إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٦

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٦

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٨٨

وثوب كنت ألبسه أنيق

أجرّر ذيله بين الج

واري وما زادت على العشرين سني

فما عذر المشيب إلى عذاري

ومنه الحديث النبوي وهو «الظلم ظلمات يوم القيامة».

٨ ـ الجناس المذيل :

وهو ما زاد أحد ركنيه على الآخر بحرف أو أكثر في طرفه الأخير فكان له بمثابة الذيل اللاحق بالثوب ، ومنه قول أبي تمام :

يمدون من أيد عواص عواصم

تصول بأسياف قواض قواضب

ولحسان بن ثابت منه :

وكنا متى يغز النبي قبيلة

نصل جانبيها بالقنا والقنابل

٩ ـ الجناس اللاحق :

وهو ما أبدل من أحد ركنيه حرف واحد بغيره من غير مخرجه سواء كان الابدال في الأول أو الوسط أو الآخر ، قال البحتري :

عجب الناس لاغترابي وفي الأط ...

 ... راف تلقى منازل الأشراف

٤١

وقعودي عن التقلب والأر

ض لمثلي رحيبة الأ

كناف ليس عن ثروة بلغت مداها

غير أني امرؤ كفاني كفافي

ولأبي فراس الحمداني :

تعس الحريص وقلّ ما يأتي به

عوضا عن الإلحاح والإلحاف

إن الغني هو الغني بنفسه

ولو انه عاري المناكب حافي

ما كلّ ما فوق البسيطة كافيا

فإذا قنعت فكل شيء كافي

١٠ ـ الجناس المصحف :

وقد تقدم عند الكلام على الآية ، ولأبي فراس فيه روائع ، استمع الى هذه المقطوعة :

ما كنت مذ كنت إلا طوع خلاني

ليست مؤاخذة الاخوان من شاني

يجني الخليل فأستحلي جنايته

حتى أدل على عفوي واحساني

٤٢

إذا خليلي لم تكثر إساءته

فأين موقع إحساني وغف

راني يجني عليّ وأحنو صافحا أبدا

لا شيء أحسن من حان على جاني

١١ ـ الجناس التام :

وهو أن يتفق اللفظان في أنواع الحروف وأعدادها وهيئاتها وترتيبها وهو قسمان :

آ ـ الجناس التام المتماثل : وهو أن يكون اللفظان من نوع واحد كاسمين أو فعلين أو حرفين كقوله تعالى «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ».

وقول أبي تمام :

السيف أصدق أنباء من الكتب

في حدّه الحد بين الجد واللعب

فجانس بين حد السيف والحد الفاصل بين الشيئين وهما اسمان ، وقد تفنن الشعراء فيه ولا سيما في عصور الانحطاط كقول الملك الصالح داود :

عيون من السحر المبين تبين

لها عند تحريك الجفون سكون

٤٣

تصول ببيض وهي سود فرندها

ذبول فتور والجفون

جفون إذا أبصرت قلبا خليا من الهوى

تقول له : كن مغرما فيكون

ب ـ وان كانا من نوعين كاسم وفعل أو اسم وحرف أو فعل وحرف سمي الجناس المستوفى كقول أبي الفضل الميكالي :

يا من يضيع عمره في اللهو أمسك

واعلم بأنك ذاهب كذهاب أمسك

فجانس بين أمسك وهو فعل أمر وأمسك وهو اليوم الذي قبل يومك.

أبو تمام والتجنيس :

وقد بالغ أبو تمام في استعمال التجنيس وفيما يلي طائفة منها : قال :

فأصبحت غرر الأيام مشرقة

بالنصر تضحك عن أيامك الغرر

فالغرر الأولى استعارة من غرر الوجه والغرر الثانية مأخوذة من غرة الشيء أكرمه. وقال في قصيدته فتح عمورية :

عداك حر الثغور المستضامة عن

برد الثغور وعن سلسالها الخصب

٤٤

فالثغور جمع ثغر وهو واحد الأسنان ، وهو أيضا البلد الذي على تخوم العدو ، ثم قال فيها :

كم أحرزت قضب الهندي مصلتة

تهتز من قضب تهتز في كثب

بيض إذا انتفيت من حجبها رجعت

أحق بالبيض أبدانا من الحجب

فالقضب السيوف ، والقضب القدود على حكم الاستعارة وكذلك البيض السيوف والبيض النساء وهذا من نادر أبي تمام الذي لا يتعلق به أحد.

وقد أكثر أبو تمام من التجنيس في شعره فمنه ما أغرب فيه وأحسن ومنه ما أتى مستثقلا نابيا كقوله :

قرّت بقرّان عين الدين واشتترت

بالأشترين عيون الشرك فاصطلما

فجانس بين قرت من قرت العين أي بردت سرورا وقران اسم مكان واشتترت : انشقت والأشترين اسم مكان أيضا واصطلم : قطع من أصله.

وأقبح من ذلك قوله :

فاسلم سلمت من الآفات ما سلمت

سلام سلمى ومهما أورق السلم

٤٥

جناس البحتري : أما البحتري فلم يسف الى الحضيض الذي أسف إليه أبو تمام ولم يأت بالتجنيس إلا جميلا مطبوعا غير متكلف كقوله :

إذا العين راحت وهي عين على الهوى

فليس بسرّ ما تسر الأضالع

فالعين الجاسوس والعين معروفة.

وما أجمل قول أبي العلاء المعري :

لم يبق غيرك إنسانا يلاذ به

فلا برحت لعين الدهر إنسانا

ولأبي تمام تجنيس متكرر في البيت الواحد قال :

ليالينا بالرقمتين وأهلنا

سقى العهد منك العهد والعهد والعهد

فالعهد الأول المسقى هو الوقت والعهد الثاني هو الحفاظ من قولهم فلان ما له عهد ، والعهد الثالث الوصية من قولهم عهد فلان الى فلان وعهدت اليه أي وصاني وصيته ، والعهد الرابع : المطر وجمعه عهاد ، قال ابن رشيق : «استثقل قوم هذا التجنيس وحق لهم».

الفوائد :

١ ـ أفعال التصيير هي التي تدل على التحويل والانتقال من حالة الى أخرى وهي تنصب مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر هكذا قال النحاة واعترض بعضهم ذلك بقوله ان معمولي هذه الأفعال متغايران

٤٦

مفهوما وخارجا فلا يصح أن يدعى كونهما مبتدأ وخبرا لوجود اتحادهما خارجا يبين لك ذلك انك تقول صيرت الفقير غنيا والمعدوم موجودا ولا يخفى أن صدق أحدهما على الآخر ممتنع ويجاب بأن نحو الفقير غني صحيح أي الفقير فيما مضى تجدد له الغنى وكذا المعدوم موجود إذ الوصف العنواني لا يشترط وجوده دائما بل يكفي وجوده في بعض الأوقات. وقال الشهابي القاسمي : ويمكن أن يجاب عن البحث بأن أريد أن أفعال التصيير لا يكون معمولاها متغايرين مفهوما وخارجا فهو ممنوع نحو قوله تعالى «وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ» فإن ترك هنا من أفعال التصيير مع صدق أحد مفعوليها على الآخر وإيجاده معه خارجا فإن المائج يصدق على بعضهم ويتحد معه خارجا وان أريد انه قد يكون معمولاها كذلك فمسلم ولا يضير لأن أفعال الباب لا يجب أن تدخل على المبتدأ والخبر بل قد تدخل على غيرهما.

٢ ـ اعلم أن المميز يكون واحدا ويكون جمعا فإذا وقع بعد عدد نحو عشرين وثلاثين ونحوهما لم يكن المميز إلا واحدا نحو قولك : عندي عشرون ثوبا وثلاثون عمامة لأن العدد قد دل على الكمية ولم يبق بنا حاجة إلا الى بيان نوع ذلك المبلغ وكان ذلك مما يحصل بالواحد وهو أخف وأما إذا وقع مفسرا لغير عدد نحو : هذا أفره منك عبدا وخير منك عملا جاز الافراد والجمع لاحتمال أن يكون له عبد واحد وعبيد فاذا قلت : هو أفره منك عبيدا أو خير منك أعمالا دللت بلفظ الجمع على معنيين : النوع وانهم جماعة. قال الله تعالى :«قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً» ، فهم من ذلك النوع وانه كان من جهات شتى لا من جهة واحدة وإذا أفردت فهم منه النوع لا غير.

٤٧

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠))

اللغة :

(الْفِرْدَوْسِ) : الجنة من الكرم خاصة ، وقيل : بل ما كان غالبها كرما. وقيل : كل ما حوط فهو فردوس والجمع فراديس ، وقال المبرد :والفردوس فيما سمعت من العرب الشجر الملتف والأغلب عليه من العنب ، وحكى الزجاج انها الأودية التي تنبت ضروبا من النبت ، واختلف فيه فقيل هو عربي وقيل أعجمي ، وقيل هو رومي ، وقيل فارسي ، وقيل سرياني ، وفي القاموس والتاج : الفردوس : بالكسر الأودية التي تنبت ضروبا من النبت والبستان يجمع كل ما يكون في البساتين تكون فيه الكروم وقد يؤنث ، عربية أو رومية نقلت أو سريانية ، وروضة دون اليمامة لبني يربوع ، وماء لبني تميم قرب الكوفة ، وقلعة فردوس بقزوين. الى أن يقول والفردسة السعة وصدر مفردس واسع أو ومنه الفردوس قال شارحه قوله : أو ومنه الفردوس أي

٤٨

اشتقاقه كما نقله ابن القطاع وهذا يؤيد كونه عربيا ويدل له أيضا قول حسان :

وان ثواب الله كل موحد

جنان من الفردوس فيها يخلد

(حِوَلاً) : الحول التحول يفال حال من مكانه حولا كقولك عادني حبها عودا يعني لا مزيد عليه والحول بكسر الحاء وفتح الواو مصدر بمعنى التحول يقال حال عن مكانه حولا فهو مصدر كالعوج والصغر.

(المداد) : اسم ما تمد به الدواة من الحبر وما يمد به السراج من السليط ، ويقال السماد مداد الأرض.

الاعراب :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) ان واسمها وجملة آمنوا صلة وجملة وعملوا الصالحات عطف على الصلة وجملة كانت خبر إن ولهم حال من نزلا لأنه كان صفة وتقدم عليه وجنات الفردوس اسم كانت ونزلا خبرها ويجوز أن يكون لهم الخبر ونزلا حال. (خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) خالدين حال من الضمير في لهم وفيها متعلقان بخالدين وجملة لا يبغون حالية وعنها متعلقان بحولا وحولا مفعول يبغون. (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) لو شرطية وكان البحر كان واسمها ومدادا خبرها ولكلمات صفة لمداد واللام واقعة في جواب لو وجملة نفد البحر جواب شرط غير جازم لا محل لها وقيل ظرف متعلق بنفد وأن تنفد المصدر مضاف لقبل

٤٩

وكلمات ربي فاعل والواو لعطف ما بعده على جملة مقدرة مدلول عليها بما قبلها أي لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته لو لم يجيء بمثله مددا ، ولو شرطية وجئنا فعل الشرط وجواب لو محذوف تقديره لنفد ولم تفرع ، وبمثله متعلقان بجئنا ومددا تمييز كقولك لي مثله رجلا وسيأتي مزيد بحث في الفوائد عن جواب لو. (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) إنما كافة ومكفوفة وأنا مبتدأ وبشر خبر ومثلكم صفة. (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) جملة يوحى صفة لبشر وإليّ متعلقان بيوحى وانما كافة ومكفوفة ولكنها لم تخرج عن المصدرية فهي وما بعدها في محل رفع نائب فاعل وإلهكم مبتدأ وإله خبر وواحد صفة. (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) الفاء استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وكان فعل ماض ناقص واسمها يعود على من وجملة يرجو خبرها ولقاء ربه مفعول به ، فليعمل الفاء رابطة لجواب الشرط واللام لام الأمر ويعمل فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وعملا مفعول مطلق أو مفعول به وصالحا صفة ولا يشرك لا ناهية ويشرك فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وبعبادة ربه متعلقان بيشرك وأحدا مفعول يشرك.

الفوائد :

جواب لو :

سيأتي المزيد من أبحاث لو في هذا الكتاب فهي من الأدوات التي يكثر فيها القول ولذلك جعلناه موزعا على الآيات ونتكلم الآن عن جواب لو فنقول : إن جوابها إما ماض معنى نحو نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه أو ماض وضعا وهذا إما مثبت فاقترانه باللام نحو «لو نشاء لجعلناه حطاما» أكثر من تركها نحو «لو نشاء جعلناه

٥٠

أجاجا» وهذه اللام تسمى لام التسويف لأنها تدل على تأخير الجواب عن الشرط وتراخيه عنه كما أن إسقاطها يدل على التعجيل أي أن الجواب يقع عقيب الشرط من غير مهلة ولهذا دخلت في «لو نشاء لجعلناه حطاما» وحذفت في نحو «لو نشاء جعلناه أجاجا» أي لوقته في المزن من غير تأخير والفائدة في تأخير جعله حطاما وتقديم جعله أجاجا تشديد العقوبة أي إذا استوى الزرع على سوقه وقويت به الاطماع جعلناه حطاما ، أو لأن الزرع ونباته وجفافه بعد النضارة حتى يعود حطاما مما يحتمل انه من فعل الزراع ولهذا قال تعالى : «أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ» أو أنه من سقي الماء وجفافه من عدم السقي وحرارة الشمس أو مرور الأعصار فأخبر سبحانه أنه الفاعل لذلك على الحقيقة وانه قادر على جعله حطاما في حال نموه لو شاء وإنزال الماء من السماء مما لا يتوهم أن لأحد قدرة عليه غير الله تعالى وهذا من عيون النكت فاعرفه وتدبره.

وإما أن يكون جواب لو منفيا بما فالأكثر تجرده من اللام ويقل اقترانه بها فالاول نحو «ولو شاء ربك ما فعلوه» والثاني نحو قوله :

ولو نعطى الخيار لما افترقنا

ولكن لا خيار مع الليالي

فأدخل اللام على ما النافية ولا تدخل اللام على ناف غيرها وقيل قد تجاب لو بجملة اسمية مقترنة باللام نحو «ولو انهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير» فاللام في لمثوبة جواب لو وان بين الماضي والاسم تشابها من هذه الجهة وقال الزمخشري وانما جعل جوابها جملة اسمية دلالة على استمرار مضمون الجزاء ورد أبو حيان هذا في البحر فقال اللام في لمثوبة لام الابتداء لا الواقعة في جواب لو وهو

٥١

أحد احتمالي الزمخشري وقد تقدم ذلك في البقرة أي فتكون الجملة مستأنفة أو جواب لقسم مقدم وقال ابن هشام في المغني : «والأولى أن تكون لام لمثوبة لام جواب قسم مقدر بدليل كون الجملة اسمية وأما القول بأنها لام جواب لو وأن الاسمية استعيرت مكان الفعلية تعسف» وأقول التعسف في تقديرها للقسم أكثر من جعل الجواب جملة اسمية.

٥٢

سورة مريم

مكيّة وآياتها ثمان وتسعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦))

اللغة :

(وَهَنَ) : في المصباح : «وهن يهن من باب وعد ضعف فهو واهن في الأمر والعمل والبدن ، ووهنته أضعفته يتعدى ولا يتعدّى في لغة فهو موهون البدن والعظم والأجود أن يتعدى بالهمزة فيقال :أوهنته والوهن بفتحتين لغة في المصدر ووهن يهن بكسرتين لغة قال أبو زيد : سمعت من الأعراب من يقرأ فما وهنوا» وفي القاموس وغيره : وهنه يهنه وهنا وأوهنه أضعفه ووهن وأوهن الرجل دخل في الوهن من الليل ووهن ووهن يهن ووهن يوهن وهنا ووهنا ووهن يوهن وهنا ضعف في الأمر أو العمل أو البدن وتوهّن البعير

٥٣

اضطجع والطائر أثقل من أكل الجيف فلم يقدر على النهوض والوهن مصدر ومن الرجال أو الإبل : الغليظ القصير والوهن من الليل نحو منتصفه أو بعد ساعة منه والموهن من الليل كالوهن ، والوهنانة من النساء الكسلى عن العمل تنعما.

(الْمَوالِيَ) : الذين يلونني في النسب كبني العم والموالي جمع مولى وهو العاصب.

(عاقِراً) : لا تلد ، قال في القاموس : عقرت تعقر عقرا وعقرا وعقارا وعقرت تعقر عقرا وعقارة وعقارة وعقرت المرأة أو الناقة صارت عاقرا أي حبس رحمها فلم تلد وعقر عقرا الأمر لم ينتج عاقبة وعقر عقرا الرجل دهش».

(وَلِيًّا) : ابنا وهو أحد معانيه الكثيرة.

الاعراب :

(كهيعص ، ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) كهيعص تقدم القول في فواتح السور واعرابها ومعانيها فارجع اليه وذكر خبر لمبتدأ محذوف أي هذا المتلو عليك من القرآن أو مبتدأ محذوف الخبر أي فيما يتلى عليك ذكر ، ورحمة ربك مضافة لذكر من اضافة المصدر لمفعوله والفاعل مستتر أي ذكر الله رحمة عبده زكريا وعبده مفعول به لرحمة وزكريا بدل من عبده أو عطف بيان له. (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) إذ ظرف لما مضى من الزمن وهو متعلق برحمة ربك أي رحمة الله إياه وقت أن ناداه وقيل العامل فيه ذكر وقيل هو بدل اشتمال من زكريا ، وجملة نادى مضاف إليها الظرف والفاعل مستتر تقديره هو ونداء

٥٤

مفعول مطلق وخفيا صفة. (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) ربي منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وان واسمها وجملة وهن العظم خبرها ومني حال واشتعل عطف على وهن والرأس فاعل وشيبا تمييز محول عن الفاعل أي انتشر الشيب في رأسي وسيأتي سر هذه الاستعارة في باب البلاغة. (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) الواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم وأكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم واسمها مستتر تقديره أنا وشقيا خبرها وبدعائك متعلقان بشقيا ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة. (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) وإني عطف على إني وهن والياء اسم ان وجملة خفت خبرها والموالي مفعول به ومن ورائي متعلقان بمحذوف أو بمعنى الولاية في الموالي ولا يجوز أن يتعلق بخفت لفساد المعنى ووجه فساده أن الخوف واقع في الحال لا فيما يستقبل فلو جعل من ورائي متعلقا بخفت لزم أن يكون الخوف واقعا في المستقبل أي بعد موته وهو كما ترى ، ظاهر الفساد وعبارة الزمخشري : «من ورائي بعد موتي وقرأ ابن كثير من وراي بالقصر وهذا الظرف لا يتعلق بخفت لفساد المعنى ولكن بمحذوف أو بمعنى الولاية في الموالي أي خفت فعل الموالي وهو تبديلهم وسوء خلافتهم من ورائي أو خفت الذين يلون الأمر من ورائي ، وقرأ عثمان ومحمد بن علي وعلي بن الحسين رضي الله عنهم خفت الموالي من ورائي وهذا على معنيين أحدهما أن يكون ورائي بمعنى خلفي وبعدي فيتعلق الظرف بالموالي أي قلوا وعجزوا عن إقامة أمر الدين. فسأل ربه تقويتهم ومظاهرتهم بولي يرزقه ، والثاني أن يكون بمعنى قدّامي فيتعلق بخفت ويريد أنهم خفّوا قدامه ودرجوا ولم يبق منهم من به تقوّ واعتضاد. وقال ابن هشام في المغني «الثاني قوله تعالى : وإني خفت الموالي من ورائي ،

٥٥

فإن المتبادر تعلق من بخفت وهو فاسد في المعنى والصواب تعلقه بالموالي لما فيه من معنى الولاية أي وخفت ولايتهم من بعدي وسوء خلافتهم أو بمحذوف هو حال من الموالي أو مضاف إليهم أي كائنين من ورائي أو فعل الموالي من ورائي وأما من قرأ خفت بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء فمن متعلقة بالفعل المذكور. وكانت امرأتي عاقرا الواو عاطفة وكان واسمها وخبرها. (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) الفاء الفصيحة أي وإلا فهب لي ، وهب فعل أمر ولي متعلقان بهب ومن لدنك حال ووليا مفعول به لهب. (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) جملة يرثني صفة لوليا ولذلك رفعت وقرئ بالجزم على أنه جواب الطلب ويرث عطف على يرثني ومن آل يعقوب متعلقان بيرث ومفعول يرث محذوف تقديره الشرع والحكمة والعلم لأن الأنبياء لا تورث المال وقيل يرثني الحبورة وكان حبرأ ويرث من آل يعقوب الملك فعلى هذا تكون الياء في يرثني منصوبة بنزع الخافض أي يرث مني الحبورة ، واجعله فعل دعاء وفاعل مستتر ورب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة ورضيا مفعول به ثان لا جعله.

وقد استشكل بعضهم جملة يرثني صفة بناء على أن نبي الله يحيى مات قبل والده بأن دعاء النبي قد يتخلف وذلك لأنه بموته قبله لم يرثه ومعلوم ما يورث من الأنبياء ورأى هذا المستشكل أن الجملة مستأنفة لا صفة وأجيب بأن دعاء الأنبياء قد يتخلف وقد وقع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه سأل في ثلاثة أمور فاستجيب له في اثنين وتأخرت الاجابة في الثالث وقد اعترض القول بالاستئناف بأن مفاد الجملة حينئذ الإخبار واخبار الأنبياء لا يتخلف قطعا وأجيب بأن هذا الاخبار باعتبار غلبة الظن لأن نبي الله زكريا لما كان مسنا غلب على

٥٦

ظنه أنه متى وهب له ولد يرثه. هذا وقد ذكر الجلال السيوطي الإشكال في كتاب شرح عقود الجمان وذكر مثل الجواب الذي أوردناه آنفا ثم قال : «وأجاب الشيخ بهاء الدين بأن المراد إرث النبوة والعلم وقد حصل في حياته». قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنا معاشر الأنبياء لا نورث» ورواه البزاز بلفظ نحن معاشر إلخ وتمام الحديث :«ما تركناه صدقة» ونصب معاشر على الاختصاص بفعل محذوف وجوبا تقديره أخص وما تركناه ما موصولة في محل رفع بالابتداء وتركنا صلته والعائد محذوف أي تركناه وصدقة خبر ما ، والحكمة في أن الأنبياء لا يورثون انه وقد وقع في قلب الإنسان شهوة موت مورثه ليأخذ ماله فنزّه الله أنبياءه وأهاليهم عن ذلك ولئلا يظن بهم مبطل انهم يجمعون المال لورثتهم ولأنهم كالآباء لأمتهم فيكون مالهم لجميع الأمة وهو معنى الصدقة العامة وأما قوله تعالى «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» وقوله «وورث سليمان» فالمراد الوراثة في العلم والنبوة وبهذا يندفع أن عدم الإرث مختص بنبينا صلى الله عليه وسلم ، فإن قيل إن الله أخبر عن بعضهم بقوله :«واني خفت الموالي» إذ لا تخاف الموالي على النبوة أجيب بأنه خاف من الموالي الاختلاف من بعده الرجوع عن الحق فتمنى ولدا نبيا يقوم فيهم. بقي هنا شيء لا بد من التنويه به وهو أن الأنبياء هل يرثون؟قال صاحب التتمة : إن النبوة مانعة من الإرث وذكر البزاز الواعظ أنه روي : نحن معاشر الأنبياء لا نرث ولا نورث ويعارضه ما ذكر الماوردي في الاحكام السلطانية أنه صلى الله عليه وسلم ورث من أبيه أم أيمن الحبشية واسمها بركة وخمسة جمال وقطعة من غنم ومولاه شقران واسمه صالح وقد شهد بدرا وورث من أمه دارها ومن خديجة دارها.

٥٧

البلاغة :

في هذه الآيات فنون عديدة نوجز القول فيها :

١ ـ الاختراس في قوله «نِداءً خَفِيًّا»وقد تقدم القول فيه وانه عبارة عن أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه فيه دخل أو لبس أو إيهام فيفطن لذلك حال العمل فيأتي في صلب الكلام بما يخلصه من ذلك كله وقد تقدمت أمثلة عديدة منه كما ستأتي له نظائر مشبهة وهو هنا في كلمة خفيا فقد أتى بها مراعاة لسنة الله في إخفاء دعوته لأن الجهر والإخفاء عند الله سيان فكان الأولى به أن يحترس مما يوهم الرياء أمام الناس الذين يحكمون على الظاهر ويجهلون حقيقة الدخائل أو لئلا يلام على طلب الولد في إبان الكبرة والشيخوخة ودفعا للفضول الذي يطلق الألسنة بمختلف أنواع الملام وقيل احترس من مواليه الذين خافهم وقيل ليس في الأمر احتراس وانما الكلام جار على حقيقته لأن خفوت صوته ناتج عن ضعفه وهرمه حيث يخفت الصوت ويكل اللسان وتعشى العينان وتثقل الآذان على حدّ قول عوف بن محلم الخزاعي :

إن الثمانين وبلغتها

قد أحوجت سمعي الى ترجمان

وقد قيل في صفات الشيخ «صوته خفات ، وسمعه تارات».

٢ ـ الاستعارة المكنية :

في قوله تعالى «وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً» شبّه الشيب بشواظ النار في بياضه وإثارته وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ ثم أخرجه مخرج الاستعارة المكنية وأسند الاشتعال الى

٥٨

مكان الشعر ومنبته وهو الرأس وأخرج الشيب مميزا ولم يضف الرأس أي أم يقل رأسي اكتفاء بعلم المخاطب انه رأس زكريا فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة ونزيد على ذلك وجوه الشبه الأربعة الكامنة في هذا الخيال البعيد ، وهي :

آ ـ السرعة : وذلك أن النار حين تشتعل وتندلع أسنتها فإنها تسرع في التهام ما تمتد اليه وهكذا الشيب لا يكاد يخط الرأس حتى بمتد بسرعة عجيبة.

ب ـ تعذر التلافي : وذلك أن النار إذا شبت وتدافع شؤبوبها وتطاير لهيبها اجتاحت كل ما تصادفه وذل لها الصخر والخشب على حد قول أبي تمام :

لقد تركت أمير المؤمنين بها

للنار يوما ذليل الصخر والخشب

فيعنو لها الصخر ويذل الخشب ويستلسم لشؤبوبها كل ما يناله دون أن تجدي في ذلك حيلة وقد يتعذر على رجل الإطفاء إخماد لهيبها وكثيرا ما يصبح الماء بمثابة الحطب الذي يذكيها وكذلك الشيب ينتشر بسرعة غريبة في أجزاء الرأس ويتمادى في سرعته بحيث يتعذر بل يستحيل تلافيه ، وكثيرا ما يجنح الذين أصيبوا بالشيب الى تغطية شيبهم بالأصابيغ الكاذبة ليخفوا حقيقتهم وليستهووا قلوب الغانيات فلن يبدل ذلك شيئا من الواقع الراهن.

ج ـ الألم : وكما أن النار لذاعة كواءة تؤلم من تلامسه فكذلك الشيب يؤلم الأشيب وقد صدت عنه الغواني واقتحمته العيون على حد قول ابن الرومي :

٥٩

وكنت جلاء للعيون من القذى

فقد أصبحت تقذي بشيبي وترمد

هي الأعين النجل التي كنت تشتكي

مواقعها في القلب والرأس أسود

وقول أبي تمام :

يا نسيب الثغام ذنبك أبقى

حسناتي عند الحسان ذنوبا

لو رأى الله أن في الشيب خيرا

جاورته الأبرار في الخلد شيبا

وجميع ذلك منقول عن عمر بن أبي ربيعة :

رأين الغواني الشيب لاح بعوارضي

فأعرضن عني بالخدود النواضر

ويرحم الله شوقيا عند ما جلس على ضفاف البردوني في زحلة واستمع الى وشوشات الحلي ووسوسات الأساور وألفى نفسه يرتقي الى السبعين فصرخ :

شيعت أحلامي بقلب باك

ولمت من طرق الملاح شباكي

ورجعت أدراج الشباب وورده

أمشي مكانهما على الأشواك

٦٠