الكشف والبيان - ج ٢

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٢

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١١

فأما تفسير الآية وحكمها ، فقال ابن عباس وسائر المفسرين : نزلت هذه الآية في رجل من أهل الطائف يقال له : حكيم بن الحرث هاجر إلى المدينة وله أولاد ومعه أبواه وامرأته فمات ، فرفع ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فأعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والديه وأولاده من ميراثه ولم يعط امرأته غير أنّه أمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا ، وذلك أن الرجل كان إذا مات وترك امرأة اعتدّت سنة في بيت زوجها لا تخرج ، فإذا كان الحول خرجت ورمت كلبا ببعرة تعني بذلك أن قعودها بعد زوجها أهون عليها من بعرة رمي بها كلب ، وقد ذكر ذلك الشعراء في شعرهم ، قال لبيد :

والمرملات إذا تطاول عامها (١)

وكان سكناها ونفقتها واجبة في مال زوجها هذه السنة ما لم تخرج ، وكان ذلك حظّها من تركة زوجها ، ولم يكن لها الميراث ، وإن خرجت من بيت زوجها فلا نفقة لها ، وكان الرجل يوصي بذلك ، وكان كذلك حتّى نزلت آية المواريث فنسخ الله نفقة الحول بالربع والثمن ، ونسخ عدة الحول بقوله (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) قال الله تعالى (فَإِنْ خَرَجْنَ) يعني من قبل أنفسهنّ قبل الحول من غير إخراج الورثة (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) يا أولياء الميت (فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) يعني التشوق للنكاح ، وفي معنى رفع الجناح عن الرجال بفعل النساء وجهان :

أحدهما : لا جناح عليكم في قطع النفقة عنهنّ إذا خرجن قبل انقضاء الحول.

والوجه الآخر : لا جناح عليكم في ترك منعهنّ من الخروج لأن مقامها حولا في بيت زوجها غير واجب عليها ، خيّرها الله في ذلك إلى أن نسخت أربعة أشهر وعشرا ، لأن ذلك لو كان واجبا عليها ما كان على أولياء الزوج منعها من ذلك ، فرفع الله الجناح عنهم وعنها ، وأباح لها الخروج إن شاءت ، ثم نسخ النفقة بالميراث ، ومقام السنة بأربعة أشهر وعشرا (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) قد ذكرنا حكم المتعة بالاستقصاء ، فأغنى عن إعادته ، وإنّما أعاد ذكرها هاهنا لما فيها من زيادة المعنى على ما سواها وهي أنّ فيما سوى هذا بيان حكم غير الممسوسة إذا طلقت ، وهاهنا بيان حكم جميع المطلقات في المتعة.

وقال ابن زيد : نزلت هذه الآية لأنّ الله تعالى لما أنزل قوله (وَمَتِّعُوهُنَ) إلى قوله (عَلَى الْمُحْسِنِينَ) قال رجل من المسلمين : إن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل ، قال الله تعالى (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) يعني المؤمنين المتقين الشرك ، فبيّن أنّ لكل مطلقة متاعا وقد ذكرنا الخلاف فيها ، وروى أياس بن عامر عن علي بن أبي طالب (رضي

__________________

(١) غريب الحديث : ٢ / ٩٧.

٢٠١

الله عنه) قال : لكل مؤمنة مطلقة حرّة أو أمة متعة وتلا قوله (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) الآية.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥))

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا) الآية ، قال أكثر المفسّرين : كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط وقع بها الطاعون ، فخرجت طائفة هاربين من الطاعون ، وبقيت طائفة فهلك أكثر من بقي في القرية ، وسلّم الذين خرجوا ، فلمّا ارتفع الطاعون رجعوا سالمين ، فقال الذين بقوا : أصحابنا كانوا أحزم منا ، لو صنعنا كما صنعوا لبقينا ، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجنّ إلى أرض نأوي بها ، فوقع الطاعون من قابل ؛ فهرب عامّة أهلها فخرجوا حتّى نزلوا واديا أفيح ، فلمّا نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة والحياة ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه أن موتوا فماتوا جميعا (١).

وعن الأصمعي قال : لما وقع الطاعون بالبصرة خرج رجل من أهلها عنها على حمار ومعه أهله وولده وخلفه عبد حبشي يسوق حماره ، فطفق العبد يرتجز وهو يقول :

لن نسبق الله على حمار

ولا على ذي منعة مطار

قد يصبح الله أمام الساري

فرجع الرجل بعياله لمّا سمع قوله ، وروى عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع وأنتم فيه فلا تخرجوا فرارا منه»[١٧٦] (٢).

وقال الضحّاك ومقاتل والكلبي : إنما فرّوا من الجهاد وذلك أن ملكا من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوّهم ، فخرجوا فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا الموت واعتلّوا ، وقالوا لملكهم : إن الأرض التي نأتيها فيها الوباء فلا نأتيها حتّى ينقطع منها الوباء ، فأرسل الله تعالى عليهم الموت ، فلمّا رأوا أن الموت كثر فيهم (خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) فرارا من الموت ، فلمّا رأى الملك ذلك قال : اللهم رب يعقوب وإله موسى قد ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم حتّى

__________________

(١) جامع البيان : ٢ / ٧٩٤.

(٢) المعجم الكبير للطبراني : ١ / ١٣١.

٢٠٢

يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك ، فلمّا خرجوا قال (لَهُمُ اللهُ : مُوتُوا) ، عقوبة لهم ، فماتوا جميعا ، وماتت دوابهم كموت رجل واحد ، فأتى عليهم ثمانية أيام حتّى انتفخوا وأروحت أجسادهم ، فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم فحظروا عليهم حظيرة دون السباع وتركوهم فيها.

واختلفوا في مبلغ عددهم ، فقال عطاء الخراساني : كانوا ثلاثة آلاف ، ابن عباس ووهب : أربعة آلاف ، مقاتل والكلبي : ثمانية آلاف ، أبو روق : عشرة آلاف ، أبو مالك : ثلاثون ألفا ، الواقدي بضعة ومائتين ألفا ، ابن جريج : أربعين ألفا ، عطاء بن أبي رياح : سبعين ألفا ، الضحّاك : كانوا عددا كبيرا ، وأولى الأقاويل بالصواب قول من قال : زادوا على عشرة آلاف ، وذلك أنّ الله تعالى قال (وَهُمْ أُلُوفٌ) وما دون العشرة لا يقال ألوف ، إنّما يقال : ثلاثة آلاف فصاعدا إلى عشرة آلاف ، فمن الألوف جمع الكثير وجمعه القليل آلاف ، مثل يوم وأيام ، ووقت وأوقات ، وألف على وزن أفعل.

[وقيل :] كانوا ثلاثة آلاف [وكيسة] (١) اليمان أعجمي من بني الفداحم.

قالوا : فأتى على ذلك مدة وقد بليت أجسادهم وعريت عظامهم وتقطّعت أوصالهم ، فمرّ عليهم نبي يقال له حزقيل بن بوري ثارم أحد خلفاء بني إسرائيل بعد موسى عليه‌السلام ، وذلك بأنّ القيّم بأمر بني إسرائيل كان بعد موسى عليه‌السلام يوشع بن نون ، ثم كالب بن يوفنا ، ثم حزقيل ، وكان يقال له ابن العجوز وذلك أنّ أمه كانت عجوزا فسألت الله تعالى الولد ، وقد كبرت وعقمت فوهبه الله لها فلذلك قيل له : ابن العجوز (٢).

قال الحسن ومقاتل : هو ذو الكفل لأنّه تكفل سبعين نبيّا وأنجاهم من القتل ، وقال لهم : اذهبوا فإني إن قتلت كان خيرا من أن تقتلوا جميعا ، فلمّا جاء اليهود وسألوا حزقيل عن الأنبياء السبعين ، قال : إنهم ذهبوا ولا أدري أين هم ، ومنع الله ذا الكفل من اليهود ، فلمّا مرّ حزقيل على أولئك الموتى وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم متعجبا منهم ، فأوحى الله إليه : يا حزقيل تريد أن أريك آية ، فأريك كيف أحيي الموتى؟ قال : نعم ، فأحياهم الله. هذا قول السدي وجماعة من المفسّرين.

وقال هلال بن يساف وجماعة من العلماء : بل دعا حزقيل ربّه أن يحييهم ، فقال : يا ربّ لو شئت أحييت هؤلاء فعمّروا بلادك وعبدوك ، فقال الله : أتحب أن أفعل؟ قال : نعم ، فأحياهم.

وقال عطاء ومقاتل والكلبي : بل هم كانوا قوم حزقيل أحياهم الله تعالى بعد ثمانية أيام ، وذلك أنّهم لما أصابهم ذلك خرج حزقيل في طلبهم فوجدهم موتى وبكى وقال : يا ربّ كنت في

__________________

(١) كذا في المخطوط.

(٢) تاريخ الطبري : ١ / ٣٢٢.

٢٠٣

قوم يحمدونك ويسبحونك ويقدّسونك ويهللونك ويكبّرونك ؛ فبقيت وحيدا لا قوم لي ، فأوحى الله إليه : إني قد جعلت حياتهم إليك ، فقال حزقيل : أحيوا بأمر الله ، فعاشوا.

وقال : وثمّت أصابهم بلاء وشدّة من الزمان فشكوا ما أصابهم وقالوا : ما لبثنا ، متنا واسترحنا مما نحن فيه ؛ فأوحى الله تعالى إلى حزقيل : إن قومك قد صاحوا من البلاء وزعموا أنهم ودّوا لو ماتوا واستراحوا وأي راحة لهم في الموت ، أيظنون أنّي لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت ، فانطلق إلى جبّانة كذا فإن فيها قوما أمواتا ، فأتاهم فقال الله : يا حزقيل قم فنادهم ، وكانت أجسادهم وعظامهم قد تفرّقت ، فنادى حزقيل : أيتها العظام إنّ الله يأمرك أن تكتسي باللحم ، فاكتست جميعا باللحم ، وبعد اللحم جلدا ودما وعصبا وعروقا وكانت أجسادا ، ثم نادى أيّتها الأرواح إنّ الله يأمرك أن تعودي في أجسادك ، فقاموا جميعا وعليهم ثيابهم التي ماتوا فيها ، وكبّروا تكبيرة واحدة.

وروى المنصور بن المعتمر عن مجاهد أنهم قالوا حين أحيوا : سبحانك ربّنا وبحمدك ، لا إله إلّا أنت ، فرجعوا إلى قومهم بعد ما أحياهم الله ، وتناسلوا وعاشوا دهرا يعرفون أنهم كانوا موتى ، سحنة الموت على وجوههم ، لا يلبسون ثوبا إلّا عاد دسما مثل الكفن حتّى ماتوا لآجالهم التي كتبت عليهم (١).

قال ابن عباس : فإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح (٢).

قال قتادة : مقتهم الله تعالى على فرارهم من الموت ، فأماتهم [عقربة] ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليستوفوها ، ولو كان آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم (٣) ، فذلك قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا) ألم تر أي ألم تخبر ، ألم تعلم بإعلامي إيّاك وهو رؤية القلب لا رؤية العين ؛ فصار تصديق أخبار الله عزوجل كالنظر إليه عيانا.

وقال أهل المعاني : هو تعجب وتعظيم يقول : هل رأيت مثلهم كما تقول : ألم تر إلى ما يصنع فلان؟ وكلّ لم في القرآن من قوله (أَلَمْ تَرَ) ولم يعاينه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهذا وجهه ومعناه ، وقرأها كلّها أبو عبد الرحمن السلمي أَلَمْ تَرْ بسكون الراء وهي لغة قسم من العرب لمّا حذفوا الياء للجزم توهّموا أن الراء آخر الكلمة فسكّنوها ، وأنشد الفراء :

قالت سليمى سر لنا دقيقا

(إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ) واو الحال (أُلُوفٌ) جمع ألف ، وقال ابن زيد : مؤتلف قلوبهم جعله جمع ألف مثل جالس وجلوس وقاعد وقعود (حَذَرَ الْمَوْتِ) أي من خوف

__________________

(١) بطوله مع تفاوت في تاريخ الطبري : ١ / ٣٢٢. ٣٢٣.

(٢) تفسير الطبري : ٢ / ٧٩٨.

(٣) المصدر السابق.

٢٠٤

الموت (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) أمر تحويل كقوله (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ).

(ثُمَّ أَحْياهُمْ) من بعد موتهم (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) إلى (يَشْكُرُونَ) ثم حثّهم على الجهاد فقال : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) طاعة الله ، أعداء الله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) قال أكثر المفسّرين : هذا للذين أحيوا ، قال الضحّاك : أمروا أن يقاتلوا في سبيل الله فخرجوا من ديارهم فرارا من الجهاد ؛ فأماتهم الله عزوجل ثم أحياهم ثم أمرهم أن يعودوا إلى الجهاد ، وقال بعضهم : هذا الخطاب لأمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) الآية ، قال سفيان : لمّا نزلت (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رب زد أمتي» [١٧٧] فنزلت (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) الآية ، فقال : «زد أمتي» فنزلت (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ).

واختلف العلماء في معنى هذا القرض ، فقال الأخفش : قوله (يُقْرِضُ) ليس لحاجة بالله ولكن تقول العرب : لك عندي قرض صدق وقرض سوء لأمر يأتي فيه مسرّته أو مساءته.

وقال الزجاج : القرض في اللغة البلاء الحسن والبلاء السيّئ ، قال أمية بن أبي الصلت :

لا تخلطنّ خبيثات بطيّبة

واخلع ثيابك منها وأنج عريانا

كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا

أو سيّئا أو مدينا مثل ما دانا (١)

وأنشد الكسائي :

تجازى القروض بأمثالها

فبالخير خيرا وبالشرّ شرّا (٢)

وقال أيضا : ما أسلفت من عمل صالح أو سيّئ.

ابن كيسان : القرض أن تعطي شيئا ليرجع إليك مثله ويقضى شبهه ؛ فشبّه الله عمل المؤمنين لله على ما يرجون من ثوابه بالقرض ؛ لأنّهم إنما يعطون ما ينفقون ابتغاء ما عند الله عزوجل من جزيل الثواب ، فالقرض اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه ، قال لبيد :

وإذا جوزيت قرضا فاجز به

إنما يجزى الفتى ليس الجمل (٣)

قال بعض أهل المعاني : في الآية اختصار وإضمار ، مجازها : من ذا الذي يقرض عباد الله [قرضا] كقوله (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) وقوله (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) فأضافه سبحانه هاهنا إلى نفسه للتفضيل وللاستعطاف ، كما في الحديث : إن الله تعالى يقول لعبده :

__________________

(١) البيت الأول في تاريخ الطبري : ٣ / ٤٥٤ ، والثاني في لسان العرب : ٧ / ٢١٦.

(٢) تفسير القرطبي : ٣ / ٢٣٩.

(٣) لسان العرب : ٧ / ٢١٧.

٢٠٥

استطعمتك فلم تطعمني ، واستسقيتك فلم تسقني ، واستكسيتك فلم تكسني ، فيقول العبد : وكيف ذلك يا سيدي؟ يقول : مرّ بك فلان الجائع ، وفلان العاري فلم [تعطف] عليه من فضلك ، فلأمنعنّك اليوم من فضلي كما منعته.

وقال أهل الإشارة : أمر الله تعالى بالصدقة على لفظ القرض إظهارا لمحبّته لعباده المؤمنين ، وذلك أنه إنما يستقرض من الأحبّة ، ولذلك قال يحيى بن معاذ : عجبت ممن يبقى له مال ورب العرش يستقرضه ، وقال بعضهم : هذا [تلطف] من الله تعالى في المواساة والإقراض لعباده.

أبو القاسم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت على باب الجنة مكتوبا : والقرض بثمانية عشر ، والصدقة بعشر فقلت : يا جبرئيل ما بال القرض أعظم أجرا؟ قال : لأن صاحب القرض لا يأتيك إلّا محتاجا ، وربّما وقعت الصدقة في غير أهلها» [١٧٨] (١).

أبو سلمة عن أبي هريرة وابن عباس قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أقرض أخاه المسلم فله بكل درهم وزن أحد وثبير وطور سيناء حسنات» [١٧٩] (٢).

فمعنى الآية : من هذا الذي (مَنْ) استفهام ومحلّه رفع بالابتداء و (الَّذِي) خبره (يُقْرِضُ اللهَ) ينفق في طاعة الله ، وأصل القرض القطع ، ومنه قرض الفأر الثوب وسمّي الشعر قريضا لأنّه يقطعه من كلامه ، والدّين قرضا لأنّه يقطعه من ماله.

(قَرْضاً حَسَناً) قال علي بن الحسين الواقدي يعني محتسبا ، طيّبة به نفسه. ابن المبارك : هو أن يكون المال من الحلال. عمر بن عثمان الصدفي : هو أن لا يمنّ به ولا يؤذي. سهل بن عبد الله : هو أن لا يعتقد بقرضه عوضا (فَيُضاعِفَهُ) يزيده (لَهُ) واختلف القرّاء فيه ، فقرأ عاصم وابن أبي إسحاق وأبو حاتم (فَيُضاعِفَهُ) نصبا بالألف ، وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتشديد والنصب وبالألف ، وقرأ ابن كثير وأبو جعفر بالتشديد والرفع ، وقرأ الآخرون بالألف والتخفيف ورفع الفاء ، فمن رفع جعله نسقا على قوله (يُقْرِضُ) ، وقيل : فهو يضاعفه ، ومن نصبه جعله جوابا للاستفهام بالفاء ، وقيل : بإضمار أن والتشديد والتخفيف لغتان ، ودليل التشديد قوله (أَضْعافاً كَثِيرَةً) لأنّ التشديد للتكثير.

قال الحسن والسدي : هذا التضعيف لا يعلمه إلّا الله مثل قوله (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) وقال أبو هريرة : هذا في نفقة الجهاد ، قال : وكنّا نحسب ـ ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرنا ـ نفقة الرجل على نفسه ورفقائه وظهره ألفي ألف.

(وَاللهُ يَقْبِضُ) يعني يمسك الرزق عمّن يشاء ويقتر ويضيق عليه ، دليله قوله (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ)

__________________

(١) كنز العمال : ٦ / ٢١١ ح ١٥٣٨٢.

(٢) بغية الباحث : ٧٧.

٢٠٦

أي يمسكونها عن النفقة في سبيل الله (وَيَبْصُطُ) أي يوسع الرزق على من يشاء ، نظيره قوله (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ) الآية ، والأصل في هذا قبض اليد عند البخل وبسطها عند البذل.

وقيل : هو الإحياء والإماتة فمن أماته فقد قبضه ومن مدّ له في عمره فقد بسط له ، وقيل : (وَاللهُ يَقْبِضُ) الصدقة (وَيَبْصُطُ) بالخلف ، وروى اليزيدي عن عمرو قال : بالصاد في بعض الروايات ، وعن بعضهم كأنّه قال : هذا في القلوب ، لمّا أمرهم الله بالصدقة أخبرهم أنه لا يمكنهم ذلك إلّا بتوفيقه ، (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) يعني يقبض على القلوب فيزويه كيلا ينبسط لخير ويبسط بعضها فيقدّم لنفسه خيرا.

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يعني وإلى الله تعودون فيحسن لكم بأعمالكم ، وقال قتادة : الهاء راجعة إلى التراب كناية عن غير مذكور أي من التراب خلقهم وإليه يعودون ، وعن ابن مسعود وأبي أمامة وزيد بن أسلم ـ دخل حديث بعضهم في بعض ـ قالوا : نزلت (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) الآية ، فلمّا نزلت قال أبو الدحداح : فداك أبي وأمي يا رسول الله ، إنّ الله يستقرض وهو غنيّ عن القرض ، قال : «نعم ، يريد أن يدخلكم الجنة» قال : فإنّي إن أقرضت ربي قرضا تضمن لي الجنة؟ قال : «نعم ، من تصدّق بصدقة فله مثلها في الجنّة» ، قال : فزوجي أم الدحداح معي؟ قال : نعم قال [وصبيان] الدحداح معي؟ قال : نعم ، قال : ناولني يدك فناوله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده فقال : إنّ لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية ، والله لا أملك غيرهما وجعلتهما قرضا لله عزوجل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجعل إحداهما لله عزوجل والأخرى معيشة لك ولعيالك» قال : فأشهدك يا رسول الله أني جعلت غيرهما لله تعالى وهو حائط فيه ستمائة نخلة ، قال : «يجزيك الله إذا به بالجنة».

فانطلق أبو الدحداح حتّى أتى أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول :

هداك ربي سبل الرشاد

إلى سبيل الخير والسداد

قرضي من الحائط لي بالواد

فقد مضى قرضا إلى التناد

أقرضته الله على اعتماد

بالطوع لا منّ ولا ارتداد

إلّا رجاء الضعف في المعاد

فارتحلي بالنفس والأولاد

والبرّ لا شك فخير زاد

قدّمه المرؤ إلى المعاد

قالت أم الدحداح : ربح بيعك ، بارك الله لك فيما اشتريت ، فأنشأ أبو الدحداح يقول :

مثلك أجدى ما لديه ونصح

إن لك الحظ إذا الحق وضح

قد متّع الله عيالي ومنح

بالعجوة السوداء والزهو البلح

٢٠٧

والعبد يسعى وله ما قد كدح

طول [الليالي] وعليه ما اجترح

ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتّى أفضت إلى الحائط الآخر فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كم من عذق رداح ، ودار فياح في الجنة لأبي الدحداح» [١٨٠] (١)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦))

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) والملأ من القوم وجوههم وأشرافهم ، وأصل الملأ الجماعة من الناس ، لا واحد له من لفظ مثل الإبل والخيل والجيش ، ولكن جمعه أملاء ، قال الشاعر :

[وسط] (٢) الأملاء وافتتح الدعاءا

لعلّ الله يكشف ذا البلاءا

(مِنْ بَعْدِ مُوسى) أي من بعد موت موسى (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ) اختلفوا في ذلك النبي من هو ، فقال قتادة : هو يوشع بن نون بن أفرايم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وقال السدّي : اسمه شمعون ، وإنّما سمّي شمعون لأنّ أمّه دعت الله أن يرزقها غلاما ؛ فاستجاب الله دعاءها فولدت غلاما فسمّته شمعون تقول : سمع الله دعائي والسين يصير شينا بلغة العبرانية ، وهو شمعون بن صفية بن علقمة بن أبي يأسف بن قارون بن نصهر بن فاحث بن لاوي بن يعقوب.

وقال سائر المفسّرين : هو إشمويل ، وهو بالعربية إسماعيل بن نالي بن علقمة بن حازم بن الهر بن عرصوف بن علقمة بن فاحث بن عموصا بن عرزيا ، وقال مقاتل : هو من نسل هارون عليه‌السلام. مجاهد : هو اسمويل بن هلفانا ولم ينسبه أكثر من ذلك.

قال وهب وابن إسحاق والسدي والكلبي وغيرهم : كان سبب مقاتلتهم إيّاه ذلك أنه لما مات موسى عليه‌السلام خلّف بعده في بني إسرائيل يوشع ، يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتّى قبضه الله ، ثم خلف فيهم كالب يقيم فيهم التوراة وأمر الله تعالى حتّى قبضه الله تعالى ، ثم خلف فيهم حزقيل كذلك ، ثم إن الله تعالى قبض حزقيل ، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث ونسوا عهد الله حتّى عبدوا الأوثان ، فبعث الله تعالى إليهم إلياس نبيّا ، فجعل يدعوهم إلى الله ، وإنّما كانت

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٣ / ٢٣٨ ، وانظر التفاوت فيه.

(٢) كذا في المخطوط ولم نجده.

٢٠٨

الأنبياء من بني إسرائيل من بعد موسى يبعثون إليهم لتجديد ما نسوا من التوراة.

ثم خلّف بعد إلياس اليسع وكان فيهم ما شاء الله أن يكون ، ثم قبضه الله إليه ، وخلفت فيهم الخلوف وعظمت فيهم الخطايا ، وظهر لهم عدو يقال له البلثانا وهم قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم من مصر وفلسطين ، وهم العمالقة فظهروا على بني إسرائيل وغلبوهم على كثير من أرضهم وسبوا ذراريهم وأسروا من أبنائهم أربعين وأربعمائة غلام وضربوا عليهم الجزية ، وأخذوا توراتهم ولقي بنو إسرائيل منهم بلاء وشدة ، ولم يكن لهم نبي يدبّر أمرهم ، وكانوا يسألون أن يبعث [الله] لهم نبيّا يقاتلون معه.

وكان سبط النبوة قد هلكوا فلم يبق منهم إلّا امرأة حبلى فأخذوها وحبسوها في بيت رهبة أن تلد جارية فتبدّله بغلام لما يرى من رغبة بني إسرائيل في ولدها ، فجعلت المرأة تدعو الله عزوجل أن يرزقها غلاما ، فولدت غلاما فسمّته إشمويل تقول سمع الله دعائي ، فكبر الغلام فأسلمته يتعلم التوراة في بيت المقدس ، وكفله شيخ من علمائهم وتبنّاه ، فلما بلغ الغلام أن يبعثه الله نبيا أتاه جبرائيل عليه‌السلام والغلام نائم إلى جنب الشيخ ، وكان لا يأتمن عليه أحدا فدعاه بلحن الشيخ : يا إشمويل فقام الغلام فزعا إلى الشيخ فقال : يا أبتاه دعوتني ، فكره الشيخ أن يقول : لا فيفزع الغلام ، فقال : يا بني ارجع فنم فرجع الغلام فنام ، ثم دعاه الثانية فأتاه الغلام أيضا فقال : دعوتني ، فقال : ارجع فنم فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني ، فلمّا كانت الثالثة ظهر له جبرائيل عليه‌السلام فقال له : اذهب إلى قومك فبلّغهم رسالة ربك فإنّ الله قد بعثك فيهم نبيا ، فلما أتاهم كذّبوه وقالوا استعجلت النبوة ولم يأن لك.

وقالوا : إن كنت صادقا (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) آية من نبوتك ، وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك ، وطاعة الملوك أنبياءهم ، وكان الملك هو الذي يسير بالجموع ، والنبي يقيم له أمره ويشير عليه ، يرشده ويأتيه بالخبر من ربه عزوجل.

وقال وهب : بعث الله تعالى إشمويل نبيّا فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال ، ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان فقالوا لأشمويل (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي يقاتل ، بالياء جعل الفعل للملك وهو جزم على جواب الأمر ، فلمّا قالوا له ذلك قال لهم : (قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) هل عسيتم استفهام [منك] يقول لعلكم ، وقرأ نافع والحسن : عَسِيْتُمْ بكسر السين [في] كل القرآن ، وهي لغة ، وقرأ الباقون بالفتح وهي اللغة الفصيحة ، قال أبو عبد الرحمن : لو جاز عسيتم لقرئ عسى ربكم إن كتب ، فرض عليكم القتال مع ذلك الملك (أَلَّا تُقاتِلُوا) أن لا تفوا بما تقولون ولا تقاتلوا معه.

(قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) إن قيل : ما وجه دخول «أن» في هذا الموضع ، والعرب لا تقول : مالك أن لا تفعل ، وإنما يقال : مالك لا تفعل

٢٠٩

قيل : دخول أن وحذفها لغتان صحيحتان فصيحتان ، فأما دخول أنّ فكقوله : (ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (١) وأما حذفها فكقوله (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (٢).

وقال الكسائي : معناه : وما لنا في أن لا نقاتل ، ما لنا وأن لا نقاتل فحذف الواو ، حكاه محمد بن جرير (وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) وقرأ عبيد بن حميد : قَدْ أَخْرَجَنا بفتح الهمزة والجيم يعني العدو.

ومعنى الكلام : وقد أخرج من كتب عليهم من ديارهم وأبنائهم ، ظاهر الكلام العموم وباطنه الخصوص ، لأنّ الذين قالوا لنبيهم (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) كانوا في ديارهم وأوطانهم ، وإنما من داره من أسر وقهر منهم.

ومعنى الآية : إنهم قالوا مجيبين : إنّا إنما كنّا نزهد في الجهاد إذ كنا ممنوعين في بلادنا لا يطؤنا عدونا ولا يظهر علينا ، فأمّا إذا بلغ ذلك منا ، فلا بد من الجهاد فنطيع ربنا في الغزو ونمنع نساءنا وأولادنا.

قال الله تعالى (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن الجهاد وضيّعوا أمر الله عزوجل (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وفي الكلام حذف معناه : فبعث الله لهم ملكا وكتب عليهم القتال ، (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وهم الذين عبروا النهر وسنذكرهم في موضعها.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨))

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) الآية ، وكان السبب فيه على ما ذكره المفسّرون أن أشمويل عليه‌السلام سأل الله عزوجل أن يبعث لهم ملكا فأتى بعصا وقرن فيه دهن القدس وقيل له إنّ صاحبكم الذي يكون ملكا طوله طول هذه العصا ، وقيل له : انظر القرن الذي فيه الدهن فإذا دخل عليك رجل فنشّ الدهن الذي في القرن فهو ملك بني إسرائيل ، فادهن به رأسه وملّكه عليهم ، فقاسوا أنفسهم بالعصا فلم يكونوا مثلها.

__________________

(١) سورة الحجر : ٣٢.

(٢) سورة الحديد : ٨.

٢١٠

وكان طالوت ـ اسمه شادل بن قيس بن أبيال بن ضرار بن يحرب بن أفيح بن أيس بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه‌السلام ـ رجلا دبّاغا يعمل الأدم ، قاله وهب (١).

وقال عكرمة والسدي : كان سقاء يسقي على حمار له من النيل فضلّ حماره فخرج في طلبه ، وقيل : كان خربند شاه.

وقال وهب : بل ضلّت حمر لأبي طالوت فأرسله وغلاما له يطلبانها ؛ فمرّا ببيت إشمويل ، فقال الغلام لطالوت : لو دخلنا على هذا النبي فسألناه عن أمر الحمر ليرشدنا ويدعو لنا فيها بخير ، فقال طالوت : نعم ، فدخلا عليه ، فبينا هما عنده يذكران له شأن الحمر إذ نشّ الدهن الذي في القرن ، فقام إشمويل وقاس طالوت بالعصا فكانت على طوله فقال لطالوت : قرّب رأسك فقرّبه ودهنه بدهن القدس ثم قال له : أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله تعالى أن أملّكه عليهم ، فقال طالوت : أنا؟ قال : نعم ، قال : أو ما علمت أنّ سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل؟ قال : بلى ، قال : أفما علمت أنّ بيتي أدنى بيوت بني إسرائيل؟

قال : بلى ، قال : فبأيّ آية؟ قال : آية أنّك ترجع وقد وجد أبوك حمره فكان كذلك ، ثم قال لبني إسرائيل : (إِنَّ اللهَ) تعالى (قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) ، قال مجاهد : أميرا على الجيش.

(قالُوا أَنَّى) من أين (يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) وإنما قالوا ذلك لأنّه كان في بني إسرائيل سبطان : سبط نبوّة ، وسبط مملكة ، وكان سبط النبوة سبط لاوي بن يعقوب ومنه موسى وهارون ، وسبط المملكة سبط يهود بن يعقوب ومنه كان داود وسليمان ، ولم يكن طالوت من سبط النبوة ولا من سبط الملك ، إنّما كان من سبط ابن يامين بن يعقوب ، وكانوا عملوا ذنبا عظيما ، كانوا ينكحون النساء على ظهر الطريق نهارا ، فغضب الله عليهم ونزع الملك والنبوة منهم ، فلمّا قال نبيّهم : (إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) ، أنكروا لأنّه كان من ذلك السبط فقالوا (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) ومع ذلك هو فقير (وَلَمْ يُؤْتَ) يعط (سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ) اختاره (عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً) فضيلة وسعة (فِي الْعِلْمِ) وذلك أنه كان أعلم بني إسرائيل في وقته ، وذكر أنه أتاه الوحي حين أوتي الملك قال الكلبي (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ) بالحرب (وَالْجِسْمِ) يعني بالطول ، وكان يفوق الناس برأسه ومنكبيه وإنّما سمّي طالوت لطوله وكذلك كان كالعصا التي قيس بها ، ودليل هذا التأويل قوله تعالى (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) يعني طول القامة ، وقال ابن كيسان بالجمال ، وكان طالوت أجمل رجل في بني إسرائيل وأعلمهم.

(وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) يعني لا ينكروا ملك طالوت مع كونه من غير أهل بيت

__________________

(١) تفسير الطبري : ٢ / ٨١٥.

٢١١

المملكة ، فإنّ الملك ليس بالوراثة إنما هو بيد الله يؤتيه من يشاء (١) (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) فقالوا له : فما آية ذلك (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) الآية.

وكانت قصة التابوت وصفتها على ما ذكره أهل التفسير وأصحاب الأخبار : إن الله تعالى أنزل تابوتا على آدم فيه صور الأنبياء من أولاده ، وفيه بيوت بعدد الأنبياء كلّهم ، وآخر البيوت بيت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصورته موقّرة على صور جميع الأنبياء من ياقوتة حمراء قائم يصلي ، وعن يمينه الكهل المطيع مكتوب على جبينه هذا أول من يتّبعه من أمته أبو بكر ، وعن يساره الفاروق مكتوب على جبينه قرن من حديد ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، ومن ورائه ذو النورين آخذ بحجزته ، مكتوب على جبهته بارّ من البررة ، ومن بين يديه علي بن أبي طالب شاهر سيفه على عاتقه مكتوب على جبينه : هذا أخوه وابن عمّه المؤيد بالنصر من عند الله ، وحوله عمومته والخلفاء والنقباء والكوكبة الخضراء ، وهم أنصار الله وأنصار رسوله ، نور حوافر دوابّهم يوم القيامة مثل نور الشمس في دار الدنيا.

وكان التابوت نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين وكان من عود الشمشار الذي يتّخذ منه الأمشاط مموّه بالذهب ، وكان عند آدم عليه‌السلام إلى أن مات ثم عند شيث ثم توارثها أولاد آدم إلى أن بلغ إبراهيم ، فلمّا مات كان عند إسماعيل لأنّه أكبر ولده ، فلمّا مات إسماعيل كان عند ابنه قيذار فنازعه ولد إسحاق ، وقالوا : إن النبوة قد صرفت عنكم فليس لكم إلّا هذا النور الواحد ، فأعطنا التابوت ، فكان قيذار يمتنع عليهم ويقول : إنّه وصية أبي ولا أعطيه أحدا من العالمين.

قال : فذهب ذات يوم يفتح ذلك التابوت فعسر عليه فتحه فناداه مناد من السماء : مهلا يا قيذار فليس لك إلى فتح هذا التابوت سبيل ، لأنّه وصية نبي فلا يفتحه إلّا نبي فادفعه إلى ابن عمك يعقوب إسرائيل الله.

فحمل قيذار التابوت على عنقه وخرج يريد أرض كنعان ، وكان بها يعقوب ، فلمّا قرب منه صرّ التابوت صرّة سمعها يعقوب فقال لبنيه : أقسم بالله لقد جاءكم قيذار بالتابوت فقوموا نحوه ، فقام يعقوب وأولاده جميعا إليه ، فلمّا نظر يعقوب إلى قيذار استعبر باكيا وقال : يا قيذار ما لي أرى لونك متغيرا وقوتك ضعيفة ، أرهقك عدوّ أم أتيت معصية قد رابتك؟ فقال : ما رهقني عدوّ ولا أتيت معصية ولكن نقل من ظهري نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فلذلك تغيّر لوني وضعف ركني.

قال : أفمن بنات إسحاق؟ قال : لا في العربية الجرهمية وهي الغاضرة ، قال يعقوب : بخ بخ بشّرها بمحمد ، لم يكن الله عزوجل ليخزنه إلّا في العربيات الطاهرات ، يا قيذار وأنا مبشّرك ببشارة قال : وما هي؟ قال : اعلم أنّ الغاضرة قد ولدت لك البارحة غلاما ، قال قيذار :

__________________

(١) تفسير الطبري : ٢ / ٨٢٠.

٢١٢

وما علمك يا ابن عمي وأنت بأرض الشام وهي بأرض الجرهم؟ قال يعقوب : علمت ذلك لأني رأيت أبواب السماء قد فتحت ، ورأيت نورا كالقمر الممدود من السماء والأرض ، ورأيت الملائكة ينزلون من السماء بالبركات والرحمة ، فعلمت أن ذلك من أجل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فسلّم قيذار التابوت إلى يعقوب ورجع إلى أهله فوجدها قد ولدت غلاما فسمّاه [حمد] ، وفيه نور محمد عليه‌السلام.

قالوا : وكان التابوت في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى وكان موسى يضع فيه التوراة ومتاعا من متاعه ، وكان عنده إلى أن مات ، ثم تداولته أنبياء بني إسرائيل إلى وقت إشمويل فوصل إلى إشمويل وقد تكامل أمر التابوت بما فيه ، وكان فيه ما ذكر الله.

(فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) واختلفوا في السكينة ما هي؟ فقال علي عليه‌السلام : السكينة ريح خجوج حفّافة لها رأسان ووجه كوجه الإنسان.

مجاهد : لها رأس كرأس الهرّة وذنب كذنب الهرّة وجناحان. ابن إسحاق عن وهب عن بعض علماء بني إسرائيل : السكينة هرّة ميّتة كانت إذا صرخت في التابوت بصراخ هرّ أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح (١).

السدّي عن أبي مالك عن ابن عباس : هي طست من ذهب من الجنة كان يغسل فيها قلوب الأنبياء. بكّار بن عبد الله عن وهب بن منبه : روح من الله عزوجل يتكلم ، إذا اختلفوا في شيء تكلّم فأخبرهم ببيان ما يريدون.

عطاء بن أبي رياح : هي ما تعرفون من الآيات فتسكنون إليها. قتادة والكلبي : فعيلة من السكون أي طمأنينة من ربكم وفي أيّ مكان كان التابوت اطمأنوا إليه وسكنوا. الربيع : رحمة من ربّكم.

(وَبَقِيَّةٌ) وهي الباقي ، فعلية من البقاء والهاء فيه للمبالغة (مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) يعني موسى وهارون نفسهما. قال جميل :

بثينة من آل النساء وإنما

يكنّ لأدنى لا وصال الغائب

أي من النساء ، والآل الشخص أيضا ، وأصله أهل بدّلت الهاء همزة ، فإذا صغّروا الآل قالوا : أهيل ردّوه إلى الأصل.

قال المفسرون : كان فيه عصا موسى ورضاض الألواح أي كسره ، وذلك أن موسى لمّا ألقى الألواح انكسرت فرفع بعضها وجمع ما بقي ؛ فجعله في التابوت وكان فيه أيضا لوحان من التوراة وقفيز من المنّ الذي كان ينزل عليهم ، ونعلا موسى وعمامة هارون وعصاه ، وقالوا :وكان عند بني إسرائيل ، وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم وحكم بينهم ، فإذا حضروا القتال

__________________

(١) تاريخ الطبري : ١ / ٣٢٧.

٢١٣

قدّموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوّهم ؛ فلمّا عصوا وفسدوا سلّط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه.

وكان السبب في ذلك أنّه كان لعيلي الذي ربي إشمويل ابنان شابان وكان عيلي خيرهم وصاحب قربانهم ما حدّث ابناه في القربان شيئا لم يكن فيه كان في مشوط القربان الذي كانوا يشوطونه به [كلاليب] فما ما كان عليهما كان للكاهن الذي يشوطه فجعل ابناه كلاليب.

وكان النساء يصلين في المقدس فجعلا يتشبثان بهنّ أيضا فأوحى الله عزوجل إلى إشمويل انطلق إلى عيلي فقل له : منعك حب الولدان زجر ابنيك أن يحدثا في قرباني وقدسي وأن يعصياني فلأنزعن منك الكهانة ومن ولدك ، ولأهلكنّه وإياهما.

فأخبر إشمويل عيلي بذلك ففزع فزعا شديدا فسار إليهم عدوّ ممن حولهم ، فأمر ابنيه أن يخرجا بالناس ويقاتلا ذلك العدو فخرجا ، وأخرجا معهما التابوت ، فلمّا تهيّأوا للقتال جعل عيلي يتوقع الخبر : ماذا صنعوا؟ فجاءه رجل وهو قاعد على كرسيّه أنّ الناس قد هزموا وأن ابنيك قد قتلا ، قال : فما فعل بالتابوت ، قال : قد ذهب به العدو فشهق ووقع على قفاه من كرسيّه ومات ، فمرج أمر بني إسرائيل واختلّ وتفرّقوا إلى أن بعث الله طالوت ملكا ، فسألوا البيّنة ، (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ : إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) (١).

وكان قصة إتيان التابوت أنّ الذين سبوا التابوت أتوا به قرية من قرى فلسطين يقال لها أزدود ، وجعلوه في بيت صنم لهم ، وضعوه تحت الصنم الأعظم ، وأصبحوا من الغد والصنم تحته فأخذوه ووضعوه فوقه وشدّدوا قدمي الصنم على التابوت ، وأصبحوا من الغد وقد قطّعت يدا الصنم ورجلاه ، وأصبح يلقى تحت التابوت ، وأصبحت أصنامهم كلّها منكّسة ؛ فأخرجوه من بيت الصنم ووضعوه في ناحية من مدينتهم ، فأخذ أهل تلك الناحية وجع في أعناقهم حتّى هلك أكثرهم.

فقال بعضهم لبعض : أليس قد علّمتكم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء فأخرجوه من مدينتكم ، فأخرجوه إلى قرية أخرى فبعث الله عزوجل على أهل تلك القرية فأرا [تقرص] الفأرة الرجل فيصبح ميّتا قد أكلت ما في جوفه من دبره ، وأخرجوه منه إلى الصحراء ودفنوه في مخرأة لهم ؛ فكان كل من تبرّز هناك أخذه الناسور والقولنج ؛ فبقوا في ذلك فتحيروا فقالت لهم امرأة كانت عندهم من سبي بني إسرائيل من أولاد الأنبياء : لا تزالون ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم فأخرجوه عنكم (٢) فأتوا بعجلة بإشارة تلك المرأة وحملوا عليها التابوت ، ثم علّقوها على ثورين وضربوا جنوبهما فأقبل الثوران يسيران ، ووكّل الله عزوجل بها أربعة من

__________________

(١) تفسير الطبري : ٢ / ٨٢٢.

(٢) عند الطبري تكملة هنا فتراجع : ٢ / ٨٢٣.

٢١٤

الملائكة يسوقونها ، فلم يمسّ التابوت بشيء من الأرض إلّا كان مقدّسا ، فأقبلا حتّى وقفا على أرض بني إسرائيل فكسرا بقرنهما وطفقا جناحهما ، ووضعوا التابوت في أرض فيها حصاد لبني إسرائيل ورجعا إلى أرضهما ، فلم تدع بنو إسرائيل إلّا بالتابوت فكبّروا وحمدوا الله عزوجل واستوسقوا على طالوت فذلك قوله : (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) أي تسوقه (١).

وقال ابن عباس : جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتّى وضعته عند طالوت.

وقرأ ابن مسعود ومجاهد والأعمش (يحمله الملائكة) بالياء.

وقال قتادة : بل كان التابوت في التيه جعله موسى عند يوشع بن نون فبقي هنالك فحملته الملائكة حتّى وضعته في دار طالوت فأقرّوا بملكه. وقال ابن زيد : غير راضين.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) لعبرة (لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قال ابن عباس : إنّ التابوت وعصا موسى في الجيزة الطبريّة وأنّهما يخرجان قبل يوم القيامة.

(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢))

(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) أي خرج [ورحل] بهم ، وأصل الفصل : القطع فمعنى قوله (فَصَلَ) أي قطع مستقر فتجاوزه شاخصا إلى غيره نظير قوله تعالى : (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) (٢).

فخرج طالوت من بيت المقدس بالجنود وهم يومئذ سبعون ألف مقاتل. وقيل : ثمانون ألفا لم يتخلّف عنه إلّا كبير لهرمه أو مريض لمرضه أو ضرير لضرره أو معذور لعذره (٣).

وذلك أنّهم لما رأوا التابوت قالوا : قد أتانا التابوت وهو النور لا شك فيه ، فتسارعوا إلى الجهاد.

__________________

(١) تفسير الطبري : ٢ / ٨٢٤.

(٢) سورة يوسف : ٩٤.

(٣) تفسير القرطبي : ٣ / ٢٥٠ ، وتفسير الطبري : ٢ / ٨٣٤.

٢١٥

فقال طالوت : لا حاجة لي في كلّ ما أرى. لا يخرج معي رجل بني بناء لم يفرغ منه ، ولا صاحب تجارة مشتغل بها ، ولا رجل عليه دين ، ولا رجل تزوّج بامرأة لم يدن لها ولا أبتغي إلّا الشاب النشيط الفارغ.

فاجتمع ثمانون ألفا ممن شرطه وكان في حرّ شديد فشكوا قلّة المياه بينهم وبين عدوهم ، وقالوا : إنّ المياه لا تحملنا فادع الله تعالى أن يجري لنا نهرا.

فـ (قالَ) طالوت : (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ) مختبركم ليرى طاعتكم وهو أعلم (بِنَهَرٍ) قرأه العامّة بفتح الهاء ، وقرأ حميد وابن محصن بِنَهْرٍ ساكنة الهاء ، وهما لغتان مثل شعر وشعر وصخر وصخر وصمغ وصمغ وسمع وسمع وفحم وفحم.

قال ابن عباس والسدي : هو نهر فلسطين. قتادة والربيع : نهر بين الأردن وفلسطين عذب.

(فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) أي ليس من أهل ديني وطاعتي (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) يشربه (فَإِنَّهُ مِنِّي) نظير قوله : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) (١) ثم استثنى فقال : (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) قرأ ابن عباس ، وابن أبي إسحاق ، وسليمان التيمي ، وابن أبي الجوزاء ، وأبو جعفر ، وشيبة ، ونافع ، وأبو مخرمة ، وأبو عمرو ، وأيوب : غَرْفَةً بفتح الغين وقرأ الباقون بضمّه وهو قراءة عثمان وهما لغتان.

وقال الكسائي وأبو عبيدة : الغرفة بالضم الذي يحصل في الكف من الماء إذا غرف.

والغرفة : الاغتراف ، فالضم اسم والفتح مصدر.

وقال أبو حاتم : الغرفة بالضم ملء الكف أو ملء المغرفة ، والغرفة : المرّة الواحدة من القليل والكثير.

(فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) نصب على الاستثناء. وقرأ ابن مسعود قليل بالرفع كقول الشاعر :

وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلّا الفرقدان

وكلّ قرينة قرنت بأخرى

وإن ضنّت بها سيفرّقان (٢)

واختلفوا في القليل الذي لم يشربوا ، فقال السدي : كانوا أربعة آلاف ، وقال غيره : ثلاث مائة وبضعة عشر وهو الصحيح ، يدلّ عليه قول البراء بن عازب قال : قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر : «أنتم اليوم على عدّة أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاء معه إلّا مؤمن» (٣) [١٨١]

__________________

(١) سورة المائدة : ٩٣.

(٢) لسان العرب : ١٥ / ٤٣٢.

(٣) كنز العمال : ١٠ / ٤٠٠ ح ٢٩٩٥٥ وجامع البيان : ٢ / ٨٣٩ بتفاوت.

٢١٦

قال : وكنّا يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا.

قالوا : فمن (اغْتَرَفَ غُرْفَةً) كما أمر الله سبحانه ، قوي قلبه وصحّ إيمانه وعبر النهر سالما وكفته تلك الغرفة الواحدة لشربه وحمله ودوابه ، والذين شربوا وخالفوا أمر الله ، سوّدت شفاههم وغلبهم العطش فلم يرووا وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدو ولم يشهدوا الفتح.

(فَلَمَّا جاوَزَهُ) يعني النهر (هُوَ) يعني طالوت (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) يعني القليل (قالُوا) الذين شربوا وخالفوا أمر الله عزوجل وكانوا أهل شك ونفاق (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) وانصرفوا عن طالوت ولم يشهدوا قتال جالوت.

(قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ) يوقنون ويعلمون (أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) وهم الذين ثبتوا مع طالوت (كَمْ) وقرأ أبيّ : كائن (مِنْ فِئَةٍ) جماعة وهي جمع لا واحد له من لفظه ، وجمعها فئات وفئون في الرفع ، وفئين في النصب والخفض (قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) معينهم وناصرهم.

قال الزجّاج : إنّما قيل للفرقة فئة من فأوت رأسه بالعصا وفائته إذا شققته كأنّها قطعة.

(وَلَمَّا بَرَزُوا) يعني طالوت وجنوده المؤمنين (لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) المشركين ومعنى (بَرَزُوا) صاروا بالبراز من الأرض وهو ما ظهر واستوى (قالُوا) وهم أهل البصيرة والطاعة (رَبَّنا أَفْرِغْ) أنزل وأصبب (عَلَيْنا صَبْراً) كما يفرغ الدلو (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) وقوّ قلوبنا (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) وفي الآية إضمار تقديرها : فأنزل الله عليهم صبرا ونصرا (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ).

صفة قتل داود جالوت

قال المفسّرون بألفاظ متشابهة ومعان متّفقة : عبر النهر فيمن عبر مع طالوت أيضا أبو داود في ثلاثة عشر ابنا وكان داود أصغرهم ، فأتاهم ذات يوم فقال : يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئا إلّا صرعته فقال : أبشر فإنّ الله جعل رزقك في قذافتك ، ثم أتاه مرّة أخرى فقال : يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا فركبته وأخذت بأذنيه ولم يهمّني ، فقال : أبشر يا بني فإنّ هذا خير أعطاكه الله.

ثم أتاه يوما آخر فقال : يا أبتاه إنّي لأمشي بين الجبال فاسبّح فما يبقى جبل إلّا يسبّح معي ، فقال : أبشر يا بني فإنّ هذا خير أعطاكه الله.

قالوا : فأرسل جالوت إلى طالوت أن ابرز اليّ من يقاتلني فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم ، فشقّ ذلك على طالوت فنادى في عسكره من يقتل جالوت زوّجته ابنتي وناصفته ملكي ، فخاف الناس جالوت فلم يجبه أحد.

٢١٧

فسأل طالوت نبيّهم اشمويل ان يدعوا الله ، فدعا الله عزوجل في ذلك ، فأتى بقرن فيه دهن ، وتنور من حديد ، فقيل : إنّ صاحبكم الذي يقتل جالوت هو الذي يوضع هذا القرن على رأسه فيغلي الدهن حتّى يدهن رأسه منه ولا يسيل على وجهه يكون على رأسه كهيئة إلّا كليل ، ويدخل في هذا التنور فيملؤه لا يتقلقل فيه ، فدعا طالوت بني إسرائيل فجرّبهم فلم يوافقه منهم أحد.

فأوصى الله تعالى إلى نبيهم إنّ في ولد أيشا من يقتل الله به جالوت ، فدعا طالوت أيشا وقال : أعرض عليّ نبيك ، فأخرج له اثني عشر رجلا أمثال السواري ، فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئا فيقول لرجل منهم : بادع عليهم جسم ارجع فيردد عليه فأوحى الله تعالى إليه إنا لا نأخذ الرجال على صورهم ولكنّا نأخذ على صلاح قلوبهم ، فقال لأيشا : هل بقي لك ولد غيرهم؟ قال : لا.

فقال النبي عليه‌السلام : يا ربّ إنّه زعم أنّ لا ولد له غيرهم ، فقال : كذب.

فقال النبيّ : إنّ ربّي كذّبك ، فقال : صدق الله يا نبي الله إنّ لي ابنا صغيرا يقال له : داود ، استحييت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته ، فخلّفته في الغنم يرعاها وهو في شعب كذا ، وكان داود عليه‌السلام رجلا قصيرا مسقاطا مصفارا أزرق أمعد.

فدعاه طالوت ، ويقال : بل خرج طالوت إليه فوجد الوادي قد سال بينه وبين الزرب التي يريح إليها ، فوجده يحمل شاتين شاتين يجيزهما السيل ولا يخوض بهما الماء ، فلما رآه النبيّ عليه‌السلام قال : هذا هو لا شك فيه هذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم ، فدعاه ووضع القرن على رأسه ففاض (١).

فقال له طالوت : هل لك أن تقتل جالوت وأزوجك ابنتي وأجري خاتمك في ملكي؟

قال : نعم.

قال : وهل أنست من نفسك شيئا تقوى به على قتله؟

قال : نعم ، أنا أرعى فيجيء الأسد والنمر والذئب فيأخذ شاة وأقوم له وأفتح لحييه عنها وأخرقهما إلى قفاه.

فردّه إلى عسكره ، فمرّ داود بحجر فناده : يا داود احملني فإنّي حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا ، فحمله في مخلاته.

ثم مرّ بحجر آخر فناده : يا داود احملني فإنّي حجر موسى الذي قتل بي ملك كذا ، فحمله

__________________

(١) جامع البيان : ٢ / ٨٥١ ، وتاريخ الطبري : ١ / ٣٣٧.

٢١٨

في مخلاته.

فمرّ بحجر آخر فقال : احملني فإنّي حجرك الذي تقتل بي جالوت ، وقد خبأني الله لك ، فوضعها في مخلاته.

فلما تصافوا القتال وبرز جالوت وسأل المبارزة ، انتدب له داود فأعطاه طالوت فرسا ودرعا وسلاحا ، فلبس السلاح وركب الفرس ، فسار قريبا ثم انصرف فرجع إلى الملك ، فقال من حوله : جبن الغلام فجاء فوقف على الملك ، فقال : ما شأنك؟

فقال : إنّ الله إن لم ينصرني لا يغني عني السلاح شيئا فدعني أقاتل كما أريد.

قال : نعم ، فأخذ داود مخلاته فتقلّدها وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت ، وكان جالوت من أشدّ الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده وكان له بيضة فيها ثلاث مائة من حديد ، فلما نظر إلى داود ألقى في قلبه فقال له : أنت تبرز لي؟

قال : نعم.

وكان جالوت على فرس أبلق عليه السلاح التام.

قال : فأتيتني بالمقلاع والحجر كما تؤتى الكلاب؟

قال : نعم ، لأنت شرّ من الكلب.

قال : لا جرم لأقسّمنّ لحمك بين سباع الأرض وطير السماء.

قال داود : أو يقسم الله لحمك.

ثم قال داود : باسم إله إبراهيم وأخرج حجرا ، ثم أخرج الآخر وقال : باسم إله إسحاق ووضعه في مقلاعه ، ثم أخرج الثالث وقال : باسم إله يعقوب ووضعه في مقلاعه فصار كلّها حجرا واحدا ، ودوّر المقلاع ورماه به فسخّر الله الريح حتّى أصاب الحجر أنف البيضة فخالط دماغه فخرج من قفاه وقتل من وراءه ثلاثين رجلا ، وهزم الله سبحانه الجيش وخرّ جالوت قتيلا فأخذه فجرّه حتّى ألقاه بين يدي طالوت.

ففرح المسلمون فرحا شديدا وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين والناس يذكرون داود فجاء داود طالوت ، وقال : أنجز لي ما وعدتني وأعطني امرأتي ، فقال له : أتريد ابنة الملك بغير صداق.

قال داود : ما شرطت عليّ صداقا وليس لي شيء.

قال : لا أكلّفك إلّا ما تطيق ، أنت رجل حربي وفي جبالنا أعداء لنا غلف ، فإذا قتلت منهم مائتي رجل وجئتني بغلفهم زوّجتك ابنتي ، فأتاهم فجعل كلّما قتل منهم رجلا نظم غلفته في

٢١٩

خيطه حتّى نظم غلفهم فجاء بها إلى طالوت فألقى إليه وقال : ادفع إلى امرأتي ، فزوّجه أبنته وأجرى خاتمه في ملكه.

فمال الناس إلى داود وأحبّوه وأكثروا ذكره ، فوجد طالوت من ذلك وحسده فأراد قتله ، فأخبر بذلك بنت طالوت رجل يقال له ذو المغنيين ، فقالت لداود : إنّك لمقتول الليلة.

قال : ومن يقتلني؟

قالت : أبي.

قال : وهل جزمت جزما؟

قالت : حدّثني من لا يكذب ولا عليك لن تفوت الليلة حتّى تنظر مصداق ذلك.

فقال : لئن كان أراد ذلك ما أستطيع خروجا ولكن ائتيني بزق من خمر ، فأتته ، فوضعه في مضجعه على السرير.

وسجّاه ودخل تحت السرير فدخل طالوت نصف الليل وأراد أن يقتل داود فقال لها : أين بعلك؟

فقالت : هو نائم على السرير ، فضربه ضربة بالسيف فسال الخمر ، فلما وجد ريح الشراب قال : يرحم الله داود ما أكثر شربه الخمر وخرج ، فلما أصبح علم أنّه لم يفعل شيئا فقال : إن رجلا طلبت منه ما طلبت لخليق أن لا يدعني حتّى يدرك منّي ثأره ، فشدّد حجّابه وحرّاسه وأغلق دونه أبوابه.

ثم إن داود أتاه ليلة وقد هدأت العيون وأعمى الله تعالى الحجبة وفتح له الأبواب فدخل عليه وهو نائم على فراشه فوضع سهما عند رأسه وسهما عند رجليه وسهما عن يمينه وسهما عن شماله ثم خرج. فلما استيقظ طالوت أبصر بالسهام فعرفها فقال : يرحم الله داود فهو خير منّي ، ظفرت به فقصدت قتله وظفر بي فكفّ عنّي ، ولو شاء لوضع هذا السهم في حلقي. وما أنا بالذي آمنه.

فلما كانت المقابلة أتاه ثانيا فأعمى الله الحجّاب فدخل عليه وهو نائم وأخذ إبريق طالوت الذي كان يتوضأ منه وكوزه الذي كان يشرب منه وقطع شعرات من لحيته وشيئا من هدب ثيابه ثم خرج وهرب وتوارى.

فلما أصبح طالوت ورأى ذلك ، سلّط على داود العيون وطلبه أشدّ الطلب فلم يقدر عليه ، ثم إن طالوت ركب يوما فوجد داود يمشي في البريّة ، فقال طالوت : اليوم أقتل داود أنا راكب وهو ماش ، وكان داود إذا فزع لم يدرك فركض طالوت على أثره ، فاشتدّ داود فدخل غارا فأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فنسجت عليه بيتا.

٢٢٠