إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٦

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٦

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٨٨

وفي المغني ان تقديم حال النكرة عليها ليس لأجل تسويغ الحال فيها بل لئلا يلتبس الحال بالصفة.

٢ ـ أن يكون صاحبها مخصوصا بوصف كقول الشاعر :

نجيت يا رب نوحا واستجبت له

في فلك ماخر في اليم مشحونا

فمشحونا حال من فلك لوصفه بماخر.

٣ ـ أن يكون صاحبها مخصوصا باضافة كقوله تعالى «فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ» فسواء حال من أربعة لاختصاصها بالاضافة الى أيام.

٤ ـ أن يكون صاحبها مخصوصا بمعمول نحو : عجبت من ضرب أخوك شديدا ، فشديدا حال من ضرب لاختصاصه بالعمل في الفاعل وهو أخوك.

٥ ـ أن يكون صاحبها مخصوصا بعطف نحو : هؤلاء أناس وعبد الله منطلقين ، فمنطلقين حال من أناس لاختصاصه بالعطف عليه وهو عبد الله.

٦ ـ أن يكون صاحبها مسبوقا بنفي كقوله تعالى «وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ» فجملة ولها كتاب معلوم حال من قرية لكونها مسبوقة بالنفي ، وقد مرّ أن الزمخشري يرد هذا القول ويجعل الجملة صفة لقرية وانما توسطت الواو بينهما لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف.

٧ ـ أن يكون صاحبها مسبوقا بنهي كقول الطرماح :

لا يركنن أحد الى الاحجام

يوم الوغى متخوفا لحمام

٢٤١

فمتخوفا حال من أحد لأنه مسبوق بالنهي.

٨ ـ أن يكون صاحبها مسبوقا باستفهام كقول أحد الطائبين :

يا صاح هل حم عيش باقيا فترى

لنفسك العذر في إبعادها الأملا

فباقيا حال من عيش لكونه مسبوقا بالاستفهام بهل ، وصاح منادى مرخم صاحب على غير قياس وحم بالحاء المهملة بمعنى قدر والإبعاد مصدر أبعد والأمل مفعوله.

هذا وقد يقع صاحب الحال نكرة بلا مسوغ كقولهم عليه مائة بيضا ، فبيضا بلفظ الجمع حال من مائة وليس تمييزا خلافا للمبرد لأن تمييز المائة لا يكون جمعا منصوبا ولا مجرورا وهو من أمثلة سيبويه ، وفي الحديث : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا ووراءه رجال قياما ، فقياما حال من رجال وهو نكرة بلا مسوغ.

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤))

٢٤٢

اللغة :

(وِزْراً) : حملا ثقيلا والمراد بها هنا العقوبة الثقيلة المرهقة الباهظة ، سماها وزرا تشبيها لها في ثقلها على من يحل به العقاب بالحمل الثقيل ينوء به الكاهل ويرزح الحامل تحت عبئه الفادح.

(زُرْقاً) : جمع أزرق وسبب اختياره لعيونهم القيامة لوجهين :

١ ـ ان الزرقة أبغض شيء من ألوان العيوب الى العرب لأن الروم كانوا أعداءهم وهم زرق العيون ومن أقوالهم في صفة العدو :«أسود الكبد ، أصهب السبال ، أزرق العين» فأصهب من الصهبة بالصاد المهملة وهي حمرة أو شقرة في الشعر ، والسبال : ما على الشارب من الشعر ومقدم اللحية والاثنان مرادان بها هنا وقال بشار في وصف البخيل :

وللبخيل على أمواله علل

زرق العيون عليها أوجه سود

وهو من أبيات ممتعة نوردها بكاملها :

ظل اليسار على العباس ممدود

وقلبه أبدا بالبخل معقود

إن الكريم ليخفي عنك عسرته

حتى تراه غنيا وهو مجهود

وللبخيل على أمواله علل

زرق العيون عليها أوجه سود

إذا تكرهت أن تعطي القليل ولم

تقدر على سعة لم يظهر الجود

أورق بخير ترجّي للنوال فما

ترجى الثمار إذا لم يورق العود

بثّ النوال ولا تمنعك قلته

فكل ما سدّ فقرا فهو محمود

٢٤٣

٢ ـ ان المراد العمى لأن حدقة من يذهب نور بصره تزرق.

(يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) أي يخفضون أصواتهم ويخفونها لما لحقهم من الرعب والهول وفي المختار : خفت الصوت سكن وبابه جلس والمخافتة والتخافت والخفت بوزن السبت : أسرار المنطق.

(أَمْثَلُهُمْ) : أفضلهم وأعدلهم رأيا أو عملا في الحياة الدنيا وجمعه أماثل ومثل ومؤنثه مثلى ، وأماثل القوم خيارهم ، والطريقة المثلى الشبهى بالحق ويقال المريض اليوم أمثل أي أحسن حالة ، وقال امرؤ القيس يصف الليل من معلقته :

وليل كموج البحر أرخى سدوله

عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لما تمطى بصلبه

وأردف إعجازا وناء بكلكل

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

الاعراب :

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) كذلك : نعت لمصدر محذوف أي كما قصصنا يا محمد هذه القصة ونقص فعل مضارع فاعله مستتر تقديره نحن وعليك متعلقان بنقص ومن أنباء صفة لموصوف محذوف هو مفعول به لنقصّ أي نقصّ نبأ من أنباء ، وما مضاف اليه وجملة قد سبق صلة ، وقد الواو عاطفة وقد حرف تحقيق وآتيناك فعل ماض وفاعل ومفعول به ومن لدنا حال لأنه كان صفة لذكرا ، وذكرا مفعول به ثان أي قرآنا. (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) من شرطية في محل رفع مبتدأ وأعرض فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر تقديره هو

٢٤٤

وعنه متعلقان بأعرض والفاء رابطة وان واسمها وجملة يحمل خبرها والفاعل مستتر تقديره هو ويوم القيامة ظرف متعلق بيحمل ووزرا مفعول وجملة من أعرض في محل نصب نعت لذكرا أي قرآنا منطويا مشتملا على هذه القصص يحمل المعرض عنها وزرا كاملا يوم القيامة.

(خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) خالدين حال وفيه متعلقان بخالدين والضمير يعود للوزر أي في العقاب المتسبب عنه ففي الكلام مجاز كما سيأتي ، وساء الواو حالية أو عاطفة وساء فعل ماض من أفعال الذم وقد تقدم كثيرا وفاعله مستتر مميز بنكرة وهو حملا والمخصوص بالذم محذوف تقديره وزرهم ، ولهم متعلقان بقول مقدر أي يقال لهم هذا الكلام ، وقيل هي كاللام في هيت لك أي لمجرد البيان فراجع سورة يوسف. ويوم القيامة ظرف متعلق بساء وحملا تمييز. (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) الظرف بدل من يوم القيامة وجملة ينفخ مضافة الى الظرف وينفخ فعل مضارع بالبناء للمجهول وفي الصور متعلقان بينفخ ، ونحشر الواو عاطفة ونحشر فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن والمجرمين مفعول به ويوم ظرف أضيف الى ظرف مثله متعلق بنحشر والتنوين في إذ عوض عن جملة وزرقا حال من المجرمين. (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) الجملة حال من المجرمين أو مستأنفة مسوقة لبيان حالهم في ذلك اليوم ويتخافتون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعل وبينهم ظرف متعلق بيتخافتون ، وإن لبثتم جملة منصوبة بقول دل عليه يتخافتون والقول نصب على الحال أي قائلين في السر ، وان نافية ولبثتم فعل وفاعل وإلا أداة حصر وعشرا ظرف زمان ذهابا الى الليالي لأن الشهور غررها الليالي فتكون الأيام داخلة تبعا وتخافتهم ناجم عن الرعب الذي داخلهم ، فكأن أيام الدنيا لم تكن شيئا مذكورا

٢٤٥

فهم يتذكرون أيام السرور التي سنحت لهم في الدنيا كيف مرت عليهم كظل الطائرة.

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) نحن مبتدأ وأعلم خبر وبما متعلقان بأعلم وجملة يقولون صلة ، وإذ ظرف متعلق بأعلم وجملة يقول مضافة الى الظرف وأمثلهم فاعل وطريقة تمييز وإن نافية ولبثتم فعل وفاعل وإلا أداة حصر ويوما ظرف متعلق بلبثتم.

البلاغة :

المجاز المرسل في قوله «خالِدِينَ فِيهِ» أي في الوزر ، والوزر لا يقام فيه ولكن أراد العقاب المتسبب عن الوزر ، فالعلاقة فيه السببية.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً

٢٤٦

(١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤))

اللغة :

(قاعاً) : القاع : أرض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والآكام والجمع أقواع وأقوع وقيع وقيعان وقيعة ، وقيل هو المنكشف من الأرض ، وقيل المستوي الصلب منها ، وقيل مالا نبات فيه ولا بناء.

(صَفْصَفاً) : الصفصف : الأرض المستوية الملساء كأن أجزاءها صف واحد من كل جهة ، وفي القاموس : المستوي من الأرض ، وقاع صفصف مستو مطمئن فهو بمثابة التأكيد للقاع لأنه بمعناه.

(أَمْتاً) : الأمت هو النتوّ اليسير ، يقال مدّ حبله حتى ما فيه أمت وقيل : الأمت هو التل وهو قريب من الأول وقيل الشقوق في الأرض وقيل الآكام وفي القاموس «أمته يأمته قدره وحزره كأمّته وقصده وأجل مأموت مؤقت والأمت المكان المرتفع والتلال الصغار والانخفاض والارتفاع والاختلاف في الشيء والجمع أمات وأموت

٢٤٧

والضعف والوهن والطريقة الحسنة والعوج والعيب في الفم وفي الثوب والحجر وأن يغلظ مكان ويرق مكان والمؤمّت المملوء والمتهم بالشر ونحوه والخمر حرمت لا أمت فيها أي لا شك في حرمتها».

(هَمْساً) : الهمس : الصوت الخفي وهو مصدر همست الكلام من باب ضرب إذا أخفيته ومنه الحروف المهموسة وقيل هو من همس الإبل وهو صوت أخفافها إذا مشت.

(وَعَنَتِ) : في المختار : عنا يعنو من باب سما يسمو سموّا فالألف محذوفة قبل تاء التأنيث لالتقاء الساكنين إذا ذل وخضع ومنه العناة جمع عان وهو الأسير.

(هَضْماً) : الهضم : النقص ، تقول العرب : هضمت لزيد من حقه أي نقصت منه ، ومنه هضيم الكشحين أي ضامرهما ، قال امرؤ القيس :

إذا قلت هاتي نوليني تمايلت

عليّ هضيم الكشح ريا المخلخل

ورجل هضيم ومهتضم أي مظلوم ، وهضمته واهتضمته وتهضمته كله بمعنى.

الاعراب :

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) الواو للاستئناف والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير تعنتهم وإصرارهم على الجدل والمكابرة والاستهزاء ، ويسألونك فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والكاف مفعول به ، فقل الفاء عاطفة وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وجملة ينسفها مقول القول والهاء مفعول به مقدم وربي

٢٤٨

فاعل مؤخر ونسفا مفعول مطلق. (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً) الفاء عاطفة ويذرها فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره هو أي الله تعالى والهاء مفعول به وقاعا لك أن تعربها حالا من الضمير المنصوب أو مفعولا به ثانيا لتضمين يذر معنى التصيير ، وصفصفا حال ثانية أو بدل من المفعول الثاني وأعربها بعضهم صفة له. (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) الجملة حال ثالثة أو حال أولى ولا نافية وترى فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت وفيها متعلقان بتري وعوجا مفعول به ولا أمتا عطف. وسيأتي مزيد من التقرير حول هذه الآية في باب البلاغة.

(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) الظرف متعلق بيتبعون أو بدل من يوم القيامة المتقدم وقد تقدم تقرير اضافة يوم الى الظرف ويتبعون الداعي فعل مضارع وفاعل ومفعول به ولا نافية للجنس وعوج اسمها مبني على الفتح وله خبرها وجملة لا عوج له حال من الداعي أو صفة لمصدر محذوف أي يتبعونه اتباعا لا عوج له ويجوز أن تكون مستأنفة والأول أظهر لأن الضمير في له يعود عليه أي لا عوج لدعائه بل يسمع جميعهم فلا يميل الى أناس دون أناس. (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) الواو عاطفة وخشعت الأصوات فعل وفاعل وللرحمن متعلقان بخشعت والفاء عاطفة ولا نافية وتسمع فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو وإلا أداة حصر وهمسا مفعول به لأن الاستثناء مفرغ. (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) الظرف متعلق بتنفع وإذ مضاف ولا نافية وتنفع الشفاعة فعل مضارع وفاعل ، وإلا أداة حصر ومن يجوز فيه أن يكون مفعولا لتنفع وعندئذ تكون من واقعة على المشفوع ويجوز أن يكون بدلا من الشفاعة على قاعدة المستثنى المنفي أو النصب على الاستثناء المتصل من الشفاعة ولا بد في هذين الوجهين من تقدير مضاف تقديره إلا شفاعة من أذن له وإذا

٢٤٩

اعتبر مستثنى منقطعا وجب نصبه فتلخص فيه أربعة أوجه متقاربة الرجحان ورجح الزمخشري الرفع على البدلية وتبعه القاضي البيضاوي.

وجملة أذن له الرحمن صلة ورضي له قولا عطف على أذن له ورجح أبو البقاء النصب على المفعولية. (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) الجملة استئنافية مسوقة لتقرير علمه تعالى ما تقدمهم من الأحوال وما يستقبلهم ، ويعلم فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو وما مفعول به وبين ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول وأيديهم مضافة لبين ، وما خلفهم عطف على ما بين أيديهم ، ولا يحيطون لك أن تجعل الواو عاطفة ولك أن تجعلها حالية ، ويحيطون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون وبه متعلقان بيحيطون وعلما مفعول به. (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) وعنت الوجوه فعل وفاعل وللحي متعلقان بعنت والقيوم صفة ، وسيأتي المراد بالوجوه في باب البلاغة والواو حالية وجملة وقد خاب حالية ومن فاعل خاب وجملة حمل ظلما صلة. (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) الواو عاطفة على وقد خاب ، ومن شرطية مبتدأ ويعمل فعل الشرط ومن الصالحات صفة لمفعول به محذوف أي ومن يعمل أعمالا من الصالحات والواو حالية وهو مبتدأ ومؤمن خبر والفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية ويخاف فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو وظلما مفعول به ولا هضما عطف على ظلما وجملة لا يخاف خبر لمبتدأ محذوف والتقدير فهو لا يخاف ، وجملة فهو لا يخاف في محل جزم جواب الشرط ، وفعل الشرط وجوابه خبر من. (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) الكاف صفة لمصدر محذوف أي مثل ذلك الانزال أنزلناه وقرآنا حال وعربيا صفة. (وَصَرَّفْنا فِيهِ

٢٥٠

مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) وصرفنا فعل وفاعل وفيه متعلقان بصرفنا ومن الوعيد صفة لمفعول محذوف أي صرفنا وعيدا من الوعيد ، ولعل واسمها وجملة يتقون خبرها وأو حرف عطف ويحدث عطف على يتقون ولهم متعلقان بيحدث وذكرا مفعول به ، وفاعل يحدث هو أي القرآن. (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) الفاء استئنافية وتعالى الله فعل ماض وفاعل والملك الحق صفتان لله ولا تعجل الواو عاطفة ولا ناهية وتعجل فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وبالقرآن متعلقان بتعجل ومن قبل متعلقان بتعجل وأن يقضى المصدر المؤول مضاف لقبل وإليك متعلقان بيقضى ويقضى فعل مضارع مبني للمجهول ووحيه نائب فاعل ، وقل عطف على لا تعجل ورب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وزدني فعل أمر والنون للوقاية والياء مفعول به أول وعلما مفعول به ثان أو تمييز.

البلاغة :

في قوله تعالى : «لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً» فن طريف يذهل العقول ، ويسكر العواطف ، ولا يكاد يدركه إلا من أودع الله فيهم سر البيان ، وارتاضوا بالمعاناة والدربة على إدراك النكت التي تعز على من رامها وتطول ، وهذا الفن سموه فن «التنكيت» وحدّه أن يخص المتكلم شيئا بالذكر دون غيره مما يسد مسده وما يقتضيه ظاهر الكلام لأجل نكتة في المذكور ترجح مجيئه على سواه ، وهو كثير في القرآن الكريم وسيرد في مواطنه ، أما في هذه الآية فقد تقدم في الكهف أن أهل اللغة فرقوا بين العوج والعوج فقالوا : العوج بالكسر في المعاني والعوج بالفتح في الأعيان ولذلك قال في الكهف «الحمد لله الذي

٢٥١

أنزل الكتاب ولم يجعل له عوجا» أما في هذه الآية فالأرض عين فكيف صح فيها المكسور العين؟ أوليس مقتضى اللغة يوجب أن يستعمل العوج بالفتح؟ وهنا يأتي هذا الفن ليسبر غور هذه النكتة التي تدق على النظرة السطحية الأولى ، ولا تقف عند التقارير اللغوية ، فنقول :إن اختيار العوج بالكسر في الآية له موضع حسن بديع في استواء الأرض ووصفها بالملاسة وانتفاء الاعوجاج عنها على أبلغ وجه ، وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة من الأرض فسويتها وبالغت في تسويتها على عينك وعلى عيون البصراء بالأراضي واتفقتم بالإجماع على انه لم يبق فيها اعوجاج قط ثم عمدت الى المهندس تستطلع رأيه لا بحسب الحدس والتخمين والنظر المجرد بل بحسب المقاييس الهندسية المبنية على العلم الدقيق لعثر فيها على عوج في غير موضع ، لا يدرك ذلك بحاسة البصر ولكن بالقياس الهندسي الذي لا يضل ولا يعزب عنه القليل النادر.

فنفى الله سبحانه ذلك العوج الذي دقّ ولطف عن الإدراك والفهم أللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة ، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الاحساس ولحق بالمعاني وسما عن الأعيان فقيل فيه عوج بالكسر.

وقد مرّ معنا وسيمر في هذا الكتاب نماذج رائعة لهذا التنكيت الذي ظهر لك في هذه الآية الكريمة مما لا يدركه إلا الحذاق الملهمون ، فلنرجئ القول فيها وسنعرض الآن على ناظريك نماذج من الشعر الجميل التي اشتملت على نكتة بارعة لتكون لك معالم صبح تحتذيها ، فمن ذلك قول الخنساء ترثي أخاها صخرا :

يذكرني طلوع الشمس صخرا

وأذكره لكل غروب شمس

٢٥٢

وقد سئل الأصمعي عن قولها هذا : لم اختصت فيه طلوع الشمس وغروبها دون أثناء النهار؟ فقال لأن طلوع الشمس وقت الركوب الى الغارات وغروب الشمس وقت قرى الضيفان.

ومنه قول الحسن بن هانئ ، أبي نواس :

ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر

ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر

فقال «وقل لي هي الخمر» وذلك لأن الحواس الأربع قد التذت حين شربها وبقيت حاسة وحدة لم تستكمل لذتها وهي حاسة السمع فقال «وقل لي هي الخمر» ليسمع ذلك فتكمل له اللذة بجميع حواسه.

ونكتفي الآن بما تقدم ولنا عودة الى هذا الفن الجميل.

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما

٢٥٣

وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣))

اللغة :

(تَضْحى) : ينتابك حر الشمس في الضحى وفي القاموس :«وضحا يضحو كغزا يغزو ضحوا برز للشمس وكسعى ورضي ضحوا وضحيا أصابته الشمس».

(وسوس) : وسوسة الشيطان كولولة الثكلى ووعوعة الذئب في أنها حكايات للأصوات ، وسنتحدث عن أسماء الأصوات وحكاياتها في باب الفوائد ، وجاء في القاموس : «وسوس وسواسا ووسوسة الشيطان له وإليه حدثه بشر أو بما لا نفع فيه ولا خير ووسوس الرجل :أصيب في عقله وتكلم بغير نظام وأصابته الوساوس فهو موسوس وتكلم بكلام خفي ، والوسواس صوت الحلي ، ووسوس الرجل كلمه كلاما خفيا ، ووسوس به بالبناء للمجهول اختلط كلامه ودهش ، والوسواس الاسم من وسوس ، والوسواس الشيطان ، والوسواس مرض يحدث من غلبة السوداء ويختلط معه الذهن ويقال لما يخطر بالقلب من شر أو لما لا خير فيه وسواس وجمعه وساوس.

٢٥٤

(سَوْآتُهُما) : عوراتهما وقد تقدمت.

(يَخْصِفانِ) : أي يلزقان من خصف النعل وهو أن يخرز عليها الخصاف أي يلزقان ورق الشجر بعضه ببعض حتى يصير عريضا صالحا للاستتار.

(اجْتَباهُ) : اصطفاه وقربه من جبى إلي كذا فاجتبيته فالمجتبى كأنه في الأصل من جمعت فيه المحاسن حتى اختاره غيره.

الاعراب :

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير مساوئ النسيان الذي هو صنو الجهل وقرينه ولذلك يجب التحوط منه والدعاء دائما بقوله تعالى «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً». واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وعهدنا فعل وفاعل والى آدم جار ومجرور متعلقان بعهدنا ومن قبل متعلقان بمحذوف حال ، فنسي عطف على عهد أي نسي ما أمرناه به أي أن النسيان أمر مركوز في طباع بني آدم ، ولم نجد : الواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم والفاعل مستتر تقديره نحن وعزما مفعول به. (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) الظرف متعلق باذكر مقدرا أي واذكر وقت ما جرى على آدم من معاداة إبليس ووسوسته له وتزيينه له الأكل من الشجرة ومبادرة آدم بالطاعة له بعد ما سلف من النصيحة البالغة والتحذير من الشيطان ومكره وأحابيله. وقد تقدم اعراب الآية كثيرا فلا حاجة الى الاعادة ، ولا تنس اختلاف العلماء في اتصال الاستثناء وانقطاعه. وجملة أبى حالية. (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) الفاء عاطفة وقلنا فعل وفاعل ويا آدم نداء وجملة إن

٢٥٥

مقول القول وهذا اسم ان وعدو خبرها ولك صفة لعدو ولزوجك عطف على لك. (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) الفاء عاطفة ولا ناهية ويخرجنكما فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا والكاف مفعول به والفاعل مستتر وهو إبليس والميم والألف للتثنية ، فتشقى الفاء فاء السببية وتشقى فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية والفاعل مستتر تقديره أنت وأسند فعل الشقاء الى آدم وحده لأن شقاء زوجه منوط بشقائه كما أن سعادتها منوطة بسعادته فاختصر الكلام مع المحافظة على الفاصلة. (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) إن حرف مشبه بالفعل ولك خبر مقدم وأن وما في حيزها اسمها المؤخر وفيها متعلقان بتجوع ولا تعرى عطف على لا تجوع. (وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) عطف على سابقتها وسيأتي كلام بديع حول فصل الجوع عن الظمأ والعري عن الضحو والسر البياني الذي تتقطع دونه الأعناق في باب البلاغة. بقيت هناك مشكلة وهي عطف أنك على أن لا تجوع فكأنها اسم لإن بالكسر وهذا ممتنع فلا يقال : إن أن زيدا منطلق ولكن لما فصل هنا بينهما جاز فتقول : إن عندي أن زيدا قائم ، فعندي هو الخبر قدم على الاسم وهو ان وما في حيزها لكونه ظرفا.

والآية من هذا القبيل ، ورأى الزمخشري رأيا آخر فقال «فإن قلت :إن لا تدخل على أن فلا يقال إن أن زيدا منطلق ، والواو نائبة عن أن وقائمة مقامها ، فلم أدخلت عليها؟ قلت : الواو لم توضع لتكون أبدا نائبة عن إن ، إنما هي نائبة عن كل عامل ، فلما لم تكن حرفا موضوعا للتحقيق خاصة كأن لم يمتنع اجتماعهما كما امتنع اجتماع إن وأن».

قال ابن هشام في صدد الحديث عن المواضع التي يجوز فيها كسر همزة إن وفتحها : السادس أن تقع بعد واو مسبوقة بمفرد صالح

٢٥٦

للعطف عليه نحو إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ، قرأ نافع وأبو بكر بالكسر في «وانك لا تظمأ» إما على الاستئناف فتكون جملة منقطعة عما قبلها أو بالعطف على جملة إن الأولى وهي إن لك أن لا تجوع وعليهما فلا محل لها من الاعراب وقرأ الباقون من السبعة بالعطف على أن لا تجوع من عطف المفرد على مثله والتقدير ان لك عدم الجوع وعدم الظمأ».

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) فوسوس الفاء عاطفة ووسوس فعل ماض واليه متعلقان بوسوس والشيطان فاعل ، قال يا آدم فعل ماض ونداء وهل حرف استفهام وأدلك فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وعلى شجرة الخلد متعلقان بأدلك وملك عطف على شجرة وجملة لا يبلى صفة لملك. (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) فأكلا فعل ماض والألف فاعل ومنها متعلقان بأكلا فبدت عطف على أكلا ولهما متعلقان ببدت وسوءاتهما فاعل ، وطفقا فعل ماض من أفعال الشروع العاملة عمل كاد في وقوع الخبر فعلا مضارعا والالف اسمها وجملة يخصفان خبر طفقا وعليهما متعلقان بيخصفان ومن ورق الجنة صفة لموصوف محذوف هو المفعول به أي ورقا من ورق الجنة قيل هو التين والأولى أن يكون عاما ليشمل جميع أوراق الأشجار ، وعصى آدم ربه فعل وفاعل ومفعول به ، فغوى عطف على عصى. (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) ثم حرف عطف واجتباه فعل ومفعول به وربه فاعل فتاب عليه عطف على اجتباه وهدى عطف على تاب. (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) اهبطا فعل أمر مبني على حذف النون والألف فاعل ومنها متعلقان

٢٥٧

باهبطا وجميعا حال وبعضكم مبتدأ ولبعض حال لأنه كان صفة لعدو وعدو خبر وجملة بعضكم لبعض عدو في محل نصب على الحال.

(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) الفاء عاطفة وإن شرطية وما زائدة ويأتينكم فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط والكاف مفعول به ومني متعلقان بيأتينكم وهدى فاعل يأتينكم ، فمن اتبع الفاء رابطة ومن شرطية مبتدأ واتبع فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وهداي مفعول به والفاء رابطة للجواب وجملة لا يضل في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من وجملة من اتبع في محل جزم جواب إن.

البلاغة :

في قوله تعالى «إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى ، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى» فن بديع يسمى قطع النظير عن النظير وذلك انه قطع الظمأ عن الجوع والضحو عن الكسوة مع ما بينهما من التناسب ، والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها ، ولو قرن كلّا بشكله لتوهم المعدودات نعمة واحدة. ويسميه بعض علماء البيان «فن التوهيم» وقد سبقت الاشارة اليه وهو أن يأتي المتكلم بكلمة يوهم ما بعدها من الكلام أن المتكلم أراد تصحيفها وهو يريد غير ذلك ، ومنها أن يأتي في ظاهر الكلام ما يوهم أن فيه لحنا خارجا عن اللسان ، ومنها ما يأتي ظاهره يوهم أن الكلام قد قلب عن وجهه لغير فائدة ، ومنها ما يأتي دالا على أن ظاهر الكلام فاسد المعنى وهو صحيح.

وهذه الآية من القسم الذي يوهم ظاهره أن نظم الكلام جاء على غير طريق البلاغة لكون لفظه غير مؤتلف بمعناه لما ترى في الألفاظ من

٢٥٨

عدم ملاءمة ، وإذا تأمله المتأمل حق التأمل وجده جاريا على منهج البلاغة بحيث لو جاء على ما توهمه المعترض لكان النظم معيبا. وفي الآية يقول المتوهم لو قيل لا تجوع ولا تظمأ ولا تضحى ولا تعرى لكان ذلك جاريا على ما توجبه البلاغة من الملاءمة والجواب ان مجيئها على ما توهمه المتوهم يفسد معنى النظم لأنه لو قيل : ان لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ لوجب أن يقول وانك لا تعرى فيها ولا تضحى ، والتضحي البروز للشمس بغير سترة. قال الهذلي وقيل للمجنون كما في أمالي القالي :

سلبت عظامي لحمها فتركتها

مجردة تضحى لديك وتخصر

أي تلقى الشمس الضاحية مجردة فينال منها حرها وتلقى برد الليل مجردة فينال منها برده فهي معذبة ليلها ونهارها وإذا كان التضحي البروز للشمس بغير سترة كان معناه التعري فيصير معنى الكلام :وانك لا تعرى فيها ولا تعرى وهذا فساد ظاهر ، ولما كان هذا الفساد لازما للنظم على الوجه الذي توهمه المتوهّم وجب العدول عنه الى لفظ القرآن وهو أن يضم سبحانه لنفي الجوع نفي العري لتطمئن النفس بسد الجوعة وستر العورة اللذين تدعو إليهما ضرورة الحياة وتطلبهما طبيعة الإنسان بالجبلّة ، ولما كان الجوع مقدّما على العطش كتقديم الأكل على الشراب أوجبت البلاغة تأخر ذكر الظمأ عن الجوع وتقديمه على التضحي لأنه مهم يجب أن يتقدم الوعد بنفيه كما تقدم الوعد بنفي الجوع ، ويتأخر ذكر التضحي كما تأخر ذكر العري عن الجوع لأن التضحي من جنس العري والظمأ من جنس الجوع فإن قيل : لم ذكر التضحي وهو عري في المعنى وقد أغنى ذكر العري؟ قلت : في ذكر التضحي فائدة كبيرة وهي وصف الجنة بأنها لا شمس فيها كما قال سبحانه :«لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» فإن التضحي عري مخصوص

٢٥٩

مشروط بالبروز الى الشمس وقت الضحى لذلك سمي تضحيا والانتقال من الأعم الى الأخص بلاغة لاختصاص الأخص بما لا يوجد في الأعم وقال العز بن عبد السلام في الأمالي : كان المناسب من طريق المجاز أن لا تجوع ولا تظمأ ولا تعرى ولا تضحى للجمع بين المتماثلين فلم عدل عن هذا؟ والجواب : ان في الآية جناسا خيرا من هذا وذلك أن الجوع تجرد الباطن من الغذاء والعري تجرد الظاهر من الغشاء فجانس في الآية بين التجردين وكذلك الظمأ حر الباطن والضحى وهو الظهور للشمس حرّ الظاهر فجانس بالجمع بين الحرّين.

وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديما وحديثا فقال أبو الطيب المتنبي :

وفقت وما في الموت شك لواقف

كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة

ووجهك وضّاح وثغرك باسم

يحكى انه لما استنشده سيف الدولة يوما قصيدته التي أولها :

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

وتأتي على قدر الكرام المكارم

فلما بلغ الى هذين البيتين قال سيف الدولة : قد انتقدتهما عليك كما انتقد على امرئ القيس قوله :

٢٦٠