمساحة ، وكانت أجل مدن الدنيا ، وانتقلت الخلافة إلى مصر لكن فرق ما بين الثريا والثرى. انتهى كلام مرعي.

وقال في «تحفة الغرائب» : كانت بغداد في أيام البرامكة مدينة عظيمة ، يقال : إنها حصرت حماماتها في وقت من الأوقات فكانت ستين ألفا وكان بها من الرؤساء ، والوزراء ، والعلماء ، والسادات ما يخرج واصفه إلى حد التكذيب.

قال الطبري : أقل صفة بغداد أنها كان بها ستون ألف حمام ، كل حمام يحتاج إلى خمسة أنفس : سواق ، وزبال ، ووقاد ، وقيم ، ومدبّر.

وكل واحد من هذه الخمسة لا بد له من أهل وخدم. انتهى.

وقال ابن مفلح في كتابه «الفروع» : وفي منثور ابن عقيل عن أحمد من مات ببغداد على السنّة نقل من جنة إلى جنة.

وروى الحاكم في تاريخه عن الأصمعي قال : جنّات الدنيا ثلاثة مواضع ، نهر معقل بالبصرة ، ودمشق بالشام ، وسمرقند بخراسان ، وكثر تفضيل بغداد ، ومدحها من العلماء.

١١٥

قال شعبة لأبي الوليد : أدخلت بغداد؟ قال : لا قال : فكأنك لم تر الدنيا.

وقال الشافعي ليونس بن عبد الأعلى : دخلت بغداد؟ قال : لا قال : ما رأيت الناس ولا رأيت الدنيا ، وقال ما دخلت بلدا قط إلّا عددته سفرا إلّا بغداد ، فإني أعددتها وطنا.

وقال أبو بكر بن عياش : إنها لصيادة تصيد الرجال ، ومن لم يرها لم ير الدنيا.

وقال أبو معاوية : هي دار دنيا وآخرة.

وقال ابن الجوزي : اعتدال هوائها ، وطيب مائها لا يشك فيه ، ولا يختلف في أن فطن أهلها وعلومهم تزيد على كل أهل بلاد ، وقد أجمع على هذا جميع فطناء الغرباء ، وإنما يعيبها الجامد الذهن.

قال ابن مفلح : كذا قال ، ومن المعلوم أن في فضل الشام من الكتاب والسنّة ، ما ليس في العراق وأفضله دمشق ، وأقام بها كثير من العلماء والعباد من الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم أكثر من غيره ، فمن تأمل ذلك وأنصف علمه ، ومعلوم ما في ذم المشرق من الأخبار والفتن ، وبغداد منها وفيها من الحر الشديد ، وكثرة استيلاء الفرق ما هو معلوم بالمشاهدة ، وفضل بغداد عارض بسبب الخلفاء بها. انتهى المراد.

ولما استولى عليها التتار جعلوها دار سلطنتهم ، ولم يزالوا يتداولون سلطنتها ، والولاية على جميع نواحي العراق ، إلى عراق العجم ، إلى خراسان وما يليه ، وكان ظهور التتار من جهة الصين قاصدا بلاد الإسلام سنة ٦٦٠ ه‍ وكانوا بأطراف بلاد الصين ، وكان إقليم الصين متسع دوره

١١٦

ستة أشهر ، وهو ست ممالك ، ولهم ملك حاكم على الست ، وهو : القان الأكبر المقيم بطمغاج ، ثم إن الحرب وقع بين صاحب الصين وبين جنكر خان ، وصاحب البر ووقع بينهم ملحمة عظيمة ، فكسروا القان الأعظم ، وملكوا بلاده ، فدانت التتار لجنكر خان واعتقدوا فيه الإلهية ، وكان أول ظهورهم بما وراء النهر سنة خمس عشرة ، فأخذوا بخاري ، وسمرقند ، وقتلوا أهلها وحاصروا بها خوارزم شاه ، سلطان المسلمين بالشرق ، ثم عبروا النهر ، وكان خوارزم قد أباد الملوك من مذن خرسان فلم يجد التتار أحدا في وجوههم فطووا تلك البلاد قتلا وسبيا ، وساقوا إلى همدان قزوين.

قال ابن الأثير : حادثة التتار من الحوادث العظمي ، والمصائب الكبرى ، ولو قال قائل : إن المسلمين مدة خلق الله آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا ، وإن قوما خرجوا من أطراف الصين إلى تركستان ، ثم إلى بخاري ، وسمرقند ، فيملكونها ، ويبيدون أهلها ، ثم تغير طائفة إلى خراسان فيفرغون منهم ملكا وتخريبا وقتلا ، وإلى الري وهمدان إلى حد العراق أذربيجان ونواحيها ، ويخربونها لأقل من سنة ، هذا أمر لم يسمع بمثله ، ثم ساروا إلى درنبد شروان فملكوا مدنه ، ثم إلى بلد الران فقتلوا وأسروا ، ثم بلاد قنجان وهم أكثر عددا فقتلوا من وقف وهرب الباقون.

وسارت طائفة إلى غزنة وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان ، ففعلوا أشد من هذا لم يظهر للأبصار والأسماع مثله ، فإن الإسكندر الذي ملك الدنيا لم يملكها في سنة ، إنما ملكها في عشر سنين ، ولم يقتل أحدا بل رضي بالطاعة ، وهؤلاء ملكوا أكثر المعمور من الأرض ، وأطيبه في نحو سنة ولم يبق أحد في البلاد التي لم يطرقوها إلّا

١١٧

وهو خائف يترقب ، ثم إنهم لم يحتاجوا إلى ميرة فإن معهم الأغنام والبقر والخيل ويأكلون ما وجدوا من الحيوانات ، والميتات ، وبني آدم ، ولا يعرفون نكاحا ، بل المرأة يأتيها غير واحد ومع ذلك يسجدون للشمس إذا طلعت ، ولا يحرمون شيئا.

ثم قال ابن الأثير : والله لا شك أن من يجيء بعدنا إذا بعد المهد ، ويرى هذه الحادثة مسطرة ينكرها ويستبعدها ، فلينظر أنا مطرناها في وقت استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها. انتهى.

ولم تزل عقاربهم تدب ، وساق الحرب قائمة بينهم ، وبين سلطان الإسلام جلال الدين خوارزم شاه رحمه‌الله ، يضرب معهم المصافات الكثيرة وكسرهم في مدة أربعة عشر سنة إحدى عشرة كسرة وهم يزيدون ويعودون ، وكان سدّا بينهم وبين بلاد المسلمين فكسروه بعد هذا وكان جيشه أربع مئة ألف فارس وانفتح لهم سد عظيم فحصروا بغداد سنة ٦٥٦ ه‍ ، وقتلوا الخليفة ، وسفكوا دماء المسلمين ، ولم يبقوا على كبير ولا صغير ، ويصلوا إلى حلب ، ففعلوا بها مثل ما فعلوا ببغداد ، فأخذوا دمشق في أوائل سنة ٦٥٨ ه‍.

وكان ممن عصى عليهم الملك الكامل الأيوبي بميافارقين فحاصروه ، ونصبوا على البلاد ست مئة سلم على السور ، يصعد في عرض السلم ستة عشر نفسا ، فاشتد الحصار ، وغلت الأقوات ، وأكلت الأموات ، وبيع مكوك القمح بخمسة وأربعين ألف درهم ، ورطل الخبز بست مئة درهم ، والبصلة بثلاثة وخمسين درهما ، ورأس الكلب بستين درهما ، وبيعت بقرة بسبعين ألف درهم ، واشترى الأشرف أخو الكامل

١١٨

رأسها وكوارعها ، بستة آلاف درهم وخمس مئة ، وعملها وأهداها إلى أخيه ، وبيع حجلتان بثلاث مئة وخمسين درهما ، وبيع فروج بسبع مئة درهم.

هذا وأهل البلد محافظون على ملكهم الكامل ، وكان ينزل إليهم كل جمعة في الجامع ، ويقول : ليس لهم غرض غيري ، دعوني أخرج إليهم وسلموا إليهم البلد لتأمنوا فيقولون : معاذ الله أن نفارقك ، حتى تروح أرواحنا ، ونموت بين يديك ، وكذا كان فإن أعداء الله ما برحوا حتى فتحوا البلد ، وقتلوا جميع من فيه ، وأخذوا الكامل وجعلوا في عنقه دوخاشا هو وأخوه وحملوهم إلى هلاكو ، فلقوه قريبا من سروج عائدا إلى الشام وأحضرهما ، فجعل يوبخهما ، ويذكر ذنوبهما التي نقم عليهما.

فأجابه الكامل : أنت مالك ، لا قول ولا دين ، بل خارجي يجب عليّ قتالك ، وأنا خير منك ، لأني أؤمن بالله ورسوله ، ولي دين وأمانة ، ومع هذا فالملك بيد الله ، يؤتيه من يشاء ، وينزعه عمن يشاء ، فكان لنا من عدن إلى تبريز فذهب عنا ، وكذلك يفعل بك إذا أراد ، فقال : كلامك أكبر منك إلّا أنك من السلاطين الصغار ، ثم وكزه بالسيف فخرق بطنه ، ثم أمر بضرب عنقه وبعث برأسه إلى الشام ، وعلق على باب الفراديس ، وخروج هؤلاء وقتالهم من معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه قال : «لا تقوم الساعة حتى تقاتلكم الترك». انتهى ملخصا.

ثم إن هلاكو لما فرغ من بغداد نزل آمد سنة ٦٥٧ ه‍ وبعث إلى صاحب ماردين بالتقادم مع ولده المظفر فقبض عليه واشتدت الأراجيف بقصد التتار إلى الشام ، وترحل الخلق إلى مصر وقبض الأمير قطز على

١١٩

ابن أستاذه على ابن المعز وتسلطن وتلقب بالمظفر ، ونازلت التتار حلب آخر العام ، وأخذوها في اليوم الثامن من السنة الثامنة فوضعوا السيف يومين ، وأبادوا الخلق ثم أخذوا قلعتها بالأمان بعد أيام ثم نازلوا دمشق فهرب الناصر إلى نحو غزنة.

ودخلت رسل هلاكو وقرىء.

الفرمان بأمان دمشق ، ثم وصل إلى نائبه وحملت أيضا مفاتيح حماة إليه ، فهرب صاحبها ، وعصت قلعة دمشق فحاصروها ، وألحوا بعشرين منجنيقا على برج الطارمة ، فتشقق وطلب أهلها الأمان ، فأمنوهم ، وسكنها النائب كتب أغا وتسلموا بعلبك ، وأخذوا نابلس بالسيف ، ثم قطع الفرات راجعا وترك بالشام فرقة من التتار.

وأما المصريون فتأهبوا للمسير منتصف شعبان وثارت النصارى بدمشق ، ورفعوا الصليب ، وأمروا الناس بالقيام له ووصل جيش الإسلام عليهم المظفر ، فالتقى الجمعان على عين جالوت ، ونصر الله دينه ، وقتل مقدم التتار كتب أغا ، وطائفة من أمرائهم ، ووقع بدمشق القتل والنهب في النصارى ، وساق ركن الدين البندقداري ، أحد أمراء المظفر وراء التتار إلى حلب ، وخلت منهم الشام ، وطمع البندقداري في حلب وكان وعده بها المظفر ، ثم رجع وأضمر البشر.

ولما رجع المظفر بعد شهر إلى مصر ، وقد وافق البندقداري على مراده عدة أمراء ، ففتكوا بالمظفر سادس عشر ذي القعدة بقرب قرطبة وتسلطن ركن الدين البندقداري الملك الظاهر بيبرس.

وفي سنة ٦٦٠ ه‍ أخذت التتار الموصل بعد حصار تسعة أشهر

١٢٠