الكشف والبيان - ج ٢

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٢

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١١

[ومعناه] (لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً) من أمر الدّين (وَلا يَهْتَدُونَ).

ثمّ ضرب لهم مثلا فقال عزّ من قائل (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا).

وسلكت العلماء في هذه الآية طريقين ، وأوّلوها على وجهين : فقال قوم : أراد (بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً) مثل البهائم التي لا تعقل ، مثل الإبل والغنم والبقر والحمير ونحوها ، وعلى هذا القول : ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وعطاء والربيع والسدي وأكثر المفسرين. ثمّ اختلف أهل المعاني في وجه هذا القول وتقدير الآية.

فقال بعضهم : معنى الآية : ومثلك يا محمّد ومثل الّذين كفروا في وعظهم ودعائهم إلى الله عزوجل قاله الأخفش والزجّاج.

وقال الباقون : مثل واعظ الّذين كفروا وداعيهم.

(كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) فترك ذلك وأضاف المثل إلى الّذين كفروا لدلالة الكلام عليه ويسمّى هذا النوع من الخطاب المضمر ومثله في القرآن كثير كقوله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (١) قال الشاعر :

حسبت بغام راحلتي عناقا

وما هي وثبت غيرك بالعناق

يعني حسبت بغام راحلتي بغام عناق ، وقال الرّاجز :

ولست مسلما ما دمت حيا

على زيد كتسليم الأمير (٢)

أي كتسليمي على الأمير. فشبه الله عزوجل واعظ الكفار بالرّاعي الذي ينعق بالغنم أي يصيح ويصوت بها. يقال : ينعق نعيقا ونعاقا ونعقا إذا صاح وزجر ، قال الأخطل :

فانعق بضأنك يا جرير فإنّما

منّتك نفسك في الخلاء ضلالا (٣)

فكما أنّ هذه البهائم تسمع الصّوت ولا تفهمه ولا تنتفع به ولا تعقل ما يقال لها ، وكذلك الكافر لا ينتفع بوعظك إن أمرته بخير أو زجرته عن سوء ، غير أنّه يسمع صوتك.

قال الحسن : يقول مثلهم فيما قبلوا من آباءهم وفيما أتيتهم به حيث لا يسمعونه ولا يعقلونه ، كمثل راعي الغنم الذي نعق بها فإذا سمعت الصّوت رفعت رؤوسها فاستمعت إلى الصّوت والدّعاء ولا تعقل منه شيئا.

ثمّ تعود بعد إلى مراتعها لم تفقه ما يراد لها به ، وقال بعضهم : معنى الآية (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) في قلّة عقلهم وفهمهم عن الله عزوجل وعن رسوله وسوء قبولهم عنهما كمثل المنعوق به من البهائم التي لا تفقه من الأمر والنّهي غير الصّوت فكذلك الكافر في قلة فهمه وسوء تفكّره

__________________

(١) سورة يوسف : ٨٢.

(٢) مجمع البيان : ١ / ٤٦٣.

(٣) تفسير الطبري : ٢ / ١١٣.

٤١

وتدبّره فيما أمر به ونهي عنه فيكون المعنى للمنعوق به. الكلام خارج على النّاعق وهو فاش في كلام العرب ، يفعلون ذلك ويقبلون الكلام لاتضاح المعنى عندهم. فيقولون. فلان يخافك كخوف الأسد : أي كخوفه الأسد.

ويقولون : أعرض الحوض على النّاقة ، وإنّما هو أعرض النّاقة على الحوض. قال الله عزوجل (إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) (١) وإنّما العصبة تنوء بالمفاتيح ، وقال الشاعر :

وقد خفت حتّى ما تزيد مخافتي

على وعل في ذي المطارة عاقل (٢)

والمعنى : حتّى ما يزيد مخافتي وجل على مخافتي ، وقال الآخر :

كانت فريضة ما تقول كما

إنّ الزّنى فريضة الرّجم

والمعنى : كما إنّ الرّجم فريضة الزّنا ، وأنشد الفراء :

إن سراجا لكريم مفخره

تجلى به العين إذا ما تجمره

والمعنى : يحلى بالعين ، ونظائره كثيرة.

وعلى هذا القول أبو عبيدة والفراء وجماعة من العلماء ، وقال بعضهم : معنى الآية : ومثل الكفّار في قلة فهمهم وعقلهم ، كمثل الرّعاة يكلمون البهم ، والبهم لا تعقل عنهم ، وعلى هذا التفسير لا تحوّل الآية إلى الضمير ، وقال بعضهم : معناها ومثل الّذين كفروا في دعائهم الأصنام التي لا تفقه دعاؤهم كمثل النّاعق بغنمه ؛ فلا ينتفع من نعيقه بشيء غير إنّه في عناء من دعاء ونداء ، فكذلك الكافر ليس له من دعائه الآلهة وعبادته الأوثان إلّا العناء والبلاء ، ولا ينتفع منها بشيء ، يدلّ عليه قوله تعالى في صفة الأصنام (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) (٣). فهذا وجه صحيح.

وأمّا الوجه الآخر ، فقال قوم : معنى الآية ومثل الكفّار في دعائهم الأوثان وعبادتهم الأصنام كمثل الرّجل الذي يصيح في جوف الجبال فيجيب فيها صوت يقال له : الصدى يجيبه ولا ينفعه. فيكون تأويل الآية على هذا القول ، ومثل الكفّار في عبادتهم الأصنام كمثل الناعق (بِما لا يَسْمَعُ) منه (إِلَّا دُعاءً وَنِداءً).

ثمّ قال (صُمٌ) أي هم صمّ ، والعرب تقول لمن يسمع ولا يعمل بما يسمعه كأنّه أصم.

قال الشاعر :

أصم عما يساء سميع

__________________

(١) سورة القصص : ٧٦.

(٢) مجمع البيان : ١ / ١٦٤.

(٣) سورة فاطر : ١٤.

٤٢

(بُكْمٌ) عن الخير فلا يقولونه. (عُمْيٌ) عن الهدي فلا يبصرونه.

(فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ) من حلالات.

(ما رَزَقْناكُمْ) من الحرث والأنعام وسائر المأكولات والنعم.

وروى أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّه قال : «إنّ الله طيب لا يقبل إلّا الطيب ، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين. فقال : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) (١) وقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ثمّ ذكر الرّجل يطيل السّفر أشعر أغبر يمدّ يديه إلى السماء بيا ربّ يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي في حرام فإنّى يستجاب له» [١٨].

(وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) على نعمته.

(إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله جلّ جلاله إنّي والجنّ والأنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري» [١٩].

ثمّ بيّن ما حرّم عليكم فقال : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) قرأ أبو عبد الرحمن السلمي : إِنَّما حَرُمَ خفيفة الرّاء مضمومة.

(الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) رفعا على إنّ الفعل لها ، وروى عن أبي جعفر : إنّه قرأ حُرِّمَ بضم الحاء وكسر الرّاء وتشديدها ورفع ما بعده وله وجهان :

أحدهما : إنّ الفاعل غير مسمّى.

والثاني : إنّ الّذي حرّم عليكم الميّت على خبر إنّ.

وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة : حَرَّمَ بنصب الحاء والرّاء مشدّدا ورفع ما بعده جعل ما بمعنى الّذي منفصله عن قوله : إنّ وحينئذ تكون ما نصبا باسم إنّ وما بعدها رفعا على خبرها كما تقول :

إنّ ما أخذت مالك وإنّ ما ركبت دابّتك أي : إنّ الّذي قال الله (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) (٢).

وقرأ الباقون : (حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) نصبا على إيقاع الفعل وجعلوا (إِنَّما) كلمة واحدة تأكيدا وتحقيقا.

وقرأ أبو جعفر : الميّتة [وأخواتها] بالتشديد في كلّ القرآن ، وأمّا الآخرون فخفّفوا بعضا وشدّدوا بعضا فمن شدّد قال أصله : ميوت فعل من الموت فأدغمت الياء في الواو وجعلت الواو ياء مشدّدة للكسرة كما فعلوا في سيّد وحيّد وصيّب ومن لم يشدّد فعلى طلب الخفّة وهما لغتان مثل : هيّن وهين ، وليّن ولين. قال الشاعر :

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٥١.

(٢) سورة طه : ٦٩.

٤٣

ليس من مات واستراح بميّت

إنّما الميت ميّت الأحياء

فجمع بين اللّغتين.

وحكى أبو معاذ عن النحويّين وقال : إنّ الميت بالتخفيف الّذي فارقه الرّوح ، والميّت بالتشديد الّذي لم يمت بعد وهو يموت قال الله عزوجل : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (١) : لم يختلفوا في تشديده والله أعلم. والميتة : كلّ ما لم تدرك ذكاته وهو ممّا يذبح ، والدّم : أراد به الدّم الجاري يدلّ عليه قوله عزوجل : (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) (٢) مقيّد.

وهذه الآية مخصوصة بالسنّة وهو قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حلّلت أنا ميّتان ودمان فأمّا الميّتان فالحوت والجراد ، وأمّا الدّمان فالكبد والطّحال» [٢٠] (٣).

وقوله (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) أراد به جميع أجزائه وكلّ بدنه فعبّر بذلك عن اللّحم لأنّه معظمه وقوامه.

(وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) أي ما ذبح عن الأصنام والطّواغيت. كما قاله ابن عبّاس ومجاهد وقتادة والضّحاك ، وأصل الإهلال رفع الصّوت ومنه إهلال الحج وهو رفع الصّوت بالتّلبية. قال ابن أحمر :

نصف فلاة يهلّ بالفرقد ركبانها

كما يهلّ الراكب المعتمر

وقال آخر :

أو درّة صدفية غواصها

يهيج متى يرها تهلّ وتسجد

ومنه [أهل] الصّبي واستهلاله ، وهو صياحه عند خروجه من بطن أمّه ، وفي الحديث : «كيف آذي من لا نطق ولا استهلّ ولا شرب ولا أكل» [٢١] فمثل ذلك يطل ، ومثل إهلال المطر واستهلاله وانهلاله وهو صوت وقوعه على الأرض.

قال عمر بن قميئة :

ظلم البطاح له انهلال حريصة

فصفا النّطاف له بعيد المقلع (٤)

وانّما قال : (وَما أُهِلَّ بِهِ) لأنهم كانوا إذا ذبحوا لآلهتهم الّتي ربّوها جهروا به أصواتهم فجرى ذلك من أمرهم حتّى قيل : لكل ذابح سمّى أو لم يسمّ جهر بالصّوت أو لم يجهر مهلّ.

الربيع بن أنس وغيره : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) ما ذكر عليه غير اسم الله. وقال الزهري :

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٠.

(٢) سورة الأنعام : ١٤٥.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ٩٧ ، وسنن ابن ماجة : ٢ / ١١٠٢ ح ٣٣١٤.

(٤) تفسير الطبري : ٢ / ١١٦.

٤٤

الإهلال لغير الله أن تقول باسم المسيح وهذه الآية مخصوصة بأهل الكتاب وهو قوله (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ).

وروى صيوة عن عقبة بن مسلم التجيبي وقيس بن رافع الأشجعي إنهما قالا : إنّما أحلّ لنا ما ذبح لعيد الكنائس وما أهدي لها من خبز أو لحم فإنّما هو طعام أهل الكتاب ، وقال صيوة : قلت أرأيت قول الله تعالى : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) فقال : انّما ذلك المجوس وأهل الأوثان والمشركون (١).

(فَمَنِ اضْطُرَّ) قرأ عاصم وحمزة ويعقوب وابو عمرو : (فَمَنِ اضْطُرَّ) بكسر النون فيه وفي أخواته مثل : (أَنِ اقْتُلُوا ... أَوِ اخْرُجُوا) ونحوها لأنّ الجزم يحرّك إلى الكسر وقرأ الآخرون بضمّ النّون لمّا سكّنوا آخر الفعل الذي يليه لأجل الوصل نقلوا ضمّته إلى النّون ، وقرأ ابن محيصن : فمن اضطر بإدغام الضّاد في الطّاء حتّى تكون طاء خالصة ، قرأ أبو جعفر بكسر الطاء رد إلى الطّاء كسرت الرّاء المدغمة لأنّ أصله اضطرر على وزن افتعل من الضّرورة.

قرأ الباقون : بضمّ الطاء على الأصل ومعناه أحرج وأجهد وألجئ إلى ذلك.

وقال مجاهد : اكره عليه كالرجل يأخذه العدوّ فيكرهه على أكل لحم الخنزير وغيره من معصية الله.

(غَيْرَ) نصب على الحال ، وقيل على الاستثناء فإذا رأيت غيره لا يصلح في موضعها إلّا فهي حال وإذا صلح في موضعها إلّا ، فهي : استثناء فقس على هذا ما ورد عليك من هذا الباب.

(باغٍ وَلا عادٍ) أصل البغي في اللّغة قصد الفساد يقال : بغى الجرح يبغي بغيا إذا ترامى إلى الفساد ومنه قيل : للزّنا بغاء.

قال الله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) (٢) والزّانية بغي.

قال الله : (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (٣).

وأصل العدوان الظلم ومجاوزة الحد يقال : عدا عليه عدوا وعدوّا وعدوانا وعداء إذا ظلم ، واختلف المفسرون في معنى قوله : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) فقال بعضهم : (غَيْرَ باغٍ) : أي غير قاطع للطّريق ، (وَلا عادٍ) : مفرّق للائمة شاقّ للأمّة خارج عليهم بسيفه فمن خرج يقطع الرحم أو يخيف ابن السبيل أو يفسد في الأرض أو ابق من سيّده أو فرّ من غريمه أو خرج عاصيا بأي وجه كان فاضطرّ إلى ميتة لم يحلّ له أكلها أو اضطرّ إلى الخمر عند العطش لم يحلّ له شربه ولا

__________________

(١) تفسير الطبري : ٢ / ١١٧.

(٢) سورة النور : ٣٣.

(٣) سورة مريم : ٢٨.

٤٥

رخصة له ولا كرامة فأمّا إذا خرج مطيعا ومباحا له ذلك فانه يرخّص فيه له وهذا قول : مجاهد وسعيد بن جبير والضحّاك والكلبي ويمان وهو مذهب الشّافعي ، قال : إذا أبحنا له ذلك فقد أعناه على فساده وظلمه إلى أن يتوب ولا يستبيح ذلك وقال آخرون : هذا البغي والعدوان راجعان إلى الاكل واليه ذهب أبو حنيفة وأباح تناول الميتة للمضطر وإن كان عاصيا.

ثمّ اختلف أهل التأويل في تفصيل هذا التفسير : فقال الحسن وقتادة والرّبيع وابن زيد : (غَيْرَ باغٍ) : يأكله من غير اضطرار ، (وَلا عادٍ) : متعدي يتعدى الحلال إلى الحرام فيأكلها وهو غني عنها.

مقاتل بن حيّان : (غَيْرَ باغٍ) : أي مستحل لها ، (وَلا عادٍ) : متزود منها.

السّدي : (غَيْرَ باغٍ) في أكله شهوة فيأكلها ملذذا ، (وَلا عادٍ) يأكل حتّى يشبع منه ؛ ولكن يأكل منها قوتا مقدار ما يمسك رمقا.

شهر بن حوشب : (غَيْرَ باغٍ) : أي مجاوز للقدر الّذي يحلّ له ، (وَلا عادٍ) ولا يقصر فيما يحلّ له فيدعه ولا يأكله.

قال مسروق : بلغني إنّه من اضطر إلى الميتة فلم يأكلها حتّى مات دخل النّار ، وقد اختلف الفقهاء في مقدار ما يحلّ للمضطر أكله من الميتة.

فقال بعضهم : مقدار ما يمسك به رمقه ، وهو أحد قولي الشّافعي واختيار المزني.

والقول الآخر : يأكل منها حتّى يشبع ، وقال مقاتل بن حيّان : لا يزداد على ثلاث لقم.

وقال سهل بن عبد الله : (غَيْرَ باغٍ) مفارق لجماعة ، (وَلا عادٍ) مبتدع مخالف لسنّة ، ولم يرخص للمبتدع تناول المحرمات عند الضرورات.

(فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) فلا حرج عليه في أكلها.

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لما أكل من الحرام في حال الاضطرار.

(رَحِيمٌ) به حيث رخص له في ذلك.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) الآية.

قال جويبر عن الضّحاك عن ابن عبّاس : سئلت الملوك اليهود قبل مبعث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الذي يجدونه في التوراة فقالت اليهود : إنّا لنجد في التوراة إنّ الله عزوجل يبعث نبيّا من بعد المسيح يقال له : محمّد ، يحرّم الزّنى والخمر والملاهي وسفك الدّماء ، فلما بعث الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزل المدينة قالت الملوك لليهود : أهذا الذي تجدون في كتابكم؟ فقالت اليهود طمعا في أموال الملوك : ليس هذا بذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأعطاهم الملوك الأموال ، فأنزل الله تعالى هذه الآية

٤٦

إكذابا لليهود.

الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس : نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم ؛ كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والفضول ، وكانوا يرجون أن يكون النبيّ المبعث منهم ، فلما بعث الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غيرهم خافوا ذهاب ملكهم وزوال رئاستهم ، فعمدوا إلى صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فغيّروها ثمّ أخرجوها إليهم ، وقالوا : هذا نعت النبيّ الذي يخرج في آخر الزّمان ولا يشبه نعت هذا النبيّ الّذي بمكّة.

فلما نظرت السفلة إلى النعت المغيّر وجدوه مخالفا لصفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يتبعونه.

فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) يعني صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبوّته.

(وَيَشْتَرُونَ بِهِ) بالمكتوم.

(ثَمَناً قَلِيلاً) عرضا يسيرا يعني المآكل التي كانوا يصيبونها من سفلتهم.

(أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ) ذكر البطن هاهنا للتوكيد ؛ لأن الإنسان قد يقول أكل فلان مالي إذا أفسده وبذّره ، ويقال : كلمة من فيه ؛ لأنّه قد يكلمه مراسلة ومكاتبة ، وناوله من يده ونحوها.

قال الشاعر :

نظرت فلم تنظر بعينك منظرا

(إِلَّا النَّارَ) يعني إلّا ما يوردهم النّار ، وهو الرّشوة والحرام وثمن الدّين والإسلام.

لمّا كانت عاقبته النّار ، سماه في الحال نارا.

كقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) (١) يعني إنّ عاقبته تؤول إلى النّار ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الذي يشرب في آنية الذهب والفضة «إنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم» (٢) [٢٢] ، أخبر عن المال بالحال.

(وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) كلاما ينفعهم ويسرّهم هذا قول أهل التفسير ، وقال أهل المعاني : أراد به إنّه يغضب عليهم كما يقول فلان لا يكلم فلانا : أي هو عليه غضبان.

(وَلا يُزَكِّيهِمْ) لا يطهّرهم من دنس ذنوبهم.

__________________

(١) سورة النساء : ١٠.

(٢) سنن الدارمي : ٢ / ١٢١ ، وصحيح البخاري : ٦ / ٢٥١.

٤٧

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) أي استبدلوا الضلالة.

(بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ). : اختلفوا في «ما».

فقال قوم : هي «ما» التعجب ، واختلفوا في معناه.

فقال الحسن وقتادة والرّبيع : والله ما لهم عليها من صبر ولكن ما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النّار قال : وهذه لغة يمانية.

وقال الفراء : اخبرني الكسائي ، أخبرني قاضي اليمن : إنّ خصمين اختصما إليه فوجبت اليمين على أحدهما فحلف ، فقال خصمه : ما أصبرك على الله ...! أي ما أجرأك عليه.

وقال المورج : فما أصبرهم على عمل يؤديهم إلى النّار ؛ لأنّ هؤلاء كانوا علماء.

فانّ من عاند النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صار من أهل النّار.

الكسائي وقطرب : معناه ما أصبرهم على عمل أهل النّار أي ما أدومهم عليه ... كما تقول : ما أشبه سخاك بحاتم : أي بسخاء حاتم.

مجاهد : ما أعلمهم بأعمال أهل النّار ، وقيل : ما أبقاهم في النّار! كما يقال : ما أصبر فلانا على الضرب والحبس ...! عطاء والسّدي وابن زيد وأبو بكر بن عبّاس : هي «ما» الاستفهام ومعناه : ما الذي صبرهم وأيّ شيء صبّرهم على النّار حين تركوا الحق واتبعوا الباطل.

فقيل هذا على وجه الاستهانة.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) قال بعضهم معناه (ذلِكَ) العذاب (بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) واختلفوا فيه ، وحينئذ تكون «ذلك» في محل الرّفع ، وقال بعضهم محله نصب.

معناه : فعلنا ذلك بهم بأنّ الله عزوجل ، أو لأنّ الله نزّل الكتاب بالحقّ ، واختلفوا فيه ، وكفروا به فنزع حرف الصّفة.

وقال الأخفش : خبر ذلك مضمر معناه : ذلك معلوم لهم (بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ).

وقال بعضهم : معناه «ذلِكَ» : أي فعلهم الذين يفعلون من الكفر والاختلاف والاجتراء على الله تعالى من أجل إنّ الله (نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) ، وتنزيله الكتاب بالحقّ هو اخباره عنهم (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) (١).

(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) فآمنوا ببعض وكفروا ببعض.

__________________

(١) سورة البقرة : ٦.

٤٨

(لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) لفي خلاف ، وضلال طويل.

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩))

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) قرأ حمزة وحفص : (لَيْسَ الْبِرَّ) بنصب الرّاء ، وقرأ الباقون : بالرّفع فمن رفع البرّ جعله اسم ليس ، وجعل خبره في قوله (أَنْ تُوَلُّوا) تقديره : ليس البرّ توليتكم ، وجوهكم ، ومن نصب جعل أن وصلتها في موضع الرّفع على اسم ليس تقديره : ليس توليتكم وجوهكم البرّ كلّه. كقوله (ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) (١) ، وقوله (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ) (٢).

هارون عن عبد الله وأبي بن كعب : إنّهما قرئا. ليس البرّ بأن تولوا وجوهكم ، واختلف المفسرون في هذه الآية :

فقال قوم : عنى الله بهذه الآية اليهود والنّصارى ؛ وذلك إنّ اليهود كانت تصلّي قبل المغرب إلى بيت المقدس ، والنّصارى قبل المشرق ، وزعم كل فريق منهم إنّ البرّ في ذلك ، فأخبر الله إنّ البرّ غير دينهم وعملهم ، ولكنه ما بيّنه في هذه الآية ، وعلى هذا القول : قتادة والرّبيع ومقاتل بن حيّان وعوف الأعرابي.

وقال الآخرون : المراد بهذه الآية المؤمنون ؛ وذلك إنّ رجلا سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البرّ ، فأنزل الله هذه الآية فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك الرّجل فتلاها عليه.

وقد كان الرّجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا اله إلّا الله وإنّ محمّدا عبده ورسوله وصلّى الصلاة إلى أىّ ناحية ثمّ مات على ذلك وجبت له الجنّة ، فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزلت الفرائض وحدّد الحدود ، وصرفت القبلة إلى الكعبة. أنزل الله هذه الآية فقال : ليس البرّ كلّه أن تصلّوا وتعملوا غير ذلك.

__________________

(١) سورة الجاثية : ٢٥.

(٢) سورة الحشر : ١٧.

٤٩

(وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) جعل من وهي اسم خبرا للبرّ وهو فعل ولا يقال : البرّ زيد ، واختلفوا في وجه الآية :

فقال بعضهم : لما وقع من في موضع المصدر جعله مضمرا للبرّ. كأنّه قال : ولكن البرّ الأيمان بالله ، والعرب تجعل الاسم خبرا للفعل كقولهم : إنّما البر الصادق الذي يصل من رحمه ويخفي صدقته : يريدون صلة الرّحم ، وأخفاء الصّدقة ، وعلى هذا القول الفراء والمفضل بن سلمة وأنشد الفراء :

لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللّحى

ولكنّما الفتيان كل فتى ندي

فجعل نبات اللحية خبرا للفتى.

وقيل : معناه ولكنّ البرّ برّ من آمن بالله واستغنى عن النّاس ، كقولهم : الجود حاتم ، والشجاعة عنترة ، والشعر زهير : أي جود حاتم وشجاعة عنترة وشعر زهير ، وتقول : العرب : بنو فلان يطأهم الطريق ، أي أهل الطريق. قال الله تعالى (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (١) ، وقال تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) (٢) قال النابغة الجعدي :

وكيف نواصل من أصبحت جلالته كأبي مرحب (٣)

أي كجلالة أبي مرحب ، وعلى هذا القول قطرب والفراء والزّجاج أيضا.

وقال أبو عبيدة : معناه ولكنّ البار من آمن بالله كقوله (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) (٤) أي المتقي.

وقيل : معنى ذو البرّ من آمن بالله حكاه الزّجاج. كقوله (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) (٥) : أي ذو درجات.

قال المبرّد : لو كنت ممن قرأ القرآن لقرئت : لكنّ البرّ من آمن بالله بفتح الباء تقول العرب : رجل بر وبار والجمع بررة وابرار ، والبرّ : العطف والإحسان ، والبرّ أيضا : الصدق ، والبرّ هنا الإيمان والتقوى ، وهو المراد في هذه الآية بذلك عليه قوله (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

(وَالْمَلائِكَةِ) كلهم.

(وَالْكِتابِ) [يعني الكتب] (٦). (وَالنَّبِيِّينَ) أجمع.

(وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) واختلفوا في هذه الحكاية :

__________________

(١) سورة يوسف : ٨٢.

(٢) سورة لقمان : ٢٨.

(٣) مجمع البيان : ١ / ٤٧٤.

(٤) سورة طه : ١٣٢.

(٥) سورة آل عمران : ١٦٣.

(٦) سقط في المخطوط والظاهر ما أثبتناه.

٥٠

فقال أكثر المفسرين : في (حُبِّهِ) راجعة إلى المال يعني أعطى المال في حال صحّته ومحبّته إياه ونفسه به يدلّ عليه قول ابن مسعود في هذه الآية قال : هو أن توصيه وأنت صحيح ، تأمل العيش وتخش الفقر ولا تمهل ، حتّى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ، ورفع هذا الحديث بعضهم (١).

وقيل : هي عائدة على الله عزوجل أي حبّ الله سبحانه.

قال الحسين بن أبي الفضل : على حبّ الإيتاء ، وقيل : الهاء راجعة إلى المعطي أي حبّ المعطي.

(ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى) أهل القرابة.

عن أمّ رابح بنت صليح عن سليمان بن عامر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : «صدقتك على مسكين صدقة واحدة وعلى ذي الرّحم إثنين لأنّها صدقة وصلة» (٢) [٢٣].

الزهري عن حميد بن عبد الرّحمن عن أمّه أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أفضل الصّدقة على ذي الرّحم الكاشح» (٣) [٢٤] (٤).

سليمان بن يسار عن ميمونة زوج النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : أعتقت جارية لي فدخلت على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته بعتقها فقال : «آجرك الله أما إنّك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك» [٢٥].

(وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) سمّي المجاز واختلفوا فيه فقال أبو جعفر البارقي ومجاهد : يعني المسافر المنقطع عن أهله يمر عليك.

قتادة : هو الضّيف ينزل بالرجل : قال : وذكرنا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «(مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فليكرم ضيفه» (٥) [٢٦].

وكان يقول : «حقّ الضيافة ثلاث ليال فكل شيء أضافه فهو صدقة» [٢٧].

وإنّما قيل للمسافر والضيف الّذي يحلّ ويرتحل ابن السبيل لملازمته الطريق كما قيل للرّجل الّذي [أتت عليه الدهور] (٦) ابن الأيّام واللّيالي ، ولطير الماء : ابن الماء لملازمته إيّاه ، قال ذو الرّمة :

__________________

(١) راجع تفسير مجمع البيان : ١ / ٤٨٦.

(٢) بتفاوت في الشرح الكبير : ٢ / ٧٠٩ ، والمصنف لعبد الرزاق : ١٠ / ٤٣٧ ح ١٩٦٢٧.

(٣) الكاشح : العدو الذي يضمر عداوته ويطوي عليها كشحه أي باطنه.

(٤) مسند أحمد : ٥ / ٤١٦ ، ومجمع الزوائد : ٣ / ١١٧.

(٥) في تفسير الطبري (٢ / ١٣٢) فليقل خيرا أو ليسكت.

(٦) كلمات غير مقروءة والظاهر ما أثبتناه.

٥١

وردت اعتسافا والثريّا كأنّها

على قمّة الرأس ابن ماء محلّق (١)

(وَالسَّائِلِينَ) المستطعمين الطّالبين.

عبد الله بن الحسين عن أمّه فاطمة بنت الحسين قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «للسائل حقّ وإن جاء على فرس» [٢٨] (٢).

مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هدية الله إلى المؤمن السّائل على بابه» [٢٩].

(وَفِي الرِّقابِ) يعني المكاتبين قاله أكثر المفسّرين ، وقيل : فداء الأسارى ، وقيل : عتق النّسمة وفكّ الرّقبة.

(وَأَقامَ الصَّلاةَ) المفروضة.

(وَآتَى الزَّكاةَ) الواجبة.

(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) فيما بينهم وبين النّاس إذا وعدوا انجزوا وإذا حلفوا أوفوا ، وإذا قالوا صدقوا وإذا ائتمنوا أدّوا.

قال الرّبيع بن أنس : فمن أعطى عهد الله ثمّ نقضه فالله سبحانه مطعم منه ومن أعطى دمه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمّ غدر فالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خصمه يوم القيامة.

وفي وجه ارتفاع الموفّين قولان : قال الفرّاء والأخفش : هو عطف على محل (من) في قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) و (من) في موضع جمع ومحلّه رفع كأنّه قال : ولكن البرّ المؤمنون والموفون.

وقيل : رفع على الابتداء والخبر تقديره هم الموفون ، ثمّ قال : (وَالصَّابِرِينَ) وفي نصبها أربعة أقاويل. قال أبو عبيد : نصب على تطاول الكلام ومن شأن العرب أن في تعيّر الاعراب إذا طال الكلام [والنسق].

وقال الكسائي : نصبه نسقا على قوله (ذَوِي الْقُرْبى) الصابرين.

وقال بعضهم : معناه وأعني الصابرين.

وقال الخليل بن أحمد والفرّاء : نصب على المدح والعرب تنصب على المدح وعلى الذّم كانّهم يريدون بذلك إفراد الممدوح والمذموم ولا يتبعونه بأول الكلام فينصبونه.

__________________

(١) مجمع البيان : ١ / ٤٧٣.

(٢) تفسير ابن كثير : ١ / ٢١٤.

٥٢

فأمّا المدح فقوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) (١) وأنشد الكسائي :

وكلّ قوم أطاعوا أمر مرشدهم

إلّا نميرا اطاعت أمر غاويها

والطاعنين ولما يطعنوا أحدا

والقائلين لمن دار يخليها

وأنشد أبو عبيده لحزنق بن عفان :

[لا يبعدن] (٢) قومي الّذين هم

سم العداة وانه الجزل

النازلين بكل معترك

والطيبين معاقد الأزل

وأما الذّم ، فقوله تعالى (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا) أخذوا.

وقال عروة بن الورد

تسقوني الخمر ثمّ تكفوني

عداة الله من كذب وزور (٣)

(فِي الْبَأْساءِ) يعني الشدة والفقر (وَالضَّرَّاءِ) المرض والزمانة وهما اسمان بنيا على فعلا ولا أفعل لهما لأنهما اسمان وليسا بنعت.

(وَحِينَ الْبَأْسِ) وقت القتال : وقال علي رضي‌الله‌عنه : كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان أقربنا إلى العدوّ إذا اشتدّ الحرب.

(أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) في دمائهم.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) روى القاسم : إن أبا ذر سئل عن الإيمان؟ فقرأ هذه الآية فقال السائل : انّما سألنا عن الإيمان وتخبرنا عن البرّ ، فقال : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله عن الإيمان فقرأ هذه الآية.

وقال أبو ميسرة : وقرأ هذه الآية ومن عمل بهذه الآية فقد استكمل البرّ.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) الآية : قال الشعبي والكلبي وقتادة ومقاتل بن حيّان وأبو الجوزاء وسعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في حيّين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهليّة قبل الإسلام بقليل فكانت بينهما قتلى وجراحات لم يأخذها بعضهم من بعض حتّى جاء الإسلام.

قال سعيد بن جبير : إنهما كانا حيّين الأوس والخزرج.

وقال ابن كيسان : قريظة والنّضير ، قال : وكان لأحد الحيّين حول على الآخر في الكرم والشّرف ، وكانوا ينكحون نسائهم بغير مهور. فاقسموا ليقتلن بالعبد منّا الحرّ منهم ، وبالمرأة منّا

__________________

(١) سورة النساء : ١٦٢.

(٢) كلمات غير مقروءة والظاهر ذلك.

(٣) مجمع البيان : ١ / ٤٧٥.

٥٣

الرّجل منهم ، وبالرّجل منّا الرّجلين منهم ، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك وهم كذا يعاملونهم في الجاهلية. فرفعوا أمرهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأمرهم بالمساواة فرضوا وسلّموا.

السّدي وجماعة : نزلت هذه الآية في الدّيات ؛ وذلك إنّ أهل حزبين من العرب اقتتلوا ؛ أحدهما مسلم والآخر معاهد. فأمر الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصلح بينهم بأن يجعل ديات النّساء من كل واحد من الفريقين قصاصا بديات النّساء من الفريق الآخر ، وديات الرّجال بالرّجال ، والعبيد بالعبيد ، فأنزل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ) فرض وكتب عليكم في القتلى (١) ، والقصاص : المساواة والمماثلة في النفوس والجروح والدّيات ، وأصله من قصّ الأثر إذا اتّبعه فكان المفعول به يتبع ما عمل به فيعمل مثله ، ثمّ بيّن فقال : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى).

ذكر حكم الآيات

إذا تكافأ الدّمان من الأحرار المسلمين أو العبيد من المسلمين ، أو الأحرار من المعاهدين أو العبيد منهم قتل من كل صنف منهم : الذكر إذا قتل منهم بالذكر ، والأنثى إذا قتلت بالأنثى ، والذكر والإجماع واقع إنّ الرّجل يقتل بالمرأة لأنّهما يتساويا في الحرمة والميراث وحد الزّنى والقذف وغير ذلك ؛ فلذلك يجب أن يستويا في القصاص ولا يقتل الحرّ بالعبد وعليه قيمته وإن بلغت [ثلث] ؛ لما بينهما من المفاضلة ، ولا يقتل مؤمن بكافر. بدليل ما روى الشّعبي عن أبي حجيفة قال : سألت عليّا كرم الله وجهه هل عندكم من النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوى القرآن؟

فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النّسمة إلّا أن يعطي الله عزوجل عبدا فهما في كتابه وما في الصحيفة. قلت : وما في الصّحيفة؟

قال : العقل وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر (٢) ، ولا يقتل [سيد] بعبده ، ولا والد بولده (٣).

يدلّ عليه ما روى إن رجلا اسمه قتادة رمى ابنه بسيف فأصاب رجله فنزف فمات. فقال عمر رضي‌الله‌عنه : لولا أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : لا يقاد والد بولده ، وإلّا قدته به.

(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) أيّ ترك وله وصفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص ، وروي عن علي رضي‌الله‌عنه إنّه قتل ثلاثة بواحد في قتل العمد هذا قول أكثر المفسرين قالوا : العفو أن يقبل الدّية في قتل العمد ، وقال السّدي : هو أن يبقى له بقية من دية أخيه أو من أرش جراحته.

__________________

(١) راجع تفسير الطبري : ٢ / ١٤٠.

(٢) إلى هنا موجود في المصدرين.

(٣) كتاب المسند للشافعي : ١٩٠ ، والمصنف لعبد الرزاق : ١٠ / ١٠٠ ح ١٨٥٠.

٥٤

(فَاتِّباعٌ) أي فعليه اتباع.

(بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) أمر الطالب أن يطلب بالمعروف ويتبع حق الواجب له عليه من غير أن يطالبه بالزّيادة أو يكلفه ما لم يوجبه الله له أو يشدد عليه كما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من زاد بعيرا في إبل الدّيات وفرائضها فمن أمر الجاهلية» [٣٠] (١).

حكم الآية

أعلم إنّ أنواع القتل ثلاثة العمد ، وشبه العمد ، والخطأ : فالعمد : أن يقصد ضربه ، بما أنّ الأغلب إنّه يموت منه مثل الحديدة والخشبة العظيمة والحجر الكبير ونحوها أو حرقه أو غرفه أو الشّدة من حبل أو سطح أو في بئر وما يشبه ذلك مما يتعمّد قلبه. ففي هذا القصاص أو الدّية.

فدية المسلم ألف دينار ومن الورق اثنا عشر ألف درهم ومن الإبل مائة منها أربعون خلفه في بطونها أولادها. وثلاثون حقّه ، وثلاثون جذعه ، الأصل في الرّجل الإبل أو ديات النّساء على النصف من ذلك.

وأما شبه العمد : فهو أن يقصد ضربه. بما الأغلب إنّه لا يموت منه مثل : حصى صغير أو عود صغير أو لطمه أو وكزه أو بكسره أو صفعة أو ضربة بالسّيف عمدا أو ما أشبه ذلك فمات منه ، فهاهنا يجب الدّية مغلّظة على العاقلة ، كما وصفنا في دية العمد.

وأمّا الخطأ : فهو أن يقصد شيئا فيخطئ ويصوّب غيره. كالرّجل يرمي الهدف أو الصّيد فيخطئ السهم فيقع بإنسان فيقتله فهو الخطأ المحض وفيه الدّية المخفّفة على العاقلة في ثلاث ستين أخماسا : عشرون بنات مخاض وعشرون بنات لبون وعشرون ابنا لبون ، وعشرون خناق ، وعشرون جذعا ، ولا يتعين الورق والذّهب ، كما تنقص الإبل الذي ذكرت من العفو والديّة.

(تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) وذلك إنّ الله تعالى كتب على أهل التوراة في النّفس والجرح أن يقيدوا ولا يأخذوا الدّية ولا يعفوا وعلى أهل الإنجيل أن يعفوا ولا يقيدوا ولا يأخذوا الدّية.

فخير الله تعالى هذه الأمة بين القصاص والدّية والعفو.

كما روى سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثمّ أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل ، وأنا والله عاقله فمن قتل قتيلا بعده فأهله بين خيرتين : إن أحبّوا قتلوا وإن أحبّوا أخذوا العقل» [٣١].

(فَمَنِ اعْتَدى) ظلم وتجاوز الحد.

(بَعْدَ ذلِكَ) فقيل بعد أخذ الدّية ، وقال الحسن : كان الرّجل في الجاهليّة إذا قتل قتيلا فرّ

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٢ / ١٥٠.

٥٥

إلى قومه فيجيء قومه فيصالحون بالدّية فذلك الاعتداء.

(فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) يقتل في الدّنيا ولا يعفى عنه.

قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أعافي رجلا قتل بعد أخذه الدّية منه» [٣٢] ، وفي الآخرة عذاب النّار ، وفي هذه الآية دليل على إنّ القاتل لا يصير كافرا ولا يبقى خالدا في النّار ؛ لأنّ الله تعالى.

خاطبهم فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) ولا خلاف إنّ القصاص واقع في العمد فلم يسقط عنه أسم الأيمان بارتكاب هذه الكبيرة ، وقال في آخر الآية (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) فسمى القاتل أخا المقتول ، وقال (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) وهما [يخصّان] المؤمنين دون الكافرين.

يروى أنّ مسروقا سئل هل للقاتل توبة؟

فقال : لا أغلق بابا فتحه الله.

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) بقاء لأنّه إذا علم أنّه إن قتل أمسك وارتدع عن القتل. ففيه حياة للّذي يهمّ بقتله ، وحياة للهام ولهذا قيل في المثل : القتل قلّل القتل.

وقال قتادة : كم رجل قد همّ بداهية لولا مخافة القصاص لوقع بها ولكنّ الله تعالى حجر عباده بعضهم عن بعض هذا قول أكثر المفسّرين.

وقال السّدي : كانوا يقتلون بالواحد الاثنين والعشرة والمائة فلمّا قصروا بالواحد على الواحد كان في ذلك حياة وقيل : أراد في الآخرة لأنّ من أقيد منه في الدّنيا حيي في الآخرة ، وإذا لم يقتص منه في الدنيا اقتصّ منه في الآخرة ويعني الحياة سلامته من قصاص الآخرة ، وقرأ أبو الجوزاء : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) أراد القرآن فيه حياة القلوب.

قال (يا أُولِي الْأَلْبابِ) يا ذوي العقول.

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) القتل مخافة القود.

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢))

(كُتِبَ) فرض ووجب. (عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ) جاء.

(أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) يعني اسباب الموت وآثاره ومقدماته من العلل والأمراض ولم يرد المعاينة.

٥٦

(إِنْ تَرَكَ خَيْراً) مالا ، نظيره قوله (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) (١) (الْوَصِيَّةُ) في رفعها وجهان :

أحدهما : اسم ما لم يسم فاعله وهو قوله «كُتِبَ» ، والثاني : خبر حرف الصفة ، وهو اللام في قوله (لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) يعني لا يزيد على الثلث ولا يوصي للغني ويدع الفقير. كما قال ابن مسعود : الوصيّة للأخل فالأخل أي الأحوج فالأحوج.

(حَقًّا) واجبا ، وهو نصب على المصدر أي حق ذلك حقا وقيل : على المفعول أي جعل الوصيّة حقا ، وقيل : على القطع من الوصيّة.

(عَلَى الْمُتَّقِينَ) المؤمنين ، واختلف العلماء في معنى هذه الآية : فقال قوم : كانت الوصيّة للوالدين والأقربين ، فرضا واجبا على من مات ، وله مال حتّى نزلت آية المواريث في سورة النّساء. فنسخت الوصيّة للوالدين والأقربين الذين يرثون ، وبقي فرض الوصيّة للأقرباء الذين لا يرثون والوالدين الذين لا يرثان بكفر أو رق على من كان له مال.

فخطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت هذه الآية فقال : «الآن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصيّة لوارث [٣٣] فبيّن إنّ الميراث والوصيّة لا يجتمعان» (٢).

فآية المواريث هي لنّا حجة وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المبيّن هذا قول ابن عبّاس وطاوس وقتادة والحسن ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد والربيع وابن زيد.

قال الضحاك : من مات ولم يوص لذي قرابته فقد ختم عمله بمعصية ، وقال طاوس : من أوصى لقوم وسمّاهم ، وترك ذوي قرابته محتاجين [انتزعت] منهم وردّت إلى ذوي قرابته.

وقال آخرون : بل نسخ ذلك كلّه بالميراث فهذه الآية منسوخة. ولا يجب لأحد وصيّة على أحد قريب ولا بعيد. فإن أوصى فحسن ، وأن لم يوص فلا شيء عليه ، وهذا قول عليّ وابن عمر وعائشة وعكرمة ومجاهد والسّدي.

قال شريح في هذه الآية. كان الرّجل يوصي بماله كلّه حتّى نزلت آية المواريث.

وقال عروة بن الزّبير : دخل علي رضي‌الله‌عنه على مريض يعوده فقال : إنّي أن أوصي. فقال علي عليه‌السلام : إنّ الله تعالى يقول (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وإنّما يدع شيئا يسير فدعه لعيالك إنّه أفضل.

وروى أيوب عن نافع عن ابن عمر : إنّه لم يوص فقال : أمّا مالي والله أعلم ما كنت أصنع به في الخلوة وأما رباعي لن يشرك ولدي فيها أحد.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٧٢.

(٢) مسند أحمد : ٤ / ١٨٦ ، وسنن أبي داود : ١ / ٦٥٦ ح ٢٨٧٠.

٥٧

وروى ابن أبي مليكة : إنّ رجلا قال لعائشة : إنّي أريد أن أوصي ، قالت : كم مالك؟ قال : ثلاثة آلاف. قالت : كم عيالك؟

قال : أربعة : قالت : إنّما قال : الله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وهذا شيء يسير فاتركه لعيالك.

وروى سفيان بن بشير بن دحلوق قال : قال عروة بن ثابت للربيع بن خيثم : أوص لي بمصحفك. قال : فنظر إلى أبيه فقال : (أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ).

وروى سفيان عن الحسين بن عبد الله عن إبراهيم قال : ذكر لنّا إنّ زبيرا وطلحة كانا يشددان في الوصيّة. فقال : ما كان عليهما أن لا يفعلا. مات النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يوصّ وأوصى أبو بكر ، أي ذلك فعلت فحسن.

(فَمَنْ بَدَّلَهُ) أي فمن غيّر الوصيّة من الأوصياء والأولياء أو الشهود.

(بَعْدَ ما سَمِعَهُ) من الميت فإنّما ذكر الكناية عن الوصيّة وهي مؤنثة لأنّها في معنى الإيصاء لقوله (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) (١) ردّه إلى الواعظ ونحوها كثيرة.

وقال المفضل : لأنّ الوصيّة قول فذهب إلى المعنى وترك اللفظ.

كقول امرئ القيس.

برهرهة رودة رخصة

كخرعوبة اليانة المنقطر

المنقطر : المنتفخ بالورق وهو أنعم ما يكون فذهب إلى القضيب فترك لفظ الخرعوبة.

(فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) وصي الميت.

(إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لوصاياكم.

(عَلِيمٌ) بنيّاتكم.

(فَمَنْ خافَ) أي خشي ، وقيل : علم وهو الأجود كقوله (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ) (٢).

وقال ابو محجر الثقفي :

فلا تدعني بالفلاة فانّني أخاف

إذا ما متّ أن لا أذوقها

أراد : أعلم.

(مِنْ مُوصٍ) قرأ مجاهد وعطاء وحميد وابن كثير وابو عمرو وابن عامر وأبو جعفر وشيبة ونافع : بالتخفيف واختاره أبو حاتم.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٧٥.

(٢) سورة البقرة : ٢٢٩.

٥٨

لقول النّاس : أوصيكم بتقوى الله.

قال أبو حاتم : قرأتها بمكّة بالتشديد أوّل ليلة أقمت فعابوها عليّ.

وقرأ الباقون : موصّ بالتشديد واختاره ابو عبيد كقوله : (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) (١).

(جَنَفاً) جورا وعدولا من الحقّ من الحقّ والجنف : الميل في الكلام والأخذ كلّها يقال :

جنف وأجنف وتجانف إذا مال. قال لبيد :

إنّي امرؤ منعت أرومة عامر

ضيمي وقد جنفت عليّ خصوم (٢)

وقال آخر :

هم أقول وقد جنفوا علينا

وانّا من لقاءهم أزور

وقال علي عليه‌السلام : حيفا بالحاء والياء أي ظلما.

قال الفراء : الفرق بين الجنف والحيف : أن الجنف عدول عن الشيء والحيف : حمل الشّيء حتّى ينتقصه وعلى الرّجل حتّى ينتقص حقّه.

يقال : فلان يتحوف ماله أي ينتقصه منّي حافاته.

وقال المفسّرون : الجنف : الخطأ ، والإثم : العمد ، واختلفوا في معنى الآية وحكمها فقال قوم : تأويلها من حضر مريضا وهو يوصّي فخاف أن [يحيف] في وصيته فيفعل ما ليس له أو تعمد جورا فيها فيأمر بما ليس له ، فلا حرج على من حضره أن يصلح بينه وبين ورثته بأن يأمره بالعدل في وصيّته ، وينهاه عن الجنف فينظر للموصي وللورثة ، وهذا قول مجاهد : هذا ممّن يحضر الرّجل وهو يموت. فإذا أسرف أمره بالعدل وإذا قصّر قال : أفعل كذا أعط فلانا كذلك.

وقال آخرون : هو إنّه إذا أخطأ الميت وصيّته أو خاف فيها متعمدا فلا حرج على وليه أو وصيه أو والي أمر المسلمين أن يصلح بعد موته بين ورثته وبين الموصي لهم ، ويردّ الوصيّة إلى العدل والحق ، وهذا معنى قول ابن عبّاس وقتادة وإبراهيم والرّبيع.

وروى ابن جريج عن عطاء قال : هو أن يعطي عند حضور أجله بعض ورثته دون بعض مما سيرثونه بعد موته. فلا إثم على من أصلح بين الورثة.

طاوس : [الحيف] وهو أن يوصي لبني ابنه يريد ابنه أو ولد أبنته يريد ابنته ، ويوصي لزوج ابنته ويريد بذلك ابنته ، فلا حرج على من أصلح بين الورثة.

__________________

(١) سورة الشورى : ١٣.

(٢) مجمع البيان : ١ / ٤٨٥.

٥٩

السّدي وابن زيد : هو في الوصيّة للآباء والأقربين بالأثرة يميل إلى بعضهم ويحيف لبعضهم على بعض في الوصيّة. فإنّ أعظم الأجر أن لا ينفذها ، ولكن يصلح ما بينهم على ما يرى إنّه الحق فينقص بعضا. ويزيد بعضا.

قال ابن زيد : فعجز الموصي أن يوصي (لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) كما أمره الله ، وعجز الوصي أن يصلح فيوزع الله ذلك منه بفرض الفرائض لذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله تعالى لم يوص بملك مقرب ولا نبي مرسل حتّى تولّى قسم مواريثكم» [٣٤].

وقال (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) ولم يجر للورثة ولا للمختلفين في الوصيّة ذكر لأنّ سياق الآية وما تقدّم من ذكر الوصيّة يدلّ عليه.

قال الكلبي : كان الأولياء والأوصياء يمضون وصيّة الميت بعد نزول الآية (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) الآية وإن استغرق المال كلّه ويبقى الورثة بغير شيء ، ثمّ نسختها هذه الآية (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) الآية.

وروى عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه : قال كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع فمرضت مرضا أشرفت على الموت. فعادني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّ لي مالا كثيرا وليس يرثني إلّا بنت لي أفأوصي بثلثي مالي؟

قال : لا.

قلت : فبشطر مالي؟

قال : لا.

قلت : بثلث مالي؟

قال : نعم الثلث والثلث كثير إنك يا سعد أن تترك ولدك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون النّاس.

وقال مسلم بن صبيح : أوصى جار لمسروق فدعا مسروقا ليشهده فوجده قد بذر وأكثر.

فقال : لا أشهد إنّ الله عزوجل قسم بينكم فأحسن القسمة فمن يرغب برأيه عن أمر الله فقد ضلّ ، أوص لقرابتك الذين لا يرثون ودع المال على قسم الله.

وعن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حاف في وصيّته ألقي في اللوى ـ واللوى واد في جهنّم ـ» [٣٥] (١).

__________________

(١) لم نجده إلا في لسان العرب : ١٥ / ٢٦٧ ، وفي النهاية لابن الأثير روي : (٤ / ٢٨٠) من خان في وصيته.

٦٠