الكشف والبيان - ج ٢

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٢

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١١

شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الرّجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة ، فإذا أوصى حاف في وصيّته فيختم له بشر عمله فيدخل النّار ، وإنّ الرّجل ليعمل بعمل أهل الشّر سبعين سنة. فإذا أوصى لم يحف في وصيته فيختم له بخير عمله. فيدخل الجنّة» [٣٦]. ثمّ قال أبو هريرة : أقرأوا إن شئتم (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) قال الحسن : إذا سمعت الله تعالى يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فادع لها سمعك فانّها لأمر يؤمر به أو لنهي تنهى عنه.

وقال جعفر الصّادق رضي‌الله‌عنه : لذة «يا» في النداء أزال تعب العبادة والعناء.

(كُتِبَ) فرض واجب.

(عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) وهو مصدر قولك : صمت صياما ، كما تقول : قمت قياما ، وأصل الصوم والصّيام في اللغة : الإمساك ، يقال : صامت الرّيح إذا سكنت وأمسكت عن الهبوب ، وصامت الخيل إذا وقعت وأمسكت عن السّير. قال النابغة :

خيل صيام وخيل غير صائمة

تحت العجاج وخيل تعلك اللجما (٢)

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٢٧٨ ، والمعجم الأوسط : ٣ / ٢٢٩.

(٢) مجمع البيان : ١ / ٤٨٩.

٦١

فقال : صام النّهار إذا اعتدل ، وقام قائم الظهيرة ؛ لأنّ الشمس إذا طلعت في كبد السّماء وقفت فأمسكت عن السير سريعة. قال امرؤ القيس :

فدع ذا وسلّ الهمّ عنك بحسرة

ذمول إذا صام النّهار وهجرا (١)

وقال الرّاجز :

حتّى إذا صام النّهار واعتدل

وسال للشمس لعاب فنزل

ويقال للرجل إذا صمت وأمسك عن الكلام : صام.

قال الله تعالى : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) (٢) : أي صمتا.

فالصوم : هو الإمساك عن المعتاد من الطّعام والشّراب والجماع.

(كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) من الأنبياء والأمم وأولهم آدم عليه‌السلام ، وهو ما روى عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده عن علي رضي‌الله‌عنه قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم عند انتصاف النّهار وهو في الحجر ، فسلّمت عليه فردّ عليّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمّ قال : «يا علي هذا جبرئيل يقرئك السلام. فقلت : عليك وعليه‌السلام يا رسول الله لم؟

قال : ادن منّي ، فدنوت منه فقال : يا علي يقول لك جبرئيل : صم كل شهر ثلاثة أيام يكتب لك بأول يوم عشرة آلاف [سنة] وباليوم الثاني ثلاثين ألف [سنة] وباليوم الثالث مائة ألف [سنة].

فقلت : يا رسول الله هذا ثواب لي خاصة أم للنّاس عامة؟ قال : يا علي يعطيك الله هذا الثواب ولمن يعمل مثل عملك بعدك. قلت : يا رسول الله وما هي؟

قال : أيام البيض : ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر» [٣٧] (٣).

قال عنترة : قلت لعلي رضي‌الله‌عنه : لأي شيء سميت هذه الأيام البيض؟

قال : لما أهبط آدم عليه‌السلام من الجنّة إلى الأرض أحرقته الشمس. فاسودّ جسده ثمّ صام اليوم الثالث. فأتاه جبرئيل فقال : يا آدم أتحب أن يبيض جسدك؟

قال : نعم ، قال : فصم من الشهر ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر فصام آدم عليه‌السلام أول يوم فابيض ثلث جسده ، ثمّ صام اليوم الثاني فابيض ثلثا جسده ، ثمّ صام اليوم الثالث فابيض جسده كلّه. فسميت أيام البيض.

قال المفسّرون : فرض الله على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المؤمنين صوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر حين قدم المدينة فكانوا يصومونها إلى أن نزل صيام شهر رمضان قبل قتال بدر

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) سورة مريم : ٢٦.

(٣) شرح الأزهار للإمام أحمد المرتضى : ٢ / ٥٣ (الهامش) ط. صنعاء ، وغنية الطالبين : ٧٣٨.

٦٢

بشهر وأيام.

وقال الحسن وجماعة من العلماء : أراد بالّذين من قبلنا : النّصارى شبّه صيامنا بصيامهم لاتفاقهم بالوقت والقدر ؛ وذلك انّ الله فرض على النّصارى صيام شهر رمضان. فاشتد ذلك عليهم ؛ لأنّه ربّما كان في الحر الشديد والبرد الشديد. فكان يضرّ بهم في أسفارهم ومعائشهم ، واجتمع رأي علمائهم ورؤسائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السّنة بين الشّتاء والصّيف فجعلوه في الرّبيع وزادوا فيه عشرة أيّام كفّارة لما صنعوا فصار أربعين ثمّ إنّ ملكا لهم اشتكى فمه فجعل الله عليه إن هو برأ من وجعه أن يزيد في صومه أسبوعا فبرأ فزاد فيه أسبوع ثمّ مات ذلك الملك ووليهم ملك آخر فقال : أتموا خمسين يوما فأتمّوه خمسين يوما ، وقال مجاهد أصابهم موتان فقالوا : زيدوا في صيامكم فزادوا عشرا قبل وعشرا بعد.

روى أبو أمية الطّنافسى عن الشعبي قال : لو صمت السّنة كلّها وفطرت اليوم الّذي يشكّ فيه فيقال من شعبان ويقال من رمضان ، وذلك أنّ النّصارى فرض عليهم شهر رمضان كما فرض علينا فحولوه إلى الفصل وذلك إنّهم ربما كانوا صاموه في القيظ فعدّوا ثلاثين يوما ثمّ جاء بعدهم قرن منهم فأخذوا بالثّقة في أنفسهم فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما ثمّ لم يزل الآخر يستن بسنّة القرن الّذي قبله حتّى صاروا إلى خمسين يوما فذلك قوله عزوجل : (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (١).

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لكي تتقوا الأكل والشرب والجماع.

(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) يعني شهر رمضان ثلاثين يوما أو تسعة وعشرون يوما لما روى سعيد بن العاص إنّه سمع ابن عمر يحدّث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «إنّا أمّة أميّة لا تحسب ولا تكتب الشهر هكذا وهكذا وهكذا» وعقد الإبهام في الثالثة والشّهر هكذا وهكذا وهكذا تمام ثلاثين [٣٨] (٢).

ونصب (أَيَّاماً) على الظرف أي : في أيّام ، وقيل : على التفسير.

وقيل : على خبر ما لم يسمّ فاعله ، وقيل : بإضمار فعل أي صوموا أيّاما معدودات.

(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ) أي فأفطر فعدّة كقوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ) (٣) : أي فحلّق أو قصّر ففدية واقصر وقوله : (فَعِدَّةٌ) أي فعليه عدّة ولذلك رفع.

وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة : فَعِدَّةً نصبا أي فليصم عدّة.

__________________

(١) راجع تفسير الطبري : ٢ / ١٧٥.

(٢) السنن الكبرى للنسائي : ٢ / ٧٤.

(٣) سورة البقرة : ١٩٦.

٦٣

(مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) غير أيّام مرضه أو سفره والعدّة العدد وأخر في موضع خفض ولكنّها لا تنصرف فلذلك نصبت لأنّها معدولة عن جهتها كأنّ حقّها أواخر وأخريات فلمّا عدلت إلى فعل لم تجرّ مثل عمر وزفر.

(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) قرأ ابن عبّاس وعائشة وعطاء بن رباح وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد : يُطَيَّقُونَهُ بضمّ الياء وبفتح الطّاء وتخفيفه وفتح الياء وتشديده أي يلفونه ويحملونه.

وروى عن مجاهد وعكرمة : أيضا يَطَّيقُونَهُ بفتح الياء وتشديد الطّاء أراد يتطوقونه أي يتكلفونه.

وروى ابن الأنباري عن ابن عبّاس يَطَّيَّقُونَهُ بفتح الياء الأوّل وتشديد الطّاء والياء الثانية وفتحهما بمعنى يطيقونه. يقال : طاق وأطاق واطيق بمعنى واحد.

(فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) قرأ أهل المدينة والشّام : فديةُ طعامٍ مضافا مساكين جمعا أضافوا الطّعام إلى الفدية وإن كان واحدا لاختلاف اللفظين كقوله (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) (١) وقولهم : المسجد الجامع وبيع الأوّل ونحوها وهي قراءة أبي عمرو ومجاهد ، وروى يحيى ابن سعيد عن عبد الله عن نافع عن ابن عمر إنّه قرأها : طعام مساكين على الجمع ، وروى مروان بن معاوية الفزاري عن عثمان بن الأسود عن مجاهد قرأها كذلك : مساكين.

وقرأ الباقون : فديةً منصوبة ، (طَعامُ) رفعا ، (مِسْكِينٍ) خفض على الواحد وهي قراءة ابن عبّاس.

[روي ابن أبي نجيح] عن عمرو بن دينار عن ابن عبّاس أنّه قرأها (طَعامُ مِسْكِينٍ) ، على الواحد ، فمن وحّد فمعناه : لكل يوم اطعام مسكين واحد ، ومن جمع رده إلى الجميع ، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم.

(فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) قرأ عيسى بن عمر ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي : يتطوّع بالتاء وتشديد الطاء وجزم العين على معنى يتطوّع ، وقرأ الآخرون : تَطَوْعَ بالتاء وفتح العين وتخفيف الطاء على الفعل الماضي.

واختلف العلماء في تأويل هذه الآية وحكمها : فقالوا قوم : كان ذلك أول ما فرض الصّوم ؛ وذلك أنّ الله تعالى لمّا أنزل فرض صيام شهر رمضان على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر أصحابه بذلك شق عليهم ، وكانوا قوما لم يتعوّدوا الصّيام فخيّرهم الله بين الصّيام والإطعام. فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى بالطّعام ، ثمّ نسخ الله

__________________

(١) سورة ق : ٩.

٦٤

تعالى ذلك بقوله (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ونزلت العزيمة في إيجاب الصّوم وعلى هذا القول معاذ بن جبل وأنس بن مالك ، وسلمة بن الأكوع وابن عمر وعلقمة وعمرو بن مرّة والشعبي والزهري وإبراهيم وعبيدة والضحاك ، وأحدى الروايات عن ابن عبّاس.

وقال آخرون : بل هو خاص للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة والّذين يطيقان الصّوم ولمن يشقّ عليهما رخص لهما : إن شاء أن يفطر مع القدرة ويطعما لكل يوم مسكينا ، ثمّ نسخ ذلك بقوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وثبت الرخصة للذين لا يطيقون ، وهذا قول قتادة والرّبيع بن أنس ، ورواية سعيد بن جبير عن ابن عبّاس.

وقال الحسن : هذا في المريض كان إذا وقع عليه اسم المرض وإن كان يستطيع الصّيام الخيار إن شاء صام ، وإن شاء أفطر وأطعم حتّى نسخ ذلك. فعلى هذه الأقاويل الآية منسوخة وهو [قول] أكثر الفقهاء المفسرين.

وقال قوم : لم تنسخ هذه الآية ولا شيء منها ، وإنّما تأويل ذلك أو على الّذين يطيقونه في حال شبابهم وفي حال صحتهم وقوتهم ، ثمّ عجزوا عن الصّوم فدية طعام مساكين ؛ لأنّ للقوم كان رخص لهم في الإفطار وهم على الصّوم [قادرون إذا اقتدروا ، وآخرون أضمروا] في الآية وقالوا : هذه عبارة عن أول حالهم وجعلوا الآية محكمة ، وهذا قول سعيد بن المسيب والسّدي ، وأحدى الروايتين عن ابن عبّاس ، فحمله ما ذكرنا من هذه الأقاويل على قراءة من قرأ (يُطِيقُونَهُ) : من الإطاقة وهي القراءة الصحيحة التي عليها عامة أهل القرآن ومصاحف البلدان ، وأمّا الذين قرءوا يطوقونه : فتأولوا بهم الشيخ الكبير والمرأة العجوز والمريض الذي لا يرجى برؤه فهم يكلفون الصّوم ولا يطيقونه فلهم أن يفطروا ويطعموا مكان كل يوم أفطروا مسكينا.

قالوا : الآية محكمة غير منسوخة ، والفدية : الجزاء والبدل من قولك : فديت هذا بهذا أيّ حرمته وأعطيته بدلا منه ، يقال : فديت فدية كما يقال : مشيت مشية. (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) : فزاد على مسكين واحد وأطعم مسكينين فصاعدا. قاله مجاهد وعطاء وطاوس والسّدي.

وقال بعضهم : فمن زاد على القدر الواجب من الإطعام. يزاد الطّعام. رواه ابن جريح وخطيف عن مجاهد ، وقال ابن شهاب : يريد فمن صام مع الفدية وجمع بين الصّيام والطّعام فهو خير له.

(فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا) (إن) صلة تعني والصوم (خَيْرٌ لَكُمْ) من الإفطار والفدية (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

٦٥

فصل في حكم الآية

اعلم إنّه لا رخصة لأحد من المؤمنين البالغين في إفطار شهر رمضان إلّا لأربعة :

أحدهم : عليه القضاء والكفارة.

والثاني : عليه القضاء دون الكفارة.

والثالث : عليه الكفّارة دون القضاء.

والرابع : لا قضاء عليه ولا كفارة.

وأمّا الذي عليه القضاء والكفّارة فمن فرّط في قضاء رمضان حتّى دخل رمضان آخر ، والحامل والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وعليهما القضاء والكفّارة ، وإن خافتا على أنفسهما فهما كالمريض حكمهما كحكمه هذا قول ابن عمر ومجاهد ومذهب الشّافعي.

وقال بعضهم : في الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما وولدهما أن عليهما الكفّارة ولا قضاء وهو قول ابن عبّاس.

وقال قوم : عليهما القضاء ولا كفارة وهو قول إبراهيم والحسن وعطاء والضحّاك ومذهب أهل العراق ومالك والأوزاعي.

وأمّا الّذي عليه القضاء دون الكفّارة فالمريض والمسافر والحائض والنفساء عليهم القضاء دون الكفّارة.

قال أنس : أتيت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يتغذّى فقال : «أجلس» فقلت : إنّي صائم. فقال : «أجلس أحدّثك : إنّ الله وضع على المسافر الصوم وشطر الصّلاة» [٣٩] (١).

وأمّا الّذي عليه الكفّارة دون القضاء فالشّيخ الهرم والشّيخة الكبيرة ومن به مرض دائم لا يرجى برؤه وصاحب العطاش الّذي يخاف منه الموت ، عليهم الكفّارة ولا قضاء هذا قول عامّة الفقهاء.

وروى عن ربيعة بن أبي عبد الرّحمن وخالد بن الدريك إنّهما قالا في الشّيخ والشّيخة : إن استطاعا صاما وإلّا فلا كفّارة عليهما وليس عليهما شيء إذا أفطرا.

وقال مالك : لا أرى ذلك واجبا عليهما وأحبّ أن يفعلا فأمّا الّذي لا قضاء عليه ولا كفّارة فالمجنون.

واختلف العلماء في حدّ الإطعام في كفّارة الصّيام فقال بعضهم : القدر الواجب نصف

__________________

(١) مواهب الجليل للرعيني : ٢ / ٦ ، وتلخيص الحبير : ٦ / ٤٢٦.

٦٦

صاع عن كلّ يوم يفطره وهذا قول أهل العراق.

وقال قوم منهم : نصف صاع من قمح أو صاع من تمرا أو زبيب أو سائر الحبوب.

وقال بعض الفقهاء : ما كان المفطر يتقوّته يومه الّذي أفطره.

وقال محمّد بن الحنفية رضي‌الله‌عنه : يطعم مكان كلّ يوم مدّ الطعامة ومدّ الإدامة.

وقال ابن عبّاس : يعطي مسكينا واحدا عشاءه حين يفطر وسحوره حين سحره.

وقال بعضهم : يطعم كلّ يوم مسكينا واحدا مدّا وهو قول ابن هريرة وعطاء ومحمّد بن عمرو بن حزم واللّيث بن سعيد ومالك بن أنس والشّافعي وعامّة فقهاء الحجاز وبالله التّوفيق ، ثمّ بيّن أيّام الصّيام فقال :

(شَهْرُ رَمَضانَ) قرأه العامّة رفع على معنى أتاكم شهر رمضان.

وقال الفرّاء : ذلكم شهر رمضان.

الأخفش : هو شهر رمضان.

الكسائي : كتب عليكم شهر رمضان ، وقيل : ابتداء وما بعده خبره.

وقرأ الحسن ومجاهد وشهر بن حوشب : شهرَ رمضان نصبا على هو يعني صوموا شهر رمضان قاله المورّج.

وقال الأخفش : نصب على الظرف أي كتب عليكم الصّيام في شهر رمضان.

أبو عبيدة : نصب على الإغراء ، وقرأ أبو عمرو : مدغما شهر رمضان على مذهب في ادغام كل حرفين يلتقيان من جنس واحد ومخرج واحد او قريبي المخرج طلبا للخفّة وسمّي الشهر شهرا لشهرته.

وقال الفرّاء : هو مأخوذ من الشّهرة وهي البياض ومنه يقال : شهرت السّيف إذا أسلته وشهر الهلال إذا طلع ، واختلفوا في معنى قوله : رمضان فقال بعضهم : رمضان اسم من أسماء الله فيقال شهر رمضان كما يقال : شهر الله

وروى جعفر الصادق عن آبائه رضي‌الله‌عنهم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «شهر رمضان شهر الله» [٤٠].

ويدلّ عليه أيضا ما روى هشيم عن آبان عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تقولوا رمضان ، انسبوه كما نسبه الله تعالى في القرآن فقال : (شَهْرُ رَمَضانَ)» [٤١] (١).

وعن الأصمعي قال : قال أبو عمرو : إنّما سمّي رمضان لأنّه رمضت فيه الفعال من الخير.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢ / ٢٩١.

٦٧

وقال غيره : لأنّ الحجارة كانت ترمض فيه من الحرارة والرّمضاء الحجارة المحماة.

وقيل : سمّى بذلك لأنّه يرمض الذّنوب أي يحرق.

وقيل : لأنّ القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة والحكمة والفكرة في أمر الآخرة كما يأخذ الرّمل والحجارة من حرّ الشّمس.

وقال الخليل : مأخوذة من الرمض وهو مطر يأتي في الخريف فسمّي هذا الشّهر رمضان لأنّه يغسل الأبدان من الأنام غسلا وتطهّر قلوبهم تطهيرا.

(الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) روى هشيم عن داود عن عكرمة عن ابن عبّاس والسّدي عن محمّد بن أبي المجالد عن مقسم عن ابن عبّاس ابن عطيّة الأسود سأله : فقال : إنّه وقع الشّك في قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وقوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (١) وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) (٢) وقد نزل في سائر الشهور.

قال الله (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ) (٣) الآية وقالوا (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) (٤).

فقال : أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) من شهر رمضان. فوضع في بيت العزة في سماء الدّنيا ، ثمّ نزل به جبرئيل عليه‌السلام على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما نجوما عشرين سنة ، فذلك قوله (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (٥).

داود بن أبي هند قال : قلت للشعبي : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أما كان ينزل عليه في سائر السّنة؟ قال : بلى ولكن جبرئيل كان يعارض محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رمضان ما نزّل الله ، فيحكم ما يشاء ويثبت ما يشاء وينسيه ما يشاء.

شهاب بن طارق عن أبي ذرّ الغفاري عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أنزلت صحف إبراهيم في ثلاثة ليال مضين من رمضان ، وأنزلت توراة موسى في ست ليال مضين من رمضان ، وأنزل أنجيل عيسى في ثلاثة عشر مضت من رمضان ، وأنزل زبور داود في ثمان عشرة ليلة قضت من رمضان ، وأنزل الفرقان على محمّد في الرّابع والعشرين لست مضين بعدها ، ثمّ وصف القرآن فقال : (هُدىً لِلنَّاسِ) من الضّلالة وهو في محل النصب على القطع لأنّ القرآن معرفه والهدى نكرة.

(وَبَيِّناتٍ) من الحلال والحرام والحدود والاحكام.

__________________

(١) سورة القدر : ١.

(٢) سورة الدخان : ٣.

(٣) سورة الإسراء : ١٠٦.

(٤) سورة الفرقان : ٣٢.

(٥) سورة الواقعة : ٧٥.

٦٨

(مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) الفصل بين الحقّ والباطل.

سعيد بن المسيّب عن سلمان قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آخر يوم من شعبان فقال : «يا أيّها النّاس قد أظلكم شهر عظيم ، وشهر مبارك ، وشهر فيه ليلة (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ، جعل الله صيامه فريضة ، وقيام ليله تطوّعا ، من تقرّب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ، ومن أدّى فيه فريضة كان كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه ، وهو شهر الصّبر والصّبر ثوابه الجنّة ، وشهر المواساة ، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن ، شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النّار ، من فطّر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النّار ، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء. قالوا : يا رسول الله ليس كلّنا يجد ما يفطّر الصّائم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يعطي الله هذا الثّواب ، من فطّر صائما على مذقة لبن أو تمر أو شربة ماء ، ومن أشبع فيه صائما سقاه الله تعالى من حوضي شربة لا يظمأ حتّى يدخل الجنّة ، وكان كمن أعتق رقبة ، ومن خفّف عن مملوكه فيه غفر الله له وأعتقه من النّار ، فاستكثروا فيه من أربع خصال : خصلتان ترضون بها ربّكم ، وخصلتان لا غنى عنهما : فأمّا الخصلتان اللتان ترضون بها ربّكم فشهادة أن لا إله إلّا الله وتستغفرونه ، وأمّا التي لا غنى بكم عنها فتسألون الله عزوجل وتعوذون به من النّار» [٤٢] (١).

وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ أبواب السّماء وأبواب الجنّة لتفتح لأوّل ليلة من شهر رمضان ، فلا تغلق إلى آخر ليلة منها ، وليس لعبد يصلّي في ليلة منها إلّا كتب الله عزوجل بكل سجدة الفا وسبعمائة حسنة ، وبنى له بيتا في الجنّة من ياقوتة حمراء لها سبعون ألف باب لكلّ باب منها مصراعان من ذهب موشّح من ياقوتة حمراء ، فإذا صام أوّل يوم من شهر رمضان غفر الله له كلّ ذنب إلى آخر يوم من رمضان وكان كفّارة إلى مثلها ، وكان له بكلّ يوم يصومه قصر في الجنّة له ألف باب من ذهب ، واستغفر له سبعون ألف ملك من غدوة إلى أن توارت بالحجاب ، وكان له بكلّ سجدة يسجدها من ليل أو نهار شجرة يسير الراكب في ظلّها مائة عام لا يقطعها» [٤٣] (٢).

محمّد بن يونس الحارثي عن قتادة عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كان أوّل ليلة من شهر رمضان نادى الجليل جلّت عظمته رضوان خازن الجنان فيقول : لبّيك وسعديك فيقول : جدّد جنّتي وزينها من أمّة أحمد ثمّ لا تغلقها عليهم حتّى ينقضي شهرهم ، ثمّ ينادي مالكا خازن النّار : أن يا مالك ، فيقول : لبّيك ربي وسعديك فيقول : أغلق أبواب الجحيم عن الصّائمين من امّة أحمد ثمّ لا تفتحها عليهم حتّى ينقضي شهرهم ثمّ ينادي جبرئيل فيقول : لبّيك ربي وسعديك

__________________

(١) كنز العمال : ٨ / ٤٧٧ ح ٣٣٧١٤ ، والدر المنثور : ١ / ١٨٤.

(٢) كنز العمال : ٨ / ٤٧١ ح ٢٣٧٠٦ ، والدر المنثور : ١ / ١٨٦.

٦٩

فيقول : انزل إلى الأرض وغلّ مردة الشياطين لا يفسدوا عليهم صيامهم وإفطارهم ، ولله في كل يوم من شهر رمضان عند طلوع الشّمس وعند وقت الإفطار عتقاء يعتقهم من النّار عبيدا وإماءا ، وله في كل سماء مناد فيهم ، ملك عرفه تحت عرش ربّ العالمين وفرائضه في تخوم الأرض السّابعة السفلى ، جناح له بالمشرق مكلل بالمرجان والدّرر والجوهر ، وجناح له بالمغرب مكلل بالمرجان والدّرر والجوهر ينادي : هل تائب يتاب عليه؟ هل من داع يستجاب له؟ هل من مظلوم ينصره الله؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى سؤله؟ قال : وينادي الرّب تعالى ذكره الشهر كلّه : عبادي وإمائي أبشروا واصبروا [وداوموا] أوشك أن يرفع عنكم في المؤونات ، ويفضوا إلى رحمتي وكرامتي. فإذا كان ليلة القدر ، نزل جبرئيل في كبكبة (١) من الملائكة يصلون [ويسلمون] على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله عزوجل» [٤٤] (٢).

إبراهيم بن هدية عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أذن الله للسّماوات والأرض أن يتكلّما بشّرا بمن صام رمضان : الجنّة» [٤٥].

عبد الملك بن عمر عن عبد الله بن أبي أوفى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نوم الصّائم عبادة وصمته تسبيح ودعاؤه مستجاب وعمله مضاعف» [٤٦] (٣).

(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) قرأه العامة بجزم اللام ، وقرأ الحسن والأعرج : بكسر اللام وهي لام الأمر ، وحقها الكسر إذا أفردت ، وإذا وصلت بشيء ففيه وجهان : الجزم والكسر ، وإنّما توصل بثلاثة أحرف الفاء كقوله (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) (٤) والواو كقوله (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا) (٥) وثمّ كقوله (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) (٦).

واختلف العلماء في معنى هذه الآية وحكمها :

فقال بعضهم : معناها فمن شهده عاقلا بالغا مقيما صحيحا مكلّفا فليصمه قاله أبو حنيفة وأصحابه ، وقال قوم : معناها : إذا دخل عليه شهر رمضان وهو مقيم في داره فليصم الشهر كلّه.

حتّى لو غاب بعد فسافر أو أقام فلم يبرح قاله النخعي والسّدي.

وقال قتادة : إنّ عليّا رضي‌الله‌عنه كان يقول : إذا أدركه رمضان وهو مقيم ثمّ سافر فعليه الصّوم.

وقال محمّد بن سيرين : سألت عبيدة السّلمان عن الرّجل يدركه رمضان ثمّ يسافر فقال : إذا

__________________

(١) الكبكبة : الجماعة من الشيء.

(٢) راجع زاد المسير : ٨ / ٢٨٧.

(٣) الجامع الصغير : ٢ : ٦٧٨ بزيادة : وذنبه مغفور ، وكذا في الدر المنثور : ١ : ١٨٠.

(٤) سورة قريش : ٣.

(٥) سورة الحجّ : ٢٩.

(٦) سورة الحجّ : ٢٩.

٧٠

شهدت أوّله فصم آخره إلّا تراه يقول : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) قالوا : والمستحب له ألّا يسافر إذا أدركه رمضان مقيما. إن أدركه. حتّى يقضي الشهر ، وروي في ذلك عن ابراهيم بن طلحة إنه جاء إلى عائشة رضي‌الله‌عنها يسلم عليها قالت : وأين تريد؟

قال : أردت العمرة ، قالت : جلست حتّى إذا دخل عليك شهر رمضان خرجت فيه؟

قال : قد خرج ثقلي ، قالت : اجلس حتّى إذا أفطرت فاخرج ، فلو أدركني رمضان وأنا ببعض الطريق لأقمت له. وقال الآخرون معنى الآية (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ما شهد منه وكان حاضرا وإن سافر فله الإفطار إن يشأ ، قاله ابن عبّاس وعامّة أهل التأويل ، وهو أصحّ الأقاويل يدلّ عليه ما روى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عبّاس قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح صائما في رمضان حتّى إذا بلغ القنطرة دعا بماء فشرب.

وعن الشعبي : إنّه سافر في رمضان فأفطر عند باب الجسر.

ثمّ ذكر فقال : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً) اختلف العلماء في الزمن الّذي أباح الله تعالى معه الإفطار ، فقال قوم : هو كل مرض يسمّى مريضا.

وقال [طريف بن تمام] العطاردي : دخلت على محمّد بن سيرين يوما في شهر رمضان وهو يأكل فلمّا فرغ قال لا توجّعت إصبعي هذه.

وقال آخرون : فكل مرض كان الأغلب من أمر صاحبه بالصّوم الزّيادة في علّته زيادة غير محتملة ، وهو اختيار الشّافعي.

وقال الحسن وإبراهيم : إذا لم يستطع المريض أن يصلّي قائما أفطر ، والأصل إنّه إذا لم يمكنه الصّيام وأجهده أفطر فإذا لم يجهده الصّوم فهو بمعنى الصحيح الّذي يطيق الصوم.

(أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) اختلف العلماء في صيام المسافر فقال قوم : الإفطار في السّفر عزيمة واجبة وليس برخصة فمن صام في السفر فعليه القضاء إذا أقام ، وهو قول عمرو أبي هريرة وابن عبّاس وعلي بن الحسين وعروة بن الزبير والضحّاك ، واعتلّوا بما روت أمّ الدّرداء عن كعب بن عاصم قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ليس من البرّ الصيام في السفر» [٤٧] (١).

الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال : الصّائم في السّفر كالمفطر في الحضر.

وقال آخرون : الإفطار في السّفر رخصة من الله عزوجل والفرض الصّوم فمن صام ففرضه

__________________

(١) كتاب الأم للشافعي : ٢ / ١١٢ ، ومسند الحميدي : ٢ / ٣٨١.

٧١

أدي ومن أفطر فبرخصة الله أخذ ولا قضاء على من صام إذا أقام ، وهذا هو الصّحيح وعليه عامّة الفقهاء. ويدلّ عليه : ما روى عاصم بن الأحول عن أبي نضرة عن جابر قال : كنّا مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر فمنّا الصّائم ومنّا المفطر فلم يكن بعضنا يعيب على بعض.

وروى يحيى بن سعيد عن هشام عن أبيه عن عائشة : إنّ حمزة بن عمرو قال : يا رسول الله إنّي كنت أتعوّد الصيام أفأصوم في السّفر قال : «إن شئت فصم وإن شئت فأفطر» [٤٨] (١).

وعن عروة بن أبي قراح عن حمزة بن عمرو إنّه قال : يا رسول الله أجد بي قوّة على الصّيام في السّفر فهل عليّ جناح قال : «هي رخصة من الله عزوجل فمن آخذها فحسن ومن أحبّ أن يصوم فلا جناح عليه» [٤٩] (٢).

وامّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس من البرّ الصّيام في السّفر». فإنّ تمام الخبر يدلّ على تأويله وهو ما روى محمّد بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ برجل في ظل شجرة يرش عليه الماء فقال : «ما بال صاحبكم هذا؟» قالوا : يا رسول الله صام ، قال : «إنّه ليس من البرّ أن تصوموا في السّفر ، وعليكم برخصة الله تعالى التي رخص لكم فاقبلوها» ، وكذلك تأويل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصائم من السّفر كالمفطر في الحضر» [٥٠] (٣).

يدلّ عليه حديث مجاهد عن ابن عمر : إنّه مرّ برجل ينضح الماء على وجهه وهو صائم ، فقال : أفطر ويحك فإنّي أراك لو متّ على هذا دخلت النّار.

والجامع لهذه الأخبار والمؤيد لما قلنا ما روى أيوب عن عروة وسالم إنّهما كانا عند عمر بن عبد العزيز ، إذ هو أمير على المدينة. فتذاكروا الصّوم في السّفر. فقال سالم : كان ابن عمر لا يصوم في السّفر ، وقال عروة : كانت عائشة تصوم في السّفر. فقال : سالم : إنما أحدّث عن ابن عمر ، وقال عروة : إنّما أحدّث عن عائشة ، فارتفعت أصواتهما ، فقال عمر بن عبد العزيز : اللهمّ اغفر إذا كان يسرا فصوموا وإذا كان عسرا فأفطروا.

ثمّ اختلفوا في المستحب منهم ، فقال قوم : الصّوم أفضل ، وهو قول معاذ بن جبل وأنس وإبراهيم ومجاهد.

ويروى إنّ أنس بن مالك أمر غلاما له بالصّوم في السّفر ، فقيل له في هذه الآية ، فقال : نزلت ونحن يومئذ نرحل جياعا وننزل على غير شبع ، فمن أفطر فبرخصة ، ومن صام فالصّوم أفضل.

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ١ / ٥٣١ ح ١٦٦٢ ، وسنن النسائي : ٤ / ١٨٦.

(٢) المجموع : ٦ / ٢٦٤ ، صحيح مسلم : ٣ / ١٤٥.

(٣) سنن النسائي : ٤ / ١٧٦ ، وصحيح ابن خزيمة : ٣ / ٢٥٩.

٧٢

وقال آخرون : المستحب الإفطار لما

روى جعفر بن محمّد عن أبيه عن جابر قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مكّة عام الفتح في رمضان فصام حتّى إذا بلغ كراع الغميم فصام النّاس ، فبلغه إنّ الناس قد شقّ عليهم الصّيام فدعا بقدح ماء وشرب بعد العصر والنّاس ينظرون فأفطر بعض النّاس وصام بعضهم فبلغه إنّ النّاس صاموا فقال : «أولئك العصاة» [٥١] (١).

عاصم الأحول عن [بريد] العجلي عن أنس بن مالك قال : كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمنّا الصائم ومنا المفطر فنزلنا في يوم حار واتخذنا ظلالا فسقط الصوّام وقام المفطرون فسقوا الرّكاب فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذهب المفطرون اليوم بالأجر» [٥٢] (٢).

وروى شعبة عن معلّى عن يوسف بن الحكم قال : سألت ابن عمر عن الصّوم في السّفر فقال : أرأيت لو تصدّقت على رجل بصدقة فردّها عليك ألم يغضبك؟

قال : نعم ، قال : فإنّها صدقة من الله عزوجل تصدّق بها عليكم ، وحدّ الاسفار التي يجوز فيها الإفطار ستّة عشر فرسخا فصاعدا.

(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) حين أرخص في الأسفار للمريض والمسافر.

(وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع : الْعُسُرَ والْيُسُرَ مثقّلين في جميع القرآن.

وقرأ الباقون : بتخفيفهما وهما لغتان جيّدتان ولا حجّة للقدرية في هذه الآية لأنّها مبنية على أوّل الكلام في إيجاب الصّيام فهي خاص في الاحكام لأهل الإسلام.

(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) قرأ أبو بكر ورويش : بتشديد الميم.

وقرأ الباقون بالتخفيف وهو الاختيار لقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (٣) والواو في قوله (وَلِتُكْمِلُوا) واو النسق واللّام لام كي تقديره : ويريد لتكملوا العدّة.

وقال الزجّاج : معناه فعل الله ذلك ليسهّل عليكم (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ).

وقال عطاء : ولتكمّلوا عدّة أيام الشهر.

وقال سائر المفسّرين : ولتكملوا عدّة ما أفطرتم في مرضكم وسفركم إذا برأتم وأقمتم وقضيتموها.

(وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) ولتعظموا الله.

__________________

(١) سنن الترمذي : ٢ / ١٠٦ ، وسنن النسائي : ٤ / ١٧٧.

(٢) المجموع للنووي : ٦ / ٢٦٤ ، وصحيح البخاري : ٣ / ٢٢٤.

(٣) سورة المائدة : ٣.

٧٣

(عَلى ما هَداكُمْ) لدينه ووفقكم ورزقكم شهر رمضان مخفّفا عليكم وخصّكم به دون سائر أهل الملل.

وقال أكثر العلماء : أراد به التكبير ليلة الفطر.

قال الشافعي روى عن ابن المسيّب وعروة بن سلمة : إنّهم كانوا يكبّرون ليلة الفطر ويجهرون بالتكبير قال : وشبّه [......] (١) لنحرها.

قال ابن عبّاس وزيد بن أسلم : في هذه الآية حقّ على المسلمين إذا رأى هلال شوّال أن يكبّروا إلى أن يخرج الإمام في الطّريق والمسجد فإذا حضر الإمام كفّ فلا يكبّر إلّا بتكبيره والاختيار في لفظ التكبير ثلاثا نسقا.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) على نعمه.

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) الآية : اختلف المفسّرون في سبب نزول هذه الآية فقال ابن عبّاس : نزلت في عمر بن الخطّاب وأصحابه حين أصابوا من أهاليهم في ليالي شهر رمضان وستأتي قصّتهم فيما بعد إن شاء الله.

وروى الكلبي عن أبي صالح عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف يسمع ربّنا دعاؤنا وأنت تزعم إنّ بيننا وبين السّماء مسيرة خمسمائة عام وان غلظ كل سماء مثل ذلك»؟ فنزلت هذه الآية.

وقال الحسن : سأل أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول الله أين ربّنا؟ فأنزل الله هذه الآية.

وقال قتادة وعطاء : لمّا نزلت (وَقالَ رَبُّكُمُ : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).

فقالوا : يا رسول الله كيف ندعوا ربّنا؟ ومتى ندعوه؟ فأنزل الله هذه الآية.

قال الضحّاك : سأل بعض الصحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد؟ فسأل ربّه فأنزل الله : (وَإِذا سَأَلَكَ) يا محمّد (عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ).

وقال أهل المعاني : فيه إضمار كأنّه فعل هم وما علمهم أفي قريب منهم بالعلم.

وقال أهل الإشارة : رفع الواسطة إظهارا للقدرة.

(أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا) فليجيبوا (لِي) بالطاعة يقال أجاب واستجاب بمعنى واحد.

وقال كعب بن سعد الغنوي :

وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

__________________

(١) كلمة غير مقروءة في المخطوط.

٧٤

وقال أبو رجاء الخراساني : يعني فليدعوني للاجابة وفي اللغة الطّاعة وإعطاء ما يسأل ، يقال : أجابت السماء بالمطر ، واجابت الأرض بالنبات ، كأنّ الأرض سألت السّماء المطر فأعطت ، وسالت السّماء الأرض فأعطت.

وقال زهير

وغيث من الأسمي حقّ قلاعه

أجابت رواسيه النّجا [هواطله] (١)

يريد أجابت تجمع رواسيه النجا حين سألها المطر وأعطته ذلك.

والاجابة من الله تعالى الإعطاء ومن العبد الطّاعة.

(وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) لكي يهتدوا فان قيل ما وجه قوله : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) وقوله (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وقد يدعي كثيرا فلا يستجيب ، قلنا : اختلف العلماء في وجه الآيتين وتأويلهما.

فقال بعضهم : معنى الدّعاء هاهنا الطّاعة ومعنى الاجابة الثواب كأنّه قال : أجيب دعوة الدّاعي بالثواب إذا أطاعني.

وقال بعضهم : معنى الآيتين خاص ، وإن كان لفظهما عاما ، تقديرها أجيب دعوة الدّاعي إن شئت وأجيب دعوة الدّاعي إذا وافق القّضاء ، وأجيب دعوة الدّاعي إذا لم يسأل محالا ، وأجيب دعوة الدّاعي إذا كانت الإجابة له خيرا ، يدلّ عليه ما روى أبو المتوكّل عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مسلم دعا الله عزوجل بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم إلّا أعطاه الله بها أحدى خصال ثلاث : إمّا أن تعجّل دعوته ، وامّا أن يدّخر له في الآخرة ، وامّا أن يدفع عنه من السوء مثلها» [٥٣] قالوا : يا رسول الله إذا يكثر قال : «الله أكثر» [٥٤] (٢).

وقال بعضهم : هو عام وليس في الآية أكثر من إجابة الدّعوة ، فأمّا إعطاء المنية وقضاء الحاجة فليس مذكور في الآية ، وقد يجيب السّيّد عبده والوالد ولده ثمّ لا يعطيه سؤله فالاجابة كائنة لا محالة عند حصول الدّعوة لمن قوله : أجيب واستجيب خبر والخبر لا يعترض عليه ، لأنّه إذا نسخ صار المخبر كذّابا وتعالى الله عن ذلك ، ودليل هذا التأويل : ما روى نافع عن ابن عمر عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من فتح له باب في الدّعاء فتحت له أبواب الاجابة ، وأوحى الله تعالى إلى داود صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قل للظّلمة لا تدعوني فإنّي أوجبت على نفسي أن أجيب من دعاني وإنّي إذا أجبت الظالمين لعنتهم» [٥٥].

وقيل : إنّ الله يجيب دعاء المؤمن في الوقت إلّا إنّه يؤخّر إعطاء مراده ليدعوه فيسمع

__________________

(١) كلمة غير مقروءة والظاهر ما أثبتناه.

(٢) بتفاوت في مسند الشاميين : ٤ / ٥٣ ح ٢٧١٠ ، وزاد المسير لابن الجوزي : ١ / ١٧٣.

٧٥

صوته ، يدلّ عليه ما روى محمّد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ العبد ليدعو الله وهو يحبه فيقول يا جبرئيل : اقضي لعبدي هذا حاجته وأخّرها فإنّي أحبّ أن لا أزال أسمع صوته ، وإن العبد ليدعو الله وهو يبغضه فيقول لجبريل اقض لعبدي حاجته باخلاصه وعجّلها فإني أكره أن أسمع صوته.

وبلغنا[عن يحيى ذبيح الله] أنه قال : سألت ربّ العزّة في المنام فقلت : يا رب كم أدعوك فلا تستجيب لي؟ فقال : يا يحيى أنّي أحبّ أن أسمع صوتك» [٥٦] (١).

قال بعضهم : إنّ للدعاء آدابا وشرائط هي أسباب الاجابة ونيل الأمنية فمن راعاها واستكملها كان من أهل الاجابة ومن أغفلها وأخلّ بها [فهو من أهل ...] (٢) في الدّعاء.

وحكي إنّ إبراهيم بن أدهم قيل له : ما بالنا ندعوا الله فلا يستجيب لنا؟ قال : لأنّكم عرفتم الله فلم تطيعوه وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنّته ، وعرفتم القرآن فلم تعملوا بما فيه ، وأكلتم نعمة الله فلم تؤدّوا شكرها ، وعرفتم الجنّة فلم تطلبوها وعرفتم النّار فلم تهربوا منها ، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه وعرفتم الموت فلم تستعدّوا له ، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا بهم وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس.

وقوله (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ) الآية :

قال المفسرون : كان الرجل في ابتداء الأمر إذا أفطر حلّ له الطّعام والشراب والجماع إلى أن يأتي العشاء الأخيرة أو يرقد قبلها فإذا صلّى العشاء الأخيرة أو رقد قبل الصلاة ولم يفطر حرّم عليه الطّعام والشراب ومنع ذلك إلى مثلها في القابل (٣).

ثمّ إنّ عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه واقع أهله بعد ما صلّى العشاء الأخيرة فلمّا اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه فأتى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله : إنّي أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخطيئة إنّي رجعت إلى أهلي بعد أن صلّيت العشاء الاخيرة فوجدت رائحة طيّبة فسوّلت لي نفسي فجامعت أهلي فهل تجد لي من رخصة ، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما كنت جديرا بهذا يا عمر ، فقام رجال فاعترفوا بالّذي كانوا صنعوا بعد العشاء الأخيرة ، فنزل في عمر وأصحابه (أُحِلَّ لَكُمْ) أي أطلق وأبيح لكم (لَيْلَةَ الصِّيامِ) في ليلة الصيام (الرَّفَثُ).

قرأ ابن مسعود والأعمش : الرّفوث : (إِلى نِسائِكُمْ) والرّفث والرفوث كناية عن الجماع قال ابن عبّاس : إنّ الله تعالى حي كريم يكني فما ذكر الله في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدّخول والرفث فانّما يعني به الجماع.

__________________

(١) كتاب الدعاء للطبراني : ٤٥ ، والمعجم الأوسط : ٨ / ٢١٦.

(٢) كلمات غير مقروءة.

(٣) راجع الدر المنثور : ١ / ١٧٧.

٧٦

قال الشّاعر :

فظلنا هنالك في نعمّ

وكل اللذاذة غير الرّفث

قال القتيبي : (الرَّفَثُ) هو الإفصاح بما يجب أن يكنّى به من ذكر النكاح وأصله الفحش وقول القبيح. قال العجاج :

ورب أسراب حجيج كظم

عن اللغا ورفث التكلم (١).

وقال الزجاج : (الرَّفَثُ) كلمة جامعة لكل ما يريده الرجال من النساء.

قال الشاعر :

ويزين من أنس الحديث راويا

وهنّ من رفث الرجال نفار

(هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) هنّ سكن لكم وأنتم سكن لهنّ قاله أكثر المفسّرين نظيره قوله : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) (٢) اي سكنا دليله قوله (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) (٣) ليسكن إليها.

وقال أصحاب المعاني : اللّباس الشعار الّذي يلي الجهار من الثياب فسمّي كل واحد من الزوجين لباسا لتجردهما عند النوم واجتماعهما في ثوب واحد وانضمام جسد كل واحد منهما إلى جسد صاحبه حتّى يصير كلّ واحد منهما لصاحبه كالثوب الّذي يليه.

قال نابغة بني جعدة :

إذا ما الضجيع ثنى جيدها

تثنّت وكانت لباسا (٤)

فكنّى عن اجتماعهما متجرّدين في فراش واحد باللّباس يدلّ على صحّة هذا التأويل قول الربيع بن أنس في هذه الآية : هنّ لحاف لكم وأنتم لحاف لهنّ.

وقال بعضهم : يقال لما ستر الشيء وواراه لباس فجائز أن يكون كلّ واحد منهما سترا لصاحبه عمّالا يحلّ كما جاء في الخبر : من تزوّج فقد أحرز دينه ، وسترا أيضا فيما يكون بينهما من الجماع عن أبصار الناس ، يدلّ عليه : قول أبي زيد في قوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) قال : للمواقعة.

وقال أبو عبيدة وغيره : يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وازارك ، وقال رجل لعمر بن الخطّاب :

الا أبلغ أبا حفص رسولا

فذى لك من اخي ثقة ازاري (٥)

__________________

(١) الصحاح : ١ : ٢٨٣ ، ولسان العرب : ٢ / ١٥٤.

(٢) سورة النبأ : ١٠.

(٣) سورة الأعراف : ١٨٩.

(٤) الدر المنثور : ١ / ٤٧٨.

(٥) مجمع البيان : ١ / ٥٠٢.

٧٧

قال أبو عبيدة : أي نسائي.

(عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) تخونونها وتظلمونها بعد العشاء الآخرة في ليالي الصّوم.

(فَتابَ عَلَيْكُمْ) فتجاوز عنكم.

(وَعَفا عَنْكُمْ) محا ذنوبكم.

(فَالْآنَ) وجه حكم زمانين ماض وآت.

(بَاشِرُوهُنَ) جامعوهنّ حلالا سميت المجامعة مباشرة لتلاصق كلّ واحد منهما ببشرة صاحبه.

(وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي افعلوه وقرأه العامّة الصحيحة وابتغوا أيّ اطلبوا يقال :

يبغي الشيء يبغيه بغيه وبغا وابتغاه يبتغيه ابتغاء طلبه. (ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) قضى الله لكم ، وقيل : كتب في اللوح المحفوظ.

وقال أكثر المفسرين : يعني الولد.

قال مجاهد : ابتغوا الولد إن لم تلد هذه فهذه.

قال ابن زيد : وابتغوا ما أحل الله لكم من الجماع.

قتادة : وابتغوا الرّخصة التي كتبت لكم.

وقال معاذ بن جبل : (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) يعني ليلة القدر وكذلك روى أبو الجوزاء عن ابن عبّاس وأشبه الأقاويل بظاهر الآية قول من تأوله على الولد لأنّه عقيب قوله (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) وهو أمر اباحة وندب كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تناكحوا تكثروا فانّي أباهي بكم الأمم يوم القيامة حتّى بالسقط» [٥٧] (١).

وقال أهل الظاهر : هو أمر إيجاب وحتم ، يدلّ عليه ما روى زياد بن ميمون عن أنس بن مالك : إنّ امرأة كانت يقال لها : الحولاء عطارة من أهل المدينة ، وحلّت على عائشة فقالت : يا أم المؤمنين زوجي فلان أتزيّن له كل ليلة وأتطيب كأنّي عروس زفت إليه فإذا آوى إلى فراشه دخلت عليه في لحافه ألتمس بذلك رضا الله عزوجل حوّل وجهه عني أراه قد أبغضني ، قالت : أجلسي حتّى يدخل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : فبينا إنّا كذلك إذ دخل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ما هذه الرّيح التي أجدها أتتكم الحولاء أبتعتم منها شيئا؟

__________________

(١) بتفاوت في كنز العمال : ٢ / ٥٥ ح ٤٧٢٤ ، والمصنف لعبد الرزاق : ٦ / ١٧٣.

٧٨

فقالت عائشة : لا والله يا رسول الله. فقصّت الحولاء قصتها. فقال لها : اذهبي واسمعي له وأطيعي ، فقالت : أفعل يا رسول الله ، فما لي من الأجر؟

قال : «ما من امرأة رفعت في بيت زوجها شيئا ووضعته مكانا تريد الإصلاح إلّا كتب الله لها حسنة ومحا عنها سيئة ، ورفع لها درجة ، وما من امرأة حملت من زوجها حين تحمل إلّا لها من الأجر مثل القائم الصّائم نهاره الغازي في سبيل الله ، وما من امرأة يأتيها الطلق إلّا لها بكل طلقة عتق نسمة وبكل رضعة عتق رقبة فإذا افطمت ولدها ناداها مناد من السّماء أيتها المرأة قد كفيت العمل فيما مضى فاستأنفي فيما بقي» [٥٨].

قالت عائشة : قد أعطى الله النّساء خيرا كثيرا فما بالكم يا معشر الرّجال ، فضحك النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمّ قال : «ما من رجل أخذ بيد امرأته يراودها إلّا كساه نور وله حسنة ، وإن عانقها فعشر حسنات وإن قبلها فعشرون ، وإن أتاها كان خيرا من الدّنيا وما فيها ، فإذا قام يغتسل لم يمرّ الماء على شيء من جسده إلّا يمحى عنه سيئة ، ويعطي له [......] (١) يعطى بغسله خير من الدّنيا وما فيها ، وإنّ الله عزوجل يباهي الملائكة يقول : انظروا إلى عبدي قام في ليلة مرة باردة يغتسل من الجنابة يتيقن بأني ربّه أشهدكم بأني غفرت له» [٥٩] (٢).

(كُلُوا وَاشْرَبُوا) إلى (الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ).

نزلت في رجل من الأنصار ، واختلف في اسمه. فقال معاذ بن جبل : أبو صرمة البراء قيس بن صرمة.

عكرمة والسّدي : ابو قيس بن صرمه.

مقاتل بن حيّان : صرمة بن أياس الكلبي : أبو قيس صرمة بن أنس بن أبي صرمة بن ملك بن عدي النّجار ؛ وذلك إنّه ظل نهاره يعمل في أرض له ، وهو صائم ، فلما أمسى رجع إلى أهله بتمر وقال : قدّمي الطّعام ، وأرادت المرأة أن تطعمه عشاء سخنا ، وأخذت تعمل له سخينة ، وكان في الصّوم الأول من صلّى العشاء الآخرة أو نام ، حرم عليه الطعام والشّراب والجماع ، فلما فرغت من طعامه إذا هي به قد نام ، وكان متداعيا وكلّ فايقظته فكره أن يعصي الله ورسوله وأبى أن يأكل ، وأصبح صائما مجهودا ، فلم ينتصف النهار حتّى غشي عليه ، فلمّا أفاق ، أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما رآه رسول الله قال : «يا أبا قيس مالك أمسيت طليقا؟» [٦٠] قال : ظللت أمس في النخيل ونهاري كلّه أجر بالحرير حتّى أمسيت ، فأتيت فأرادت امرأتي أن تطعمني شيئا سخنا فأبطأت عليّ ، فنمت فايقظوني وقد حرّم عليّ الطعام والشراب ، فطويت وأمسيت وقد أجهدني الصّوم ، فاغتمّ لذلك

__________________

(١) كلمة غير مقروءة.

(٢) لم نجده في المصادر.

٧٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى (وَكُلُوا) يعني في ليالي الصّوم (وَاشْرَبُوا) فيها (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) أي بياض النّهار وضوءه من سواد الليل وظلمته ، كذا قال المفسرون. قال الشاعر :

الخيط الأبيض وقت الصّبح منصدع

والخيط الأسود لون الليل مكموع (١)

وإنّما سمّي بذلك تشبيها بالخيط ؛ لابتداء الضوء والظلمة لامتدادهما.

وقال ابو داود :

فلمّا أضاءت لنا غدوة

ولاح من الصبح خيط أنارا (٢)

وقد ورد النّص عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسير هذه الآية.

وروى مخالد عن عامر عن عدي بن حاتم قال : علمني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصّلاة والصّيام قال : صل كذا ، وصم كذا ، فإذا غابت الشمس : فكل واشرب حتّى يتبين لك (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ، وصم ثلاثين يوما إلى أن ترى الهلال قبل ذلك ، قال : فأخذت خيطتين من شعر أبيض وأسود ، وكنت أنظر فيهما فلا يتبين لي.

فذكرت ذلك للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حتّى بدت نواجذه وقال : «يا ابن حاتم إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل» [٦١] (٣).

وروى أبو حازم عن سهل بن سعد قال : نزلت هذه الآية (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ولم يقول : من الفجر.

كان رجال إذا أرادوا الصوم يضع أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتّى يتبين لهم فأنزل الله تعالى (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا إنّما يعني بذلك الليل والنهار.

والفجر انشقاق عمود الصبح وابتداء ضوءه ، وهو مصدر من قولك فجرّ الماء يفجر فجرا إذا انبعث وجرى شبّهه شق الضوء بظلمة الفجر ، الماء الحوض إذا شقه وخرج منه وهما فجران ، أحدهما : يسطع في السماء مستطيلا كذنب السرحان ولا ينتشر فذلك لا يحل الصلاة ولا يحرم الطعام على الصائم وهو الفجر الكاذب.

والثاني : هو المستطير الذي ينتشر ويأخذ الأفق ضوء الفجر الصادق الذي يحل الصلاة ويحرم الطعام على الصائم وهو المعني بهذه الآية.

__________________

(١) الدر المنثور : ١ / ٤٨٠.

(٢) مجمع البيان : ١ / ٥٠٢.

(٣) راجع تحفة الأحوذي : ٣ / ٣٢٠ ، والمعجم للطبراني : ١٧ / ٧٨.

٨٠