الكشف والبيان - ج ٢

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٢

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١١

لأنّ العرب تقول : أقام فلان مقام كذا حولين أو شهرين وإنما أقام حولا وبعض آخر ، ويقولون : اليوم يومان مذ لم أره ، وإنما يعنون يوما وبعض آخر ، ومنه قوله (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ومعلوم أنه يتعجل أو يتأخر في يوم ونصف ، ومثلها كثير ، فبيّن الله أنهما حولان كاملان أربعة وعشرين شهرا من يوم ولد إلى أن يفطم.

واختلف العلماء في هذا الحدّ أهو حدّ لكل مولود أو حدّ لبعض دون بعض؟ فروى عكرمة عن ابن عباس : إذا وضعت لستة أشهر فإنها ترضعه حولين كاملين ، أربعة وعشرين شهرا ، وإذا وضعته لسبعة أشهر أرضعته ثلاثة وعشرين شهرا ، وإذا وضعته لتسعة أشهر أرضعته إحدى وعشرين شهرا ، كل ذلك تمام ثلاثين شهرا ، قال الله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً).

وقال قوم : هو حدّ لكل مولود في وقت وأن لا ينقص من حولين ولا يزيد إلّا أن يشاء الزيادة ؛ فإن أراد الأب يفطمه قبل الحولين ولم ترض الأم فليس له ذلك ، وإذا قالت الأم : أنا أفطمه قبل الحولين ، وقال الأب : لا ، فليس لها أن تفطمه حتّى يتفقا جميعا على الرضا ، فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه وإن اختلفا لم يفطماه قبل الحولين ، وذلك قوله (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما) ويشاور هذا قول ابن جريح والثوري ورواية الوالبي عن ابن عباس.

وقال آخرون : المراد بهذه الآية الدلالة على الرضاع ما كان في الحولين ، فإنّ ما بعد الحولين من الرضاع يحرم ، وهو قول علي وعبد الله وابن عباس وابن عمر وعلقمة والشعبي والزهري ، وفي الحديث : لا رضاع بعد الحولين ، وإنما يحرم من الرضاع ما أنبت اللحم وأنشر العظم.

وقال قتادة والربيع : فرض الله عزوجل على الوالدات أن (يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) ثم أنزل الرخصة والتخفيف بعد ذلك فقال : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) أي هذا منتهى الرضاع ، وليس فيما دون ذلك وقت محدود ، وإنما هو على مقدار صلاح الصبي وما يعيش به ، وقرأ أبو رجاء لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرِّضاعَةَ بكسر الراء ، قال الخليل والفرّاء : هما لغتان ، مثل الوكالة والوكالة والدّلالة.

وقرأ مجاهد وابن محجن لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضْعَةَ وهي فعلة كالمرّة الواحدة ، وقرأ عكرمة وحميد وعون العقيلي لمن أراد أن تتم الرضاعة بتاء مفتوحة ورفع الرضاعة على أن الفعل لها ، وقرأ ابن عباس يكمل الرضاعة.

(وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) يعني الأب (رِزْقُهُنَ) طعامهنّ وقوتهنّ (وَكِسْوَتُهُنَ) لباسهنّ ، وقرأ طلحة عن مصرف كُسْوَتُهُنَّ بضم الكاف ، وهما لغتان مثل أسوه وإسوة ورشوه ورشوة (بِالْمَعْرُوفِ) علم الله تفاوت أحوال خلقه في الغنى والفقر ، فقال (بِالْمَعْرُوفِ) أي على قدر الميسرة جعل الرضاعة على الأم والنفقة على الأب (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) والتكليف

١٨١

الإلزام ، قال الشاعر :

تكلّفني معيشة آل فهر

ومن لي بالصلائق والصناب (١)

والوسع ما يسع الإنسان فيطيقه ولا يضيق عليه ، وهو اسم كالجهد والوجد ، وقيل : الوسع يعني الطاقة ، ورفع (النفس) باسم الفعل المجهول لأنّه وضع موضع الفاعل ، وانتصب (الوسع) بخبر الفعل المجهول ، لأنّه أقيم مقام المفعول ، نظيرها في سورة الطلاق.

(لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) قرأ ابن محجن وابن كثير وشبل وأبو عمرو وسلام ويعقوب وقتيبة برفع الراء مشددة وأجازه أبو حاتم على الخبر مسبوقا على قوله (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ) وأصله فلا يضارر فأدغمت الراء في الراء ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكناني وخلف (لا تُضَارَّ) مشددة منصوبة الراء ، واختاره أبو عبيد على النهي وأصله لا تضارر فأدغمت وحرّكت إلى أخفّ الحركات وهو النصب ، ويدلّ عليه قراءة عمر : لا تضارر على إظهار التضعيف ، وقرأ الحسن : لا تضارِّ براء مدغمة مكسورة لأنها لمّا أدغمت سكّنت ، وبجزمه تحرّك إلى الكسر ، وروى أبان عن عاصم : لا تضارر مظهرة مكسورة على أنّ الفعل لها ، وقرأ أبو جعفر لا تضارْ بجزم الراء وتخفيفه على الحذف طلبا للخفّة.

ومعنى الآية (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) فينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه وألفها الصبي (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) ولا تلقيه هي إلى أبيه بعد ما عرفها تضارّه بذلك.

وقيل : معناه (لا تُضَارَّ والِدَةٌ) فيكرهها على الرضاعة إذا قبل من غيرها ، وكرهت هي إرضاعه ؛ لأنّ ذلك ليس بواجب عليها (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) فيحمل على أن يعطي الأم إذا لم يرضع الولد إلّا منها أكثر ممّا يحب لها عليه ، فهذان القولان على مذهب الفعل المجهول على معنى أنه يفعل ذلك بها وبوالده والمولود له مفعولان ، وأصل الكلمة يضارّ بفتح الراء الأولى ، ويحتمل أن يكون الفعل لهما ، وأن يكون تضارّ على مذهب ما قد سمّي فاعله ، والمعنى : لا يضارّ والده فتأبى أن ترضع ولدها لتشقّ على أبيه ولا مولود له ، ولا يضارّ الأب أم الصبي فيمنعها من إرضاعه وينزعه منها ، وعلى هذا المذهب أصله لا يضارر بكسر الراء الأولى ، وعلى هذه الأقوال يرجع الضرار إلى الوالدين بضرّ كل واحد منهما صاحبه بسبب الولد.

ويجوز أن يكون الضرار راجعا إلى الصبي أي لا يضارّ كل واحد منهما الصبي ، فلا ترضعه الأم حتّى يموت ، أولا ينفق عليها الأب أو ينزعه من أمه حتّى يضرّ بالصبي وبكون الياء زائدة معناه : لا تضارّ الأم ولدها ولا أب ولده ، وكل هذه الأقاويل مروية عن المفسّرين.

(وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) اختلف أهل الفتاوى فيه أي وارث هو؟ ووارث من هو؟ فقال

__________________

(١) الصحاح للجوهري : ١ / ١٦٤ ، لسان العرب : ١ / ٥٣١ ، وفيهما : معيشة آل زيد ، والبيت لجرير.

١٨٢

قوم : هو وارث الصبي ، معناه : وعلى وارث الصبي الذي لو مات الصبي وله خال ورثه ، مثل الذي كان على أبيه في حياته.

ثم اختلفوا أي وارث هو من ورثته؟ فقال بعضهم : هو عصبته كائنا من كان من الرجال دون النساء ، مثل الجد والأخ وابن الأخ والعم وابن العم ونحوهم ، وهو قول عمر رضي‌الله‌عنه والزهري والحسن ومجاهد وعطاء ومذهب سفيان ، قال : إذا لم يبلغ نصيب الصبي ما ينفق عليه أجرت العصبة الذين يرثونه أن يسترضعوه.

قال ابن سيرين : أتى عبد الله بن عتبة في رضاع صبي يتيم ومنعه وليه ؛ فجعل رضاعه في ماله ، وقال لوارثه : لو لم يكن له مال لجعلنا رضاعه في مالك ، ألا ترى أنّ الله عزوجل يقول (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ)؟ قال الضحاك : إن مات أب الصبي وللصبي المال أخذ رضاعه من المال ، وإن لم يكن له مال أخذ من العصبة ، وإن لم يكن للعصبة مال أجرت عليه أمّه.

وقال بعضهم : هو ويرث الصبي كائنا من كان من الرجال والنساء ، وهو قول قتادة والحسن بن صالح وابن أبي ليلى ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور قالوا : يجبر على نفقته كل وارث على قدر ميراثه ، عصبة كانوا أو غيرهم.

وقال بعضهم : هو من كان ذا رحم محرم من ورثة المولود ؛ فمن لم يكن بمحرم مثل ابن العم والمولى وما أشبههما فليسوا ممن عناهم الله بقوله (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) وإن كانوا من جملة العصبة لا يجبرون على النفقة ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد ، قال : لا يجبر على نفقة الصبي إلّا ذو رحمه المحرم ، وقال آخرون (عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) يعني الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى فإنّ عليه أجر رضاعه في ماله إن كان له مال ، فإن لم يكن له مال أجبر أمّه على رضاعه ، ولا يجبر على نفقة الصبي إلّا الوالدان ، وهو قول مالك والشافعي.

وقيل : هو الباقي من والديّ المولود بعد وفاة الآخر منهما عليه مثل ذلك ، يعني : مثل ما كان على الأب من أجر الرضاع والنفقة والكسوة ، قاله أكثر العلماء ، وقال الشعبي والزهري : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) يعني أن لا يضارّ.

(فَإِنْ أَرادا) يعني الوالدان (فِصالاً) فطاما قبل الحولين وأصل الفصل القطع (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما) جميعا به واتفاقا عليه (وَتَشاوُرٍ) وهو استخراج الرأي ، وأصله من شرت الدابة وشوّرتها إذا استخرجت ما عندها من [الغدد] ويقال لعلم ذلك : المشوار.

(فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ) أيها الآباء (أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) مراضع غير أمهاتهم إذا أبين مراضاتهم أن يرضعنه ، أو لعلّة بهنّ أو انقطاع لبنهنّ ، أو أردن النكاح ، أو خفتم الضيعة على أولادكم (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ) إلى أمهاتهم أجرهن بقدر ما أرضعن ، وقيل :

١٨٣

سلّمتم أجور المراضع إليهن.

وقيل : إذا سلّمتم الاسترضاع عن تراض واتفاق دون الضرار وذلك قوله تعالى (ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) أي يقبضون ويموتون ، وأصل التوفي أخذ الشيء وافيا ، وقرأ علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه بفتح الياء أي يتوفون أعمارهم وأرزاقهم وتوفى واستوفى بمعنى واحد (وَيَذَرُونَ) ويتركون (أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ) فإن قيل : فأين الخبر عن قوله (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) قيل : هو متروك فإنه لم يقصد الخبر عنهم ، وذلك جائز في الاسم يذكر ويكون تمام خبره في اسم آخر ، أن يقول الأول ويخبر عن الثاني فيكون معناه (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) كقول الشاعر :

بني أسد أنّ ابن قيس وقتله

بغير دم دار المذلّة حلّت (١)

فألغى ابن قيس وقد ابتدأ بذكره ، وأخبر عن قتله أنه ذلّ ، وأنشد :

لعلّي أن مالت بي الريح ميلة

على ابن أبي ذبان أن يتندما (٢)

فقال : لعلّي ثم قال : يتندما لأن المعنى فيه عدا قول الفرّاء.

وقال الزجّاج : معناه : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) أزواجهم (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ).

وقال الأخفش : خبره في قوله (يَتَرَبَّصْنَ) أي يتربصن بعدهم.

وقال قطرب : معناه ينبغي لهنّ أن يتربصن أي ينتظرن ويحتبسن بأنفسهن ، معتدّات على أزواجهن ، تاركات الطيب والزينة والأزواج والنقلة عن المسكن الذي كنّ يسكنّه في حياة أزواجهنّ أربعة أشهر وعشرا إلّا أن يكنّ حوامل فيتربصن إلى أن يضعن حملهن ، فإذا ولدن انقضت عدّتهنّ.

روى الزهري عن عروة عن عائشة أنها كانت تفتي للمتوفى عنها زوجها حتّى تنقضي عدّتها أن لا تلبس مصبوغا ، وتلبس البياض ولا تلبس السواد ، ولا تتزيّن ولا تلبس حليّا ولا تكتحل بالإثمد ولا بكحل فيه طيب وإن وجعت عينها ، ولكنها تتحلّى بالصبر وما بدا لها من الأكحال سوى الإثمد مما ليس فيه طيب.

وروى نافع عن زينب بنت أم سلمة أنّ امرأة من قريش جاءت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إن ابنتي توفي زوجها وقد اشتكت عينها حتّى خفت على عينها وهي تريد الكحل ، فقال عليه الصلاة والسلام : «قد كانت احداكنّ تلبس أطمار ثيابها وتجلس في أخسّ بيوتها وتمكث حولا

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٢ / ٦٩٣.

(٢) جامع البيان للطبري : ٢ / ٦٩٣.

١٨٤

في بيتها ، فإذا كان الحول خرجت فمن كملت رمته ببعرة (١) أفلا (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)» [١٥٤] (٢).

وروى نافع عن صفية بنت عبد الرحمن عن حفصة بنت عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلّا على زوج ، فإنها تحدّ عليه (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)» [١٥٥] (٣).

وقال سعيد بن المسيّب : الحكمة في هذه المدّة أن فيها ينفخ الروح في الولد ، وإنّما قال (وَعَشْراً) بلفظ المؤنث لأنه أراد الليالي لأن العرب إذا أتممت العدد من الليالي والأيام غلّبت عليه الليالي فيقولون : صمنا عشرا ، والصوم لا يكون إلّا بالنهار ، قال الشاعر :

وطافت ثلاثا بين يوم وليلة

وكان النكير أن يضيف ويجار

أي يخاف فاضح ، ويدلّ عليه قراءة ابن عباس : أربعة أشهر وعشر ليال ، وقال المبرّد : إنّما أنّث العشر لأنّه أراد به المدد.

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) يعني انقضاء العدّة (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) يخاطب الأولياء (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) من البر في أن يتولّوه لهنّ (بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥) لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧))

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) يا معشر الرجال (فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) النساء المعتدّات ، وأصل التعريض التلويح بالشيء. قال الشاعر :

كما خطّ عبرانيّة بيمينه

بتيماء حبر ثم عرّض أسطرا (٤)

والتعريض في الكلام ما كان من لحن الكلام الذي يفهم به السامع من غير تصريح ، وأصله

__________________

(١) في المصادر : ترمي بالبعرة ، أو رمت ببعرة وراءها.

(٢) جامع البيان للطبري : ٢ / ٦٩٦ والسنن الكبرى : ٦ / ٢٠٦ بتفاوت.

(٣) صحيح البخاري : ٢ / ٧٩.

(٤) الصحاح للجوهري : ٣ / ١٠٨٧ ، والبيت أنشده الأصمعي للشمّاخ.

١٨٥

من عرض الشيء وهو جانبه يقال : أضرب به عرض الحائط كأنه يحوم حوله ولا يظهره ، وتعريض الخطبة المذكورة في هذه الآية على ما جاء في التفسير هو أن يقول لها وهي في العدة : إنّك لجميلة ، وإنك لصالحة ، وإنّك لنافعة ، وإنّ من عزمي أن أتزوج ، وإني فيك لراغب ، وإني عليك لحريص ، ولعلّ الله أن يسوق إليك خيرا ، وإن جمع الله بيننا بالحلال أعجبني ، ولئن تزوجتك لأعطيتك ولأحسن إليك ونحوها من الكلام من غير أن يقول لها : انكحي.

قال إبراهيم : لا بأس أن يهدي لها ويقوم بشغلها في العدة إذا كانت من شأنه.

وروى ابن عوف عن محمد عن عبيدة في هذه الآية قال : يقول لوليّها لا سبقني إليها. قال مجاهد قال رجل لامرأة في جنازة زوجها : لا تسبقيني بنفسك ، فقالت : قد سبقت ، وروى ابن المبارك عن عبد الرحمن بن سليمان عن خالته ، أن سكينة بنت حنظلة قالت : دخل عليّ أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدّتي فقال : يا بنت حنظلة ، أنا من قد علمت من قرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحق جدّي عليّ وقدمه في الإسلام ، فقالت : غفر الله لك يا أبا جعفر ، أتخطبني في عدّتي وأنت يؤخذ عنك؟ فقال : أو لقد فعلت إنما أجرتك بقرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وموضعي ، قد دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أم سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة وتوفي عنها زوجها ، فلم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده حتّى أثّر الحصير في يده من شدة تحامله على يده فما كانت تلك خطبة (١).

وقال ابن يزيد في هذه الآية : كان أبي يقول : كلّ شيء كان دون أن يعزما عقدة النكاح فهو زنا ، قال الله عزوجل (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) والخطبة التماس النكاح ، وهو مصدر قولك : خطب الرجل المرأة يخطبها خطبة وخطبا.

وقال قوم : هي مثال الجلسة والقعدة والركبة ، ومعنى قولهم خطب فلان فلانة : سألها خطبة إلى ما في نفسها أي حاجاته وأمره من قولهم ما خطبك أي حاجتك وأمرك ، قال الله (فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ) وقال الأخفش : الخطبة : الذكر ، والخطبة المشهد ، فيكون معناه : فيما عرّضتم به من تخطبون النساء عندهنّ (أَوْ أَكْنَنْتُمْ) أسررتم وأضمرتم (فِي أَنْفُسِكُمْ) في خطبتهنّ وزواجهنّ ، يقال : كننت الشيء وأكننته لغتان ، وقال ثعلب : أكننت الشيء خفيته في نفسي وكننته سترته ، وقال السدي : هو أن يدخل فيساويهنّ إن شاء ولا يتكلم بشيء.

(عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) بقلوبكم ، وقال الحسن : يعني الخطبة (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَ) بيوم ، قال بعضهم : هو الزنا وكان الرجل يدخل على المرأة من أجل الريبة وهو يعرّض بالنكاح فيقول لها : دعيني فإذا وفيت عدّتك أظهرت نكاحك ، فنهى الله تعالى عن ذلك ،

__________________

(١) تفسير الطبري : ٢ / ٧٠٥.

١٨٦

هذا قول الحسن وقتادة وإبراهيم وجابر بن زيد وابن أبي مجلز والضحّاك والربيع وعطاء ، وهي رواية عطية عن ابن عباس ، يدلّ عليه قول الأعشى :

ولا تقربنّ جارة إنّ سرّها

عليك حرام [وانكحن أو تأبّدا] (١)

وقال الحطيئة :

ويحرم سرّ جارتهم عليهم

ويأكل جارهم أنف القصاع (٢)

وقال مجاهد : هو قول الرجل للمرأة : لا تفوتيني نفسك ، فإنّي أنكحك. الشعبي والسدي :

لا يأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيره. عكرمة : لا يخطبها في العدة. سعيد بن جبير : لا يقايضها على كذا وكذا من المال على أن لا تتزوج غيره ، وهذه التأويلات كلها متقاربة ، والسرّ على هذه الأقوال النكاح ، قال امرؤ القيس :

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني

كبرت وأن لا يحسن السرّ أمثالي (٣)

قال الأعشى :

فلم يطلبوا سرّها للغنى

ولم يسلموها لإزهادها (٤)

أي نكاحها ، وقال الكلبي : (لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) أي لا تصفوا أنفسكم لهنّ بكثرة الجماع فيقول لها آتيك الأربعة والخمسة وأشباه ذلك ، وعلى هذا القول السرّ هو الجماع نفسه ، وقال الفرزدق :

موانع للأسرار إلّا لأهلها

ويخلفن ما ظنّ الغيور المشفشف (٥)

يعني أنهنّ عفائف اليد عن الجماع إلّا من أزواجهنّ. قال رؤبة :

فعفّ عن أسرارها بعد الغسق

ولم يضعها بين فرك وعشق (٦)

يعني عفّ عن غشيانها بعد ما لزمته لذلك.

وقال زيد بن أسلم : (لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) أي لا تنكحوهنّ سرّا ، ثم يمسكها حتّى إذا حلّت أظهرت ذلك ، وأصل السرّ ما أخفيته في نفسك ، وإنما قيل للنكاح والزنا والجماع السرّ لأنها تكون بين الرجل والمرأة في خفاء ، ويقال أيضا للفرج سرّ لأنّه لا يظهر ، وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي :

__________________

(١) لسان العرب : ٢ / ٦٢٥.

(٢) لسان العرب : ٢ / ٦٢٥.

(٣) غريب الحديث : ١ / ٢٣٨ ، لسان العرب : ١٥ / ٢٥٩.

(٤) الصحاح للجوهري : ٢ / ٤٨١.

(٥) الصحاح للجوهري : ٤ / ١٣٨٣.

(٦) لسان العرب : ٤ / ٣٥٨.

١٨٧

لمّا رأت سرّي تغيّر وانحنى

من دون [نهمة] سرّها حين انثنى (١)

ثم استثنى فقال (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) قيل عدة جميلة ، وقال مجاهد : هو التعرض من غير أن يصرّح ويبوح ، و (أن) في محل نصب بدلا من السرّ ، وقال عبد الرحمن بن زيد : هذا كلّه منسوخ بقوله (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) أي لا تصححوا عقدة النكاح ، وقال ابن الزجاج : ولا تعزموا على عقدة النكاح ، كما يقال : يضرب يد الطهر واليمن (٢) وقال عنترة :

ولقد أبيت على الطوى وأظلّه

حتى أنال به كريم المطعم (٣)

أي وأظل عليه.

(حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) حتى تنقضي العدّة وإنما سماها كتابا لأنها فرض من الله تعالى كقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ).

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) فخافوا الله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) لا يعجل بالعقوبة ، تقول العرب : ضع الهودج على أحلم الجمال.

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) الآية ، نزلت في رجل من الأنصار تزوج بامرأة من بني حنيفة ، ولم يسمّ لها مهرا ، ثم طلّقها قبل أن يمسّها فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فلمّا نزلت قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «متّعها ولو بقلنسوتك» [١٥٦] (٤) ، فذلك قوله (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) تجامعوهنّ.

قرأ حمزة والكسائي وخلف : تماسّوهنّ بالألف على المفاعلة لأنّ بدن كل واحد منهما يمسّ بدن صاحبه فيتماسّان جميعا ، دليله قوله (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) وقرأ الباقون : (تَمَسُّوهُنَ) بغير ألف لأن الغشيان إنما هو من فعل الرجل ، دليله قوله (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ).

(أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) أي توجدوا لهنّ صداقا ، يقال فرض السلطان لفلان أي أثبت له صدقة في الديوان ، فإن قيل : ما الوجه في نفي الجناح عن المطلق وهل على الرجل جناح لو طلّق بعد المسيس فيوضع عنه قبل المسيس؟ قيل : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما بال أقوام يلعبون بحدود الله يقولون : طلّقتك ، راجعتك؟» [١٥٧] (٥) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تطلّقوا نساءكم إلّا عن ريبة ؛ فإنّ الله لا يحبّ الذوّاقين ولا الذوّاقات» [١٥٨] (٦).

__________________

(١) لسان العرب : ٤ / ٣٥٨ ، ونسبه للأفوه الأودي وفيه :

لما رأت سري تغير وانثنى

من دون نهمة ثبرها حين انثنى

(٢) تفسير القرطبي : ٣ / ١٩٢.

(٣) لسان العرب : ١١ / ٤١٩ ، وفيه : كريم المأكل.

(٤) زاد المسير : ١ / ٢٤٦.

(٥) سنن ابن ماجة : ١ / ٦٥٠ ح ٢٠١٧. (٦) مجمع الزوائد : ٤ / ٣٣٥.

١٨٨

وقال عليه‌السلام : «أبغض الحلال عند الله الطلاق» [١٥٩] (١) ، وقال عليه‌السلام : «إنّ الله يبغض كل مطلاق مذواق» [١٦٠] (٢).

فلمّا قال رسول الله هذا ظنّوا أنهم يأثمون في ذلك فأخبر الله تعالى أنه لا جناح في تطليق النساء إذا كان على الوجه المندوب ، فربّما كان الفراق أروح من الإمساك ، وقيل : معنى قوله (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي لا سبيل عليكم للنساء إن طلّقتموهنّ (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) ولم تكونوا فرضتم لهنّ فريضة في أتباعكم بصداق ولا نفقة.

وقيل : معناه (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) في أي وقت شئتم لأنه لا سنّة في طلاقهنّ ، فللرجل أن يطلّقهن إذا لم يكن مسّهنّ حائضا أو طاهرا ، وفي كل وقت أحبّ ، وليس كذلك في المدخول بها لأنّه ليس لزوجها طلاقها إن كانت من أهل الأقراء إلّا العدة ظاهرا في طهر لم يجامعها فيه ، فإن طلّقها حائضا آيسا وقع الطلاق.

(وَمَتِّعُوهُنَ) أي زوّدوهنّ وأعطوهنّ من مالكم ما يتمتعن به ، والمتعة والمتاع ما تبلغ به من الزاد (عَلَى الْمُوسِعِ) أي الغني (قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ) الفقير (قَدَرُهُ) أي إمكانه وطاقته ، قرأ أبو جعفر وحفص وحمزة والكسائي وخلف وابن ذكوان بفتح الدال فيهما ، واختاره أبو عبيدة قال : لما فيهما من الفخامة ، وقرأ الآخرون بجزم الدال فيهما واختاره أبو حاتم وهما لغتان ، قال : نطق بهما القرآن فتصديق الفتح قوله : (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) وتصديق الجزم قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) تقول العرب : القضاء والقدر ، وقال أبو يزيد الأنصاري : القضاء والقدر بتسكين الدال ، وقال الشاعر وهو الفرزدق :

وما صبّ رملي في حديد مجاشع

مع القدر إلّا حاجة لي أريدها

وقال بعضهم : القدر المصدر والقدر الاسم (مَتاعاً) نصب على المصدر أي متعوهن متاعا ، ويجوز أن يكون نصبا على القطع لأنّ المتاع نكرة والقدر معرفة (بِالْمَعْرُوفِ) أي ما أمركم الله به من غير ظلم ولا مطل (حَقًّا) نصب على الحكاية تقديره : أخبركم حقا ، وقيل على القطع.

حكم الآية

قال المفسّرون : قيل : هذا في الرجل يتزوج المرأة ولا يسمّي لها صداقا فطلقها قبل أن يمسها فلها المتعة ولا فريضة لها بإجماع العلماء ، واختلفوا في متعة المطلقة فيما عدا ذلك ، فقال قوم : لكل مطلقة متعة كائنة من كانت وعلى أي وجه وقع الطلاق ، فالمتعة واجبة تقضى لها

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ١ / ٦٥٠ ح ٢٠١٨.

(٢) المصنف لابن أبي شيبة : ٤ / ١٧٢ ، بتفاوت.

١٨٩

في مال المطلّق كما تقضى عليه سائر الديون الواجبة عليه ، سواء دخل بها أو لم يدخل ، فرض لها أو لم يفرض إذا كان الطلاق من قبله ، فأما إذا كان الفراق من قبلها فلا متعة لها ولا مهر ، وهو قول الحسن وسعيد بن جبير وأبي العالية ومحمد بن جرير ، قال : لقوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) فأوجب المتعة لجميع المطلقات ولم يفرّق ، ويكون معنى الآية على هذا القول : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضة أو لم تفرضوا لهنّ فريضة ، لأنّ كل منكوحة إنما هي احدى اثنتين : مسمّى لها الصداق أو غير مسمّى لها فعلمنا بالذي نقلوا من قوله (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) أن المعنيّة بقوله : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) المفروضات لهن (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) وغير المفروض لها إذ لا معنى لقول القائل : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) ثم قال : (وَمَتِّعُوهُنَ) يعني الجميع.

وقال آخرون : المتعة واجبة لكل مطلّقة سوى المطلقة المفروض لها إذا طلّقت قبل الدخول فإنه لا متعة لها وإنما لها نصف الصداق المسمّى ، وهذا قول عبد الله بن عمر ونافع وعطاء ومجاهد ومذهب الشافعي ، ويكون وجه الآية على هذا القول لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنّ ولم تفرضوا لهنّ فريضة ، الألف زائدة كقوله (أَوْ يَزِيدُونَ) ونحوها ، ثم أمر بالمتعة لهنّ.

ويجوز أن يكون قوله (وَمَتِّعُوهُنَ) راجعا إلى المطلقات غير المفروضات قبل المسيس دون المفروضات لهنّ ، ويكون قوله في عقبه : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) مختصا له ، فجرى في أول الآية على ظاهر العموم في المفروضات وغير المفروضات ، وفي قوله (وَمَتِّعُوهُنَ) على التخصيص في غير المفروضات للآية التي بعدها.

وقال الزهري : متعتان يقضي بأحدهما السلطان ولا يقضي بالأخرى ، بل يلزمه فيما بينه وبين الله ، فأمّا التي يقضي بها السلطان فهو فيمن طلق قبل أن يفرض لها ويدخل بها فإنه يؤخذ بالمتعة وهو قوله : (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ).

والمتعة التي تلزم فيما بينه وبين الله تعالى ولا يقضي به السلطان هي فيمن طلق بعد ما يدخل بها ويفرض لها وهو قوله : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) وقال بعضهم : ليس شيء من ذلك بواجب ، وإنما المتعة إحسان والأمر بها أمر ندب واستحباب لا أمر فرض وإيجاب ، وهو قول أبي حنيفة ، وروى ابن سيرين أنّ رجلا طلّق امرأة وقد دخل بها ، فخاصمته إلى شريح في المتعة فقال شريح : لا تاب أن يكون من المحسنين ولا تاب أن يكون من المتقين ولم يجبره على ذلك.

واختلفوا في قدر المتعة ومبلغها ، فقال ابن عباس والشعبي والزهري والربيع بن أنس :

١٩٠

أعلاها خادم وأوسطها ثلاثة أثواب : درع وخمار [وجلباب] (١) وإزار ، ودون ذلك النفقة ، ثم دون ذلك الكسوة ، شيء من الورق ، وهذا مذهب الشافعي قال : أعلاها خادم على الموسع ، وأوسطها ثوب ، وأقلّها أقلّ ماله ثمن. قال الحسن : ثلاثون درهما ، وكان شريح يمتّع بخمسمائة درهم ، ومتّع عبد الرحمن بن عوف أم أبي سلمة حين طلّقها جارية سوداء ، ومتّع الحسن بن علي رضي‌الله‌عنه امرأة له بعشرة آلاف درهم ، فقالت : متاع قليل من حبيب مفارق.

قال أبو حنيفة : متاعها إذا اختلف الزوج والمرأة فيها قدر نصف مهر مثلها ولا تجاوز ذلك ، والصحيح أن الواجب من ذلك على قدر عسر الرجل ويسره كما قال تعالى ، ولو كان المعتبر فيه المهر لكان يقول : ومتعوهنّ على قدرهنّ وقدر صداق مثلهنّ ، فلمّا قال (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) دلّ على أنّ المعتبر فيه حال الرجل لا حال المرأة ، وروى ابن أبي زائدة عن صبيح بن صالح قال : سئل عامر : بكم يمتّع الرجل امرأته؟ قال : على قدر ماله.

تفصيل حكم الآية

من تزوّج امرأة على غير مهر مسمّى فالنكاح جائز ، فإن طلبت الفرض أمرناه أن يفرض لها ، وإن لم يفرض لها ودخل بها فلها مهر مثلها ، فإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة ولا مهر لها ، وإن مات عنها بعد الدخول فلها مهر مثلها ، وإن مات عنها قبل الدخول والتسمية ففيها قولان :

أحدهما : لها مهر مثلها ، وهو مذهب أهل العراق ، والدليل عليه

حديث بروع بنت واسق الأشجعية حين توفي عنها زوجها ولم يفرض لها ولا دخل بها فقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمهر [نسائها] لا وكس ولا شطط ، وعليها العدة ، ولها الميراث (٢).

والقول الثاني :

أنّ لها الميراث وعليها العدة ولا مهر لها ، بل لها المتعة كما لو طلّقها قبل الدخول والتسمية ، وهو قول علي ، وكان يقول في حديث بروع : لا يقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب الله وسنّة رسوله.

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) الآية هنا في الرجل يتزوج المرأة ، وقد سمّى لها صداقا ، ثم يطلقها قبل أن يمسّها فلها نصف الصداق ، وليس لها أكثر من ذلك ، ولا عدة عليها ، وإن لم يدخل بها حتّى توفي فلا خلاف أنّ لها المهر كاملا والميراث ، وعليها العدة ، والمسّ هاهنا الجماع.

__________________

(١) تفسير الطبري : ٢ / ٨١٩ ، وأحكام القرآن للجصاص : ١ / ٥٢٦.

(٢) مسند أحمد : ٤ / ٢٨٠.

١٩١

وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن خلا رجل بامرأة ولم يجامعها حتّى فارقها فإنّ المهر الكامل يلزمه ، والعدّة تلزمها لخبر ابن مسعود : قضى الخلفاء الراشدون فيمن أغلق بابا وأرخى سترا أن لها المهر وعليها العدّة ، وأما الشافعي فلا يلزم مهرا كاملا ولا عدّة إذ لم يكن دخول بظاهر القرآن.

قال شريح : لم أسمع الله تعالى ذكر في كتابه بابا ولا سترا ، إنما زعم أنه لم يمسّها فلها نصف الصداق ، وهو مذهب ابن عباس.

وهذه الآية ناسخة الآية التي في سورة الأحزاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) الآية ، إلى قوله : (فَمَتِّعُوهُنَ) قد كان لها المتاع ، فلمّا نزلت هذه الآية نسخت ما كان قبلها وأوجبت للمطلقة المفروض لها قبل المسيس نصف مهرها المسمّى ، ولا متاع لها كما قال عزّ من قائل : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) تجامعوهنّ.

(وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) أوجبتم لهنّ صداقا ، وسمّيتم لهنّ مهرا ، وأصل الفرض القطع ، ومنه قيل لحزّ الميزان والقوس : فرضة ، وللنصيب فريضة لأنّه قطعه من الشيء (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) أي نصف المهر المستحق ، وقرأ السلمي فَنِصْفٌ بضم النون حيث وقع ، وهما لغتان.

ثم قال (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) يعني النساء ، ومحل (يَعْفُونَ) نصب بأن إلّا أنّ جمع المؤنث في الفعل المضارع يستوي في الرفع والنصب والجزم ، يكون في كل حال بالنون تقول : هنّ يضربن ، ولن يضربن ، ولم يضربن لأنها لو سقطت النون لاشتبه بالمذكر.

(أَوْ يَعْفُوَا) قرأ الحسن ساكنة الواو كأنه استثقل الفتحة في الواو كما استثقلت الضمّة فيها (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) اختلف العلماء فيه ، فقال بعضهم : هو الولي ، ومعنى الآية (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) أي يهبن ويتركن النصف فلا يطالبن الأزواج إذا كنّ ثيّبات بالغات رشيدات جائزات الأمر ، (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) وهو وليها ، فيترك ذلك النصف إذا كانت بكرا أو غير جائزة الأمر ، ويجوز عفوه عليها وإن كرهت ، فإن عفت المرأة وأبي الولي فالعفو جائز ، فإن عفى الولي وأبت المرأة فالعفو جائز بعد أن لا تريد ضرارا ، وهذا قول [علي] وأصحاب عبد الله وإبراهيم وعطاء والحسن والزهري والسدي وأبو صالح وأبي زيد وربيعة الرأي ، ورواية العوفي عن ابن الحسن.

وروى معمر عن ابن طاوس عن أبيه وعن إسماعيل بن شرواس قالا : (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) هو الولي ، وقال عكرمة : أذن الله تعالى هو في العفو ورضي به وأمر به ، فأيّ امرأة عفت جاز عفوها وان شحّت وضنّت عفا وليها وجاز عفوه ، وهذا مذهب فقهاء الحجاز إلّا أنهم قالوا : يجوز عفو ولي البكر فإذا كانت ثيّبا فلا يجوز عفوه عليها.

وقال بعضهم : (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) هو الزوج ، ومعنى الآية : إلّا أن تعفو النساء فلا

١٩٢

يأخذن شيئا من المهر ، أو يعفو الزوج فيعطيها الصداق كاملا ، وهذا قول علي وسعيد بن المسيب والشعبي ومجاهد ومحمد بن كعب القرضي ونافع والربيع وقتادة وابن حبّان والضحّاك ورواية عمار بن أبي عمار عن ابن عباس ، وهو مذهب [أهل] العراق لا يرون سبيلا للولي على شيء من صداقها إلّا بإذنها ، ثيّبا كانت أو بكرا ، قالوا : لإجماع الجميع من أنّ ولي المرأة لو أبرأ زوجها من مهرها قبل الطلاق أنه لا يجوز ذلك ، فكذلك إبراؤه وعفوه بعد الطلاق لا يجوز ، ولإجماعهم أيضا على أنه لو وهب وليّها من مالها لزوجها درهما بعد البينونة أثم ما لم يكن له ذلك ، وكانت تلك الهبة باطلة والمهر مال من أموالها ، فوجب أن يكون الحكم كحكم بإبراء ، مالها ولإجماعهم أنّ من الأولياء من لا يجوز عفوه عليها بالإجماع ، وهم بنو الأخوة وبنو الأعمام وما يفرق الله [بعض] في الآية.

عن عيسى بن عاصم قال : سمعت شريحا يحدّث قال : سألني علي عن (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) ، فقلت : ولي المرأة ، فقال : لا ، بل الزوج ، وروي أن رجلا زوّج أخته وطلقها زوجها قبل أن يدخل بها ؛ فعفا أخوها عن المهر فأجازه شريح ، ثم قال : أنا أعفو عن نساء بني مرّة فقال عامر : لا والله ما قضى شريح قضاء أردأ ولا هو أحمق فيه (١) منه أن يجيز عفو الأخ ، قال : رجع بعد شريح عن قوله ، وقال : هو الزوج (٢).

وعن القاسم قال : كان أشياخ الكوفة ليأتون شريحا فيخاصمونه في قوله (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) حتى يجثو على ركبتيه فيقول شريح : إنه الزوج ، إنه الزوج.

روى شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قالوا : هو الزوج ، وقال طاوس ومجاهد : هو الولي فكلّمتهما في ذلك فرجعا عن قولهما وتابعا سعيد وقالا : هو الزوج ، وروى محمد بن شعيب مرسلا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «(الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) الزوج ، يعفو فيعطي الصداق كاملا» [١٦١] (٣).

وعن صالح بن كيسان أن جبير بن مطعم تزوّج امرأة ثم طلّقها قبل أن يبني بها فأكمل لها الصداق وقال : أنا أحقّ بالعفو وتأوّل قوله : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) فيكون وجه الآية على هذا التأويل (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) نفسه في كل حال قبل الطلاق وبعده ، فلمّا أدخل الألف واللام حذف الهاء كقوله (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) يعني مأواه ، وقال النابغة :

لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم

من الناس فالأحلام غير عوازب (٤)

__________________

(١) في التفسير : ما قضى شريح قضاء أحق منه أن يجيز ، وفي السنن الكبرى : فضاء قط كان أحمق منه حين ترك قوله الأول.

(٢) تفسير الطبري : ٢ / ٧٣٦ ، والسنن الكبرى : ٧ / ٢٥١.

(٣) جامع البيان للطبري : ٢ / ٧٤٣.

(٤) جامع البيان : ٢ / ٨٤٥.

١٩٣

يعني وأحلامهم فكذلك قوله (عُقْدَةُ النِّكاحِ) بمعنى عقدة نكاحه (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) قال سيبويه موضعه رفع بالابتداء أي والعفو أقرب للتقوى وألزم ، بمعنى إلى أي ، إلى التقوى : والخطاب هاهنا للرجال والنساء ، لأنّ المذكر والمؤنث إذا اجتمعا غلب المذكر ، ومعناه وعفوكم عن بعض أقرب إلى التقوى لأنّ هذا العفو ندب وإذا سارع إليه وأتى به كان معلوما أنه لما كان فرضا أشد استعمالا ولمّا نهى عنه أشد تجنبا وقرأ الشعبي : وأن يعفو بالياء جعله خبرا عن (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ).

(وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)قرأ علي بن أبي طالب وأبو داود والنخعي ولا تناسوا الفضل من المفاعلة بين اثنين كقوله : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) وقرأ يحيى بن يعمر وَلا تَنْسَوِا الْفَضْلَ بكسر الواو ، وقرأ الباقون (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ) بضم الواو ، ومعنى الفضل إتمام الرجل الصداق أو ترك المرأة النصف ، حثّ الله تعالى الزوج والمرأة على الفضل والإحسان وأمرهما جميعا أن يسبقا إلى العفو.

(إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢))

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) أي واظبوا وداوموا على الصلوات المكتوبات بمواقيتها وحدودها وركوعها وسجودها وقيامها وقعودها وجميع ما يجب فيها من حقوقها ، وكل صلاة في القرآن مقرونة بالمحافظة فالمراد بها الصلوات الخمس ، ثم خصّ الصلاة الوسطى من بينها بالمحافظة دلالة على فضلها كقوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) وهما من جملة الملائكة ، وقوله : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) أخرجهما بالذكر من الجملة بالواو الدالة على التخصيص والتفصيل ، فكذلك قوله : (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى).

وقرأت عائشة وَالصَّلاةَ الْوُسْطى بالنصب على الإغراء ، وروى قالون عن نافع الْوُصْطى بالصاد لمجاورة الطاء لأنهما من جنس واحد ، وهما لغتان كالصراط والسراط ، والصدغ والسدغ ، والبصاق والبساق ، واللصوق واللسوق ، والصندوق والسندوق ، والصقر والسقر.

والوسطى تأنيث الأوسط ، ووسط الشيء خيره وأعدله لأن خير الأمور أوسطها ، قال الله

١٩٤

تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي خيارا وعدلا ، وقال تعالى : (قالَ أَوْسَطُهُمْ) أي خيرهم وأفضلهم ، وقال أعرابي يمدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

يا أوسط الناس طرّا في مفاخرهم

وأكرم الناس أمّا برّة وأبا (١)

واختلف العلماء في الوسطى وأي صلاة هي ، فقال سعيد بن المسيب : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها هكذا في الاختلاف ، وشبّك من أصابعه ، فقال قوم : هي صلاة الفجر ، وهو قول معاذ وعمر وابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله وعطاء وعكرمة والربيع ومجاهد وعبد الله بن شداد بن الهاد ، وعن موسى بن وهب قال : سمعت أبا أمامة وقد سئل عن (الصَّلاةِ الْوُسْطى) قال : لا أحسبها إلّا صلاة الصبح. معمر بن طاوس عن أبيه وإسماعيل بن شروس عن عكرمة قالا : هي الصبح يعني الصلاة الوسطى ، وهو اختيار الإمام أبي عبد الله الشافعي ، يدلّ عليه ما روى الربيع عن أبي العالية أنه صلّى مع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الغداة ، فلمّا أن فرغوا قال : قلت لهم : أيّتهنّ الصلاة الوسطى؟ قالوا : التي صلّيتها ، قيل : ولأنها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار.

وروى عكرمة عن ابن عباس قال : هي صلاة الصبح ، وسّطت فكانت بين الليل والنهار ، يصلّى في سواد من الليل وبياض من النهار ، وهي أكبر الصلوات تفوت الناس ، ولأنها لا تقصر ولا تجمع إلى غيرها ، ولأنها بين صلاتين تجمعان ، وتصديق هذا التأويل من التنزيل دالا على التخصيص والتفضيل قوله تعالى (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) يعني تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ، مكتوب في ديوان الليل وديوان النهار ، ودليل آخر من سياق الآية وهو أنه عقبها بقوله (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) يعني وقوموا لله فيها قانتين ، قالوا : ولا صلاة مكتوبة فيها قنوت سوى صلاة الفجر فعلم أنها هي ، وفيه دليل على ثبوت القنوت.

وقال أبو رجاء العطاردي : صلّى بنا ابن عباس في مسجد البصرة صلاة الغداة ، فقنت بنا قبل الركوع ورفع يديه ، فلمّا فرغ قال : هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين ، والدليل عليه ما روى حنظلة عن أنس قال : قنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهرا وقال : ما زال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقنت في صلاة الغداة حتّى فارق الدنيا.

ابن أبي ليلى عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : قنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى مات ، وأبو بكر حتّى مات ، وعمر حتّى مات ، وعثمان حتّى مات ، وعلي حتّى مات ، وقال آخرون : هي صلاة الظهر وهو قول زيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد وعائشة.

روى عروة عن زيد بن ثابت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلّي بالهاجرة وكانت أثقل الصلوات على

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٣ / ٢٠٩٨.

١٩٥

أصحابه فلا يكون وراءه إلّا الصف والصفّان ، وأكثر الناس يكونون في قائلتهم وفي تجاراتهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم» [١٦٢] فنزلت هذه الآية (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (١)

ودليلهم أنها وسط النهار ما روى أبو ذر عن علي كرم الله وجهه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله في السماء الدنيا حلفة تزول منها الشمس ، فإذا مالت الشمس سبّح كل شيء لربّنا ، وأمر الله تعالى بالصلاة في تلك الساعة ، وهي الساعة التي تفتح فيها أبواب السماء فلا تغلق حتّى يصلّى الظهر ، ويستجاب فيها الدعاء» [١٦٣].

ولأنها أوسط صلوات النهار ، ومن خصائصها أنها أول صلاة فرضت ، وأول صلاة توجّه فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه إلى الكعبة ، وهي التي ترفع جميع الصلوات والجماعات [لأجلها] يوم الجمعة.

وقال بعضهم : هي صلاة العصر ، وهو قول علي وعبد الله وأبي هريرة والنخعي وزرّ بن حبيش وقتادة وأبي أيوب والضحّاك والكلبي ومقاتل ، واختيار أبي حنيفة ، يدلّ عليه ما روى الحسن عن سمرة بن جندب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «صلاة الوسطى العصر» [١٦٤] (٢).

وفي بعض الأخبار هي التي فرّط فيها سليمان عليه‌السلام. سفيان بن عيينة عن البراء بن عازب قال : نزلت حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وصلاة العصر فقرأناها على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شاء الله ثم [نسختها] (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) فقال له بعضهم : فهي صلاة العصر ، قال : أعلمتك كيف نزلت وكيف نسختها ، والله أعلم.

نافع عن حفصة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها قالت لكاتب مصحفها : إذا بلغت مواقيت الصلاة فأخبرني حتّى أخبرك بما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلمّا أخبرها قالت : اكتب إني سمعت رسول الله يقول (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) صلاة العصر.

هشام عن عروة عن أبيه قال كان في مصحف عائشة (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) صلاة العصر (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) وهكذا كان يقرأها أبي بن كعب وعبيد بن عمير.

الأعمش عن مسلم عن شتير بن شكل عن علي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأحزاب : «شغلونا عن (الصَّلاةِ الْوُسْطى) صلاة العصر ، ملأ الله بيوتهم ـ أو قبورهم ـ نارا» [١٦٥] (٣).

قال ثم صلّاها بين العشاءين ، وفي بعض الأخبار أن رجلا قال في مجلس عبد العزيز بن مروان : أرسلني أبو بكر وعمر وأنا غلام صغير إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسأله عن (الصَّلاةِ الْوُسْطى) ، فأخذ

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٢ / ٢٦٢.

(٢) انظر جامع البيان : ٢ / ٧٥٣ وما بعده.

(٣) مسند أحمد : ١ / ٧٢ ، ١٢٦ ، ١٥١.

١٩٦

اصبعي الصغيرة فقال : «هذه الفجر» ، وقبض التي تليها وقال : «هذه الظهر» ، ثم قبض الإبهام فقال : «هذه المغرب» ، ثم قبض التي تليها فقال : «هذه العشاء» ، ثم قال : «أي أصابعك بقيت؟» فقلت : الوسطى ، فقال : «أي الصلاة بقيت؟» قلت : العصر ، قال : «هي العصر» [١٦٦] (١).

قالوا : ولأنها بين صلاتي نهار وصلاتي ليل ، [وكان] النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم متسامحا فأخذ يصلّيها ويبالغ ، وروى أبو تميم الحبشاني عن أبي بصرة الغفاري قال : صلّى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة العصر ، فلمّا انصرف قال : «إن هذه الصلاة فرضت على من كان قبلكم ؛ فتوانوا فيها وتركوها ؛ فمن صلّاها منكم وحافظ عليها أوتي أجرها مرّتين ولا صلاة بعدها حتّى يرى الشاهد» والشاهد : النجم (٢).

أبو قلابة عن أبي المهاجر عن بريدة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بكّروا بالصلاة في يوم الغيم فإنه من فاتته صلاة العصر حبط عمله» [١٦٧] (٣).

نافع عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الذي يصلّي العصر كافاه في أهله وماله» [١٦٨].

وقال قبيصة بن ذؤيب : هي صلاة المغرب ، ألا ترى أنها واسطة ليست بأقلها ولا أكثرها وهي لا تقصر في السفر ومن وتر النهار.

هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أفضل الصلوات صلاة المغرب ، لم يحطها الله عن مسافر ولا مقيم ، فتح الله بها صلاة الليل ، وختم بها النهار ، فمن صلّى المغرب وصلّى بعدها ركعتين بنى الله له قصرا في الجنة ، ومن صلّى بعدها أربع ركعات غفر الله له ذنب عشرين سنة ، أو قال : أربعين سنة» [١٦٩] (٤).

وحكى الشيخ أبو ميثم سهل بن محمد عن بعضهم أنها صلاة العشاء الأخيرة ، وقال : لأنها بين صلاتين لا تقصران.

وروى عبد الرحمن بن أبي عمر عن عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من صلّى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة ، ومن صلّى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة»[١٧٠] (٥).

وقال بعضهم : هي إحدى الصلوات الخمس ولا نعرفها عينها ، سئل الربيع بن خيثم عن (الصَّلاةِ الْوُسْطى) فقال للسائل : [أراغب] إن علمتها كنت محافظا عليها ومضيّعا سائرهن؟ قال :

__________________

(١) جامع البيان : ٢ / ٧٥٩.

(٢) تفسير الطبري : ٢ / ٧٦٨ ، والمصنف لعبد الرزاق : ٢ / ٣٢٦.

(٣) مسند أحمد : ٥ / ٣٥٠.

(٤) تفسير القرطبي : ٣ / ٢١٠.

(٥) مسند أحمد : ١ / ٥٨.

١٩٧

لا ، قال : فإنك إن حافظت عليهنّ فقد حافظت عليها ، وبه قال أبو بكر الورّاق ، قال : لو شاء الله عزوجل لبيّنها ، ولكنه سبحانه أراد تنبيه الخلق على أداء الصلوات.

قال الثعلبي [ولقد أحسنا] في قوليهما فإن الله تعالى أخفى الصلاة الوسطى في جميع الصلوات المكتوبة ليحافظوا على جميعها رجاء الوسطى ، كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان ، واسمه الأعظم في جميع الأسماء ، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة حكمة منه في فعله ورحمة على خلقه.

وفي قوله عزوجل (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) دليل على أن الوتر ليس بواجب وذلك أن المسلمين اتفقوا على أن الصلوات المفروضات تنقص عن سبعة وتزيد على ثلاثة ، وليس من الثلاثة والسبعة فرد إلّا خمسة ، والأزواج لا وسطى لها ، فثبت أنها خمسة.

قتادة عن أنس قال : قال رجل : يا رسول الله ، كم افترض الله على عباده الصلوات؟ قال :

خمس صلوات ، قال : فهل قبلهنّ وبعدهنّ شيء افترض الله على عباده قال : لا ، فحلف الرجل بالله لا يزيد عليهنّ ولا ينقص ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن صدق الرجل دخل الجنة» [١٧١] (١).

وعن طلحة بن عبيد الله قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل نجد ثائر الرأس ، يسمع دوي صوته ولا يفهم ما يقول ، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خمس صلوات في اليوم والليلة» قال : هل عليّ غيرهنّ؟ قال : «لا إلّا أن تتطوع» قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وصيام شهر رمضان» قال : هل عليّ غيره؟ قال : «لا ، إلّا أن تتطوع» وذكر له عليه الصلاة والسلام الزكاة ، قال : هل عليّ غيرها؟ قال : «لا ، إلّا أن تتطوع» فأدبر الرجل وهو يقول : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفلح إن صدق» [١٧٢] (٢).

عن محمد بن يحيى بن حيان عن ابن جرير أن رجلا من بني كنانة يدعى المحدجي كان يسمع رجلا بالشام يكنى أبا محمد يقول : الوتر واجب ، قال المحدجي : فرحت إلى عبادة بن الصامت واعترضت له وهو رايح إلى المسجد فأخبرته بالذي قال أبو محمد ، فقال عبادة : كذب أبو محمد ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «خمس صلوات كتبهنّ الله على العباد ، من جاء بهنّ لم يضيّع منهنّ استخفافا بحقهنّ كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهنّ فليس له عند الله عهد إن شاء عذّبه الله وإن شاء أدخله الجنة» [١٧٣] (٣).

وعن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه قال : ليس الوتر بحتم لأنه لا تكبير به ولكنه سنّة سنّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم، والدليل على أنّ الوتر ليس بواجب ما روى نافع

__________________

(١) سنن الدار قطني : ١ / ٢٣٦.

(٢) سنن النسائي : ١ / ٢٢٧.

(٣) مسند أحمد : ٥ / ٣١٥.

١٩٨

عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يوتر على راحلته ، وعن نافع أيضا أن ابن عمر كان يوتر على بعيره ، ويذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يفعل ذلك ، وأجمع الفقهاء على أن الصلاة المكتوبة على الراحلة في حال الأمن لا تجوز.

(وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) أي مطيعين ، قاله الشعبي وعطاء وجابر بن زيد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وطاوس وابن عباس برواية عكرمة وعطية وابن أبي طلحة ، قال الضحّاك ومقاتل والكلبي : لكل أهل دين صلاة يقومون فيها عاصين ، فقوموا أنتم في صلواتكم لله مطيعين ، ودليل هذا التأويل ما روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كل قنوت في الظهرين هو الطاعة» [١٧٤] (١).

وقال بعضهم : القنوت : السكوت [عمّا] لا يجوز التكلم به في الصلاة ، قال زيد بن أرقم : كنّا نتكلّم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة ويكلّم أحدنا من إلى جانبه ، ويدخل الداخل فيسلّم فيردون عليه ، ويسألهم : كم صلّيتم؟ فيردّون عليه مخبرين كم صلوا ، ويجيء خادم الرجل وهو في الصلاة فيكلّمه بحاجته كفعل أهل الكتاب ، فكنّا كذلك إلى أن نزلت (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.

مجاهد : خاشعين ، قال : ومن القنوت طول الركوع وغضّ البصر والركود وخفض الجناح ، كان العلماء إذا قام أحدهم يصلّي يهاب الرحمن أن يلتفت أو يقلّب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدّث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلّا ناسيا.

الحسن والربيع : قياما في الصلاة ، يدلّ عليه حديث جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل : أيّ الصلاة أفضل؟ فقال : «طول القنوت» (٢).

وقال ابن عباس في رواية رجاء : داعين في صلاتهم ، دليله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قنت على رجل وذكر أن أي دعاء عليهم [قد] قيل : مصلّين دليله قوله تعالى (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ) أي مصلّ ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصائم» [١٧٥] (٣) أي المصلي الصائم (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً) أي رجّالة ، ويقال : راجل ورجال مثل صاحب وصحاب وصائم وصيام وقائم وقيام ، قال الله تعالى (يَأْتُوكَ رِجالاً) قال الأخطل :

وبنو غدانة شاخص أبصارهم

يمشون تحت بطونهنّ رجالا (٤)

يروى أنهم أحنوا مأسورين وأبصارهم شاخصة إلى ولدهم (أَوْ رُكْباناً) على دوابّهم ، وهو جمع راكب ، قال المفضل : لا يقال راكب إلّا لصاحب الجمل ، فأمّا صاحب الفرس فيقال له

__________________

(١) تفسير الطبري : ٢ / ٧٧١.

(٢) مسند أحمد : ٣ / ٣٠٢.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ٤٢٤.

(٤) تاج العروس : ٧ / ٣٣٦.

١٩٩

فارس ، ولراكب الحمار الحمّار ، ولراكب البغال بغّال ، ونصبت على الحال ، أي فصلّوا رجالا أو ركبانا.

ومعنى الآية : فإن لم يمكنكم أن تصلّوا قانتين موفين الصلاة حقّها لخوف فصلّوا رجالا أي مشاة على أرجلكم ، أو ركبانا على ظهور دوابّكم ، فإن ذلك يجزيكم.

قال المفسرون : هذا في المسابقة والمطاردة ، يصلّي حيث يولي وجهه ، مستقبل القبلة أو غير مستقبلها ، راكبا أو راجلا ، ويجعل السجود أخفض من الركوع ، يومئ إيماء ، وهذه صلاة شدّة خوف ، والصلاة في حال الخوف على ضربين ، وسنذكرها في سورة النساء ، وصلاة شدّة الخوف وهي هذه ، والخوف الذي يجوز للمصلّي أن يصلي من أجله راكبا أو [راجلا] وحيث ما كان وجهته هو المحاربة والمسابقة في قتال من أسر بقتال من عدوّ أو محارب أو خوف سبع هائج ، أو جمل صائل ، أو سيل سائل ، أو كان الأغلب من شأنه الهلاك ، وإن صلّى صلاة الأمن فله أن يصلي صلاة شدة الخوف وهي ركعتان ، فإن صلّاها ركعة واحدة جاز لما

روى مجاهد عن ابن عباس قال : فرض الله عزوجل الصلاة على لسان نبيّكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة.

وقال سعيد بن جبير : إذا كنت في القتال ، والتقى الزحفان ، وضرب الناس بعضهم بعضا فقل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ، واذكر الله ، فتلك صلاتك. قال الزهري : فإن لم يستطع فلا يدع ذكرها في نفسه.

(فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ) أي فصلوا الصلوات الخمس تامّة لحقوقها (كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) يا معشر الرجال (وَيَذَرُونَ) ويتركون (أَزْواجاً) زوجات.

قال الكسائي : أكثر ما تقول العرب للمرأة زوجة ، ولكن في القرآن زوج (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) قرأ الحسن وأبو عمرو وأبو عامر والأعمش وحمزة (وَصِيَّةً) بالنصب على معنى فليوصوا وصية ، وقرأ الباقون بالرفع على معنى كتب عليهم الوصية ، وقيل : معناه لأزواجهم وصية ، وقيل : ولتكن وصية ، ودليل هذه القراءة قراءة عبد الله : كتبت عليهم وصية لأزواجهم.

وقرأ أبي : ويذرون أزواجا متاع لأزواجهم ، قال أبو عبيد : ومع هذا رأينا هذا المعنى كلّها في القرآن رفعا مثل قوله (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) ، (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ) ونحوهما.

(مَتاعاً) نصب على المصدر أي متّعوهنّ متاعا ، وقيل : جعل الله عزوجل ذلك لهنّ متاعا ، وقيل : نصب على الحال ، وقيل : نصب بالوصية كقوله (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً). والمتاع : النفقة سنة لطعامها وكسوتها أو سكناها أو ما تحتاج إليه (إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) نصب على الحال ، وقيل : بنزع حرف الصفة أي من غير إخراج.

٢٠٠