إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٦

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٦

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٨٨

الله عليه وسلم وناقته تأكل مرة وتسير أخرى عثرت ناقة معاذ فحنكها بالزمام فهبت حتى نفرت منها ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف عنه قناعه فالتفت فإذا ليس في الجيش أدنى اليه من معاذ فناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :يا معاذ فقال لبيك يا رسول الله قال : ادن دونك فدنا منا حتى لصقت راحلتاهما إحداهما بالأخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :ما كنت أحسب الناس منا بمكانهم من البعد فقال معاذ : يا نبيّ الله نعس الناس فتفرقت ركابهم ترتع وتسير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا كنت ناعسا فلما رأى معاذ بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلوته له فقال : يا رسول الله : ائذن لي أن أسألك عن كلمة أمرضتني وأسقمتني وأحزنتني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :سل عما شئت ، قال : يا نبي الله حدثني بعمل يدخلني الجنة لا أسألك عن شيء غيره؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بخ بخ بخ لقد سألت لعظيم ثلاثا وإنه ليسير على من أراد الله به الخير ، وانه ليسير على من أراد الله به الخير وإنه ليسير على من أراد الله به الخير فلم يحدثه بشيء إلا أعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات حرصا لكيما يتقنه عنه فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : تؤمن بالله واليوم الآخر وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئا حتى تموت وأنت على ذلك ، قال يا رسول الله أعدلي فأعادها ثلاث مرات ثم قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : إن شئت يا معاذ حدثتك برأس هذا الأمر وقوام هذا الأمر وذروة السّنام؟ فقال معاذ : بلى يا رسول الله حدثني بأبي أنت وأمي فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم إن رأس هذا

٤٤١

الأمر : أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وإن قوام هذا الأمر : إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وان ذروة السّنام منه الجهاد في سبيل الله ، انما أمرت أن أقاتل الناس ، حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فاذا فعلوا ذلك فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقّها وحسابهم على الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفس محمد بيده ما شحب وجه ولا اغبرّت قدم في عمل تبتغى به درجات الآخرة بعد الصلاة المفروضة كجهاد في سبيل الله ولا ثقّل ميزان عبد كدابّة تنفق في سبيل الله أو يحمل عليها في سبيل الله.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦))

٤٤٢

اللغة :

(بِئْرٍ) : في المختار : «بأر بئرا بهمزة بعد الباء حفرها ربابه قطع» والبئر فعل بمعنى مفعول كالذبح بمعنى المذبوح حفرة في الأرض عظيمة يستقى منها الماء والجمع آبار وأبآر وبئار وأبؤر وهي مؤنثة. وفي الأساس : «الفاسق من ابتأر ، والفويسق من ابتهر يقال :ابتأرت الجارية إذا قال فعلت بها وهو صادق وابتهرتها إذا قال ذلك وهو كاذب وأنشد الكميت :

قبيح بمثلي نعت الفتا

ة إما ابتهارا وإما ابتئارا

(مُعَطَّلَةٍ) متروكة بموت أهلها مع أنها عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء.

(مَشِيدٍ) : مرتفع مجصص من شاد البناء أي رفعه ويقال شيّد وأتى به في النساء من شيّد لأنه هناك وقع بعد جمع أما هنا فقد وقع بعد مفرد فناسب التخفيف.

الاعراب :

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم وانه ليس بأوحدي في التكذيب ، وإن شرطية ويكذبوك فعل الشرط والواو فاعل والكاف مفعول به ، فقد الفاء رابطة للجواب لاتصاله بقد وقد حرف تحقيق وكذبت فعل ماض والتاء تاء التأنيث الساكنة والجملة في محل جزم جواب الشرط وقبلهم ظرف زمان متعلق بكذبت وقوم

٤٤٣

نوح فاعل وعاد وثمود معطوفان على قوم وأنّث القوم باعتبار معنى الأمة أو القبيلة ولم يقل قوم عاد وثمود استغناء بشهرتهما بهذين الاسمين. (وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ) عطف على ما تقدم.

(وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) وأصحاب مدين عطف وعدل عن قوم شعيب لأن أصحاب مدين أعرق من أصحاب الأيكة في التكذيب فلذلك خصهم بالذكر ، وكذب فعل ماض مبني للمجهول وموسى نائب فاعل وخالف في الكلام فلم يقل قوم موسى لأنه لما صدر الكلام بحكاية تكذيبهم ثم عدد أصناف المكذبين وطوائفهم ولم ينته الى موسى إلا بعد طول الكلام حسن تكريره ليلي قوله فأمليت فيتصل المسبب بالسبب كما قال في آية «ق» بعد تعديدهم : «كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ» فربط العقاب والوعيد ووصلهما بالتكذيب بعد أن جدد ذكره ، فأمليت : الفاء عاطفة وأمليت فعل وفاعل وللكافرين متعلقان بأمليت. (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وأخذتهم فعل وفاعل ومفعول به ، فكيف الفاء عاطفة وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم ونكير اسم كان أي إنكاري فحذفت الياء والنكير مصدر بمعنى الإنكار والتغيير حيث أبدلهم بالنعمة نقمة وبالحياة هلاكا وبالبناء خرابا وسيأتي معنى الاستفهام في باب البلاغة. (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ) الفاء استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد ما تقدم بضرب الأمثلة والشواهد وكأين خبرية ومحلها الرفع على الابتداء ومن قرية تمييز كأين وقد تقدم تحقيقه وجملة أهلكناها من الفعل والفاعل والمفعول به خبر كأين ويجوز نصب كأين على الاشتغال بفعل محذوف يفسره أهلكناها فتكون جملة أهلكناها مفسرة ، وهي ظالمة الواو للحال وهي مبتدأ وظالمة خبر والجملة نصب على الحال. (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها

٤٤٤

وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) الفاء عاطفة وهي مبتدأ وخاوية خبر والجملة معطوفة على جملة أهلكناها وعلى عروشها إما متعلقان بخاوية فيكون المعنى انها ساقطة على سقوفها أي خرت سقوفها على الأرض ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف واما أن يكون خبرا ثانيا لهي كأنه قيل هي خالية وهي على عروشها أي قائمة مطلة على عروشها بمعنى أن السقوف سقطت الى الأرض فصارت في سمت الحيطان وبقيت الحيطان مواثل باهتة مشرفة على السقوف الساقطة وكلا التقديرين جميل ووارد ، وبئر عطف على قرية أي وكم من بئر ، ومعطلة صفة لبئر وقصر مشيد عطف أيضا وهل هي بئر معينة وقصر معين أم هما واردان مورد المثل ، سيأتي الكلام عن هذا كله في باب الفوائد. (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) الهمزة للاستفهام الانكاري إن كانوا قد سافروا أو للحث على السفر ليروا مصارع من تقدمهم ، والفاء عاطفة على مقدر يقتضيه المقام أي أغفلوا وأهملوا وسافروا فلم ينتفعوا ، ولم حرف نفي وقلب وجزم ويسيروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعله وفي الأرض متعلقان بيسيروا فتكون الفاء للسببية وتكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية ولهم خبر تكون المقدم وقلوب اسمها المؤخر وجملة يعقلون صفة لقلوب وبها متعلقان بيعقلون وأو حرف عطف وآذان عطف على قلوب وجملة يسمعون بها صفة لآذان وواضح أن التفريع على المنفي يوجب النفي أيضا. (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الفاء للتعليل وان واسمها والضمير يعود على القصة أو الشأن وجملة لا تعمى الأبصار خبر ولكن الواو عاطفة ولكن حرف استدراك أهمل لأنه خفف وتعمى القلوب فعل مضارع وفاعل والتي صفة القلوب وفي الصدور متعلقان بمحذوف صلة الموصول وسيأتي سر قوله في الصدور في باب البلاغة.

٤٤٥

البلاغة :

١ ـ الاستفهام في قوله تعالى «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» معناه التقرير وهو حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه ويماري فيه ، ويلجأ الى المكابرة والسفسطة في مخالفته ، وقال أبو حيان : «ويصحب هذا الاستفهام معنى التعجب فكأنه قيل ما أشد ما كان انكاري عليهم» وهذا واضح أيضا فالاستفهام إذن للتقرير التعجبي.

٢ ـ الانفصال في قوله تعالى «وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» فإن لقائل أن يقول ان القلوب لا تكون إلا في الصدور فأية فائدة في ذكر ما هو متعارف وكائن لأنه معلوم والانفصال عن ذلك أن يقال ان المتعارف ان العمى الحقيقي مكانه البصر لأنه إصابة الحدقة بما يطمس نورها واستعماله في القلب مجاز فلما أريد نقله من الحقيقة الى المجاز كان الكلام بمثابة إثبات ما هو خلاف المتعارف وما هو الأصل فاحتاج الى زيادة تعيين ليتقرر أن العمى مكانه هو القلوب لا الأبصار كما تقول ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك فقوله بين فكيك تقرير لما ادعيته للسانه ونفي المضاء عن السيف وهو المتعارف وهذا من أوابد البيان فافهمه ، وجملة الأمر ان الخلل ليس في مشاعرهم فهي سليمة لا عيب فيها وإنما الخلل في عقولهم المرتكسة وأحلامهم المعطلة.

الفوائد :

البئر المعطلة والقصر المشيد : قيل هما خاصان قال الخطيب الشربيني في تفسيره : «روي أن هذه البئر نزل عليها صالح مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله تعالى من العذاب وهي بحضرموت

٤٤٦

وإنما سميت بذلك لأن صالحا حضرها حين مات وثم بلدة عبد البئر اسمها حاضورا بناها قوم صالح وأمّروا عليهم جلهس بن جلاس وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما وأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان نبيا فقتلوه فأهلكهم الله تعالى وعطل بئرهم وخرب قصورهم والأولى أن تكون البئر عامة وأن يكون القصر عاما أي كم من قرية أهلكناها وكم من بئر عطلناها من سقاتها وكم من قصر مشيد تفرق عنه أهلوه وتحمل عنه ساكنوه.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣))

٤٤٧

الاعراب :

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) الواو عاطفة ويستعجلونك فعل مضارع وفاعل ومفعول به وبالعذاب متعلقان بيستعجلونك أي يطلبون عجلتك على سبيل الاستهزاء والواو عاطفة ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويخلف فعل مضارع منصوب بلن والله فاعل ووعده مفعول به. (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) الواو للحال وان واسمها وعند ربك الظرف متعلق بمحذوف حال والكاف خبر إن ومما صفة لسنة وجملة تعدون صلة واقتصر في التشبيه على الألف لأن الألف منتهى العدد بلا تكرار وأيام الشدائد مستطالة على حد قول الشاعر :

فقصارهن مع الهموم طويلة

وطوالهن مع السرور قصار

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) الواو عاطفة قال الزمخشري في كشافه : «فإن قلت لم عطفت الأولى بالفاء وهذه بالواو؟ قلت الأولى وقعت بدلا من قوله «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» وأما هذه فحكمها حكم الجملتين المعطوفتين بالواو أعني قوله «وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ» و «إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» وكأين خبرية في محل رفع مبتدأ ومن قرية في محل نصب تمييز كأين وجملة أمليت لها صفة لقرية والواو حالية وهي مبتدأ وظالمة خبر والجملة في محل نصب على الحال ثم أخذتها عطف على أمليت وإليّ الواو عاطفة أو حالية وإليّ خبر مقدم والمصير مبتدأ مؤخر. (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) يا حرف نداء وأيها منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب على النداء والهاء للتنبيه والناس بدل من أي وإنما

٤٤٨

كافة ومكفوفة وأنا مبتدأ ونذير خبر ومبين صفة. (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) الفاء تفريعية والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وعملوا عطف على آمنوا والصالحات مفعول به ولهم خبر مقدم ومغفرة مبتدأ مؤخر ورزق عطف على مغفرة وكريم صفة لرزق وجملة لهم مغفرة خبر الذين. (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة سعوا صلة وفي آياتنا متعلقان بسعوا ومعنى السعي في الآيات إفسادها وتزييفها وإبطالها يقال سعيت في أمر فلان إذا أصلحته أو أفسدته بهذا السعي ومعاجزين حال أي مسابقين في زعمهم وتقديرهم قد سولت لهم أنفسهم أنهم يستطيعون إبطالها وصرف الناس عن اتباعها فالمفاعلة لا تخلو من معنى الظن والاعتقاد بالنسبة إليهم ، وأولئك مبتدأ وأصحاب الجحيم خبره والجملة خبر الذين. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في تسلية ثانية للنبي صلى الله عليه وسلم ، وما نافية وأرسلنا فعل وفاعل ومن قبلك متعلقان بأرسلنا ومن لابتداء الغاية ومن رسول من زائدة ورسول مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به لأرسلنا ولا نبي عطف على من رسول وإلا أداة حصر وإذا ظرف مستقبل وجملة تمنى في محل جر بإضافة الظرف وجملة ألقى الشيطان لا محل لها والجملة الشرطية بعد إلا تحتمل وجوها أرجحها أن تكون في محل جر صفة لرسول على اللفظ والنصب على المعنى ويجوز أن تكون حالا ولك أن تجعل الاستثناء منقطعا فتكون إلا أداة استثناء والجملة نصب على الاستثناء وفي أمنيته متعلقان بألقى وسيأتي معنى هذا الإلقاء وقصة سبب النزول في باب الفوائد ، وقد استشكل أبو حيان مجيء جملة ظاهرها الشرط بعد إلا وهو إذا تمنى ألقى ،

٤٤٩

وأجاب عن ذلك بأن إذا جردت للظرفية ولا شرط فيها وفصل بها بين إلا والفعل الذي هو ألقى وهو فصل جائز فيكون إلا قد وليها ماض في التقدير ووجه شرط وهو تقدم فعل قبل إلا وهو أرسلنا قال ابن هشام : والذي يظهر انما هو فيما إذا ولي إلا لفظ الفعل وهذا لم يقع في الآية فلا إشكال ولا حاجة لتأويل إذا بأنها خرجت عن الشرطية.

(فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الفاء استئنافية وينسخ الله فعل مضارع وفاعل وما مفعول به وجملة يلقي الشيطان صلة ثم حرف عطف ويحكم الله فعل وفاعل وآياته مفعول به والله عليم حكيم جملة اعتراضية مؤلفة من مبتدأ وخبريه.

(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) اللام للتعليل والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة وهي متعلقة بيحكم أي ثم يحكم الله آياته ليجعل ويجوز أن تتعلق بينسخ وما موصولية أو مصدرية وهي على كل حال مفعول به أول وجملة يلقي الشيطان صلة وفتنة مفعول به ثان وللذين صفة لفتنة وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر والجملة صلة للذين والقاسية عطف على الذين وقلوبهم فاعل القاسية ومن المفيد أن نذكر أن ال في القاسية موصولة والقاسية صفتها وأنثها لأن مرفوعها وهو قلوبهم مؤنث مجازي. (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) الواو حالية أو استئنافية وإن واسمها واللام المزحلقة وفي شقاق خبرها وبعيد صفة لشقاق.

الفوائد :

أسطورة الغرانيق :

نعرض الآن لمسألة شغلت علماء المسلمين في القديم والحديث ، واستأثرت باهتمام الكثيرين منهم لخطورتها ، وجسامة ما تنطوي عليه

٤٥٠

من أمور لا يجوز للباحث أن يمرّ بها مرور الراكب العجلان ، فهي تمسّ جوهر العقيدة ، وتتعلق بعصمة صاحب الرسالة ، فإلقاء الكلام على عواهنه فيها من غير تمعن ولا تمحيص لا يجوز بحال وسنعمد الى سرد الأسطورة على علاتها وكما نقلها المفسرون من غير تفنيد لها أو اثارة للشكوك حولها ، وكثر تناقلها حتى أصبحت حديث السمر تروّح به النفس ويزجى بها الفراغ والناس بطبعهم ميالون الى كل غريب وهذه هي الاسطورة : لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعراض قومه عنه ، لعيبه أصنامهم وزرايته بآلهتهم ، أخذه الضجر من هذا الإعراض ، ولحرصه على إسلامهم وتهالكه عليه تمنى أن لا ينزل عليه ما ينفرهم لعله يتخذ ذلك طريقا الى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم فاستمر به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى» وهو في نادي قومه وذلك التمني في نفسه فأخذ يقرؤها فلما بلغ قوله : «وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» «أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» التي تمناها بأن وسوس له بما شيعها به فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط الى أن قال : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى ، وروى الغرانقة ولم يفطن له حتى أدركته العصمة فتنبه اليه وقيل نبهه جبريل عليه السلام أو تكلم الشيطان بذلك فأسمعه الناس فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي وطابت نفوسهم وكان تمكين الشيطان من ذلك محنة من الله وابتلاء زاد المنافقون به شكا وظلمة والمؤمنون نورا وإيقانا.

وفيما يلي طائفة من أقوال العلماء والمفسرين فقال الرازي ما خلاصته :

٤٥١

هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، ثم تكلم في أن رواة هذه القصة مطعونون وأيضا فقد روى البخاري في صحيحه أنه عليه الصلاة والسلام قرأ سورة النجم وسجد معه المسلمون والمشركون والانس والجن وليس فيه حديث الغرانيق بل روي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها البتة حديث الغرانيق ولا شك أن من جوز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان ولو جوّزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك أي مما ألقاه الشيطان على لسانه ويبطل قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» فانه لا فرق في العقل بين النقصان من الوحي وبين الزيادة فيه فبهذه الوجوه النقلية والعقلية عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة وقد قيل : إن هذه القصة من وضع الزنادقة لا أصل لها. ا ه كلام الرازي.

أما شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني شارح البخاري فقد نبه في فتح الباري على البخاري على ثبوت أصلها وقال سامحه الله : «أخرج ابن أبي حاتم والطبري وابن المنذر من طرق عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة والنجم فلما بلغ : «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» ألقى الشيطان على لسانه : «تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى» فقال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فلما ختم السورة سجد وسجدوا فكبر ذلك على النبي فنزل تسلية له «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» أي في قراءته بين كلماته.

٤٥٢

وأخرجه البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة فقال في إسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب ثم ساق الحديث المذكور وقال البزار : لا يروى إلا متصلا بهذا الاسناد وتفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور.

وأوردها الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس. ومعناهم كلهم في ذلك واحد وكل من طرقها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإما منقطع ولكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيح ، أحدهما ما أخرجه الطبري عن طريق يونس بن زيد عن ابن شهاب ، حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فذكر نحوه ، والثاني ما أخرجه من طريق المعتمر بن سليمان وحماد بن سلمة كلاهما عن داود بن أبي هند عن أبي العالية.

وقال ابن حجر العسقلاني في معرض رده على القاضي أبي بكر ابن العربي : «وقد تجرأ ابن العربي كعادته فقال : ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة لا أصل لها وهو إطلاق مردود عليه وكذا قول القاضي عياض : هذا الحديث لم يخرجه أهل الصحة ولا رواة ثقة بسند سليم متصل مع ضعف نقلته واضطراب رواياته وانقطاع أسانيده وكذا قول عياض أيضا : ومن حكيت عنه هذه القصة من التابعين والمفسرين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها الى صحابي وأكثر الطرق عنهم في ذلك ضعيفة واهية فهذا مردود أيضا.

وتتمة كلام القاضي عياض تدل على مدى تحرره من غائلة التقليد ومحاولته تمحيص الحقائق قال : «وقد بين البزاز أن الحديث لا يعرف طريق يجوز ذكره إلا من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير مع الشك

٤٥٣

الذي وقع في وصله وأما الكلبي فلا تجوز الرواية عنه لقوة ضعفه ثم رده من طريق النظر بأن ذلك لو وقع لارتد كثير ممن أسلم قال : ولم ينقل ذلك».

قال الحافظ بن حجر : «وجميع ذلك لا يتمشى مع قواعد المحدثين فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دلّ ذلك على أن لها أصلا وقد ذكرنا أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتجّ بالمرسل وكذا من لا يحتجّ به لاعتضاد بعضها ببعض وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر وهو قوله : ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلا وان شفاعتهن لترتجى ، فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلم أن يزيد في القرآن عمدا ما ليس فيه وكذا سهوا إذ كان مغايرا لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته» ومضى قائلا : «وقد سلك العلماء في ذلك التأويل مسالك نحو السبعة فقيل جرى ذلك على لسانه حين أصابته سنة من النوم وهو لا يشعر فلما أعلمه الله بذلك أحكم آياته وهذا أخرجه الطبري عن قتادة».

ورد القاضي عياض بأنه لا يصح لكونه لا يجوز على النبي ذلك ولا ولاية للشيطان عليه في النوم.

وقيل : ان الشيطان ألجأه الى أن قال ذلك بغير اختيار. ورده ابن العربي بقوله تعالى حكاية عن الشيطان «وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ... الآية» قال : فلو كان للشيطان قوة على ذلك لما بقي لأحد قوة على طاعة.

وقيل : ان المشركين كانوا إذا ذكروا آلهتهم وصفوها بذلك فعلق

٤٥٤

ذلك بحفظه صلى الله عليه وسلم فجرى على لسانه سهوا. وقد رد القاضي عياض ذلك فأجاد.

وقيل : لعله قال ذلك توبيخا للكفار ، قال القاضي عياض وهذا جائز إذا كان هناك قرينة تدل على المراد ولا سيما وقد كان الكلام في ذلك الوقت في الصلاة جائزا والى هذا نحا الباقلاني.

وقيل : انه لما وصل الى قوله «وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» خشي المشركون أن يأتي بعدها بشيء يذم آلهتهم به كعادته إذا ذكرها فبادروا الى ذلك الكلام فخلطوه في تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم على عادتهم في قولهم : «لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ» أي أظهروا اللغو برفع الأصوات تخليطا وتشويشا عليه ونسب ذلك الى الشيطان لكونه الحامل لهم عليه أو المراد بالشيطان شيطان الانس.

وقيل : المراد بالغرانيق العلا الملائكة وكان الكفار يقولون :الملائكة بنات الله ويعبدونها فنسق ذكر الكل ليرد عليهم بقوله «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى» فلما سمعه المشركون حملوه على الجميع وقالوا قد عظم آلهتنا ورضوا بذلك فنسخ تينك الكلمتين وهما قوله : تلك الغرانيق العلا ، وان شفاعتهن لترتجى وأحكم آياته.

وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن فترصّده الشيطان في سكتة من السكتات ونطق بتلك الكلمات محاكيا صوت النبي صلى الله عليه وسلم بحيث سمعه من دنا اليه فظنها من قول النبي وأشاعها. قال القاضي عياض وهذا أحسن الوجوه وهو الذي يظهر ترجيحه ويؤيده ما روي عن ابن عباس في تفسير تمنى بتلا وكذا استحسن ابن العربي هذا التأويل وقال : معنى قوله في أمنيته أي في

٤٥٥

تلاوته فأخبر تعالى في هذه الآية أن سنة الله في رسله إذا قالوا قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه فهذا نصّ في أن الشيطان زاد في قول النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله لأنه معصوم.

قال في فتح الباري : «وقد سبق الى ذلك الطبري مع جلالة قدره وسعة علمه وشدة ساعده في النظر فصوب هذا المعنى» ا ه.

ما ما ورد في صحيح البخاري بصدد هذه القصة فهو : «وقال ابن عباس في «إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته ، ويقال أمنيته قراءته «الأماني يقرءون ولا يكتبون» فتراه حكى تفسير الأمنية بالقراءة بلفظ يقال بعد ما فسرها في الحديث رواية عن ابن عباس ، وهذا يدل على المغايرة بين التفسيرين ، فما يدعيه الشراح أن الحديث في رأي ابن عباس بمعنى التلاوة يخالف ظاهر العبارة ، ثم حكايته تفسير الامنية بمعنى القراءة بلفظ يقال يفيد انه غير معتبر عنده وسيأتي ان المراد بالحديث حديث النفس.

وقال القسطلاني في شرح البخاري : «وقد طعن في هذه القصة غير واحد من الأئمة حتى قال ابن اسحق وقد سئل عنها : هي من وضع الزنادقة» وكفى في انكار حديث أن يقول فيه ابن اسحق أنه من وضع الزنادقة مع حال ابن اسحق المعرفة عند المحدثين.

وهذا نص ما قاله القاضي عياض : «والذي ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ والنجم» وهو بمكة فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس وقد يكون ذلك لبلاغة السورة وشدة قرعها وعظم وقعها» ثم قال القاضي : «قد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن هذه الرذيلة».

٤٥٦

أما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر أو أن يتسوّد عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه وحتى يفهمه جبريل عليه السلام وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدا وذلك كفرا وسهوا وهو معصوم من هذا كله وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته صلى الله عليه وسلم من جريان الكفر على لسانه أو قلبه لا عمدا ولا سهوا أو أن يشتبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقي الشيطان أو يكون للشيطان عليه سبيل ، أو أن يتقول على الله ـ لا عمدا ولا سهوا ـ ما لم ينزل عليه وقد قال الله تعالى : «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» وقال «إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً».

ووجه ثان وهو استحالة هذه القصة نظرا وعرفا وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روي لكان بعيد الالتئام متناقض الأقسام ممتزج المدح بالذم ، متخاذل التأليف والنظم ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم ومن بحضرته من المسلمين ، وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك وهذا لا يخفى على أدنى متأمل فكيف بمن رجح حلمه واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه.

ووجه ثالث انه علم من عادة المنافقين ، ومعاندة المشركين ، وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين نفورهم لأول وهلة وتخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة ، وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة ، وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة ، ولم يحك أحد في هذه القصة شيئا سوى هذه الرواية الضعيفة

٤٥٧

الأصل ، ولو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة ، ولأقامت اليهود عليهم الحجة ، كما فعلوا مكابرة في قصة الإسراء ، ولا فتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت ، ولا تشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت ، وما ورد عن معاند فيها كلمة ولا عن مسلم بسببها بنت شفة فدل على بطلها ، واجتثاث أصلها ، ولا شك في إدخال بعض شياطين الانس والجن هذا الحديث على بعض مغفلي المحدثين ، ليلبس به على بعض ضعفاء المسلمين.

ووجه رابع : ذكر الرواة لهذه القصة أن فيها نزلت : «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» الآيتان ، هاتان الآيتان تردّان الخبر الذي رووه لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري ولو لا أن ثبته لكاد يركن إليهم شيئا قليلا ، فمضمون هذا ومفهومه أن الله عصمه من أن يفتري وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا فكيف كثيرا وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم وانه صلى الله عليه وسلم قال : افتريت على الله وقلت ما لم يقل وهي تضعف الحديث لو صح فكيف ولا صحة له؟ وهذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى : «وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ» قال القشيري : ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مرّ بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها ووعدوه الإيمان به إن فعل فما فعل ولا كان ليفعل ، قال ابن الانباري :«ما قارب الرسول ولا ركن».

أما ما ذكره ابن حجر من أن القصة رويت مرسلة من ثلاث طرق على شرط الصحيح وانه يحتج بها إلخ ما سبق فقد ذهب عليه أن العصمة من العقائد التي يطلب فيها اليقين فالحديث الذي يفيد خرمها ونقضها

٤٥٨

لا يقبل على أي وجه جاء وقد عد الأصوليون الخبر الذي يكون على تلك الصفة من الأخبار التي يجب القطع بكذبها ، هذا لو فرض اتصال الحديث فما ظنك بالمراسيل؟ وانما الخلاف في الاحتجاج بالمرسل وعدم الاحتجاج به فيما هو من قبيل الأعمال وفروع الأحكام لا في أصول العقائد ومعاقد الإيمان بالرسل وما جاءوا به فهي هفوة من ابن حجر يغفرها الله له. وقد استغل بروكلمان المستشرق الألماني الشهير هذه الرواية فنقلها بأمانة واعتبرها من المسائل المفروغ من إثباتها وذلك في كتابه «تاريخ الشعوب الاسلامية» الذي أخرجه للناس عام ١٩٣٩ للميلاد فقال في الحديث عن محمد : «ولكنه على ما يظهر اعترف في السنوات الأولى من بعثته بآلهة الكعبة الثلاث اللواتي كان مواطنوه يعتبرونها بنات الله ولقد أشار إليهن في احدى الآيات الموحاة اليه بقوله : تلك الغرانيق العلى ، وان شفاعتهن ترتجى ، أما بعد ذلك حين قوي شعور النبي بالوحدانية فلم يعترف بغير الملائكة شفعاء عند الله ، وجاءت السورة الثالثة والخمسون وفيها إنكار لأن تكون الآلهة الثلاث بنات الله ، ولم يستطع التقليد المتأخر أن يعتبر ذلك التسليم إلا تحولا أغراه به الشيطان ولذلك أرجئت حوادثه إلى أشد الأوقات ضيقا في مكة ثم ما لبث أن أنكره وتبرأ منه في اليوم التالي» هذا ما ذكره بروكلمان وهو ينضح بالتعصب وينادي على نفسه بالافتئات ولم يقتصر الأمر على بروكلمان وحده فكثير من المبشرين وبعض المستشرقين تشبثوا بهذه الرواية وزعموا أن الرسول فعل ذلك لما قاومه المشركون بمكة فأحب أن يتقرب منهم فمدح آلهتهم ثم عدوا عمله هذا تراخيا عن تشدده في التوحيد ومهاجمة الأصنام ، هذا وقد تصدى لهم كثيرون من علماء المسلمين في العصر الحديث ففندوا افتراءاتهم وطوحوا

٤٥٩

بأراجيفهم ، وحسبنا أن نلمع الى اثنين من كبار هؤلاء العلماء ملخصين ما قالاه ضاربين صفحا عن التطويل فيما لا يتفق مع منهاج الكتاب.

خلاصة ما كتبه العالم الهندي محمد علي :

«إن هذه الرواية وردت عند الواقدي وعند الطبري ومع ذلك فانها لا ظل لها من الحقيقة فإن كل عمل من أعمال رسول الله مناقض لمثل هذا الاتجاه ، أضف الى ذلك أن الواقدي معروف بسرد الاسرائيليات وبسرد الخرافات وكذلك الطبري معروف بالجمع الكثير واستقصاء الروايات مهما كان حظها من الصحة ، على أننا لو رجعنا الى رواية محمد ابن اسحق أو الى صحيح البخاري وهو الذي لم يغادر من حياة الرسول شيئا إلا ذكره لم نر لقصة الغرانيق أثرا وابن اسحق جاء قبل الواقدي بأربعين سنة وقبل الطبري بنحو مائة وخمسين سنة أو تزيد ، أما البخاري فقد كان معاصرا للواقدي ومع ذلك لم يذكر هذه القصة ثم ان الواقدي معروف عند المحدثين بأنه يضع الأحاديث وانه غير ثقة فيما يروي وكذلك لم يذكرها أحد من رواة الحديث.

وإذا عدنا الى قراءة الآيات نفسها بالتسلسل وجدناها : «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى» فليس من المعقول أن تحشر بين هذه الآيات المتتالية آية مناقضة لها في أصل العقيدة الاسلامية وصلب دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وهنا لك تفاصيل كثيرة في نقض هذه الرواية لا جدوى من ذكرها».

٤٦٠