إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٦

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٦

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٨٨

أن يكون صفة للنبات. (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) كلوا فعل أمر وفاعل والجملة معمولة لحال محذوفة أي قائلين أو آذنين في الانتفاع بها ، مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها وارعوا عطف على كلوا وأنعامكم مفعول به لارعوا وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبر إن المقدم ولآيات اللام المزحلقة وآيات اسم إن المؤخر ولأولي النهى صفة لآيات والنهى مضاف لأولي وهي جمع نهيه وقيل اسم مفرد. (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) منها متعلقان بخلقناكم وفيها متعلقان بنعيدكم ومنها متعلقان بنخرجكم وتارة ظرف متعلق بنخرجكم وأخرى صفة لتارة.

البلاغة :

١ ـ الإيجاز :

في قوله تعالى «ثُمَّ هَدى» إيجاز بليغ لأنه حذف جملا لا يقع عليها الحصر لأنه ليس بالمتاح إحصاء المخلوقات الحية وغير الحية ، العاقلة وغير العاقلة التي خلقها الله ولكل منها عمله الميسر له على حد قوله صلى الله عليه وسلم «كل ميسر لما خلق له» فمن العسير بل من المستحيل أن يتحدث أحد عن المرتفقات العامة وإعطاء كل مرتفق الى صاحبه المخلوق له الذي عرف كيف يرتفق بما أعطي وكيف يتوصل اليه ولهذا أحسن الزمخشري بقوله : «ولله در هذا الجواب ما أحصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الانصاف وكان طالبا للحق» ثم إن للايجاز فائدة أخرى وهي أن فرعون أراد أن يصرف موسى عليه السلام بعد أن أوشك أن يفضحه ويبطل خرافاته ، الى ما لا يعنيه من الأمور التي لا تعلق لها بالرسالة من الحكايات

٢٠١

والأساطير فأجابه موسى بأن ذلك ليس من خصائص الرسالة وانما علمه عند ربي فلما سأله عن ربه أوجز الكلام على هذا الشكل البديع.

٢ ـ الالتفات :

من الغيبة الى لفظ التكلم على الحكاية لكلام الله عز وجل والفائدة منه التنبيه على ظهور ما في الأرض من الدلالة على كمال القدرة الإلهية والحكمة التي لا تطيش وانقياد المخلوقات جميعا لمشيئته وقيل لا التفات في الكلام لأنه يشترط في الالتفات أن يكون في كلام المتكلم الواحد يصرف كلامه على وجوه شتى وما نحن فيه ليس من ذلك فإن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون : علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ثم قوله : الذي جعل لكم الأرض مهادا الى قوله فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى فإما أن يجعل من قول موسى فيكون من باب قول خواص الملك : أمرنا وعمرنا وانما يريدون الملك وليس هذا بالتفات وإما أن يكون كلام موسى قد انتهى عند قوله : ولا ينسى ثم ابتدأ الله تعالى وصف ذاته بصفات انعامه على خلقه فليس التفاتا أيضا وانما هو انتقال من حكاية الى إنشاء خطاب.

وقد يبدو هذا الرد وجيها لأول وهلة ولكن نذكر أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفات على لفظ الغيبة فقال : الذي جعل لكم الأرض مهادا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرج به أزواجا من نبات شتى فلما حكاه الله تعالى عنه أسند الضمير الى ذاته لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى فمرجع الضميرين واحد وهذا الوجه دقيق وهو أقرب الوجوه الى الالتفات.

٢٠٢

الفوائد :

حول «لا يضل ربي ولا ينسى» :

أقرب ما يقال في نفي الضلال والنسيان عن الله تعالى وهو غني عن النفي لأنه علام الغيوب أن يقال هو من باب التعريض والمعنى : ان كل كائن محيط به علمه وهو مثبت عنده في كتاب ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان كما يجوز عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل ، أي لا يضل كما تضل أنت يا مدعي الربوبية بالجهل والصلف والوقاحة.

وقال القفال : «هناك فرق بين يضل وينسى أي لا يضل عن الأشياء ومعرفتها وما علمه من ذلك لم ينسه فاللفظ الاول إشارة الى كونه عالما بكل المعلومات واللفظ الثاني دليل على بقاء ذلك العلم أبد الآباد وهو اشارة الى نفي التغير».

هذا ، واختلف في معنى لا يضل ربي ولا ينسى على أقوال :

الاول : انه ابتداء كلام تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين وقد تم الكلام عند قوله في كتاب.

الثاني : ان معنى لا يضل لا يخطئ.

الثالث : ان معناه لا يغيب.

الرابع : ان معناه لا يحتاج الى كتاب ولا يضل عنه علم شيء من الأشياء ولا ينسى ما علمه منها.

الخامس : ان هاتين الجملتين صفة لكتاب والمعنى ان الكتاب غير ذاهب عن الله ولا هو ناس له.

٢٠٣

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣))

اللغة :

(ضُحًى) : الضحى : شروق الشمس بعد طلوعها وقد سمت العرب ساعات النهار بأسماء فالأولى الذرور ثم البزوغ ثم الضحى ثم الغزالة ثم الهاجرة ثم الزوال ثم الدلوك ثم العصر ثم الأصيل ثم الصبوب ثم الحدور ثم الغروب.

ويقال فيها : البكور ثم الشروق ثم الإشراق ثم الرأد ثم الضحى ثم المتوع ثم الزوال ثم الهاجرة ثم الأصيل ثم العصر ثم الطفل ثم الغروب.

٢٠٤

(فَيُسْحِتَكُمْ) : يهلككم من أسحت الرباعي وهي لغة نجد وتميم أي أهلك ويقال سحت وهي لغة الحجاز وأصل هذه المادة تدل على الاستقصاء والنفاد ومنه سحت الحالق الشعر أي استقصاه فلم يترك منه شيئا ويستعمل في الإهلاك والإذهاب وفي القاموس «سحت يسحت من باب فتح وسحّت بالتشديد اكتسب السحت أي المال الحرام وسحته أهلكه واستأصله وذبحه وسحت الشحم عن اللحم قشره وسحت وجه الأرض محاه وأسحت : أفسده وأهلكه واستأصله».

الاعراب :

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى) اللام جواب لقسم محذوف وقد حرف تحقيق وأريناه فعل ماض من رأى البصرية ولكنها تعدت الى اثنين لدخول همزة النقل عليها ونا ضمير متصل في محل رفع فاعل والهاء مفعول به أول وآياتنا مفعول به ثان وكلها تأكيد لآياتنا فكذب وأبى عطف على أريناه وقد مرت آيات موسى التسع ثم الآيتان الأخيرتان وهما العصا ونزع اليد. (قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو أي فرعون وجملة أجئتنا مقول القول والهمزة للاستفهام الانكاري وجئتنا فعل وفاعل ومفعول به ولتخرجنا اللام للتعليل وتخرج فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ونا مفعول به ومن أرضنا متعلقان بتخرجنا وبسحرك متعلقان بتخرجنا. (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) الفاء الفصيحة واللام جواب قسم محذوف تقديره والله لنأتينك وبسحر متعلقان بنأتينك ومثله صفة لسحر ويجوز أن يتعلق بسحر بمحذوف حال أي متلبسين بسحر مثله في الغرابة يعارضه ويدحضه ، فاجعل الفاء عاطفة واجعل فعل أمر

٢٠٥

وفاعله أنت وبيننا ظرف متعلق بمحذوف مفعول به ثان وبينك عطف وموعدا مصدر ميمي مفعول به أول وجملة لا نخلفه صفة لموعدا ونحن تأكيد للضمير في نخلفه والواو عاطفة ولا نافية وأنت عطف على الضمير في نخلفه ومكانا بدل من موعدا بتقدير مضاف أي مكان موعد أو تعرب مكانا منصوبا بنزع الخافض أي في مكان أو تنصبه بالمصدر وهو موعد وسوى صفة أي وسطا وهو بضم الواو وكسرها وهذا وجه من أعاريب أخرى ستأتي في باب الفوائد. (قالَ : مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) موعدكم مبتدأ ويوم الزينة خبر وان وما بعدها عطف على يوم الزينة إما على اليوم فيكون محل المصدر الرفع وإما على الزينة فيكون محله الجر والناس نائب فاعل وضحى ظرف متعلق بيحشر وسيأتي بحث يوم الزينة والعلة في اختياره. (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) الفاء عاطفة وتولى فعل ماض وفرعون فاعل فجمع عطف على فتولى وكيده مفعول به على حذف مضاف أي ذوي كيده وهم السحرة ثم حرف عطف وأتى عطف على جمع وعبر بثم للدلالة على انه استغرق وقتا في جمع السحرة ورسم الخطط. (قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) قال فعل ماض ولهم متعلقان به وموسى فاعل وويلكم مصدر للدعاء أمات العرب فعله فهو منصوب بفعل محذوف ولا ناهية وتفتروا فعل مضارع مجزوم بلا وعلى الله متعلقان بتفتروا وكذبا مفعول به.

(فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) الفاء فاء السببية ويسحتكم مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية المسبوقة بالنهي وبعذاب متعلقان بيسحتكم وقد الواو حالية وقد حرف تحقيق وخاب فعل ماض ومن فاعل وجملة افترى صلة. (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) الفاء عاطفة وتنازعوا فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة والواو فاعل وأمرهم مفعول به أو منصوب بنزع الخافض وبينهم ظرف

٢٠٦

متعلق بمحذوف حال وأسروا عطف على تنازعوا والنجوى مفعول به أي أخفوها أي انهم تشاوروا في السر. (قالُوا : إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) إن مخففة من الثقيلة ومهملة وهذان اسم اشارة للمثنى في محل رفع مبتدأ واللام الفارقة وساحران خبر هذان وجملة يريدان صفة لساحران وان وما في حيزها مفعول يريدان ومن أرضكم متعلقان بيخرجاكم بسحرهما حال أي متلبسين بسحرهما ويذهبا عطف على يخرجاكم وبطريقتكم متعلقان بيذهبا والمثلى صفة لطريقتكم.

البلاغة :

في قوله «لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى» فن رد العجز على الصدر وسماه المتأخرون التصدير وهو أخف على السمع وأليق بالمقام وقد تقدم البحث فيه ونضيف هنا أن ابن المعتز فسمه ثلاثة أقسام : الأول ما وافق آخر كلمة في المصراع الأول آخر كلمة في المصراع الثاني أو كانت مجانسة لها كقول بعضهم :

يلقى إذا ما كان يوم عرمرم

في جيش رأي لا يفل عرمرم

والقسم الثاني ما وافق آخر كلمة في البيت أول كلمة منه كقول الآخر :

سريع الى ابن العم يلطم وجهه

وليس الى داعي الندى بسريع

والقسم الثالث ما وافق آخر كلمة في البيت بعض كلمة في الصدر منه كقوله :

٢٠٧

سقى الرمل صوب مستهل غمامه

وما ذاك إلا حب من حل بالرمل

وقال الشيخ زكي الدين بن أبي الإصبع : «والذي يحسن أن يسمى القسم الأول تصدير التقفيه والثاني تصدير

الطرفين والثالث تصدير الحشو». والامثلة على ذلك كثيرة.

الفوائد :

كثر اختلاف المعربين في قوله تعالى «فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً» والحق انه من معضلات التراكيب وقد اخترنا في الاعراب أمثل الوجوه وأقربها الى المنطق وأدناها الى السهولة ، بقيت هناك أمور لا بد من إيضاحها :

موعدا : اختلف فيه على الأوجه التالية :

آ ـ اسم زمان ويرجحه قوله «قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ» والمعنى عيّن لنا وقت اجتماع ولذلك أجابهم بقوله : «موعدكم يوم الزينة».

ب ـ اسم مكان ويرجحه قوله «مَكاناً سُوىً» والمعنى بيّن لنا مكانا معلوما نعرفه نحن وأنت فتأتيه.

ج ـ مصدر ميمي بمعنى الوعد ويقدر مضاف محذوف أي مكان وعد ويؤيد هذا قوله «لا نخلفه نحن ولا أنت» لأن المواعدة توصف بالخلف وعدمه وهذا ما اخترناه.

فإن جعلته زمانا لزمك شيئان : أن تجعل الزمان مخلفا وأن يفضل عليك ناصب مكانا وان جعلته مكانا لزمك أيضا أن توقع

٢٠٨

الأخلاف على المكان وأن لا يطابق قوله موعدكم يوم الزينة فبقى أن يجعل مصدرا بمعنى الوعد ويقدر مضاف محذوف أي مكان موعد ويجعل الضمير في نخلفه للموعد ومكانا بدل من المكان المحذوف.

وجوز أبو علي الفارسي وأبو البقاء أن ينتصب مكانا على المفعول الثاني لا جعل قالا وموعدا على هذا مكان أيضا ولا ينتصب بموعدا لأنه مصدر قد وصف يعني أنه يصح مفعولا ثانيا ولكن بشرط أن يكون الموعد بمعنى المكان ليطابق الخبر.

وجعل الحوفي انتصاب مكانا على الظرف وانتصابه باجعل فتحصل في نصب مكانا خمسة أوجه :

١ ـ أنه بدل من مكانا المحذوف.

٢ ـ انه مفعول ثان للجعل.

٣ ـ انه نصب بإضمار فعل.

٤ ـ انه منصوب بنفس المصدر.

٥ ـ انه منصوب على الظرف بنفس اجعل.

وانما أوردنا هذه الأقوال لأنها قريبة ولأن استيعابها مفيد للغاية فتدبر.

(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ

٢٠٩

أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠))

اللغة :

(فَأَجْمِعُوا) : أي ازمعوا كيدكم واجعلوه مجمعا عليه حتى لا تختلفوا كالمسألة المجمع عليها ويقال : اجمعوا الأمر واجمعوا عليه ، وفلانة بجمع أي عذراء وضربه بجمع كفه واستجمع لفلان أمره واستجمع السيل واستجمع الفرس جريا قال يصف السراب :

ومستجمع جريا وليس ببارح

تباريه في ضاحي المتان سواعده

أي مجاريه واستجمع الوادي إذا لم يبق منه موضع إلا سال وعن بعض العرب : الرّمة وفلج لا يستجمعان إنما يسيلان في نواحيهما وأضواحهما ، واستجمع القوم ذهبوا كلهم وجمعوا لبني فلان إذا حشدوا لقتالهم «إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ» وأجمعت القدر غليا قال امرؤ القيس :

ونحشّ تحت القدر نوقدها

بغضا الغريف فأجمعت تغلي

٢١٠

ومن الكناية : فلانة قد جمعت الثياب أي كبرت لأنها تلبس الدرع والخمار والملحفة.

(فَأَوْجَسَ) : الإيجاس : الإضمار وايجاس الخوف إضمار شيء منه وكذلك توجس الصوت تسمع نبأة يسيرة منه وكان ذلك لطبع الجبلة البشرية.

(تَلْقَفْ) : تبتلع وأصله التناول بسرعة قال في القاموس : لقف يلقف من باب تعب لقفا والتقف الشيء تناوله بسرعة.

الاعراب :

(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) الفاء الفصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين إلخ فأجمعوا كيدكم واجعلوه مجمعا بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم وأجمعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وكيدكم مفعول به إذا اعتبرت أجمعوا متعدية وبعضهم لم يعتبرها متعدية فيكون كيدكم منصوبا بنزع الخافض ثم ائتوا عطف على أجمعوا وصفا حال وانما أمرهم بذلك لإدخال الرهبة في صدور الرائين ، وقال أبو عبيدة : الصف موضع المجمع ويسمى المصلى الصف قال الزجاج : وعلى هذا معناه ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم يقال أتيت الصف بمعنى أتيت المصلى فعلى هذا يكون انتصابه على المفعولية.

وقد الواو اعتراضية وقد حرف تحقيق وأفلح فعل ماض واليوم ظرف متعلق بأفلح ومن فاعل أفلح وجملة استعلى صلة. (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) إما حرف شرط وتفصيل ومعناها هنا التخيير ولا يكون إلا بعد الطلب ، وأن وما بعدها في

٢١١

تأويل مصدر منصوب بفعل محذوف تقديره اختر أحد الأمرين أو مرفوع بأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر القاؤك أو مبتدأ والخبر محذوف والتقدير إلقاؤك أول وإما أن تكون عطف على ما تقدم واسم نكون مضمر تقديره نحن وأول خبرها ومن مضاف اليه وجملة ألقى صلة. ويجوز أن تكون ان وما في حيزها في محل نصب بفعل مضمر أي اختر إلقاءك أولا أو القاءنا. (قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) بل حرف إضراب وعطف وألقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل فإذا الفاء عاطفة على محذوف تقديره فألقوا فإذا وإذا هذه للمفاجأة وقد تقدم أنها حرف أو ظرف ثم اختلف أهو ظرف مكان أو زمان وسننقل قول الزمخشري فهو غاية الغايات قال :«والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلا مخصوصا وهو فعل المفاجأة والجملة ابتدائية لا غير فتقدير قوله تعالى «فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ» ففاجأ موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم وهذا تمثيل والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي».

وحبالهم مبتدأ وعصيهم عطف عليه وجملة يخيل اليه خبر حبالهم وإذا جعلت إذا خبرا فتكون جملة يخيل إليه حال ومن سحرهم متعلقان بيخيل وأنها وأن واسمها وجملة تسعى خبر أن وأن وما بعدها في تأويل مصدر نائب فاعل ليخيل أي يخيل إليه سعيها وجعل الزمخشري المصدر بدل اشتمال من الضمير في حبالهم وعصيهم. (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) الفاء عاطفة وأوجس فعل ماض ، وفي نفسه متعلقان بأوجس

٢١٢

وخيفة مفعول به وموسى فاعل. (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) قلنا فعل وفاعل وجملة لا تخف مقول القول ولا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره أنت وجملة انك مستأنفة كتعليل للنهي عن الخوف الذي ساوره لطبع البشرية من ضعف القلب وان كان متيقنا من أن الله ناصره وأنهم لن يصلوا اليه بسوء وإن واسمها وأنت تأكيد أو ضمير فصل أو مبتدأ والأعلى خبر إن أو خبر أنت والجملة خبر إن وسيأتي الكلام على المبالغة في هذا التعبير في باب البلاغة. (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) وألق الواو عاطفة وألق فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت وما مفعول به وفي يمينك متعلقان بمحذوف صلة ما وسيأتي سر هذا الإبهام في باب البلاغة وتلقف جواب الطلب مجزوم وعلامة جزمه السكون وفاعل تلقف ضمير مستتر تقديره هي وما مفعول به وجملة صنعوا صلة أي ما زوّروه وكذبوا فيه. (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) تعليل لقوله تلقف وإن واسمها وجملة صنعوا صلة وكيد ساحر خبر إن ، وقد درج المصحف على كتابة ما متصلة بان ، ويجوز أن تكون ما مصدرية والاعراب واحد ولا الواو حالية أو عاطفة ولا نافية ويفلح الساحر فعل مضارع وفاعل وحيث ظرف مكان مبني على الضم متعلق بيفلح وجملة أتى مضافة الى الظرف.

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا : آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) الفاء عاطفة على جملة محذوفة تقديرها فألقى موسى عصاه فتلقفت كل ما صنعوه فألقي السحرة فعل ماض مبني للمجهول والسحرة نائب فاعل وسجدا حال من السحرة قالوا فعل وفاعل وجملة آمنا مقول القول وهو فعل وفاعل وبرب هارون وموسى متعلقان بآمنا.

٢١٣

البلاغة :

في هذه الآيات فنون من البيان تذهل العقول ، فأولها :

١ ـ فن الاستدراج

وقد تقدم القول فيه وهو بالاضافة الى ما فيه من البلاغة ينطوي على نكت دقيقة في استدراج الخصم واضطراره الى الإذعان والتسليم فقد شاء السحرة في بادئ الأمر استدراج موسى ثقة منهم بأنهم فائزون عليه وكأنما ألهمهم الله حسن الأدب مع موسى في تخييره وإعطائه النصفة من أنفسهم عند ما قالوا «فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً» ففوضوا ضرب الموعد اليه ولكن موسى استدرجهم بإلهام من الله عز وجل أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم ليكون الحق أبلج على رؤوس الأشهاد فيكون أفضح لكيدهم وأهتك لسترهم ولما استدرجوه الى التخيير في الإلقاء أيكون هو البادئ أم يكونون هم البادئين استدرجهم هو إلى أن يجعلهم مبتدئين بما معهم ليكون القاؤه العصا بعد قذفا بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق فما أروع هذا الكلام.

٢ ـ فن توكيد الضميرين ،

وقد تتساءل وما علاقة البحث النحوي بالبلاغة؟ والضمائر وتوكيد بعضها لبعض مذكورة في كتب النحو ونقول ان المسألة أجلّ وأسمى من النحو ، والنحاة بمعزل عن هذا الفن الرفيع ونعني بتوكيد الضميرين أن يؤكد المتصل بالمنفصل كقولك إنك أنت أو يؤكد المنفصل بمنفصل مثله كقولك أنت أنت أو يؤكد المتصل بمتصل مثله كقولك إنك إنك لعالم وانما يؤتى بمثل ذلك في معرض المبالغة وهو من أسرار علم البيان ومن ذلك قوله تعالى «قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ» فإن إرادة السحرة

٢١٤

الإلقاء قبل موسى لم تكن معلومة عنده لأنهم لم يصرحوا بما في أنفسهم من ذلك لكنهم لما عدلوا عن مقابلة خطابهم موسى بمثله الى توكيد ما هو لهم بالضميرين اللذين هما نكون ونحن دلّ ذلك على أنهم يريدون التقدم عليه والإلقاء قبله لأن من شأن مقابلة خطابهم موسى بمثله إن كان قالوا : إما أن تلقي وإما أن نلقي لتكون الجملتان متقابلتين فحيث قالوا عن أنفسهم «وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ» استدل بهذا القول على رغبتهم في الإلقاء قبله ومنه أيضا قوله تعالى «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى» فتوكيد الضميرين هاهنا في قوله إنك أنت الأعلى أنفى للخوف من قلب موسى وأثبت للغلبة والقهر ولو قال : لا تخف إنك الأعلى أنت الأعلى لم يكن له من التقرير والإثبات لنفي الخوف ما لقوله «إنك أنت الأعلى» وفي هذه الكلمات الثلاث ست فوائد :

١ ـ «إن» المشددة التي من شأنها الإثبات لما يأتي بعدها وتأكيده وقد نص علماء المعاني على أن الخبر يكون مع إن طلبيا أو إنكاريا لا ابتدائيا كقولك زيد قائم ثم تقول : إن زيدا قائم ففي قولك إن زيدا قائم من الإثبات لقيام زيد ما ليس في قولك زيد قائم.

٢ ـ تكرير الضمير في قوله «إنك أنت» ولو اقتصر على أحد الضميرين لما كان بهذه المثابة في التقرير لغلبة موسى والإثبات لقهره.

٣ ـ لام التعريف في قوله «الأعلى» ولم يقل أعلى أو عال لأنه لو قال ذلك لكان قد نكره وكان صالحا لكل واحد من جنسه كقولك رجل فإنه يصلح أن يقع على كل واحد من الرجال وإذا قلت الرجل فقد خصصته من بين الرجال بالتعريف وجعلته علما فيهم وكذلك جاء قوله «إنك أنت الأعلى» أي دون غيرك.

٢١٥

٤ ـ لفظ أفعل الذي من شأنه التفضيل ولم يقل العالي فهو أعلى من كل عال.

٥ ـ لفظ العلو الدال على أن الغلبة ثابتة له من جهة العلو ومعلوم أن الغرض من قوله «الأعلى» الغلبة إلا أن في الأعلى زيادة وهي كونها صادرة عن مكان عال.

٦ ـ الاستئناف وهو قوله تعالى : «لا تخف إنك أنت الأعلى» ولم يقل لأنك أنت الأعلى فكان ذلك أبلغ في إيقان موسى عليه السلام بالغلبة والاستعلاء وأثبت ذلك في قرارة نفسه بما لا يدع أي مجال للشك.

هذا وقد تقدم نوع من هذا الفن وسيرد غيره في حينه ومواضعه ان شاء الله ، بقي أن تتحدث عن اختيار موسى يوم الزينة فما هو هذا اليوم؟

يوم الزينة :

قيل فيه يوم عاشوراء ، ويوم النيروز ، ويوم عيد كان لهم في كل عام وكانوا يتخذون فيه سوقا ويتزينون ويظهرون فيه كل بهارجهم إذ يحشر فيه الناس منذ ضحوة النهار حتى المساء.

٣ ـ فن الإبهام :

وذلك في قوله «ما في يمينك» فقد أبهمها لأمرين متضادين أولهما استصغار أمرها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي بيدك فانه بقدرة الله تعالى يتلقفها على وحدته

٢١٦

وكثرتها وصغره وعظمها ، وثانيهما تعظيم أمرها أي لا تعبأ بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة فإن في يمينك شيئا هو أعظم منها كلها فألقها تمحقها وتطح بها بإذن الله ، وقد يقول قائل كيف يحتقر العصا؟ والجواب ان المقصود بتحقيرها في جنب القدرة الإلهية تحقير كيد السحرة بطريق الأولى لأنها إذا كانت وهي الحقيرة الضئيلة التي لا يؤبه بها بالنسبة للقدرة الإلهية قد طاحت بما أتوا به من أضاليل مموّهة وأكاذيب مخترعة فما ظنك بكيدهم وأقل شيء يذهب به وهذا معنى دقيق قل من يتفطن له ، وقد رمق سماءه شاعر الخلود أبو الطيب المتنبي فقال من قصيدة يمدح بها بدر بن عمار ويذكر الأسد وقد أعجله فضربه بسوطه :

أمعفر الليث الهزبر بسوطه

لمن ادّخرت الصارم المصقولا؟

والمعنى إذا كنت تلقى هذا الأسد وهو أقوى الحيوانات وأشجعها بسوطك فلمن خبأت صارمك المصقول؟ولأصحاب البلاغة أيضا طريق في علو المدح بتعظيم جيش عدو الممدوح ليلزم من ذلك تعظيم جيش الممدوح وقد قهره واستولى عليه وقد رمق سماءه أبو الطيب إذ وصف جيش الروم الذي لاقاه سيف الدولة فبالغ في تعظيم أمره وتصوير عدده البالغة والغاية هي أن يتناهى في تعظيم أمر سيف الدولة وجيشه فقال في وصف جيش الروم :

أتوك يجرون الحديد كأنهم

سروا بجياد ما لهن قوائم

إذا برقوا لم تعرف البيض منهم

ثيابهم من مثلها والعمائم

٢١٧

جعل الروم يبرقون لكثرة ما عليهم من الحديد ولم يفرق بين سيوفهم وبينهم لأن على رءوسهم البيض والمغافر وثيابهم الدروع فهم كالسيوف وأشار بهذا الوصف الى كثرة سلاح هذا الجيش تمهيدا للاشارة الى قوته :

خميس بشرق الأرض والغرب زحفه

وفي أذن الجوزاء منه زمازم

تجمع فيه كل لسن وأمة

فما تفهم الحداث إلا التراجم

فلله وقت ذوب الغشّ ناره

فلم يبق إلا صارم أو ضبارم

وستأتي تتمة هذا الوصف البديع في موطن آخر من مواطن البلاغة التي رمق أبو الطيب سماء القرآن فيها.

نكتة أخرى في الإبهام :

وهناك نكتة أخرى سوى قصد التعظيم والتحقير وهي أن موسى عليه السلام أول ما علم أن العصا آية من الله تعالى عند ما سأله :وما تلك بيمينك يا موسى ثم أظهر له تعالى آيتها فلما دخل وقت الحاجة الى ظهور الآية منها قال تعالى : وألق ما في يمينك ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ» وقد أظهر له آيتها فيكون ذلك تنبيها له وتأنيسا حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت

٢١٨

ظهور آيتها وذلك مقام يناسب التأنيس والتثبيت في موقف يزايل الوقار أشد النفوس قوة ورباطة.

٤ ـ فن التكرير :

وقد تقدم كثيرا بحثه والاشارة اليه وذكر نماذج رائعة منه وسيأتي المزيد والأكثر وهنا في هذه الآيات تكرر لفظ الإلقاء ولكنه تكرر لم يطرد على وتيرة واحدة وانما هو لفظ واحد في معنيين متضادين متناقضين نقل بهما سبحانه عباده من غاية الكفر والعناد ، الى نهاية الايمان والسداد فما أعظم الفرق بين الإلقاءين : لقد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود. ثم ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر والسجود.

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ

٢١٩

عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦))

الاعراب :

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) جملة آمنتم مقول القول والقائل هو فرعون وآمنتم الهمزة للاستفهام والتقريع والتوبيخ حذفت الهمزة الأولى وسهلت الثانية وهو فعل ماض وفاعل وله متعلقان بآمنتم وقبل ظرف متعلق بآمنتم أيضا وأن آذن لكم المصدر المؤول مضاف لقبل. (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) ان واسمها واللام المزحلقة وكبيركم خبرها والذي صفة وجملة علمكم السحر صلة والسحر مفعول به ثان لعلمكم ، أي أن موسى لكبيركم أي معلمكم وأستاذكم وأعلاكم درجة في صناعة السحر ، قال الكسائي : الصبي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال : جئت من عند كبيري ، وقال الواحدي : والكبير في اللغة الرئيس ولهذا يقال للمعلم الكبير ، وأراد فرعون من ذلك إلقاء الشبهة على الناس وإدخالها في صدورهم ليستريبوا ولا يؤمنوا وإلا فقد علم أنهم لم يتعلموا من موسى ولا كان رئيسا لهم ولا صلة بينه وبينهم. (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) الفاء الفصيحة واللام موطئة للقسم وأقطعن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره أنا وأيديكم مفعول به وأرجلكم عطف على أيديكم ومن خلاف حال بمعنى مختلفة ومن ابتدائية كأن القطع ابتدئ من مخالفة العضو للعضو. (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) الواو حرف عطف ولأصلبنكم عطف على لأقطعن

٢٢٠