إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٦

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٦

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٨٨

في وقت كونه في المهد فكأنه قال : أكبروا تكليم صبي كائن في المهد طفلا فيكون الكون من لفظ المخبر لا من لفظهم كقول الحطيئة يصف الرياض :

يظل بها الشيخ الذي كان فانيا

يدب على عوج له نخرات

فلم يك فانيا قبل دبيبه بل وقت دبيبه فذكر الكون من لفظ المخبر».

قلت :

قلت : وهذا كله دندنة في غير طائل والأجود ما اخترناه واختاره الزمخشري ويأتي في المرتبة بعده أن تكون زائدة أما تقديرها تامة فبعيد جدا لأن عيسى لم يخلق ابتداء في المهد.

٦ ـ بغيا :

أصله بغويا اجتمعت فيه الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ثم أدغم الياء في الياء وإلا لو كان فعيلا بمعنى فاعل لحقته التاء وقال البيضاوي : «وهو فعول من البغي قلبت واوه وأدغمت ثم كسرت العين اتباعا ولذلك لم تلحقه التاء أو فعيل بمعنى فاعل لم تلحقه التاء لأنه للمبالغة أو للنسب كطالق» وقال بعضهم : البغي خاص بالمؤنث فلا يقال رجل بغي انما يقال امرأة بغي لكن نقل بعضهم عن المصباح انه يقال رجل بغي كما يقال امرأة بغي.

١٠١

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠))

الاعراب :

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) ذلك اسم اشارة مبتدأ وعيسى خبره وابن مريم بدل وقول الحق مفعول مطلق لفعل محذوف أي قلت ، أو مصدر مؤكد لمضمون الجملة كقولك هو عبد الله حقا واختار الزمخشري أن يكون منصوبا على المدح بفعل محذوف تقديره امدح ، هذا وقد فرق أبو حيان بين الاعرابين فقال : «وانتصاب قول على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة أي هذه الأخبار عن عيسى بن مريم ثابت صدق ليس منسوبا لغيرها أي انها ولدته من غير مس بشر كما تقول هذا عبد الله الحق لا الباطل أي أقول الحق وأقول قول الحق فيكون الحق هو الصدق وهو من إضافة

١٠٢

الموصوف الى الصفة» ، والذي نعت للقول إن أريد به عيسى وسمي قولا كما سمي كلمة لأنه عنها نشأ أو صفة للحق نفسه وفيه متعلقان بيمترون وجملة يمترون صلة الموصول. (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ) ما نافية وكان فعل ماض ناقص ولله خبرها المقدم وأن يتخذ مصدر مؤول اسم كان ومن زائدة وولد مجرور بمن لفظا مفعول به منصوب محلا وسبحانه مفعول مطلق لفعل محذوف. (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) تقدم اعراب أمثالها كثيرا ونعيد اعراب فيكون الفاء استئنافية ويكون مرفوع أي فهو يكون وكان هنا تامة وقرئ بنصب فيكون بأن مضمرة بعد فاء السببية الواقعة بعد الطلب.

(وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة ولذلك كسرت همزة إن وقرئ بفتحها بحذف حرف الجر وان واسمها وربي خبرها وربكم عطف على ربي فاعبدوه الفاء الفصيحة وقد تقدم بحثها واعبدوه فعل أمر وفاعل ومفعول به وهذا مبتدأ وصراط خبر ومستقيم صفة لصراط والجملة حالية وسمي القول صراطا مستقيما تشبيها له بالطريق الآيل للنجاة. (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) الفاء استئنافية واختلف الأحزاب فعل وفاعل ومن بينهم حال من الأحزاب والمعنى حال كون الأحزاب بعضهم وتفصيل اختلافهم وأنواع فرقهم يرجع إليها في الملل والنحل للشهرستاني وفي الفصل بين الملل والنحل لابن حزم الاندلسي وفي المطولات. (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) الفاء عاطفة وويل مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة لتضمنها معنى الدعاء وللذين خبر ويل وجملة كفروا صلة ومن مشهد متعلقان بويل ومشهد مصدر ميمي أي من شهودهم بمعنى حضورهم ويجوز أن يكون اسم زمان أو مكان. (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أسمع فعل ماض أتى على صيغة الأمر أو مبني على

١٠٣

الفتح المقدر على الآخر الساكن والباء حرف جر زيدت في الفاعل الذي أتى ضمير نصب أو جر لمناسبة الباء وقد تقدم بحث التعجب مفصلا والتعجب هنا مصروف الى المخاطبين ، لكن مخففة مهملة والظالمون مبتدأ وفي ضلال خبر ومبين صفة وأوقع الظاهر موقع المضمر اشعارا بأن ظلمهم بلغ الغاية وأربى على النهاية ويوم يأتوننا متعلق بأسمع وأبصر. (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أنذرهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول ويوم الحسرة ظرف متعلق بأنذرهم والأحسن أن يكون مفعولا به أي خوّفهم نفس اليوم وإذ متعلق بالحسرة والمصدر المعرف بأل يعمل في المفعول الصريح فكيف بالظرف ويجوز أن يكون بدلا من يوم الحسرة فيكون معمولا لأنذر وبذلك يتأكد أن يوم الحسرة مفعول به لا ظرف ، وهم الواو حالية وهم مبتدأ وفي غفلة خبر وهم لا يؤمنون جملة حالية منتظمة مع سابقتها والحالان إما من الضمير المستتر في قوله في ضلال مبين أي استقروا في ضلال مبين على هاتين الحالين السيئتين فتكون جملة وأنذرهم اعتراضا واما من المفعول في أنذرهم على هاتين الحالين السيئتين ، (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) إن واسمها ونحن تأكيد لاسم نا الذي هو بمعنى نحن لأنه بمعناه وجملة نرث الأرض خبر إنا ومن عطف على الأرض وعليها متعلقان بمحذوف صلة من وإلينا متعلقان بيرجعون ويرجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل ولك في الواو بقوله وإلينا أن تجعلها حالية أو عاطفة.

البلاغة :

المجاز المرسل في قوله «لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» والعلاقة الحالية والمراد جهنم فأطلق الحال وأريد المحل لأن الضلال لا يحل فيه

١٠٤

وإنما يحل في مكانه وكذلك قوله : وهم في غفلة والغفلة لا يحل فيها أيضا وإنما يحل بالمتالف التي توقع الغفلة أصحابها فيها.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠))

١٠٥

اللغة :

(الصِّدِّيقُ) : من أبنية المبالغة ونظيره الضحيّك والنّطّيق والمراد أنه بليغ الصدق في أقواله وأفعاله وفي تصديق غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله.

(مَلِيًّا) : دهرا طويلا.

(حَفِيًّا) :

في المختار : «وحفي به بالكسر حفاوة بفتح الحاء فهو حفي أي بالغ في إكرامه وإلطافه والعناية بأمره ، والحفي أيضا المستقصي في السؤال ومن الأول قوله تعالى : «إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا» ومن الثاني قوله تعالى : «كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها».

الاعراب :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) الواو استئنافية واذكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وفي الكتاب متعلقان باذكر وابراهيم مفعول به وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وصديقا خبر كان الأول ونبيا خبرها الثاني. (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) إذ اختلف المعربون فيها فعلقها الزمخشري وأبو البقاء وغيرهما بكان أو بصديقا نبيا أي كان جامعا لخصائص النبيين والصديقين حين خاطب أباه تلك المخاطبات وهذا مبني على عمل كان الناقصة وأخواتها في الظرف غير خبرها واسمها وفيه خلاف وأعربها الزمخشري وأبو البقاء وغيرهما أيضا بدلا من ابراهيم بناء على حذف مضاف أي نبأ ابراهيم فتكون جملة إنه كان صديقا نبيا معترضة وفيه أيضا انه مبني على تصرف إذ

١٠٦

وقد تقدم بحثها والقول بأنها لا تتصرف وجملة قال مضافة إليها الظرف ولأبيه متعلقان بقال ويا حرف نداء وأبت منادى مضاف لياء المتكلم المعوض عنها بالتاء وقد تقدمت الاشارة الى ذلك ولا يجوز الجمع بين المعوض والمعوض عنه فلا يقال يا أبتي ويقال يا أبتا لكون الألف بدلا من الياء وشبه ذلك سيبويه بأينق وتعويض الياء فيه عن الواو الساقطة وسيرد المزيد من هذا البحث في باب الفوائد مع ترجمة مستفيضة لسيبويه. ولم أصلها اللام الجارة وما الاستفهامية وقد تقدم أن ألفها تحذف إذا سبقها حرف جر وتنزل اللام معها منزلة الكلمة الواحدة فتكتب الألف ياء فتقول إلام وعلام وحتام وهي متعلقة مع مجرورها بتعبد وفاعل تعبد ضمير مستتر تقديره أنت وما اسم موصول مفعول به وجملة لا يسمع صلة وما بعدها معطوفة عليها وشيئا مفعول به أو مفعول مطلق وقد تقدم تقريره. (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) يا أبت تقدم اعرابها وان واسمها وجملة قد جاءني خبرها ومن العلم متعلقان بجاءني ومن للتبعيض وما اسم موصول فاعل وجملة لم يأتك صلة فاتبعني الفاء الفصيحة أي ان شئت الهداية والنجاة واتبعني فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به واهدك جواب الطلب ولذلك جزم والكاف مفعول به وصراطا مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض وسويا صفة لصراطا. (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) لا ناهية وتعبد فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره أنت والشيطان مفعول به وإن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر وللرحمن متعلقان بعصيا وعصيا خبر كان. (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) إن واسمها وجملة أخاف خبرها وأن يمسك ظرف مؤول مفعول به لأخاف وعذاب فاعل يمسك ومن

١٠٧

الرحمن صفة لعذاب فتكون عطف على أن يمسك واسم تكون مستتر تقديره أنت وللشيطان متعلقان بوليا ، ووليا خبر تكون ومعنى الولي هنا القرين. (قالَ : أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) الهمزة للاستفهام الانكاري وراغب مبتدأ وسوغ الابتداء اعتماده على أداة الاستفهام وأنت فاعل سد مسدّ الخبر وأعربه الزمخشري خبرا مقدما وأنت مبتدأ مؤخرا ولا موجب لذلك بعد وجود القاعدة وسيأتي تقريرها في باب الفوائد وما تخللها من أبحاث تذهل الألباب ، ويا حرف نداء وابراهيم منادى مفرد علم مبني على الضم. (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) اللام موطئة للقسم وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتنته فعل مضارع مجزوم بلم ولأرجمنك اللام واقعة في جواب القسم كما هي القاعدة في اجتماع القسم والشرط وأرجمنك فعل مضارع مبني على الفتح والفاعل مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به واهجرني الواو عاطفة واهجرني معطوف على محذوف عند من يمنع عطف الانشائية على الخبرية والتقدير فاحذرني واهجرني ، على أن سيبويه يجيز عطف الجملة الخبرية على الجملة الانشائية فليس هذا التقدير بلازم ومليا ظرف زمان متعلق باهجرني وقيل هو حال من فاعل اهجرني ومعناه سالما سويا لا يصيبك من معرة. (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) سلام مبتدأ وسوغ الابتداء به ما فيه من معنى الدعاء والمراد بالدعاء هنا التوديع والازماع على الفراق وعليك خبر وسأستغفر السين للاستقبال وأستغفر فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وإنما جاز له الاستغفار للكافر الرجاء بأن يوفق الى الايمان الموجب لغفران الذنوب ولك متعلقان بأستغفر وربي مفعول به وجملة إنه تعليلية لا محل لها وإن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وحفيا خبرها وبي متعلقان بحفيا. (وَأَعْتَزِلُكُمْ

١٠٨

وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الواو عاطفة وأعتزلكم أي أترككم مرتحلا من بلادكم والفاعل مستتر والكاف مفعول به وما الواو حرف عطف وما يجوز أن تكون موصولة أو مصدرية. وعلى كل حال موضعها نصب عطف على الكاف أو مفعول معه وجملة تدعون صلة ومن دون الله حال. (وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) وأدعو عطف على أعتزلكم وفاعله مستتر تقديره أنا وربي مفعول به وعسى فعل ماض من أفعال الرجاء واسمها مستتر وأن وما في حيزها هي الخبر واسم أكون مستتر تقديره أنا وبدعاء متعلقان بشقيا وربي مضاف لدعاء وشقيا خبر أكون. (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) لما ظرفية حينية أو رابطة واعتزلهم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وما يعبدون من دون الله تقدم اعرابها أي تركهم فعلا من بابل الى الأرض المقدسة وجملة وهبنا لا محل لها لأنها جواب لما وله متعلقان بوهبنا واسحق مفعول وهبنا ويعقوب عطف على اسحق وكلا مفعول به أول لجعلنا ونبيا هو المفعول الثاني. (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) ووهبنا عطف على وهبنا الأولى ولهم متعلقان بوهبنا أي لابراهيم وولديه ومن رحمتنا متعلقان بوهبنا أيضا وجعلنا عطف على وهبنا ولهم في موضع المفعول الثاني لجعلنا ولسان صدق هو المفعول الاول وعليا صفة للسان وهو الثناء الحسن كما سيأتي في باب البلاغة.

البلاغة :

١ ـ فن الاستدراج :

بلغت هذه الآيات ذروة البلاغة ، وانطوت على معاجز تذهل العقول فأول ما يطالعنا منها فن يعرف بالاستدراج وهو يقوم على

١٠٩

مخادعة المخاطب تقوم فيه الأقوال مقام الأفعال فلا يزال يترفق بالمخاطب ويداوره ويلاينه حتى يسقط في يده ويستلين ويعلن استسلامه وهو يشبه أصحاب الجدل في الكلام والمنطق والفلسفة ولكن أولئك يتصرفون في المغالطات القياسية أما الشاعر أو الكاتب فهو في استدراجه يتصرف في المغالطات الخطابية. وقد أحسن الامام الزمخشري في تحليل هذا الفن وان لم يسمه فحلل هذا الفصل تحليلا عجيبا وقد شاء ضياء الدين بن الأثير الذي استخرج هذا الفن أن يغير على فصل الزمخشري فنسفه برمته ونسبه اليه وسننصف الزمخشري من سالبيه فننقل فصله برمته وعلى طوله فهو كالحسن غير مملول.

«انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصى فيه أمر العقلاء وانسلخ عن قضية التمييز ، ومن الغباوة التي ليس بعدها غباوة كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق ، وساقه أرشق مساق مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن منتصحا في ذلك بنصيحة ربه عز وعلا ... وذلك أنه طلب منه أولا العلة في خطئه طلب منبه على تماديه ، موقظ لإفراطه وتناهيه لأن المعبود لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا مقتدرا على الثواب والعقاب ، نافعا ضارا ، إلا أنه بعض الخلق لاستخفّ عقل من أهلّه للعبادة ووصفه بالربوبية ، ولسجل عليه بالغي المبين والظلم العظيم وان كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة ... فما ظنك بمن وجه عبادته إلى جماد ليس به حس ولا شعور فلا يسمع يا عابده ذكرك له ، وثناءك عليه ، ولا يرى هيئات خضوعك وخشوعك له فضلا أن يغني عنك بأن تستدفعه بلاء فيدفعه أو تسنح لك حاجة فيكفيكها ، ثم ثنّى بدعوته الى الحق مترفقا به متلطفا فلم يسم إياه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال :

١١٠

إن معي طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك وذلك علم الدلالة على الطريق السوي فلا تستنكف ، وهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضلّ وتتيه ، ثم ثلث بتثبيطه ونهيه عما كان عليه بأن الشيطان الذي استعصى على ربك الرحمن ، الذي جميع ما عندك من النعم من عنده ، وهو عدوك الذي لا يريد بك إلا كل هلاك وخزي ونكال ، وعدو أبيك آدم وأبناء جنسك كلهم هو الذي ورطك في هذه الضلالة وأمرك بها وزينها لك فأنت إن حققت النظر عابد الشيطان إلا أن ابراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص ولارتقاء همته في الربانية لم يذكر من جنايتي الشيطان إلا التي تختص منهما برب العزة من عصيانه واستكباره ولم يلتفت الى ذكر معاداته لآدم وذريته ، كأن النظر في عظم ما ارتكب من ذلك غمر فكره وأطبق على ذهنه ، ثم ربع بتخويفه سوء العاقبة وبما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال ولم يخل ذلك من حسن الأدب حيث لم يصرح بأن العقاب لا حق له ، وأن العذاب لاصق به ولكنه قال : أخاف أن يمسك عذاب ، فذكر الخوف والمس ونكر العذاب وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب وذلك أن رضوان الله أكبر من الثواب نفسه وسماه الله تعالى المشهود له بالفوز العظيم ... فكذلك ولاية الشيطان التي هي معارضة رضوان الله أكبر من العذاب نفسه وأعظم ، وصدر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله «يا أبت» توسلا إليه واستعطافا ... أقبل عليه الشيخ بفظاظة الكفر وغلظ العناد فناداه باسمه ولم يقابل قوله با أبت بقوله يا بني وقدم الخبر على المبتدأ في قوله «أراغب أنت» لأنه كان أهم عنده وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبة ابراهيم عن آلهته».

١١١

٢ ـ المجاز المرسل :

وفي قوله تعالى «وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا» مجاز مرسل من إطلاق اسم الآلة وهي اللسان لأنها آلة الكلام وإرادة ما ينشأ عنها فعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهو العطاء فهو مجاز علاقته السببية.

الفوائد :

١ ـ المبتدأ الصفة :

قد يرفع الوصف بالابتداء إن لم يطابق موصوفه تثنية أو جمعا فلا يحتاج الى خبر بل يكتفي بالفاعل أو نائبه فيكون مرفوعا به سادا مسدّ الخبر بشرط أن يتقدم الوصف نفي أو استفهام وتكون الصفة حينئذ بمنزلة الفعل فلا تثنى ولا تجمع ولا توصف ولا تصغر ولا تعرف ويتناول الوصف اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة واسم التفضيل والمنسوب ولا فرق بين أن يكون الوصف مشتقا نحو :ما ناجح الكسولان وهل محبوب المجتهدون أو اسما جامدا فيه معنى الصفة نحو هل صخر هذان المعاندان فصخر مبتدأ وهو اسم جامد بمعنى الوصف لأنه بمعنى صلب قاس وهذان فاعل لصخر أغنى عن الخبر ، وما وحشي أخلاقك فوحشي مبتدأ وهو اسم جامد فيه معنى الصفة لأنه اسم منسوب فهو بمعنى اسم المفعول وأخلاقك نائب فاعل له أغنى عن الخبر ولا فرق بين أن يكون النفي والاستفهام بالحرف أو بغيره نحو : ليس كسول ولداك وغير كسول أبناؤك وكيف سائر أخواك غير انه مع ليس يكون الوصف اسما لها والمرفوع بعده مرفوعا

١١٢

به سادا مسد الخبر ومع غير ينتقل الابتداء إليها ويجر الوصف بالاضافة إليها ويكون ما بعد الوصف مرفوعا به سادا مسد الخبر وبذلك ينحل الإشكال الوارد في بيت أبي نواس :

غير مأسوف على زمن

ينقضي بالهم والحزن

فغير مبتدأ لا خبر له بل لما أضيف اليه مرفوع يغني عن الخبر وذلك لأنه في معنى النفي والوصف بعده مجرور لفظا وهو في قوة المرفوع بالابتداء أي فحركة الرفع التي على غير هي التي يستحقها هذا الاسم بالاصالة لكنه لما كان مشغولا بحركة الجر لأجل الاضافة جعلت حركته التي كانت له بطريق الأصالة من حيث هو مبتدأ على بطريق العارية وعلى زمن في محل رفع نائب فاعل لمأسوف سد مسد الخبر وجملة ينقضي بالهم والحزن صفة لزمن وقد أورد بن هشام هذا البيت في مغني اللبيب وأورد وجهين آخرين تراهما بعيدين كل البعد وخاصة الثالث الذي اعترف ابن هشام بتصفه فليرجع إليهما.

فإن لم يقع الوصف بعد نفي أو استفهام فلا يجوز هذا الاستعمال فلا يقال مجتهد غلاماك بل تجب المطابقة نحو مجتهدان غلاماك وحينئذ يكون خبرا مقدما وما بعده مبتدأ مؤخرا وأجازه الكوفيون لأنهم لم يشترطوا اعتماد الصفة على النفي والاستفهام واستشهدوا بقوله :

خبير بنو لهب فلا تك ملغيا

مقالة لهبي إذا الطير مرت

فأعربوا قوله بنو لهب فاعلا لخبير دون أن يعتمد على نفي أو استفهام واعتذر البصريون عن البيت بأن خبيرا على وزن فعيل وفعيل على وزن المصدر كصهيل وزئير والمصدر يخبر به عن المفرد أو المثنى

١١٣

والجمع فأعطي حكم ما هو على زنته فهو على حد قوله تعالى «وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ» ، وقد شايع أبو الطيب الكوفيين لأنه من الكوفة ولأن له كلفا بمراغمة النحاة كما أشرنا الى ذلك غير مرة فقال بيته الممتع :

دع النفس تأخذ وسعها قبل بينها

فمفترق جاران دارهما العمر

فمفترق مبتدأ وجاران فاعل سد مسد الخبر ولا يجوز أن تقول إن مفترقا خبر مقدم لأنه كان يجب أن يطابق قوله جاران والحاصل :انه إذا رفع الوصف ما بعده فله ثلاثة أحوال :

١ ـ وجوب الابتداء إذا لم يطابق ما بعده في التثنية والجمع نحو أقائم أخواك.

٢ ـ وجوب الخبرية إذا طابق ما بعده في التثنية والجمع نحو أقائمان أخواك.

٣ ـ جواز الوجهين إذا طابق ما بعده في التذكير والتأنيث نحو :أقائم أخوك وأ قائمة أختك.

ومحل جواز الوجهين ما لم يوجد مانع وجعل بعض العلماء من الموانع في قوله تعالى «أراغب أنت عن آلهتي» فتتعين الابتدائية للزوم الفصل إذا جعلته خبرا بينه وبين معموله وهو الجار والمجرور وردّ ذلك آخرون مدافعين عن الزمخشري بأن قوله عن آلهتي متعلق آخر أما الزمخشري وابن الحاجب فقد اشترطا في الأصل أن يكون المرفوع اسما ظاهرا ولكن الزمخشري نفسه أجاز إعراب أنت فاعلا لراغب.

١١٤

٢ ـ عود إلى «يا أبت» :

تحدثنا عن اللغات في المنادى المضاف الى ياء المتكلم فأما التاء في يا أبت ويا أمت فتاء التأنيث بمنزلة التاء في قائمة وامرأة ، قال سيبويه :سألت الخليل عن التاء في يا أبت لا تفعل ويا أمت فقال هذه التاء بمنزلة الهاء في خالة وعمة يعني أنها للتأنيث والذي يدل على أنها للتأنيث أنك تقول في الوقف يا أبه ويا أمه فتبدلها هاء في الوقف كقاعد وقاعده على حد خال وخاله وعم وعمه ودخلت هذه التاء كالعوض من ياء الاضافة والأصل يا أبي ويا أمي فحذفت الياء اجتزاء بالكسرة قبلها ثم دخلت التاء عوضا عنها ولذلك لا تجتمعان فلا تقول يا أبتي ولا يا أمتي لئلا يجمع بين المعوض والمعوض عنه ولا تدخل هذه التاء فيما له مؤنث من لفظه فلو قلت في يا خالي ويا عمي يا خالت ويا عمت لم يجز لأنه كان يلتبس بالمؤنث فأما دخول التاء على الأم فلا إشكال فيها لأنها مؤنثة.

وأما دخولها على الأب فلمعنى المبالغة كما في راوية وعلامة.

٣ ـ من هو سيبويه :

وقد تردد اسم سيبويه كثيرا ولا بد لنا من إلقاء نظرة عاجلة على قصة حياته لأن فيها فائدة ولأنه ترك لنا في نحو البصريين الكتاب الذي خلد الى يومنا هذا ، وكان كتاب النحو الجامع حتى قيل فيه قرآن النحو.

فهو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي وهي نسبة الى الحارث بن كعب قبيلة يمنية وهذه النسبة بالولاء فقد كان سيبويه فارسيا فأما لقبه فسيبويه وقد غلب عليه وهو فارسي مركب مزجي من سيب أي التفاح وبوى أي الرائحة فمعناه رائحة التفاح على قاعدة

١١٥

الأوصاف باللغة الفارسية سمي بذلك لطيب رائحته أو لجماله وحسن خلقه وقيل مركب من سيب وويه اسم صوت ويذكر بعض العارفين باللسان الفارسي ان ويه في هذا اللسان معناها مثل وشبه ، فمعنى التركيب مثل التفاح وهكذا نفطويه : مثل النفط وعمرويه : مثل عمرو.

حكم سيبويه :

والجاري على الألسنة سيبويه بفتح الباء والواو والهاء مكسورة وهذا حكم شائع في الاعلام المختومة بويه جاء في الكتاب قول سيبويه :«وعمرويه عندهم بمنزلة حضر موت في انه ضم الآخر الى الأول وعمرويه في المعرفة مكسور في حال الجر والرفع والنصب غير منون وفي النكرة تقول هذا عمرويه آخر ورأيت عمرويه آخر» وتراه في الكتاب اقتصر على المشهور عند الناس وقد ينطق سيبويه بضم الباء وفتح الياء وسكون الهاء ويعزى هذا الى العجم تجنبوا الصورة الأولى لأن ويه صوت ندبة.

مولده ونشأته :

ولد سيبويه في البيضاء من كورة إصطخر بفارس من أبوين فارسيين ولا يعرف على وجه اليقين تاريخ ولادته وقد انتقل الى البصرة فتلقى العلم فيها وكانت هي والكوفة المصرين المبرزين في علوم العربية والدين ولا يعرف شيئا عن أسرته إلا ما ذكر أنه مات بين يدي أخيه ولا ندري هل انتقلت معه الى البصرة أسرته ونحن لا نرى لأبيه ذكرا ونرى بشارا يهجوه حين اشتهر أمره فيقول :

ظللت تغني سادرا في مساءتي

وأمك بالمصرين تعطي وتأخذ

١١٦

ويظهر من هذا أن أمه كانت معه في العراق ولا ندري هل تزوج وفي حديث للفراء أن سيبويه كانت له جارية تخدمه وفي طبقات النحاة أن جاريته مزقت جزازات كتابه فطلقها فهل يريد بجاريته زوجته أو يريد بتطليقها إخراجها من بيته؟ والظاهر انه لم يكن له زوج ولا ولد وآية ذلك انه بعد أن أخفق في بغداد في قصته مع الكسائي ـ على ما يأتي ـ أم يعد الى منزله بالبصرة.

كيف طلب النحو؟

اختلف سيبويه الى حماد بن سلمة شيخ الحديث والرواية في البصرة في عصره فألقى عليه حماد الحديث : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من أحد من أصحابي إلا أخذت عليه ليس أبا الدرداء» فقال سيبويه ، وكان قد شدا شيئا من النحو : ليس أبو الدرداء فقال حماد لحنت يا سيبويه ، فقال سيبويه : لا جرم لأطلبن علما لا تلتحنني فيه أبدا ، واتجه لدرس النحو فلزم الخليل وقد ظن سيبويه أن الواجب رفع ما بعد ليس ليكون اسما لها ولم يكن عرف أسلوب ليس في الاستثناء وقد عرض سيبويه لذلك في الكتاب وأشبعه بيانا وتعليلا.

بوادر نبوغه وحرية فكره :

وكان أكثر تلقيه عن الخليل حتى انه إذا قال : قال أو سألته فإنه يعني الخليل ، وكان الخليل قد عرف له قدره وثقابة ذهنه وقوة فطنته فأبثه علمه ونصح له في التعليم ، وأخذ عن غير الخليل : أخذ عن عيسى ابن عمر ويونس بن حبيب والأخفش الكبير أبي الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد ويذكر أبو زيد الأنصاري انه إذا قال سيبويه : أخبرني الثقة فإنما يعنيه وأول ما ظهر من بوادر نبوغه ما حدث به الأخفش قال : كنت عند يونس

١١٧

فقيل له : قد جاء سيبويه فقال أعوذ بالله منه فجاء فسأله فقال : كيف تقول :مررت به المسكين؟ فقال جائز أن أجره على البدل من الهاء فقال له :فمررت به المسكين بالرفع على معنى المسكين مررت به فقال هذا خطأ لأن المضمر قبل الظاهر فقال له : إن الخليل أجاز ذلك وأنشد فيه أبياتا فقال : هو خطأ ، قال فمررت به المسكين بالنصب؟ فقال جائز ، فقال على أي شيء؟ فقال على الحال ، فقال أليس أنت أخبرتني أن الحال لا تكون بالألف واللام ، فقال : صدقت ثم قال لسيبويه : فما قال صاحبك فيه؟ يعني الخليل ، فقال سيبويه : قال انه ينصب على الترحم ، فقال : ما أحسن هذا ، ورأيته مغموما بقوله نصبته على الحال. وكان سيبويه مع إجلاله للخليل يزيف قوله ففي الكتاب : «وزعم الخليل انه يجوز أن يقول الرجل : هذا رجل أخو زيد إذا أردت أن تشبهه بأخي زيد وهذا قبيح لا يجوز إلا في موضع الاضطرار ولو جاز هذا لقلت هذا قصير الطويل تريد مثل الطويل فلم يجز هذا كما قبح أن تكون المعرفة حالا كالنكرة إلا في الشعر».

بين سيبويه والكسائي :

وأتى الحظ والسعادة الكسائي وأصحابه فحلوا في بغداد محلا رفيعا وكان منهم مؤدبو أولاد الخلفاء وكانوا عند البصريين في النحو والأدب أقل منهم معرفة وأضعف أسبابا وقد رأى سيبويه ـ وهو إمام البصريين ـ أن يزاحمهم في مركزهم فقصد بغداد وعرض على البرامكة أن يجمعوا بينه وبين الكسائي ويناظره وكان واثقا انه سيكون له الفلح والظفر وبلغ الكسائي مقدم سيبويه وخشي مغبة المناظرة أن يزول سلطانه في بغداد فأتى جعفر بن يحيى بن برمك والفضل أخاه وقال : أنا وليكما وصاحبكما وهذا الرجل إنما قدم ليذهب محلي قالا

١١٨

فاحتل لنفسك فإنا سنجمع بينكما ويبدو أن فارسية سيبويه يقابلها فارسية الكسائي فهو أيضا فارسي من ولد بهمن بن فيروز وكان أسديا بالولاء فلم يكن لسيبويه ما يجعله أقرب الى قلوب البرامكة من الكسائي فدبر هو وأصحابه خطة كان لها ما توقعوه وهي : أن يتقدمه في مجلس المناظرة أصحابه فيسألوا سيبويه أسئلة ويتألبوا فيها عليه حتى إذا فترت همته وبان كلاله جاء الكسائي فوجد قرنا ذهب حده وعزب نشاطه فكان له ما أراد من صرعه وقد تقدمت قصة المسألة الزنبورية في موضع آخر من هذا الكتاب.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨))

١١٩

الاعراب :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) اذكر فعل أمر وفي الكتاب جار ومجرور متعلقان باذكر وموسى مفعول به وان واسمها وجملة كان خبرها ومخلصا خبر كان وكان رسولا نبيا عطف على كان الأولى. (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) وناديناه عطف على ما سبق وهو فعل وفاعل ومفعول به ومن جانب متعلقان بناديناه والطور مضاف اليه والأيمن صفة لجانب قالوا لأنه كان يلي يمين موسى حين أقبل من مدين وقربناه عطف على ناديناه ونجيا حال من أحد الضميرين في ناديناه أو قربناه وهو فعيل بمعنى فاعل أي مناجيا. (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) ووهبنا عطف أيضا وله متعلقان بوهبنا ومن رحمتنا متعلقان بوهبنا أيضا ومعنى من هنا التبعيض أي بعض رحمتنا أو للتعليل أي من أجل رحمتنا وأخاه مفعول به لوهبنا وهارون بدل ونبيا حال. (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) اعرابها ظاهر وقد تقدم وجملة انه كان تعليلية. (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) جملة يأمر خبر كان وأهله مفعول به وبالصلاة متعلقان بيأمر وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هو وعند ربه متعلقان بمرضيا ومرضيا خبر كان اجتمعت الياء والواو فقلبت الواو ياء وأدغمت في الأخرى. (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) تقدم اعراب مثيلاتها ولا بأس بذكر ما قاله الزمخشري بصدد إدريس وهذا نصه :«قيل سمي إدريس لكثرة دراسته كتاب الله عز وجل وكان اسمه أخنوخ وهو غير صحيح لأنه لو كان إفعيلا من الدرس لم يكن فيه

١٢٠