إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٦

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٦

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٨٨

وهو دعاء مضاف الى الفاعل ويجوز أن يكون مضافا الى المفعول أي دعاءكم الرسول ونداءكم له كدعاء ونداء بعضكم لبعض. ولا ناهية وتجعلوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل ودعاء الرسول مفعول به وبينكم ظرف متعلق بمحذوف حال والكاف بمعنى مثل مفعول به ثان وبعضكم مضاف لدعاء وبعضا مفعول به لدعاء ونصبه بعضهم بنزع الخافض أي لبعض وذلك متحتم عند ما يقدر دعاء مضافا لمفعوله.

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) قد هنا بمعنى ربما وذلك مطرد في دخولها على المضارع وسيأتي مزيد تفصيل عنها في باب الفوائد ، ويعلم الله فعل مضارع وفاعل وجملة يتسللون صلة ومنكم متعلقان بيتسللون ولواذا يجوز أن ينصب على المصدر من معنى الفعل إذا كان التقدير يتسللون منكم تسللا أو يلاوذون لواذا ، ويجوز أن يكون مصدر في موضع نصب على الحال أي ملاوذين. (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الفاء الفصيحة أو عاطفة على «قد يعلم» لأنها مترتبة عليه واللام لام الأمر ويحذر فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والذين فاعل وجملة يخالفون صلة ومفعول يخالفون محذوف وهو الله تعالى لأنه الآمر وجيء ب «عن» لتضمنه معنى الصد والاعراض وأن يصيبهم مفعول يحذر وفتنة فاعل أو يصيبهم عذاب أليم عطف على أن تصيبهم فتنة. (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) قد للتكثير كما تقدم وكما سيأتي ويعلم فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله تعالى وما مفعول به وأنتم مبتدأ وعليه خبر والجملة صلة. (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ويوم عطف على مفعول يعلم أي ويعلم ما يرجعون وجملة يرجعون صلة ويرجعون بالبناء للمجهول ، فينبئهم عطف على

٦٦١

يعلم والهاء مفعول وبما عملوا في موضع المفعول الثاني والله مبتدأ وبكل شيء متعلقان بعليم وعليم خبر.

الفوائد :

تقدم القول في «قد» ونضيف هنا أنها إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير وكانت بمعنى «ربما» ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى :

أخي ثقة لا تهلك الخمر ماله

ولكنه قد يهلك المال نائله

ف «قد» هنا للتكثير وإلا لم يكن مدحا ، والثقة من وثق كالعدة من وعد ، وإسناد الإهلاك الى الخمر مجاز عقلي وكذلك إسناده الى النائل أي العطاء ، والمراد وصفه بالكرم ، ومن أمثلة «ربما» قول ابن عطاء السندي يرثي ابن هبيرة :

ألا إن عينا لم تجد يوم واسط

عليك بجاري دمعها لجمود

عشية قام النائحات وشققت

جيوب بأيدي مأتم وخدود

فإن تمس مهجور الفناء فربما

أقام به بعد الوفود وفود

وواسط موضع الواقعة التي قتل المنصور فيها ابن هبيرة ، والمأتم مكان الإقامة استعمل في جماعة النساء

الحزينات مجازا وجمعه مآتم ، يقول : إن كل عين لم تبك عليك ذلك اليوم شديدة الجمود. وعشية بدل من يوم ، وجيب القميص مخرج الرأس منه أي مزقت الجيوب والخدود بأيدي النساء ؛ ثم التفت الى الخطاب ، وقوله فإن تمس مهجور الفناء كناية عن الموت ، فربما أي كثيرا أقام بفناء بيتك جموع من الناس بعد جموع يستمنحونك ، فإن يهجر فناؤك الآن فلا حزن لأنه كثيرا ما اجتمع فيه الناس ومنحوا خيرا ..

٦٦٢

سورة الفرقان

مكيّة وآياتها سبع وسبعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦))

اللغة :

(تَبارَكَ) : البركة زيادة الخير وكثرته ، والزيادة تكون حسية ومعنوية أي تزايد خيره وتكاثر أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في

٦٦٣

صفاته وأفعاله ، ثم ان تبارك فعل ماض جامد لا يتصرف فلا يأتي منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل وليس له مصدر ولا يستعمل في غير الله تعالى وسيأتي بحث الجامد في باب الفوائد.

(الْفُرْقانَ) : القرآن لأنه فرق بين الحق والباطل وقيل لأنه نزل مفرقا في أوقات كثيرة وفي المصباح : «فرقت بين الشيئين فرقا من باب قتل فصلت أبعاضه وفرقت بين الحق والباطل ، فصلت أيضا ، هذه هي اللغة العالية وبها قرأ السبعة في قوله تعالى : «فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» وفي لغة من باب ضرب وقرأ بها بعض التابعين ، وقال ابن الأعرابي : فرقت بين الكلامين فافترقا مخفف ، وفرقت بين العبدين فتفرقا مثقل فجعل المخفف في المعاني والمثقل في الأعيان. والذي حكاه غيره أنهما بمعنى والتثقيل مبالغة» ولهذه المادة في اللغة شعاب كثيرة ، وسنورد لك منها ما يروق الخاطر : فالفرقان مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بين الشيئين وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل أو لأنه لم ينزل جملة واحدة ولكن مفروقا مفصولا بين بعضه وبعض في الإنزال ، ألا ترى إلى قوله : «وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا» والأظهر هو المعنى الثاني لأن في السورة بعد آيات : «وقال الذين كفروا لو لا نزلوا عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك».

قال الله تعالى كذلك أي أنزلناه مفرقا كذلك لنثبت به فؤادك ، فيكون وصفه بالفرقان في أول السورة كالمقدمة والتوطئة لما يأتي بعد ، وقد رأت دائرة المعارف الاسلامية كلمة فرقان مجهولة الأصل ، وهذا خطأ بيّن ، ووهم ظاهر كما رأيت من اشتقاق الكلمة ، يقال فرق لي الطريق فروقا وانفرق انفراقا إذا اتجه لك طريقان فاستبان ما يجب سلوكه منهما ، وطريق أفرق : بيّن ، وضم تفاريق متاعه أي ما تفرق منه ، وضرب

٦٦٤

الله بالحق على لسان الفاروق ، وسطع الفرقان أي الصبح ، وهذا أبين من فلق الصبح وفرق الصبح ، وتقول سبيل أفرق كأنه الفرق ، وهو أسرع من فريق الخيل ، وهو سابقها فعيل بمعنى مفاعل لأنه إذا سبقها فارقها ، وبانت في قذاله فروق من الشيب أي أوضاح منه ، وماله إلا فرق من الغنم وفريقة أي يسير ، ورأى أعرابي صبيانا قال : هؤلاء فرق سوء ، وما أنت إلا فروقة ، وفرق خير من حبّ أي أن تهاب خير من أن تحب ، وأفرق المحموم والمجنون ، وهو في أفراق من حمّاه ، ومن المجاز : وقفته على مفارق الحديث أي على وجوهه الواضحة ، وفي اللسان والأساس : «بدا المشيب في مفرقه وفرقه ، ورأيت وبيص الطيب في مفارقهم ، وفرقت الماشطة رأسها كذا فرقا ، ورأس مفروق ، وديك أفرق : انفرقت رعثته ، وجمل أفرق : ذو ستامين ، ورجل أفرق الأسنان : أفلجها ، وناقة فارق : ما خض فارقت الإبل نادّة من وجع المخاض ، ونوق فرق وفوارق ومفاريق ، وقد فرقت فروقة وتشبّه بها السحاب. قال ذو الرمة :

أو مزنة فارق يجلو غواربها

تبوّج البرق والظلماء علجوم

الاعراب :

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) تبارك فعل ماض جامد كما تقدم في باب اللغة ، والذي فاعله وجملة نزل الفرقان صلة وعلى عبده متعلقان بنزل واللام للتعليل ويكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل واسم يكون مستتر تقديره هو ونذيرا خبر يكون. (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) هذا الموصول يجوز أن يكون بدلا من الموصول الأول أو خبر لمبتدأ

٦٦٥

محذوف فيكون محله الرفع ويجوز نصبه على المدح وما بعده تمام الصلة للموصول الأول ، وله خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأ مؤخر والجملة صلة الموصول ولم يتخذ ولدا عطف على ما تقدم.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) عطف على ما سبق وله خبر يكن المقدم وشريك اسمها المؤخر وفي الملك متعلقان بشريك وخلق عطف على ما سبق أيضا فهو من تمام العلة لما قبله وكل شيء مفعول خلق ، فقدره الفاء عاطفة وقدره فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وتقديرا مفعول مطلق. (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) واتخذوا الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير حال وعبادة الكفار ، ومن دونه في محل المفعول الثاني لا تخذوا وآلهة مفعول اتخذوا الاول وجملة لا يخلقون شيئا صفة لآلهة من سبع صفات ستأتي مسرودة متعاقبة ، وهم يخلقون الواو عاطفة وهم مبتدأ ويخلقون بالبناء للمجهول خبر وهذه هي الصفة الثانية ، ومعنى كونهم مخلوقين أن العابدين ينحتونهم ويصورونهم. (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) الواو عاطفة ولا يملكون جملة معطوفة على ما تقدم وضرا مفعول به وهذه هي الصفة الثالثة ، ولا نفعا هي الصفة الرابعة ، ولا يملكون موتا هي الصفة الخامسة ولا حياة هي الصفة السادسة ولا نشورا هي الصفة السابعة ، والنشور هو بعث الأموات. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) كلام مستأنف مسوق للشروع في حكاية أباطيلهم وإبطالها ودحضها. والذين فاعل قال وجملة كفروا صلة وإن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وإفك خبر هذا وجملة افتراه صفة لإفك. (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) وأعانه عطف على افتراه وعليه متعلقان بأعانه ، والضمير للإفك المفترى ، وقوم فاعل وآخرون صفة

٦٦٦

قوم ، ويريدون بهم أهل الكتاب الذين أمدوه ، على زعمهم ، بأخبار الأمم الماضية والقرون البائدة ، والفاء الفصيحة وقد حرف تحقيق وجاءوا فعل وفاعل وقد تضمن معنى فعل فعدي تعديته ، وظلما مفعوله ويجوز أن يكون على بابه فيعرب ظلما منصوبا بنزع الخافض أو نصبا على الحال المؤولة أي ظالمين وزورا عطف على ظلما. (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل وأساطير الأولين خبر لمبتدأ محذوف وجملة اكتتبها حالية ويجوز اعراب أساطير الأولين مبتدأ وجملة اكتتبها خبر ، فهي الفاء عاطفة وهي مبتدأ وجملة تملى خبر ونائب الفاعل مستتر وعليه متعلقان بتملى وبكرة ظرف متعلق بتملى وأصيلا عطف على بكرة ، ومعنى تملى عليه تقرأ عليه لينتسخها بواسطة من يكتب له ، لأنه عليه السلام ، كان أميا.

(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وجملة أنزله مقول القول والذي مفعول به وجملة يعلم السر صلة الموصول وفي السموات والأرض حال وجملة إنه كان الآية تعليل لما تقدم فلا محل لها وقد تقدم إعرابها كثيرا.

البلاغة :

في قوله تعالى : «فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً» لف ونشر مرتب وقد تقدم في هذا الكتاب أن اللف والنشر فن يتضمن ذكر متعدد على التفصيل أو الإجمال ثم ذكر ما لكل واحد من المتعدد من غير تعيين ثقة بأن السامع يميز ما لكل واحد منها ويرده الى ما هو له ، وقد مثلنا لكل من قسميه بما هو كاف ، أما في هذه الآية فإن قوله تعالى : «فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً» فيه جعل الكلام المعجز إفكا مختلقا متلقفا من اليهود أو غيرهم من أهل الكتاب ، وزورا بنسبة ما هو بريء منه اليه.

٦٦٧

الفوائد :

الفعل الجامد :

الفعل الجامد هو ما أشبه الحرف من حيث أداؤه معنى مجردا عن الزمان والحدث المعتبرين في الأفعال ، فلزم مثله طريقة واحدة في التعبير فهو لا يقبل التحول من صورة الى صورة بل يلزم صورة واحدة لا يزايلها ، وذلك مثل : عسى وليس وهب بمعنى احسب وافرض ، ولم يرد من مادته بهذا المعنى إلا الأمر فهو فعل أمر جامد ، وأما «هب» المشتق من الهبة فماضيه وهب ومضارعه يهب وكذلك هب المشتق من الهيبة فإنه فعل أمر متصرف فماضيه هاب ومضارعه يهاب ، ونعم وبئس وهو إما أن يلازم صيغة الماضي مثل عسى وليس ونعم وبئس وتبارك الله ، أو صيغة المضارع مثل يهيط ومعناه يصيح ويفح ، يقال ما زال منذ اليوم يهيط هيطا وهو مضارع لا ماضي له كما في لسان العرب وتاج العروس ويقال : ما زال في هيط وميط بفتح أولهما وفي هياط ومياط بكسر أولهما أي ضجاج وشر وجلبة ، وقيل في هياط ومياط :في دنو وتباعد ، والهياط الإقبال والمياط الإدبار ، والهائط : الجائى ، والمائط : الذاهب ، والمهايطة والهياط : الصياح والجلبة ، ويقال بينهما مهايطة وممايطة ومسايطة ومشايطة أي كلام مختلف ، ومثل هب وهات وتعال وهلم في لغة تميم لأنه عندهم فعل يقبل علامته فتلحقه الضمائر ، أما في لغة الحجاز فهي اسم فعل أمر لأنها ستكون عندهم بلفظ واحد للجميع وسيأتي بحثها في حينه. ومن الأفعال الجامدة «قلّ» بصيغة الماضي للنفي المحض وإذا لحقته ما الزائدة كفته عن العمل فلا يليه حينئذ إلا فعل ولا فاعل له لجريانه مجرى حرف النفي نحو : قلما فعلت هذا وقلما أفعله أي ما فعلت ولا أفعل ومنه قول الشاعر :

٦٦٨

قلما يبرح اللبيب إلى ما

يورث المجد داعيا أو مجيبا

أي لا يزال اللبيب داعيا. وقد يليه الاسم في ضرورة الشعر كقوله :

صددت فأطولت الصدود وقلما

وصال على طول الصدود يدوم

وقد يراد بقولك قلما أفعل اثبات الفعل القليل كما في الكليات لأبي البقاء ، غير أن الكثير استعمالها للنفي الصرف ، ومثل قلما في عدم التصرف طالما وكثرما وقصرما وشدما فإن ما فيهن زائدة للتوكيد كافة لهن عن العمل فلا فاعل لهن ولا يليهن إلا فعل ، فهن كقلما. ومن الأفعال الجامدة قولهم «سقط في يده» بمعنى ندم وتحير وزل وأخطأ وهو ملازم صورة الماضي المجهول قال تعالى «وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ» وقد تقدم بحثه.

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢))

٦٦٩

الاعراب :

(وَقالُوا : ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان قبائحهم التي أرجفوا بها في شأن الرسول وهي ستة كما سيأتي. وقالوا فعل وفاعل وما اسم استفهام مبتدأ ولهذا خبره والرسول بدل من اسم الاشارة وجملة يأكل الطعام حالية وهي الفرية الاولى ، ويأكل الطعام فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة يمشي في الأسواق عطف عليها وهي الفرية الثانية وسيأتي معنى أكل الطعام والمشي في الأسواق في باب البلاغة.

(لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) لولا حرف تحضيض وأنزل فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بأنزل وملك نائب فاعل والفاء فاء السببية ويكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية لأنها جواب التحضيض واسمها مستتر تقديره هو أي الملك ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف حال ونذيرا خبر يكون أي فهما يتساندان في الإنذار والتخويف وهذه هي الفرية الثالثة. (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) أو حرف عطف ويلقى فعل مضارع مبني للمجهول وكنز نائب فاعل واليه متعلقان بيلقى ، أو تكون له جنة عطف على ما تقدم وجملة يأكل منها صفة لجنة وهذان الفعلان معطوفان على أنزل لأنه بمعنى ينزل ولا يجوز أن يعطفا على «فيكون» المنصوب في الجواب لأنهما مندرجان في التحضيض فيعطفان على جوابه ، وهاتان هما الفريتان الرابعة والخامسة. (وَقالَ الظَّالِمُونَ : إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) الواو عاطفة وقال الظالمون فعل وفاعل وإن نافية وتتبعون فعل مضارع وفاعل وإلا أداة حصر ورجلا مفعول به ومسحورا صفة وهذه هي الفرية السادسة والأخيرة.

٦٧٠

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) انظر فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت وكيف اسم استفهام في محل نصب حال ولك متعلقان بضربوا والأمثال مفعول به ، فضلوا الفاء عاطفة وضلوا فعل ماض وفاعل ، فلا الفاء عاطفة ويستطيعون سبيلا فعل مضارع وفاعل ومفعول به. (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير تساميه سبحانه وتعاليه عما يقولون. وتبارك الذي فعل وفاعل وقدر الزمخشري والجلال وغيرهما مضافا محذوفا أي خير الذي ، وان شرطية وشاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وجعل جواب الشرط والجملة الشرطية صلة الموصول ولك مفعول جعل الثاني وخيرا مفعول جعل الأول ومن ذلك متعلقان بخيرا والاشارة الى الذي اقترحوه من الكنز والبستان. (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) جنات بدل من خيرا وجملة تجري صفة لجنات ومن تحتها متعلقان بتجري والأنهار فاعل تجري ويجعل فعل مضارع معطوف على محل جعل الواقع جوابا للشرط وسيأتي بحث هام عن فعل الشرط وجوابه في باب الفوائد ولك مفعول ثان وقصورا مفعول أول. (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) بل حرف للاضراب فقد أضرب عن توبيخهم بحكاية أراجيفهم السابقة الى حكاية تكذيبهم بالساعة ، وكذبوا فعل وفاعل وبالساعة متعلقان بكذبوا وأعتدنا فعل وفاعل ولمن متعلقان بأعتدنا وجملة كذب بالساعة صلة من وسعيرا مفعول به ، والمعنى :هيأنا لهؤلاء المكذبين نارا عظيمة ، ووضع الموصول موضع الضمير ووضع الساعة موضع ضميرها للمبالغة في التوبيخ وقد مرت نظائره في أبواب البلاغة ونون سعيرا للتكثير أي نارا عظيمة كما ذكرنا. (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) هذه الجملة الشرطية في محل نصب صفة لسعيرا لأنه مؤنث بمعنى النار. وإذا ظرف مستقبل

٦٧١

متضمن معنى الشرط وجملة رأتهم في محل جر باضافة إذا إليها ومن مكان متعلقان بمحذوف حال وجملة سمعوا جواب الشرط ولها حال لأنه كان في الأصل صفة وتغيظا مفعول به وزفيرا عطف عليه وسيأتي في باب البلاغة فصل مسهب عن هذا التعبير.

البلاغة :

١ ـ كنايتان بديعتان :

في قوله تعالى «وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» كناية عن الحدث لأنه ملازم أكل الطعام ، وقد مر تقريره مفصلا في سورة المائدة فجدد به عهدا ، وفي يمشي في الأسواق كناية عن طلب المعاش ، وانظر بعد هاتين الكنايتين البديعتين إلى حكاية خطراتهم الملتاثة وهواجسهم المحمومة كيف اقترحوا أولا بأن يكون ملكا الى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك حتى يتساندا في الإنذار والتخويف ، ثم نزلوا أيضا فقالوا : وان لم يكن مرفودا بملك فليكن مرفودا بكنز يلقى اليه من السماء يستظهر به ولا يحتاج الى تحصيل المعاش ، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلا له بستان يأكل منه ويرتزق كما يرتزق المياسير ، فانظر كيف صور خطرات النفس الملتاثة وحالات ترددها.

٢ ـ وضع الظاهر موضع المضمر :

في قوله «وقال الظالمون» وضع الظاهر موضع الضمير وقد تقدمت الاشارة اليه مع أمثلته ، فقد أراد بالظالمين إياهم بأعيانهم فهم القائلون الأولون ، وإنما وضع المظهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بوصف الظلم وتجاوز الحد.

٦٧٢

٣ ـ الاستعارة : اثبات الرؤية لجهنم والتغيظ المسموع والزفير المتصاعد ، أمر شغل العلماء كثيرا ، فأما أهل السنة فيجعلون ذلك كله حقيقة ولا يحملونه على المجاز ، فإن رؤية جهنم جائزة وقدرة الله تعالى صالحة ، وقد تظاهرت الظواهر على وقوع هذا الجائز وعلى أن الله تعالى يخلق لها إدراكا حسيا وعقليا ، ألا ترى الى قوله تعالى «سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً» والى محاجتها مع الجنة والى قولها «هل من مزيد» والى اشتكائها الى ربها فأذن لها في نفسين ، الى غير ذلك من الظواهر التي لا سبيل الى تأويلها إذ لا محوج اليه ، قالوا : «ولو فتح باب التأويل والمجاز في أحوال المعاد لتطوح الذي يسلك ذلك الى وادي الضلالة» أما بصدد سمع التغيظ وهو لا يسمع فقد أجاب عنه أهل السنة بثلاثة أجوبة ندرجها فيما يلي :

آ ـ انه على حذف مضاف أي صوت تغيظها.

ب ـ انه على حذف فعل تقديره سمعوا ورأوا تغيظا وزفيرا فيرجع كل واحد الى ما يليق به أي رأوا تغيظا وسمعوا زفيرا.

ج ـ أن يضمن سمعوا معنى يشمل الشيئين أي أدركوا لها تغيظا وزفيرا.

أما بصدد قوله رأتهم فقال بعضهم انه من باب القلب أي رأوها ، أو على حذف تقديره رأتهم زبانيتها.

أما المعتزلة فهم يحملون ذلك كله على المجاز ويجعلون رؤية جهنم من باب قولهم دور بني فلان تتراءى وتتناظر فتدخل عندئذ في باب الاستعارة المكنية وقد تقدم القول فيها كثيرا.

٦٧٣

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله «إذا رأتهم من مكان بعيد» من مسيرة مائة عام ، وذلك إذا أتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام يشد بكل زمام سبعون ألف ملك لو تركت لأتت على كل بر وفاجر «سمعوا لها تغيظا وزفيرا» تزفر زفرة لا تبقى قطرة من دمع إلا ندرت ثم تزفر الثانية فتقطع القلوب من أماكنها ، تقطع اللهوات والحناجر.

٤ ـ حسن الاتباع :

هذا وقد رمق الشعراء سماء هذه التعابير البليغة مما يدخل في باب حسن الاتباع ، وهو أن يأتي المتكلم الى معنى اخترعه غيره فيحسن اتباعه فيه بحيث يستحقه ويحكم له به دون الاول ، وهذا الباب مما يخص كلام المخلوقين ومما أخذ بعضهم من بعض ولا مدخل لشيء من القرآن العزيز فيه فإن القرآن متبع لا مبتع إلا أن الشعراء حين يرمقون سماءه ويحسنون اتباعه صار كأنه داخل في سلك هذا الفن فقال الفرزدق :

يكاد يمسكه عرفان راحته

ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

فأسند أفعال من يعقل الى مالا يعقل وجرى على منواله أبو تمام فقال :

لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه

لخرّ يلثم منه موطىء القدم

وحذا البحتري حذو أبي تمام فقال :

فلو أن مشتاقا تكلف فوق ما

في وسعه لسعى إليك المنبر

٦٧٤

واتبع المتنبي البحتري في ذلك فقال :

لو تعقل الشجر التي قابلتها

مدّت محيية إليك الأغصنا

وهذا باب واسع سيأتي الكثير من أمثاله.

الفوائد :

فعل الشرط والجواب :

لا يشترط في الشرط والجواب أن يكونا من نوع واحد بل تارة :

١ ـ يكونان مضارعين نحو «وإن تعودوا نعد» ٢ ـ يكونان ماضيين نحو «وإن عدتم عدنا».

٣ ـ يكونان مختلفين ماضيا فمضارعا نحو «من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه» وانما حسن ذلك لأن الاعتماد في المعنى على خبر كان وهو مضارع فكأنه قال : من يرد نزد له.

٤ ـ يكونان عكسه مضارعا فماضيا وهو قليل ، وخصه بعضهم بالشعر وورد منه في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم «من يقم ليلة القدر احتسابا غفر له» رواه البخاري.

هذا وإذا وقع فعل الشرط ماضيا جاز في جزائه الجزم والرفع كقول زهير :

وإن أتاه خليل يوم مسغبة

يقول لا غائب مالي ولا حرم

٦٧٥

برفع يقول ، قال ابن مالك «وبعد ماض رفعك الخبر أحسن» والذي حسن ذلك أن الأداة لما لم تعمل في لفظ الشرط لكونه ماضيا مع قربه فلا تعمل في الجزاء مع بعده ولذلك قرىء «ويجعل لك قصورا» برفع يجعل عطفا على جعل وقد أراد بعضهم تخطئة شوقي في قوله :

إن رأتني تميل عني كأن لم

يك بيني وبينها أشياء

وفاتتهم القاعدة المتقدمة.

(وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦))

اللغة :

(مُقَرَّنِينَ) : من قرنه بتشديد الراء جمّعه وشدده يقال قرّنت الأسارى في الحبال وفعله الثلاثي قرن يقرن من باب ضرب يضرب قرنا الشيء بالشيء شده به ووصل اليه ، وقرن الثورين جعلهما في نير واحد ، وقرن البعيرين جمعهما في حبل ، وهي في قوله تعالى : «مقرنين» تفيد شيئين : التصفيد أي تقييد الأرجل وجمع الأيدي والأعناق بالسلاسل.

٦٧٦

(ثُبُوراً) : هلاكا يقال : ثبره الله : أهلكه هلاكا دائما لا ينتعش بعده ومن ثم يدعو أهل النار : وا ثبوراه ، وما ثبرك عن حاجتك : ما ثبطك؟ وهذا مشبر فلانة : لمكان ولادتها حيث يثبرها النفاس.

الاعراب :

(وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ألقوا مجرورة باضافة الظرف إليها وهو متعلق بالجواب وهو دعوا ، وألقوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومنها حال من مكانا لأنه في الأصل صفة له ومكانا ظرف متعلق بألقوا وضيقا صفة لمكانا ومقرنين حال من الواو في ألقوا وجملة دعوا لا محل لها لأنها جواب شرط غبر جازم والواو فاعل دعوا وهنالك اسم اشارة في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بدعوا في ذلك المكان ومعنى دعوا نادوا ، وثبورا مفعول به لدعوا ويجوز أن يكون مفعولا مطلقا أي مصدرا من معنى دعوا ، وقال الزجاج : وانتصاب ثبورا على المصدرية أي ثبرنا ثبورا ، وقيل منتصب على أنه مفعول له ، وقيل منادى أي يقولون يا ثبوراه احضر فهذا أوانك فإن الهلاك أخف عليهم مما هم فيه.

(لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) الجملة مقول قول محذوف تقديره فيقال لهم وهذا المحذوف معطوف على ما قبله.

ولا ناهية وتدعوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل تدعوا وثبورا تقدم أنها مفعول به أو مفعول مطلق وادعوا فعل أمر وثبورا تقدم إعرابها وكثيرا صفة لثبورا ، وعبر عنه بالكثرة ونفى عنه الوحدة لأنه ألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته أو لأنهم كلما نضجت

٦٧٧

جلودهم بدلوا جلودا غيرها فلا غاية ولا نهاية لهلاكهم. (قُلْ : أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) قل فعل أمر وفاعله مستتر وجوبا تقديره أنت والهمزة للاستفهام للتقريع والتهكم وسيأتي مزيد من بحث بلاغة هذه الآية ، وذلك مبتدأ وخير خبر وأم حرف عطف وجنة الخلد عطف على ذلك واسم الموصول صفة لجنة الخلد وجملة وعد المتقون جملة فعلية من فعل ونائب فاعل صله وجملة كانت لهم حالية من جنة الخلد ولهم حال لأنه كان في الأصل صفة واسم كانت مستتر تقديره هي وجزاءا خبر كانت ومصيرا عطف على جزاء.

(لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) الجملة حال ثانية من جنة الخلد ولهم خبر مقدم وفيها حال وما مبتدأ مؤخر وجملة يشاءون صلة وخالدين حال لازمة من الهاء في لهم أو الواو في يشاءون وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر يعود على الوعد المفهوم من قوله وعد المتقون أو على ما يشاءون وعلى ربك حال لأنه كان صفة لوعدا ومسئولا صفة لوعدا.

الفوائد :

معنى التفضيل :

المفهوم من اسم التفضيل أنه تفاوت بين صفتين مشتركتين ، فكيف قال : أذلك خير أم جنة الخلد ، ومعلوم أن النار لا خير فيها البتة ، وقد سبق مثل هذا السؤال ؛ والجواب ما حكاه سيبويه عن العرب :الشقاء أحب إليك أم السعادة ، وقد علم أن السعادة أحب اليه ، وقبل ليس هو من باب اسم التفضيل وإنما هو كقولك عنده خير.

ومما لا مندوحة عن التنبيه اليه هو أن قوله تعالى «لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ»

٦٧٨

ظاهره يقتضي عموم الموصول أنه إذا شاء أحد رتبة من فوقه كالأنبياء نالها فلم يبق بين الناقص والكامل تفاوت ، ويقتضي أيضا أنه إذا شاء أحدهم الشفاعة لأحد من أهل النار كابنه أو أبيه فإن شفاعته سوف تقبل وذلك يتنافى مع العلم بأن عذاب الكافر مخلد ، وقد أجاب القاضي البيضاوي على هذا الإيهام بقوله «ولعله يقصر همم كل طائفة على ما يليق برتبتها وأنه تعالى لا يلقي في خواطرهم أن ينالوا أكثر ما نالوه أو يطلبوا المزيد على ما يسبحون فيه من أمواه النعيم المترقرقة عليهم. والأحاديث مستفيضة في درجات الجنة وتفاوتها ، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ان في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩))

اللغة :

(بُوراً) : البور بضم الباء : الفاسد الذي لا خير فيه ، يقال امرأة بور وقوم بور يوصف به الواحد والجمع ، والبور من الأرض ما لم

٦٧٩

يزرع ويجوز أن يكون جمع بائر كعائذ وعوذ ، وفي الأساس واللسان والتاج : «فلان له نوره ، وعليك بوره أي هلاكه ، وقوم بور ، وأحلوا دار البوار ، ونزلت بوار على الكفار. قال أبو مكعت الأسدي :

قتلت فكان تظالما وتباغيا

إن التظالم في الصديق بوار

لو كان أول ما أتيت تهارشت

أولاد عرج عليك عند وجار

جعلها علما للضباع فاجتمع التعريف والتأنيث ، ومن المجاز :

بارت البياعات أي كسدت ، وسوق بائرة ، وبارت الأيم إذا لم يرغب فيها».

الاعراب :

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) كلام مستأنف مسوق لوصل ما ذكره في أول السورة وهو قوله «واتخذوا من دونه آلهة».

والظرف متعلق باذكر مقدرا معطوفا على قل وجملة يحشرهم بالياء والنون في محل جر بإضافة الظرف إليها والهاء مفعول به وما موصول معطوف على الهاء أو منصوب على المعية وغلب غير العاقل على العاقل فأتى بما دون «من» لأن بين المعبودين عقلاء ، وقيل إن كلمة ما موضوعة للكل أو يريد الأصنام لأنها تتكلم بلسان الحال كما قيل في شهادة الأيدي والأرجل.

وقال الزمخشري : «فإن قلت : كيف يصح استعمال ما في العقلاء؟ قلت : هو موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم بدليل قولك إذا رأيت شبحا من بعيد : ما هو فإذا قيل لك : إنسان قلت حينئذ : من هو».

وجملة يعبدون صلة ما ومن دون الله حال. (فَيَقُولُ : أَأَنْتُمْ

٦٨٠