أخبار الزّمان

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي

أخبار الزّمان

المؤلف:

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧٩

وهرمس وهو عطارد في سبع وعشرين دقيقة من الحوت ، وزحل والجوزاء في الميزان وأوج القمر في الاسد على خمس درجات ودقائق.

فلما عملوا ذلك وتحققوه قال انظروا أيضا هل يكون بعد هذه الآفة آفة أخرى تنزل من السماء إلى الارض تكون ضد الاخرى التي تنزل أولا.

وهي النار التي تحرق أقطار العالم ، فعرفوه فقال انظروا متى يكون الكون الآخر وهو المضمر؟ فنظروا فوجدوا أنه يكون إذ نزل قلب الاسد في آخر دقيقة من الدرجة الخامسة عشرة من الاسد فتكون الشمس معه في دقيقة واحدة متصلة بزحل تثليث الرأس ، ويكون المشتري في الاسد غير مستقيم السير ، وعطارد معه في دقيقة ، ويكون القمر في الدلو متصلا بالذنب في اثني عشر جزءا ، وتكون الزهرة في بعدها الابعد مستقيمة السير ويكون المريخ في الاسد مستقيم السير ، ويكون في ذلك الشمس تنطبق منه [على] الارض [انطباقا] لم يعهد مثله.

فعرفوا الملك بما ظهر لهم من ذلك ، وقالوا إن قلب الاسد إذا قطع ثلاثة أدوار لم يبق من حيوان الارض شئ متحرك إلا تلف وهلك وإذا استتم أدواره تحللت أمر الفلك ، فأمر الملك بقطع الاساطين العظام وبنشر البلاطات الهائلة واستخراج الرصاص من أرض المغرب ، وإحدار الصخور من ناحية اسوان وكانت سوداء عظاما تساق في العجل ، فجعل منها آساس الاهرام الثلاثة الشرقي والغربي والملون وجميعه من الحجر الملون الاسود والابيض.

وقيل كانت لهم صحائف من خواص اشياء وعليها كتابات ، فإذا قطع الحجر وتم احكامه وضعوا عليه تلك الاشياء وضربوه فيغدو بتلك الضربة ما يغيب به عنهم ثم يعاودون ذلك حتى يصل.

أخبار الزمان م (١١)

١٦١

فوضعت آساس الاهرام بالدهشور منها الهرم الشرقي والهرم الغربي والهرم الملون.

وكانوا يمدون البلاطة ويجعلون في وسطها قضيب حديد قائم ، ثم يركبون عليها بلاطة اخرى مثقوبة الوسط ، فيدخل ذلك في ذلك الثقب ، ثم يذاب الرصاص ويصب حول البلاطة وفي الثقب بهندمة واتقان بعد تأليف ما فيها من النقوش والكتابة والصور ، حتى بلغوها من ذلك إلى ما يحار فيه الوهم ، وجعل ابوابها تحت الارض بأربعين ذراعا في آزاج مبنية بالرصاص والحجارة ، طول كل أزج منها مائة وخمسون ذراعا.

فأما باب الهرم الشرقي ، فإنه من الناحية الشرقية على مقدار مائة ذراع من وسط حائط الهرم.

وأما باب الهرم الغربي فمن الناحية الغربية ، وهو ايضا على قياس مائة ذراع من وسط الحائط ، حتى تنزل إلى باب الازج المبني فتدخل منه.

وأما باب الهرم الملون بلونين من الحجارة فمن الناحية الجنوبية يقاس أيضا من وسط الحائط الجنوبي مائة ذراع ، ويحفر حتى يوصل إلى باب الازج والمبنى له ، ويدخل منه إلى باب الهرم ، وجعل طول كل واحد منهما في الهوى مائة ذراع بالذراع الملكي ، وهو خمسمائة ذراع عندنا بذراعنا اليوم ، وجعل ضلع كل واحد من جهاته مائة ذراع ورفعها في الاستواء حتى بلغ أربعين ذراعا فوق الارض ، ثم هندمها من كل جانب حتى تحددت أعاليها عند آخر طولها.

وكان ابتداؤهم لبنائها في وقت سعد اجتمعوا عليه وتخيروه ، فلما فرغ منها كساها ديباجا ملونا من فوقها إلى أسفلها ، وعمل لها عيدا لم يبق في المملكة أحد إلا حضره.

١٦٢

ثم أمر بعمل ثلاثين مخزنا بنيت من حجارة صوان ملونة في الهرم الغربي ، وملئت بآلات الزبرجد والتماثيل المعمولة من الجواهر الغالية ، والطلسمات الغريبة ، وآلات الحديد الفاخر والسلاح الذي لا يصدأ ، والزجاج الذي يطوى فينطوي ولا ينكسر ، وأصناف العقاقير المفردات والمؤلفات ، والسموم القاتلات وغير ذلك مما يطول وصفه ، ولا يدرك عده.

ونقل إلى الهرم الآخر وهو الشرقي أصنام الكواكب والقباب الفلكية ، وما عمل أجداده من التماثيل والدخن الذي يتقرب بها إليها ومصاحفها ، وما عمل لها من التواريخ والحوادث التي مضت والاوقات التي تحدث منها ما ينتظر ، وذكر من يلي مصر إلى آخر الزمان ، وكون أدوار الكواكب الثابتة وما يحدث في دورانها وقتا وقتا ، وجعل فيها المطاهر التي فيها المياه المدبرات وما أشبه ذلك من هذه الاشياء.

وجعل في الهرم أجساد الكهنة في توابيت صوان أسود ، ومع كل كاهن مصحف فيه عجائب صنعته وعمله وسيرته وما عمل في وقته.

وكانوا على مراتب المرتبة الاولى القاطرون (١) وهم الذين تعبدوا للكواكب السبعة لكل كوكب سبع سنين ، ومعنى القاطر عندهم جامع العلم.

والمرتبة الثانية لمن تعبد لستة وله أيضا اسم ، والمرتبة الثالثة لمن تعبد لخمسة ، والمرتبة الرابعة لمن تعبد لاربعة ، والمرتبة الخامسة لمن تعبد لثلاثة ، والمرتبة السادسة لمن تعبد لاثنين والمرتبة السابعة لمن تعبد لواحد (٢) ولكل واحد من أصحاب المراتب السبعة اسم يعرف به.

وجعل في جهة من الهرم مرتبة من هذه المراتب في توابيتهم ، وجعل مع

__________________

(١) في ب : الناظرون. وقد مضى أن الصواب القاطر بالقاف والطاء.

(٢) تقدم أن الذي يتعبد لكوكب واحد كان يسمى ماهرا.

١٦٣

أجسادهم مصاحفهم كتبوها في ورق الذهب ، ذكروا فيها جميع ما كان وما يكون وما قد عملوه من العجائب ، وجعل في الحيطان من كل جانب كما تدور أصناما تعمل بأيديها جميع الصناعات ، على مراتبها وأقدارها وصفة كل صنعة وعلاجها ، وما يصلح لها.

وكتب مزبورا على الصور جميع علاجات الاشياء كلها ، وعلم النواميس ، وعلم كل علم ثم جعل فيها أموال الكواكب التي أهديت إليها ، وأموال الكهنة وقدر ذلك لا يحصى عددا ولا وزنا.

وجعل لكل هرم منها خازنا ، فصاحب الهرم الشرقي صنم مجزع من جزع أسد وأبيض له عينان مفتوحتان براقتان ، وهو جالس على كرسي ، ومعه شبه الحربة إذا نظر إليه ناظر سمع من جهته صوت يكاد ينزع قلبه فيهيم على وجهه ويختلس عقله ، ولا يكاد يفارقه الهم حتى يموت منه.

وجعل خازن الهرم الغربي صنما من حجر صوان مجزعا واقفا معه شبه الحربة على رأسه حية مطوقة ، من قرب منه وثبت إليه من ناحية قصده ، فتطوقت على عنقه فقتلته ثم عادت إلى رأس الصنم.

وجعل خازن الهرم الملون صنما صغيرا من حجر البهت على قاعدة منه قائما ، من نظر إليه اجتذبه الصنم حتى يلصق به ، فلا يفارقه حتى يموت.

فلما فرغ من ذلك ضمدها بالارواح الروحانية ، وذبح لها الذبائح لتمنع من أنفسها من أراد الوصول إليها ، إلا من قرب لها وعمل لها بأعمال الوصول.

وذكرت القبط أن عليها كتابا منقوشا تفسيره بالعربية «أنا سوريد الملك الملك ، بنيت هذه الاهرام في وقت كذا من الزمان ، وأتممت بنيانها في ست سنين ، فمن أتى بعدي ، وزعم أنه ملك مثلي فليهدمها في ستين سنة ، وقد علم أن الهدم أيسر من البنيان ، وإني قد كسوتها بالديباج فليكسها من أتى بعدي حصيرا!»

١٦٤

فوجدوا أنه لا يقوم بهدمها شئ في الازمان الطوال ، وأن كسوتها أيضا بالديباج مما يشق على الملك ، ويتعذر إلا بفساد عظيم ، وبما لم يكن [فيه] صلاح.

فمنها أن الرشيد لما دخل مصر ، فرأى الاهرام أحب أن يهدم بعضها ليعلم ما فيه ، فقيل له إنك لا تقدر على ذلك ، فقال لابد من فتح شئ منه ففتحت الثلمة المفتوحة بنار توقد وخل يرش ومجانيق يرمى بها وحدادين يعملون ما فسد منها وأنفق عليها مالا عظيما فوجدوا عرض الحائط قريبا من عشرين ذراعا ، فلما انتهوا إلى آخر الحائط وجدوا خلف النقب مطهرة خضراء فيها ذهب مضروب وزن كل دينار أوقية من أواقينا ، وكان عددها ألف دينار فعجبوا من ذلك ولم يعرفوا معناه ، فأخبروا بذلك الرشيد ، وأتوه بالذهب والمطهرة فجعل يعجب من ذلك الذهب ، ومن جودته وحسنه وحمرته ، ثم قال ارفعوا إلي حساب ما أنفقتموه على هذه الثلمة ففعل ذلك فوجدوه بأزاء ذلك الذهب الذي أصابوه لا يزيد ولا ينقص ، فعجب من معرفتهم بذلك على طول المدة ، وأنهم يستفتحونه من ذلك الموضع بعينه وعجب من معرفتهم بقدر ما ينفق عليه ، ومن تركهم ما يوازي في الموضع ، عجبا شديدا كأن لهؤلاء القوم من العلوم منزلة لا نوازيها ولا ندركها نحن ولا أمثالنا.

وقيل ان المطهرة التي وجد فيها المال كانت من زبرجد ، فأمر بحملها إلى خزائنه وكانت أحد ما حمله من عجائب مصر.

ومن عجائبها وما يستغرب منها أن الرشيد لما فتح تلك الثلمة من الهرم أقام الناس سنين يقصدونه ويدخلونه ، وينزلون فيه من الزلاقة التي فيه ، فمنهم من يسلم ، ومنهم من يهلك ، وأن جماعة من الاحداث اتفقوا وكانوا عشرين

١٦٥

رجلا على أن يدخلوا الهرم ، ولا يبرحوا منه إلى أن يصلوا إلى منتهى آخره أو يموتوا عن آخرهم فيه.

فأخذوا معهم من الطعام والشراب ما يكفيهم لشهرين ، وأخذوا الاكل والوقيد والشمع والحبال والفؤوس ، وما احتاجوه من الآلات والحديد للحفر ، دخلوا الهرم ونزل أكثرهم في الزلاقة الاولى والثانية ، ومضوا يمشون في أرض الهرم ، فرأوا خفافيش على قدر العقبان تضرب وجوههم ، وانتهوا إلى ثقب تخرج منه ريح باردة ولا تفتر ، فذهبوا ليدخلوه فانطفأت مسارجهم ، فذهبوا ليدخلوه فإذا الثقب على قاعة كبيرة فارغة ، فعلموا أن أجساد موتاهم في ذلك الموضع ، وأن معها كنوزهم وأموالهم ، فراموا أن ينزلوه فلم يستطيعوا على ذلك.

فقال أحدهم : شدوني بالحبال ، وانزلوني في هذا الثقب حتى أصل إلى قعر هذه القاعة ، ولعلي أعلم منها بعض ما تريدون ، ففعل القوم بصاحبهم ذلك ، وشدوا الحبال في وسطه وتعجم الثقب فأبطأ فيه ، وهم يمسكون الحبال حتى انطبق الثقب عليه ، فجذبه أصحابه بجهدهم وقوتهم فلم يقدروا على نزعه وسمعوا عظامه تتكسر وسمعوا صيحة هائلة سقطوا منها على وجوههم لا يعقلون ، فقاموا وطلبوا الخروج ، وضاق بهم الامر وصعدوا فسقط بعضهم من الزلاقة عند صعودهم ، فترك وهلك.

وخرج من بقي منهم من جميع الهرم ، وجلسوا في صيحة متعجبين ، فبينما هم كذلك إذ أخرجت لهم الارض صاحبهم من بين أيديهم حيا يتكلم بكلام كاهني لم يفهموا معناه ، فسره لهم بعض أصحاب الدرايات بالصعيد بأنه «هذا جزاء من طلب ما ليس له» ثم سقط ميتا فحملوه ، وفطن بهم فأخذوا وحملوا إلى الوالي ، فحدثوا عن أنفسهم ذلك.

١٦٦

وفي حديث آخر أن قوما دخلوا الهرم وانتهوا إلى أسفله وطافوه فعرض لهم مثل الطريق ، فساروا فيه فوجدوا كالمطهرة يقطر منها ماء يسير ثم يفيض فلم يدروا ما هو ، ثم وجدوا موضعا كالمجلس المربع حيطانه من حجارة مربعة ملونة عجيبة صغار في نهاية من الحسن ، فقلع أحدهم منها حجرا وجعله في فيه.

فانسدت أذنه من الريح ، ولم يزل يتصبر وهو معهم حتى دخلوا مكانا فيه كالقوارة العظيمة فيها ذهب مضروب كثير ، أعمدته كلها في غاية من الاتقان زنة كل واحد منها الف دينار ، فأخذوا منها واحدا ، فلم يقدروا أن يتحركوا ، ولا ان يمشوا حتى تركوه من أيديهم ، ولم يصلوا منه إلى شئ.

ووجدوا في مكان آخر كالصفة فيها صورة شيخ من صنم أخضر ، مشتمل شملة ، وبين يديه تماثيل صغار في صورة الصبيان وكأنه يعلمهم ، فأخذوا منها واحدا فلم يقدروا أن يتحركوا.

وساروا أيضا في تلك الطريق ، فوجدوا بيتا مسدودا فيه دوي هائل وزمزمة ، فلم يتعرضوا له ، ومضوا فوجدوا مثل المجلس المربع فيه صورة ديك من جواهر قائم على اسطوانة خضراء ، وله عينان يسرج المجلس منها ، فلما دنوا منه صوت بصوت مفزع ، وخفق بجناحيه ، فتركوه ومضوا حتى وصلوا إلى صنم من حجر أبيض في صورة امرأة منكسة الرأس ، وعن جانبيها أسدان من حجارة كأنهما يريدان أن يلتقماهما ، فجعلوا يتعوذون ويقرأون إلى أن تجاوزوهما ، وساروا إلى أن لاح لهم نور ساطع ، فاتبعوه فإذا هم بهوة مفتوحة ، فخرجوا منها ، فإذا هم في الصحراء.

وإذا على باب الهوة تمثالا [ن] من حجر أسود معهما كالمزراقين ، فعجبوا

١٦٧

من ذلك ووجدوا شبه الطريق فساروا عليه يوما كلاما إلى أن وصلوا إلى الاهرام من خارج.

وكان ذلك في زمان يزيد بن عبد الله والي مصر فأخبروه بذلك فاستعد ووجه معهم من يدخل الهوة فأطافوا أياما فلم يجدوها ، وأشكل عليهم أمرها ، ولم يكن لهم إليها سبيل ولا وجدوا فيها حيلة ، والذي أخرج ذلك وحده جوهرة نفيسة باعها بمال خطير.

وذكر أن قوما في وقت أحمد بن طولون دخلوا الهرم فوجدوا في طاق من أحد بيوته أشنانة زجاج فأخذوها وخرجوا بها فافتقدوا رجلا منهم فدخلوا في طلبه إذ خرج عليهم عريانا يضحك ويقول «لا تتعبوا في طلبي» ورجع هاربا إلى داخل الهرم ، فعلموا أن الجن قد استهوته وشاع أمرهم.

وقيل إن أحدهم سعى بهم فأخذ الاشنانة منهم ، ومنع الناس من دخول الهرم ، وأنهم وزنوا ذلك الاشنان فوجدوا فيه سبعة أرطال من زجاج أبيض صاف ، فانتبه رجل من أهل المعرفة ، وقال لم تتخذ الملوك هذه لباطل وما عملت إلا لشئ ، ثم ملا الاشنان بالماء ثم وزنه فوجده ملاء مثل وزنه فارغا لا ينقص ولا يزيد.

وحكي أن قوما دخلوا الهرم ومعهم غلام يعبثون به ، فخرج عليهم غلام أسود في يده عصى ، فأخذ يضربهم ضربا وجيعا فخرجوا هاربين وتركوا طعامهم وشرابهم وبعض ثيابهم ، وقد أصاب قوم في بربا اخميم مثل ذلك.

وحكي أن رجلا وامرأة دخلا للفجور فصرعا جميعا فلم يزالا مصحوبين مشهورين إلى أن ماتا.

وفي بعض مصاحف القبط أن سوريد الملك لما أخبره كهنته بخبر النار المحرقة ، التي تخرج من برج الاسد فتحرق العالم فعمل في الاهرم مسارب

١٦٨

يدخل منها النيل إلى مكان يعنيه ثم يفيض إلى موضع من أرض العرب وأرض الصعيد ، وملا تلك عجائب وطلسمات وأصناما تنطق.

وحكى بعض القبط أن سوريد الملك لما أخبره منجموه بما أخبروه قال انظروا بلدنا هذا هل تلحقه آفة؟ فنظروا وقالوا يلحقه طوفان يأتي على أكثره ، ويلحقه خراب يقيم فيه عدة سنين ، ثم يغلب عليها العمران.

قال وكيف يكون خرابها؟ قال يقصدها ملك يقتل أهلها ويغنم مالها ، قال ثم ماذا؟ قالوا يكون عمارتها [على يد] من قتله قال ثم ماذا؟ قالوا يقصدها قوم مشوهون من ناحية النيل فيملكون أكثرها قال ثم ماذا؟ قالوا انقطع نيلها وتخلو من أهلها ، فأمر أن يكتب ذلك ويزبر على الاهرام والاسطوانات والحجارة العظيمة.

وذكر رجل من أهل المغرب ممن يختلف إلى الواحات ، ويحمل الاسماك إلى الواحات على جمل له أنه بات قرب الهرم ، فما زال يسمع الضوضاء والغطغطة فهاله ذلك ، وتباعد عن الهرم بجمله ذلك ، فكان يرى حول الهرم شبه النيران تتألق ، فلم يزل مذعورا إلى أن غلبته عيناه فنام ، فلما أصبح في الموضع الذي فيه السمك رأى سماكا آخر بحياله موضوعا فعجب من ذلك وشد سمكه على جمله وكر راجعا إلى الفسطاط ، وحلف أن لا يقرب من الهرم بعد ذلك.

وأما البرابي فلها أخبار يطول ذكرها وشرحها ، وتحكي القبط في أمور الروحانيين الغالبين على الاهرام والبرابي.

فذكروا أن روحاني الهرم الجنوبي في صورة امرأة عريانة مكشوفة الفرج حسناء لها ذؤابتان فإذا أردات أن تستهوي الانسان ضحكت في وجهه واجتلبته إلى نفسها فيدنو إليها فتستهويه ويزول عقله ويهيم.

١٦٩

وقد رأى جماعة هذه المرأة تدور حول الهرم وقت القائلة ، وعند غروب الشمس.

وروحاني الهرم الآخر غلام أمرد أصفر عريان له ذؤابتان ، وقد رأوه أيضا [بعد المغرب] (١) مرارا يطوف حوله.

وروحاني الهرم الملون في صورة شيخ نوتي عليه قرطلة (٢) ، وفي يديه مجمر من مجامر الطاس وهو يبخره وكذلك في جميع الابرونيات.

وأما بربا أخميم فمعروف عند أهلها ان روحانيها غلام أسود عريان.

وروحاني بربا سميرا هو في صورة شيخ أدم طوال أشيب صغير اللحية.

وأما بربا قفط فروحانيته في صورة جارية سوداء ، تحمل صبيا أسود صغيرا.

وأما بربا دنونية فروحانيته في صورة إنسان رأسه رأس أسد وله قرنان.

وأما بربا بوصير فهو في صورة شيخ أبيض عليه زي الرهبان ، ومعه مصحف يحمله.

وأما بربا عدنا فروحانيته في صورة راع عليه كساء ومعه عصا.

ولاهرام دهشور روحانيون يراهم من قرب منها من نواحيها ، على طول الايام ، ولكلها قرابين وبخور يظهر بها كنوزها ، وتؤلف بين الناس وبين الروحانيين الذين بها.

فأقام سوريد مائة سنة وسبع سنين ، وقد كان كهانه عرفوه الوقت الذي يموت فيه ، فأوصى إلى ابنه هو جيف (٣) وعرفه بما احتاج إليه وأمره أن يدخل جسده الهرم ويجعله في الجرن الذي قد اعده لنفسه ويغشيه بكافور ، ويحمل معه ما اعد من فاخر المتاع ومن السلاح والآلات ، فامتثل هوجيت (٤) جميع ما امره به.

__________________

(١) عن ق.

(٢) هكذا في الاصول.

(٣ و ٤) في ق : هرجيب.

١٧٠

وتولى أمر الملك بعده أبنه هوجيت الملك فسار سيرة أبيه في العمارة والعدل والرقة والرأفة بالناس فأحبوه.

وبنى الهرم الاول من أهرام دهشور ، وحمل إليه كثيرا من الاموال والجوهر ، وكان غرضه جمع المال وعمل الكيمياء وإخراج المعادن ودفن كل ما تهيأ له من الكنوز في كل سنة.

وكانت له قصة مع بعض جواريه (١) فنفاها إلى ناحية الغرب ، وأمر فبنيت لها هناك مدينة وأمر أن يقام فيها علم ويزبر عليها اسمها وقصتها ، وأسكن معها كل امرأة مسنة من أهل بيته.

وشج في أيامه رجل رجلا فأمر بقطع أصابعه ، وسرق سارق مالا لرجل فملك رقه للذي سرق منه.

وعمل منارات ومصانع وطلسمات ، وملكهم تسعا وتسعين سنة ومات.

وملك عليهم ابنه مناوس الملك ، وكان جبارا عظيما وعذابا أليما (٢) فآذى الناس ، وسفك الدماء ، واغتصب النساء ، واستخرج كنوز بابل ، وبنى قصورا بذهب وفضة ، وفجر فيها الانهار ، وجعل حباءها من صنوف الجواهر وتمخرق في الهبات على غير ما يجب ، وأغفل العمارات.

وأباح أصحابه غصب نساء العامة ، وكان هو يفتض النساء قبل أزواجهن ، وأطاف به أهل الشر من كل ناحية ، فأبغضه الناس وكرهوا أيامه.

وامتنع عليه قوم في شئ أمرهم به فأحرقهم بالنار ، وسلط رجلا من الجبارين يقال له قرناس من ولد إدريس بن آدم على محاربة الامم القريبة في الماء فقتل منهم عالما كثيرا وحده.

__________________

(١) في ق : وكانت له بنت أفسدت مع بعض خدامه فنفاها.

(٢) في ق : وكان جبارا أثيما ، شيطانا رجيما.

١٧١

وكان أشجع اهل زمانه ، ثم هلك فاغتم عليه الملك ، وأمر أن يدفن مع الملوك في الهرم ، ويقال بل عمل له وأقام عنده أعلاما ، وزبر عليه اسمه وما عمل في وقته من الحروب.

وأقام مناوس ملكا ثلاثا وسبعين سنة ، ومات وجعل في الهرم مع أجداده في حوض من صوان أبيض مصفح بالذهب والجوهر ، وجعل معه كثير (١) من ذخائره وأمواله وعجائبه.

وملك عليهم ابنه افراوس (٢) الملك ، وكان عالما محنكا فخالف أباه في فعله ، وعدل في الناس ورد النساء اللاتي غصبهن أبوه إلى أزواجهن.

وعمل في وقته قبة طولها خمسون ذراعا وعرضها مائة ذراع ، وركب في جوانبها أطيارا تصفر بأصناف الاصوات المطربة لا تفتر ، وعمل في وسط المدينة منارا من صفر عليه صورة رأس إنسان من صفر كلما مضت ساعة من الليل والنهار صاح ذلك الرأس فيعلم بصياحه دخول ساعة ويعرف من كل سمعه عدة الساعات.

وجعل منارا آخر وجعل فيه قبة من صفر مذهب ولطخه بلطوخات ، فإذا غربت الشمس اشتعلت تلك القبة نورا فيضئ لها كثيرا من المدينة مشبها بالنار لا تطفيها الرياح ، ولا الامطار ، فإذا كان النهار قل ضوؤها لنور الشمس.

ويقال إنه أهدى إلى الدرمشيل الملك ببابل مدهنة من زبرجد قدر خمسة أشبار ، وكان استهداه ذلك ليجعلها في بيت القربان.

ويقال انها وجدت بعد الطوفان ، ويقال إنه عمل في الجبل الشرقي صنما عظيما قائما على قاعدة مصبوغا بلطوخ أصفر مموه بالذهب وجهه إلى الشمس

__________________

(١) في ب : كثيرا.

(٢) في ق : أقروش.

١٧٢

يدور معها إلى ان تغرب في الغرب ثم يدور ليلا حتى يحاذي الشمس مع الصبح.

ويقال إن أفروسا كان يطلب الولد في وقته فنكح ثلاثمائة امرأة يبتغي أن يولد له منهن فلم يكن ذلك.

ويقال إن في وقته عقمت أرحام النساء والبهائم ، ووقع الموت لما كان الله عزوجل قدره من هلاك العالم بالطوفان.

وقيل إن الاسد كثرت في وقته حتى كادت ان تدخل البيوت ، فاحتالوا لها بالطلسمات المانعة والحيل المضرة بها ، وكانت تغيب شيئا وتعود ، فرفعوا ذلك إلى الملك وقالوا هذه علامة مكروهة ، فأمر أن يعمل لها أخاديد وتملا نارا وجلبوا إليها الاسد بالدخن التي تجذب روحانيتها إليها ، وألقوها على النيران فاحترقت.

وبنى في وقته مدائن في ناحية الغرب تلفت في الطوفان مع أكثر مدنهم ، وارتفعث الامطار عنهم ، وقل الماء في النيل فأجدبوا وهلكت الزروع بالحر والريح الحارة وغير ذلك ، فأضر ذلك بهم فاحتالوا لدفع النار بطلسماتهم ، وكانت تذهب ثم تعود.

وقيل ان الذي فعل ذلك بهم ساحر من سحرتهم كان مناوس قد غصب امرأته فأعمل الحيلة قليلا قليلا في افساد طلسماتهم ، لان لكل طلسم شيئا يقوي روحانيته وشيئا آخر يفسدها.

ولهذه العلة دخل بخت نصر الفارسي مصر ، وكانت ممتنعة من جميع الملوك فلما أفسد الساحر طلسماتهم سلط عليهم تلك الآفات وأفسد طلسم التماسيح فهاجت عليهم ومنعتهم الماء ، وعذبتهم عذابا كثيرا إلى أن فطنوا به من قبل تلاميذه.

١٧٣

وذلك أن بعض تلاميذه لامه على ما يفعل من المضرة بقومه ، فانتهره ونفخ في وجهه ، فأظلم عليه بصره فرفع التلميذ أمره إلى وزير الملك ، فعرف الوزير الملك بالامر ، فأمر الملك بادخال التلميذ إليه ، فدخل وعرفه بصورة الحال ، فأنفذ الملك إلى الساحر جيشا ليأتوه به ، فلما نظر الساحر إلى القوم مقبلين إليه دخن بدخنة أغشت أبصارهم ، وارتفعت منها عجاجة صارت نارا مضرمة حالت بينهم وبين الساحر ، فهالهم أمره وخافوا على أنفسهم منه فرجعوا إلى ملكهم ، وعرفوه بما جرى ، فأمر الملك باحضار جميع السحرة.

وكان رسم السحرة عندهم أن يعاهدوا ملوكهم على أن يكونوا أبدا معهم ولا يخالفوهم ولا يقصدوهم بمكروه ولا يبغونهم الغوائل ، فمن فعل ذلك منهم سلب منزلته وما يملكه ، وكان للملك أن يسفك دمه ودم أهل بيته ، وكانوا مع الملوك على هذه الحالة ، وكانوا مع ذلك يوفون بعهدهم ولا ينقضون شيئا من عهدهم.

فلما اجتمع السحرة عند الملك أخبرهم خبر الساحر ، وكان يقال له أجناس وما فعله من الفساد ونقضه للعهد ، وقال لهم إن لم تحضروه أهلكت جميعكم ، فسألوه النظر في الامر ، فأخذ أولادهم ونساءهم رهائن بذلك وأنظرهم.

فلما خرجوا من عنده تكلموا بينهم وقالوا إنكم تعلمون كثره علم أجناس وشدة سحرة ، وانا ما لنا به طاقة ، ومناوس الملك هو الذي نقض عهده ، وتعدى عليه وغصبه امرأته ، فينبغي لنا أن نخلص أنفسنا منه ، فأجمعوا أمرهم على أن ينصرفوا إلى الملك واستأذنوه في الذهاب إليه ومداراته وتوبيخه والرفق به حتى يأتوا به الملك بأمان يأخذونه له منه ، فيجدد العهد بينه وبين الملك ، ففعلوا ذلك وأجابهم الملك إلى ما سألوه من ذلك ، ثم مضوا إلى أجناس ولطفوا به ، وقالوا له إنا ما نجهل حقك وعظم أمرك وإنا بقدرك

١٧٤

وكثرة علمك عارفون ، ولم يكن في قدر الجناية التي جنت عليك قدر ما فعلته من الاضرار بأهل بلدك الذي أنت منهم ، ولا في الواجب أن تهلك عالما كثيرا من الناس لجناية جناها عليك مناوس ، ولا يجب على ملكنا وملك اليوم الذي عهده لازم لنا ولك من فعل أبيه بك وبسواك عقوبة.

ولسنا نأمن أن تسلب علمك وتصير إلى أقبح عملك ، فتهلك مذموما وتمضي غير مفقود ، فلم يزالوا به حتى أجابهم إلى ما أرادوه ، وكتبوا بذلك إلى الملك فكتب له أمانا وجدد له عهدا ورجع إلى ما كان من طاعة الملك وحسن رأيه فيه.

وردت إليه امرأته فأكرمها وردها إلى قصر الملك وعرفهم أنه لا يرى في دينه أن يلامس امرأة لامسها الملك على حال من الاحوال ، لما كانوا يرعون من طاعة الملوك ويعظمون من حقوقهم ، فسر الناس بذلك وعجبوا من عقله وحكمه وصلح الملك والناس وعمل لهم أجناس هذا عجائب وطلسمات كثيرة.

وملكهم افراؤس أربعا وستين سنة ، وهلك وليس له ولد ولا أخ ، فدفن في الهرم وجعلت معه أمواله وذخائره وجوهره والصنائع التي عملت في وقته.

واجتمع الناس على تمليك رجل من أهل المملكة يقال له ارمافيوس (١) فلما ملك أمر بجمع الناس إليه ، فلما اجتمعوا بين بديه قال لهم : إني أرى من حولكم من الامم مسارعة إليكم وغالبة على عداوتكم وأنا مانع بلدكم منهم وحام دياركم ودماءكم وقد تطرفت نواحيكم ويوشك أن تسير إليكم وأنا أريد

__________________

(١) في ق : أرمالينوس.

١٧٥

منعهم بعدوهم وأقصدهم في بلادهم وتخويلكم إياهم ، فأحتاج إلى معرفة حكمائكم بالاعمال الهائلة والتماثيل العجيبة فشكروه ودعوا له بالتوفيق والسعادة الكاملة ، وقالت الحكماء : نحن نخرج مع الملك ونبلغه محابه فيما يريده من أعدائه ، ونحن نخدم الجيش مكانه ، ونبذل أنفسنا دونه ، فشرع في ذلك.

وخرج في جيش عظيم ، وحارب تلك الامم ، فنكاهم نكاية شديدة ، ورجع غانما ، وخلف في وجوهها جيشا ، فتألفت تلك الامم على ذلك الجيش من كل جانب فهزمته ، ورجع أصحابه مغلوبين فغاظه ذلك.

وقد كان أصابته علة في سفره من تغير الاهوية وتبديل الماء ، فأنفذ ابن عم له يقال له فرعان بن ميسون ، وكان أحد الجبابرة الذين لا يطاقون وهو أول فرعون تسمى بهذا الاسم ، وتسمى به بعده من تشبه به.

وقال أصحاب التاريخ من أهل مصر ، إن أول من تسمى بفرعون غلام الوليد ابن دمع العماليقي ، يقال له فرعون كان قد هرب من مولاه لما رجع من طلب النيل ، وبنى المدينة التي يقال لها مدينة العقاب وتحصن بها ، فقيل له فرعون وسنذكر خبره في موضعه.

فانفذ الملك ابن عمه فرعان في جيش عظيم ، فأجلى تلك الامم ونفاها إلى أطراف البحر وكر راجعا ومعه رؤس كثيرة وخلق كثير أسارى.

فأمر الملك بنصب الرؤس حول المدينة ، وقتل من صلح للقتل ، وكان فيهم كاهن منهم فأمر أن ينشر بمنشار ، وهو أول من فعل ذلك.

وأعظم الملك ابن عمه فرعان وأكرمه وألبسه حللا منظومة بالجوهر ، وأمر أن يطاف به ويذكر فضله ، ثم أنزله في بعض قصوره.

وأن امرأة من نساء الملك عزيزة عليه عشقت فرعان ، فأرسلت إليه

١٧٦

تدعوه إلى نفسها فامتنع من ذلك خوفا من الملك ، ولان التخطي كان عندهم إلى نساء الملك عظيما.

فلما طال عليها شوقها إليه أحضرت امرأة ساحرة من نساء الكهنة ولا طفتها حتى أنست بها ، فذكرت أمر فرعان وما تجده من سببه وامتناعه عليها ، فضمنت لها بلوغ محبتها منه ، فسحرته بدخن كان عندها عملته له حتى اهتاج إليها وقدم على ودها وسهل عليه ما صعب من أمره ، ودست إليه فأجابها واجتمع بها وتمكن حب كل واحد منهما من صاحبه ، ودام الامر بينهما وتمادى الانس إلى أن ذاكرته أمر الملك وأنها لا تأمن أن يصل خبرهما به فيهلكا ، وقالت له اعمل الحيلة في قتله ، وأنت ابن عمه فيكون [لك] الملك من بعده ونأمن على أنفسنا ، فلشدة حبه لها استحسن ذلك واستدعى بسم فدفعه إليها ، فدسته في شراب الملك فمات لوقته ، ودفن في الهرم مع الملوك.

وجلس فرعان الملك على سرير الملك ، ولبس التاج ولم ينازعه أحد ، وفرح الناس بمكانه لما كان عليه من الشدة والجرأة.

وأن فرعان علا في الارض وتجبر ، وهو الذي كان الطوفان في وقته ، وغصب الناس أموالهم وعمل في طريق الظلم ما لم يعمله أحد ، وأسرف في القتل وامتثل أصحابه فعله ، فهابته الملوك ، وأقروا له ، وهو الذي كتب إلى الدرمشيل بن يمحويل ملك بابل يشير عليه بقتل نوح عليه السلام.

وذلك أن الدرمشيل كتب إلى الآفاق يستعلم أهلها هل يعرفون آلهة غير الاصنام؟ ويذكر قصة نوح عليه السلام ، وأنه يريد تغيير ما هم عليه من عبادة الاصنام ، ويزعم أن له إلها غيرها لا يرى فكل أنكر ذلك.

أخبار الزمان ـ م (١٢)

١٧٧

ولما أخذ نوح عليه السلام في عمل السفينة كتب فرعان يأمره بقتل نوح وحرقها فأشار عليه بعض وزرائه أن لا يفعل وأن يدعها فان كان ما ذكره نوح حقا ركبها الملك وأهل بيته فقبل رأيه وتركها وهم بقتل نوح فمنعه الله منه.

وكان عند أهل مصر علم الطوفان ، ولم يقدروا كثرته ولا طول مقامه على وجه الارض ، فاتخذوا السراديب تحت الارض وصفحوها بالزجاج وحبسوا الريح فيها بتدبيرهم ، واتخذ الملك فيلمون رأس الكهنة مع نفسه ، عدة له ولاهل بيته.

وقد كان فرعان أقصى الكهان وباعدهم ، فرأى فيلمون الكاهن ليلة في منامه كأن مدينة أمسوس قد انقلبت (١) بأهلها وكأن الاصنام قد انقلبت (١) على وجوهها وكأن ناسا من السماء ينزلون ومعهم مقامع يضربون بها الناس ، وكأنه تعلق بأحدهم ، وقال لهم : لاي شئ تفعلون بالناس ولا ترحمونهم؟ قال : لانهم كفروا بإلههم بالذي خلقهم ، قال : أما لهم خلاص؟ قال : نعم من أراد الخلاص فعليه بصاحب السفينة.

فانتبه مرعوبا وقام حيرانا لا يدري ما يصنع ، وكان له امرأة وولدان ذكر واثنى وسبع تلاميذ فأجمع على أن يلحق بنوح عليه السلام.

ثم نام أيضا فرأى في نومه كأنه في روضة خضراء ، وكأن فيها طيورا بيضاء يفوح منها رياح المسك ، وكأنه كان يعجب من حسنها ، إذ تكلم بعض الطيور فقال سيروا بنا لعلنا ننجو مع المؤمنين ، فقال له ومن هم المؤمنون؟ قال أصحاب السفينة.

فانتبه مرعوبا وأخبر أهله وتلاميذه بذلك واستكتمهم إياه ثم نظر في تخفيف اثقاله ، وفي بيع ما يجب بيعه مستترا بذلك كله.

__________________

(١) في ب : أقبلت.

١٧٨

فلما فرغ مما أراده دخل على الملك وقال له إن رأى الملك أن ينفذني إلى الدرمشيل لارى هذا الرجل الذي عمل السفينة وأناظره وأجادله على ما جاء به من هذا الدين لذي يظهره ، وأتبين حقيقة أمره فليفعل ، فعسى أن يكون سبب هلاكه ودفعه عما يدعيه ، فأعجب الملك منه وأمره بالخروج ، وكتب معه إلى الدرمشيل.

فسار فيلمون بأهله وولده ومضى معه تلاميذه حتى انتهوا إلى أرض بابل فقصد نوحا فأخبره بما قصده ، وسأله أن يشرح له دينه ففعل نوح عليه السلام ذلك ، فآمن به فيلمون وجميع من معه ، ولم يقصد فيلمون إلى الدرمشيل ولم يدفع إليه كتاب فرعان ولا رآه.

فقال نوح عليه السلام «من أراد الله به خيرا لم يصرف عنه ذلك» فلم يزل الكاهن مع نوح عليه السلام يخدمه هو وتلاميذه وولده إلى ان ركبوا السفينة.

وأقام فرعان الملك متمكنا في ضلاله وظلمه ، مدمنا على لهوه وقد استخف بالهياكل ، فضاقت أرضهم بها ، وكثر الظلم والهرج وفسدت الزروع وأجدبت الارض من كل ناحية ، وظلم الناس بعضهم بعضا ، ولم ينكر ذلك عليهم ، وسدت الهياكل والبرابي وطبقت أبوابها ، فجاءهم الطوفان وأقبل عليهم المطر في اربع وعشرين من الشهر.

وكان فرعان سكرانا فلم يقم إلا والماء قد عظم ، فوثب مبادرا يريد الهرم فتخلخلت الارض به ، وسبق يريد الابواب فخانته رجلاه وسقط على وجهه ، وجعل يخور كما يخور الثور إلى أن أهلكه الطوفان ومن دخل منهم الاسراب مات بغمها (١) ولحق الماء من [أعلى] (٢) الاهرام إلى حد التربيع ، وأثره ظاهر عليه إلى الآن.

__________________

(١) هكذا في الاصول ، وفي ق : ولعل الصواب بفمها ، أي قبل أن يصل إليها.

(٢) زيادة عن ق.

١٧٩

وقد ذكر أن مواضع سلمت من الطوفان يذكر ذلك الفرس ، وتزعم أنها لا تعرف الطوفان ، وكذلك الهند تزعم أنها لا تعرفه وليس بين أهل التاريخ اختلاف في عموم الطوفان لجميع الارض.

ذكر ملوك مصر بعد الطوفان

أجمع اهل مصر (١) أن أول من ملك مصر بعد الطوفان مصرايم بن بيصر (٢) ابن حام بن نوح عليه السلام وذلك بدعوة سبقت له من جده.

والسبب في ذلك أن فيلمون الكاهن سأل نوحا أن يخلطه بأهله وولده ، وقال له : يا نبي الله إنني تركت أهلي وولدي فاجعل لي رفقة أذكر بها بعد موتي ، فزوج عليه السلام مصرايم بن بيصر بن حام بنت فيلمون ، فولدت له ولدا فسماه فيلمون باسم جده.

فلما أراد نوح عليه السلام قسمة الارض بين بنيه ، قال له فيلمون : ابعث معي يا نبي الله ابني ، حتى أمضي به إلى بلدي وأظهره على كنوزه ، وأوقفه على علومه وأفهمه رموزها ، فبعثه مع جماعة من أهل بيته ، وكان غلاما مراهقا.

فلما قرب من مصر بنى له عرشا من أغصان الشجر ، وستره بحشيش ثم بنى له بعد ذلك مدينة في الموضع بنفسه وسماها درمان (٣) أي باب الجنة وزرعوا وغرسوا الاشجار.

__________________

(١) في ق : أهل الاثر.

(٢) في ب : مصريم بن تنصر ، والتصحيح عن ق.

(٣) في ق : درسان.

١٨٠