الكشف والبيان - ج ٢

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٢

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١١

عن سمرة بن جندب قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يمنعكم من السحور آذان بلال ولا الصبح المستطيل ولكن الصبح المستطير في الأفق» [٦٢] (١).

ثمّ ذكر وقت الإفطار فقال (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ).

قال عبد الله بن أبي أوفى : كنا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسيرة وهو صائم فلمّا غربت الشمس قال لرجل : انزل فاجرح لي ، فقال الرجل : يا رسول الله أمسيت؟ فقال : انزل فاجرح لي ، فقال الرجل : لو أمسيت ، فقال : انزل فاجرح لي ، قال : يا رسول الله ان علينا نهارا فقال له الثالثة فنزل فجرح له. ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار وغابت الشمس فقد أفطر الصائم» [٦٣] (٢).

وفي بعض الألفاظ : أكل أو لم تأكل.

(وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) ، كان مجاهد يقرأ في المسجد ، وأصل العكوف والاعتكاف الثبات والاقامة.

فقال : عكفت بالمكان إذا عكفت ، قال الله عزوجل (فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) (٣) أيّ يقيمون.

قال الفرزدق يصف القدور :

يرى حولهن معتفين كأنهم

على صنم في الجالية عكف

وقال الطرماح :

فبات بنات الليل حولي عكّفا

عكوف البواكي بينهن صريع (٤)

وقال آخر : تصدّى لها والدجى قد عكف خيال هداه إليه الشغف ، والاعتكاف هو حبس النفس في المسجد على عبادة الله تعالى.

واختلف العلماء في معنى المباشرة التي نهي المعتكف عنها.

فقال قوم : هي المجامعة خاصة معناه لا تجامعوهن ما دمتم معتكفين في المساجد ، فإن الجماع يفسد الاعتكاف وبه قال ابن عبّاس وعطاء والضحاك والربيع.

وقال قتادة ومقاتل والكلبي : نزلت هذه الآية في نفر من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يعتكفون في المسجد وإذا عرضت للرجل منهم الحاجة إلى أهله خرج إليها فجامعها ثمّ يغتسل ويرجع إلى المسجد فنهوا أن يجامعوا ليلا ونهارا حتّى يفرغوا من اعتكافهم.

__________________

(١) المصنف لابن أبي شيبة : ٢ / ٤٢٧.

(٢) مسند أحمد : ١ / ٤٨ ـ ٥٤.

(٣) سورة الأعراف : ١٣٨.

(٤) تفسير الطبري : ٢ / ٢٤٥.

٨١

وقال أبو زيد : المباشرة الجماع وغير الجماع ؛ من اللمس والقبلة وانواع التلذذ ، والجماع مفسد للاعتكاف بالإجماع ، والمباشرة غير الجماع ، فهو على ضربين : ضرب يقصد به التلذذ بالمرأة فهو مكروه ولا يفسد الاعتكاف عند أكثر الفقهاء وقال مالك بن أنس : يفسده.

قال ابن جريج : قلت لعطاء المباشرة هو الجماع؟ قال : الجماع نفسه ، قلت له : فالقبلة في المسجد والمسّة؟

قال : أما الذي حرّم فالجماع وأنا أكره كل شيء من ذلك في المسجد (١).

والضرب الثاني : ضرب يقصد به التلذذ بالمرأة فهو مباح كما جاء في الخبر عن عائشة رضي‌الله‌عنها ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخرج إليها رأسه من المسجد فترجّله وهو معتكف.

فرقد السجني عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في المعتكف :

«هو معتكف (٢) الذنوب وتجري له من الحسنات كعامل الحسنات كلها» [٦٤] (٣).

عن علي بن الحسين عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من اعتكف عشرا في رمضان كان بحجتين وعمرتين» [٦٥] (٤).

(تِلْكَ) الأحكام التي ذكرنا في الصيام والاعتكاف (حُدُودُ اللهِ).

قال السّدي : شروط الله.

شهر بن حوشب : فرائض الله.

الضحاك : معصية الله.

المفضل بن سلمة : الحد الموقف الذي يقف الإنسان عليه ويصف له حتّى يميّز من سائر الموصوفات والحد فصل بين الشيئين ، والحد منتهى الشيء.

وقال الخليل : الحد الجامع المانع.

قال الزجاج : بحدود ما منع الله تعالى من مخالفتها.

قلت : وأصل الحد في اللغة : المنع ومنه قيل للبواب حداد.

قال الأعشى :

__________________

(١) المصدر السابق : ٢ / ٢٤٧.

(٢) في المصادر : يعكف.

(٣) المغني لابن قدامة : ٣ / ١١٨ ، وسنن ابن ماجة : ١ / ٥٦٧ ح ١٧٨١.

(٤) الجامع الصغير : ٢ : ٥٧٥ ح ٨٤٧٩ ، وكنز العمال : ٨ / ٥٣٠ ح ٣٤٠٠٦.

٨٢

فقمنا ولما يصح ديكنا

إلى جونة عند حدادها (١)

يعني صاحبها الذي يحفظها ويمنعها.

قال النابغة : إلّا سليمان إذ قال المليك له قم في البرية فاحددها عن الفند (٢) ، ومنه حدود الأرض ، والدار هي ما منع غيره أن يدخل فيها ، وسمي الحديد حديدا لأنه يمتنع من الأحداء ، ويقال أحدّت المرأة على زوجها وحدّت إذا منعت نفسها من الزينة ، فحدّد الله هي ما منع فيها أو منع من مخالفتها والتعدّي إلى غيرها.

(فَلا تَقْرَبُوها) فلا تأتوها ، يقال : قربت الشيء أقربه وقربت منه بضم الراء إذا دنوت منه.

(كَذلِكَ) هكذا (يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) لكي يتقوها فنجّوا من السخطة والعذاب.

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩))

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) الآية.

قال ابن حيان وابن السائب : نزلت هذه في امرؤ القيس بن عابس الكندي وفي عبدان بن أشرح الحضرمي ، وذلك إنهما اختصما إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أرض فأراد امرؤ القيس أن يحلف فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ) فقرأها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأبى أن يحلف وحكم عبدان في أرضه ولا يخاصمه.

فقرأها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان امرؤ القيس المطلوب وعبدان الطالب فأنزل الله عزوجل (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) الآية أيّ لا يأكل بعضكم مال بعض ، (بِالْباطِلِ) أي من غير الوجه الذي أباحه الله تعالى له ، وأصل الباطل الشيء الذاهب الزائل يقال : بطل يبطل بطولا وبطلانا إذا ذهب.

(وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) أي تلقون أمور تلك الأموال بينكم وبين أربابها إلى الحكام ، وأصل الأدلاء إرسال الدلو وإلقاءه في البئر ، يقال أدلى دلوه إذا أرسلها.

__________________

(١) راجع زاد المسير : ١ / ١٧٦ ، والجونة : الخابية المطلية بالقار ، والمراد ما فيها من الخمر.

(٢) لسان العرب : ٣ / ١٤٢ ، وفيه : الإله ، بدل المليك.

٨٣

قال الله تعالى (فَأَدْلى دَلْوَهُ) (١) ودلاها إذا أخرجها ثمّ جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء ، ومنه قيل للمحتج بدعواه : أدلى بحجته إذا كانت سببا له يتعلق به في خصومته كتعلق المسقي بدلو قد أرسلها هو سبب وصوله إلى الماء ، ويقال : أدلى فلان إلى فلان إذا تناول منه وأنشد يعقوب :

فقد جعلت إذا حاجة عرضت

بباب دارك أدلوها أيا قوم

ومنه يقال أيضا : دلا ركابه يدلوها إذا ساقها سوقا رفقا قال الراجز :

يا ذا الذي يدلوا المطيّ دلوا

ويمنع العين الرقادا المرا

واختلف النحاة في محل قوله (وَتُدْلُوا).

فقال بعضهم : جزم بتكرير حرف النهي المعني ولا تأكلوا ولا تدلوا وكذلك هي في حرف أبي بإثبات لا.

وقيل : وهو نصب على الصرف.

كقول الشاعر :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

وقيل : نصب بإضمارين الخفيّفة.

قال الأخفش : نصب على الجواب بالواو.

(لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) بالباطل.

وقال المفضل : أصل الإثم التقصير في الأمر.

قال الأعشى :

جمالية تعتلي بالرّداف

إذا كذب الأثمان الهجيرا

أي المقصرات يصف [ناقته] (٢) ثمّ جعل التقصير في أمر الله عزوجل والذنب إثما.

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إنكم مبطلون.

قال ابن عبّاس : هذا في الرجل يكون عليه مال وليس له فيه بينة فيجحد ويخاصمهم فيه إلى الحكام وهو يعرف ان الحق عليه ويعلم إنه آثم أكل حرام.

قال مجاهد : في هذه الآية لا يخاصم وليست ظالم.

__________________

(١) سورة يوسف : ١٩.

(٢) كلمة غير مقروءة والظاهر ما أثبتناه.

٨٤

الحسن : هو أن يكون على الرجل لصاحبه حق فإذا طالبه به دعاه إلى الحكام فيحلف له ويذهب بحقه.

الكلبي : هو أن يقيم شهادة الزور.

قتادة : لا تدل بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم إنك ظالم فإن قضاءه لا يحل حرامه ومن قضى له بالباطل فإن خصومته لم ينقض حتّى يجمع الله عزوجل يوم القيامة بينه وبين خصيمه فيقضي بينهما بالحق.

وقال شريح : إني لأقضي لك ، وإني لأظنك ظالما ، ولكن لا يسعني إلّا أن أقضي بما يحضرني من البيّنة ، وإن قضائي لا يحل لك حراما.

محمّد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «(إِنَّما أَنَا بَشَرٌ) ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار» [٦٦] (١).

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة الأنصاريين قالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدوا دقيقا مثل الخيط ثمّ يزيد حتّى يمتلئ ويستوي ثمّ لا يزال ينقص حتّى يعود كما بدأ لا يكون على حالة واحدة فأنزل الله تعالى (يَسْئَلُونَكَ) يا محمّد (عَنِ الْأَهِلَّةِ) وهي جمع هلال مثل رداء وأردية واشتقاق الهلال من قولهم استهل الصبي إذا صرخ حين يولد.

وأهل القوم بالحج والعمرة إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية.

قال الشاعر :

يهل بالفرقد ركبانها

كما يهل الراكب المعتمر

فسمّي هلالا لأنه حين يري يهل الناس بذكر الله ويذكره.

(قُلْ هِيَ مَواقِيتُ) وهو الزمان المحدود للشيء (لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) أخبر الله عن الحكمة في زيادة القمر ونقصانه واختلاف أحواله ، اعلم إنه فعل ذلك : ليعلم الناس أوقاتهم في حجتهم وعمرتهم وحلّ ديونهم ووعد حلفائهم وأجور أجرائهم ومحيض الحائض ومدة الحامل ووقت الصوم والإفطار وغير ذلك ، فلذلك خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالة واحدة.

(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) قال المفسّرون : كان الناس في الجاهلية وفي أوّل الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة لم يدخل حائطا ولا بيتا ولا دارا من بابه فإن كان من أهل المدن نقب نقبا في ظهر بيته منه يدخل ويخرج ، أو يتخذ سلما فيصعد منه وإن

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٣٣٢ ، وسنن ابن ماجة : ٢ / ٧٧٧.

٨٥

كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ولا يدخل من الباب ولا يخرج منه حتّى يحل من إحرامه ، ويرون ذلك برا إلّا أن يكون من الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر بن صعصعة وبنو النضر بن معاوية ، سمّوا حمسا لتشددهم في دينهم والحماسة والشدة والصلابة قالوا : فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم بيتا لبعض الأنصار فدخل من الأنصار رجل يقال له زعامة بن أيوب ، وقال الكلبي : قطبة بن عامر بن حذيفة أحد بني سلمة فدخل على أثره من الباب وهو محرم فأنكروا عليه ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لم دخلت من الباب وأنت محرّم؟

قال : رأيتك دخلت فدخلت على أثرك ، فقال رسول الله : إليّ أحمس ، قال الرجل : إن كنت أحمس : فإنّ أحمس ديننا واحد ، رضيت بهديك وهمتك ودينك ، فأنزل الله هذه الآية (١).

الزهري : كان ناس من الأنصار إذا أهلّوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء ويتحرجون من ذلك وكان الرجل يخرج مهلا بالعمرة فتبدوا له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف الباب أن يحول بينه وبين السماء فيفتح الجدار من ثمّ يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فيخرج إليه من بيته ، حتّى بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهلّ زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرة ودخل رجل على أثره من الأنصار من بني سلمة ، فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لم فعلت ذلك؟

قال : لأني رأيتك دخلت ، فقال : لأني أحمس. [قال الزهري :] وكانت الحمس لا يبالون بذلك.

فقال الأنصاري : وأنا أحمس. يقول : وأنا على دينك فأنزل الله تعالى (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) (٢).

قرأ حمزة الكسائي وعاصم في رواية أبي بكر ونافع برواية تَأْتُوا الْبِيُوتَ بكسر الباء في جميع القرآن لمكان الياء.

وقرأ الباقون : بالضم على الأصل.

(وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) أي برّ من اتقى كقوله (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) وقد مرّ ذكره (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) في حال الإحرام (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣)

__________________

(١) تفسير الطبري : ٢ / ٢٥٥ ، والدر المنثور : ١ / ٢٠٤.

(٢) تفسير الطبري : ٢ / ٢٥٦.

٨٦

وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) دين الله وطاعته (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ).

قال الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذه أوّل آية نزلت في القتال فلما نزلت كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقاتل من يقاتله ويكف عمن كفّ عنه حتّى نزلت : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) فنسخت هذه الآية (وَلا تَعْتَدُوا) أي لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقي إليكم السلم وكف يده فإن فعلتم ذلك فقد اعتديتم

وهو قول ابن عبّاس ومجاهد.

وقال يحيى بن عامر : كتبت إلى عمر بن عبد العزيز أسأله عن قوله (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). فكتب إليّ : إن ذلك في النساء والذرية والرهبان ومن لم ينصب الحرب منهم.

وقال الحسن : لا يعتدوا أي لا تأتوا ما نهيتم عنه.

وقال بعضهم : الاعتداء ترك قتالهم.

علقمة بن مرثد عن سليمان بن يزيد عن أبيه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بعث أمرا على سرية أو جيش أوصى في خاصة نفسه بتقوى الله وممن معه من المسلمين خيرا وقال : «اغزوا باسم الله ، وفي سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلّوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا» [٦٧] (١).

وعن عطاء بن أبي رباح قال : لما استعمل أبو بكر يزيد بن أبي سفيان على الشام خرج معه يشيعه أبو بكر ماشيا وهو راكب فقال له يزيد : يا خليفة رسول الله إما أن تركب وإما أن أنزل ، فقال أبو بكر : ما أنت بنازل ولا أنا براكب إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله ، إني أوصّيك وصية إن أنت حفظتها ستمر على قوم قد حبسوا أنفسهم في الصوامع زعموا لله فزعهم وما حبسوا له أنفسهم ، وستمر على قوم قد فحصوا عن أوساط رؤسهم وتركوا من شعورهم أمثال العصائب ، فاضرب ما فحصوا منه بالسيف.

ثمّ قال : «لا تقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا فانيا ولا تعقروا شجرا مثمرا ولا تغرقوا نخلا ولا تحرقوه ولا تذبحوا بقرة ولا شاة إلّا لمأكل ولا تخربوا عامرا» [٦٨] (٢).

الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في صلح الحديبية وذلك أن

__________________

(١) السنن الكبرى : ٥ / ١٧٢ ، وصحيح ابن حبان : ١١ / ٤٢.

(٢) السنن الكبرى للبيهقي : ٩ / ٩٠ بتقديم وتأخير.

٨٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة وكانوا ألفا وأربعمائة فساروا حتّى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدي بالحديبية ثمّ صالحه المشركون على أن يرجع عامه ذلك على أن يخلي له بكل عام قابل ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء ، فصالحهم رسول الله ثمّ رجع من فوره ذلك إلى المدينة فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا يفي لهم قريش وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم ، وكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل الله (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) محرمين (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) يعني قريشا (وَلا تَعْتَدُوا) ولا تظلموا فتبدؤا في الحرم بالقتال محرمين.

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) ثمّ قال (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) وجدتموهم وأصل يثقف بحذف والبصر بالأمر ، يقال : رجل ثقف لقف إذا كان حاذقا في الحرب بصيرا بمواضعها جيد الحذر فيه ، فمعنى الآية : واقتلوهم حيث أبصرتم مقابلتهم وتمكنتم من قتلهم.

(وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) يعني مكّة (وَالْفِتْنَةُ) يعني الشرك (أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) يعني وشركهم بالله عزوجل أعظم من قتلكم إياهم في الحرم والحرم الإحرام ، قاله عامّة المفسّرين.

وقال الكسائي : الفتنة هاهنا العذاب وكانوا يعذبون من أسلم.

(وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ).

قرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف ويحيى بن رئاب والأعمش وحمزة والكسائي : يَقْتُلُوكُمْ بغير ألف من القتل على معنى لا تقتلوا بعضهم.

تقول العرب : قتلنا بني فلان وإنّما قتلوا بعضهم ، لفظه عام ومعناه خاص.

وقرأ الباقون : كلها بالألف من القتال ، واختلفوا في حكم هذه الآيات.

فقال قوم : هي منسوخة ونهوا عن الابتداء بالقتال ، ثمّ نسخ ذلك بقوله (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) هذا قول قتادة والربيع.

مقاتل بن حيان : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي حيث أدركتم في الحل والحرم ، لما نزلت هذه الآية نسخها قوله (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ثمّ نسختها آية السيف في [براءة] فهي ناسخة ومنسوخة.

وقال آخرون : هذه الآية محكمة ولا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم ، وهو قول مجاهد وأكثر المفسرين.

(كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا) عن القتال والكفر (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لما سلف

٨٨

(رَحِيمٌ) بعباده ، نظيرها في الأنفال (وَقاتِلُوهُمْ) يعني المشركين (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) شرك يعني قاتلوهم حتّى يسلموا فليس يقبل من المشرك الوثني جزية ولا يرضى منه إلّا بالإسلام وليسوا كأهل الكتاب بالذين يؤخذ منهم الجزية والحكمة فيه على ما قال المفضل بن سلمة إن مع أهل الكتاب كتبا منزلة فيها الحقّ وإن كانوا قد حرفوها فأمهلهم الله تعالى بحرمة تلك الكتب من القتل [وأهواء] صغارهم بالجزية ، ولينظروا في كتبهم ويتدبرونها فيقفوا على الحق منها ويمنعوه كفعل مؤمني أهل الكتاب ولم يكن لأهل الأوثان من يرشدهم إلى الحقّ وكان إمهالهم زائدا في اشراكهم فإنّ الله تعالى لن يرضى منهم إلّا بالإسلام أو القتل عليه.

(وَيَكُونَ الدِّينُ) الإسلام (لِلَّهِ) وحده فلا يعبد دونه شيء ، قال المقداد بن الأسود : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يبقى على ظهر الأرض بيت [معد] ولا وبر إلّا أدخله الله عزوجل كلمة الإسلام ، إما يعزّ عزيز أو يذل ذليل ، إما أن يعزهم فيجعلهم الله من أهله فيعزوا به ، وإما أن يذلهم فيدينون لها» [٦٩] (١).

(فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر والقتال (فَلا عُدْوانَ) فلا سبيل ولا حجة (إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ).

قال ابن عباس : يدلّ عليه قوله عزوجل (قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) (٢) أي فلا سبيل عليّ وقال أهل المعاني : العدوان الظلم ، دليله قوله تعالى (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) (٣) ولم يرد الله تعالى بهذا أمرا بالظلم أو إباحة له وإنما حمله على اللفظ الأوّل على ظهر [المجادلة] فسمى الجزاء على الفعل فعلا كقوله تعالى (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٤) وقوله (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (٥).

وقال عمرو بن كلثوم :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

قتادة وعكرمة : في هذه الآية ، الظالم الذي يأبى أن يقول لا إله إلّا الله ، وإنّما سمي الكافر ظالما ، لوضعه العبادة في غير موضعها.

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ

__________________

(١) مسند أحمد : ٦ / ٤ ، وكنز العمال : ١ / ٩٨ ح ٤٣٧.

(٢) سورة القصص : ٢٨.

(٣) سورة المائدة : ٢.

(٤) سورة الشورى : ٤٠.

(٥) سورة البقرة : ١٩٤.

٨٩

مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧))

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) نزلت في عمرة بالقضاء وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صالح أهل مكّة عام الحديبية على أن ينصرف عامه ذلك ويرجع العام القابل على أن يخلوا له مكّة ثلاثة أيام فيدخلها هو وأصحابه ويعمرون ويطوفون بالبيت ويفعلون ما أحبوا ، على أن لا يدخلوها إلّا بسلاح الراكب في عمرة ولا يخرجوا بأحد معهم من أهل مكّة ، فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك العام ورجع العام القابل في ذي القعدة ودخلوا مكّة واعتمروا وطافوا ونحروا وقاموا ثلاثة أيام فأنزل الله (الشَّهْرُ الْحَرامُ) ذو القعدة الذي دخلتم فيه مكّة واعتمرتم وقضيتم مناسككم وطوافكم في سنة سبع (بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) ذي القعدة الذي صددتم فيه عن البيت ومنعتم من مرادكم في سنة ست.

و (الشَّهْرُ) مرفوع بالابتداء وخبره في قوله (بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ) جمع الحرمة كالظلمات جمع الظلمة والحجرات جمع الحجرة والحرمة ما يجب حفظه وترك انتهاكه وإنّما جمع الحرمات لأنه أراد الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام (قِصاصٌ) والقصاص المساواة والمماثلة : وهو أن يفعل بالفاعل كما فعل (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) قاتلوه (بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) فسمي الجزاء باسم الابتداء (١) على مقابلة الشرط (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) الآية ، اعلم إن التهلكة : مصدر بمعنى الإهلاك وهو تفعلة من الهلاك.

قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا حامد الخازرنجي يقول : لا أعلم في كلام العرب مصدرا على تفعلة بضم العين إلّا هذا.

وقال بعضهم : التهلكة كل شيء تصير عاقبته إلى الهلاك.

ومعنى قوله (لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) لا تأخذوا في ذلك.

ويقال : لكل من بدأ بعمل : قد القى يديه فيه.

قال لبيد يذكر الشمس :

__________________

(١) في هامش المخطوطة : الاعتداء.

٩٠

حتّى إذا ألقت يدا في كافر

وأجّن عورات الثغور ظلامها (١)

أي بدأت في المغيب.

قال المبرد : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) أراد أنفسكم فعبّر بالبعض عن الكلّ كقوله تعالى (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) (٢) (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (٣) والباء في قوله (بِأَيْدِيكُمْ) زائدة كقوله (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) قال الشاعر :

ولقد ملأت على نصيب (٤) جلده

مساءة إن الصديق يعاتب (٥)

يريد ملأت جلده مساءة.

قالوا : والعرب لا تقول للإنسان ألقى بيده إلّا في الشر.

واختلف العلماء في تأويل هذه الآية.

فقال بعضهم : هذا في البخل وترك النفقة ، يقول : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ولا تمسكوا الإنفاق في سبيل الله فان الإمساك عند الانفاق في سبيل الله هو الهلاك وهو قول حذيفة والحسن وقتادة وعكرمة والضحاك وابن كيسان.

قال ابن عبّاس : في هذه الآية : أنفق في سبيل الله وإن لم تكن لك إلّا سهم أو مشقص ولا يقولن أحدكم إنى لا أجد شيئا (٦).

وقال السّدي : فبما أنفق في سبيل الله ولو بمثقال. (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) لا تقل ليس عندي شيء.

مجاهد : لا نمنعكم نفقة في حق خيفة العيلة.

الحسن : إنّهم كانوا يسافرون ويغزون ولا ينفقون من أموالهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أمر الناس بالجهاز إلى الحج ، وقيل : إلى العمرة عام الحديبية ، وكان إذا أراد سفر نادى مناديه بذلك فيعلمهم فيعدّوا أهبة السفر ، فلمّا أمرهم بالتجهيز قام إليه ناس من اعراب حاضري المدينة فقالوا : يا رسول الله بما ذا نتجهز فو الله لا من زاد ولا مال نتجهز به ولا يطعمنا أحد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال سعيد بن المسيب ومقاتل بن حيان : لما أمر الله بالإنفاق قال رجال : أمرنا بالنفقة

__________________

(١) مجمع البيان : ١ / ٥١٥ ، أجن : أخفى ، وعورات الثغور : خللها.

(٢) سورة الحجّ : ١٠.

(٣) سورة الشورى : ٣٠.

(٤) نصيب : اسم رجل.

(٥) مجمع البيان : ١ / ٥١٥.

(٦) راجع تفسير القرطبي : ٢ / ٣٦٢.

٩١

في سبيل الله فإن أنفقنا أموالنا بقينا فقراء ذوي مسكنة ، فقال الله (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) يعني أنفقوا ولا تخشوا العيلة فإني رازقكم ومخلف عليكم.

الخليل بن عبد الله عن علي وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي وعبد الله بن عمرو وجابر وعمران بن حصين كلهم يحدثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّه قال : «من أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم» [٧٠] (١) ثمّ تلا هذه الآية (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) (٢).

وروى النضر بن عزيز عن عكرمة (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) قال : (لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ).

[قال] زيد بن أسلم : إن رجالا كانوا يخرجون في بعوث بعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير نفقة فإما أن يقطع بهم ، وإما كانوا عيالا فأمرهم الله بالإنفاق على أنفسهم في سبيل الله ، وإذا لم يكن عندك ما ينفق فلا تخرج بنفسك بغير نفقة ولا قوّة فتلقي بيديك إلى التهلكة ، والتهلكة : أن يهلك من الجوع أو من العطش ثمّ قال لمن بيده ويبخل (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

وقال محمّد بن كعب القرظي : كان القوم يكونّون في سبيل الله فيتزود الرجل فيكون أفضل زادا من الآخر فينفق النّاس من زاده حتّى لا يبقى منه شيء يحب أن يواسي صاحبه ، فأنزل لله تعالى هذه الآية.

وقال بعضهم : هذه الآية نزلت في ترك الجهاد.

زيد بن أبي حبيب عن أسلم بن عمران قال : غزونا القسطنطينية ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر صاحب رسول الله ، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، قال : فوقفنا صفين لم أر قط أعرض ولا أطول منها والروم ملصقون ظهورهم بحائط المدينة قال : فحمل رجل منّا على صف الروم حتّى خرقه ثمّ خرج إلينا مقبلا فصاح الناس وقالوا : سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة.

وقال أبو أيوب الأنصاري : إنكم لتؤولون هذه الآية على هذا التأويل ان حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة أو بلى من نفسه ، نحن أعلم بهذه الآية ، إنها نزلت فينا معشر الأنصار ، إنّا لما أعز الله دينه ونصر رسوله قلنا بيننا [معاشر الأنصار] (٣) سرّا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنا قد تركنا أهلنا وأموالنا حتّى فشى الإسلام ونصر الله عزوجل نبيه ، وقد وضعت الحرب أوزارها فلو

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٣ / ٣٠٥ ، والدر المنثور : ١ / ٢٣٦.

(٢) سورة البقرة : ٢٦١.

(٣) هكذا في الأصل.

٩٢

رجعنا إلى أهلنا وأولادنا وأقمنا فيها فأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل الله تعالى فينا (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

والتهلكة : الاقامة في الأهل والمال وترك الجهاد.

قال أبو عمران : فما زال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتّى دفن بالقسطنطينية (١).

وروى أبو الجوزاء عن ابن عبّاس قال : التهلكة عذاب الله عزوجل يقول : لا تتركوا الجهاد فتعذبوا دليله قوله (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٢)

عن [يزيد] بن أبي أنيسة عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث من أصل الإيمان :

الكف عمّن قال لا إله إلّا الله لا تكفره بذنب ولا يخرجه من الإسلام بعمل ، والجهاد ماض منذ بعثني الله عزوجل إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال [لا يبطله] جور ولا عدل ، والإيمان بالاقدار» [٧١] (٣).

أبو صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» [٧٢] (٤) (٥).

وقال أبو هريرة وأبو سفيان : هو الرجل يستقبل بين الصفين فيحمل على القوم وحده.

وقال محمّد بن سيرين وعبيد السلماني : الإلقاء في التهلكة هو القنوط من رحمة الله.

قال أبو قلابة : هو الرجل يصيب الذنب فيقول قد هلكت ليست توبة فييأس من رحمة الله وينهمك في المعاصي فنهاهم الله عن ذلك.

قال يمان بن رئاب والمفضل بن سلمة الرجل ألقى بيديه إذا استسلم للهلاك ويئس من النجاة.

عن شعبة عن أبي إسحاق عن [أبيه] في هذا الآية (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) قيل له : أهو الرجل يحمل على الكتيبة وهم ألف بالسيف؟

قال : لا ولكنه الرجل يصيب الذنب فيلقي بيديه ويقول لا توبة لي.

هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قال : جاء حبيب بن الحرث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا

__________________

(١) راجع تفسير الطبري : ٢ / ٢٧٩.

(٢) سورة التوبة : ٣٩.

(٣) سنن أبي داود : ١ / ٥٦٩ ، ونصب الراية : ٤ / ٢٢١.

(٤) تفسير ابن كثير : ١ / ٢٥٩.

(٥) سنن أبي داود : ١ / ٥٦٢ ، والمستدرك : ٢ / ٧٩.

٩٣

رسول الله إني رجل معراض الذنوب. قال : «فتب إلى الله يا حبيب ، قال : يا رسول الله إني أتوب ثمّ أعود. قال : «فكلّما أذنبت فتب» قال : إذا يا رسول الله تكثر ذنوبي.

قال : «عفو الله أكثر من ذنوبك يا حبيب بن الحرث» [٧٣] (١).

فقال فضيل بن عياض : في هذه الآية (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) بإساءة الظن بالله وأحسنوا الظن بالله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الظن به.

وعن محمّد بن إبراهيم الكاتب قال : دخلنا على أبي نؤاس الحسن بن هاني نعوده في مرضه الذي مات فيه ومعنا صالح بن علي الهاشمي فقال له صالح : تب إلى الله يا أبا عليّ فإنك في أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا وبينك وبين الله هناة ، فقال : أسندوني ، إياي تخوف بالله ، فقد حدثني حماد بن سلمة عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّما جعلت شفاعتي لأهل الكبائر من [أمتي] أتراني لا أكون منهم» [٧٤] (٢).

وحدثنا حماد عن ثابت عن أنس ان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يخرج رجلان من النّار فيعرضان على الله عزوجل ثمّ يؤمر بهما إلى النّار فيلتفت أحدهما فيقول : أي ربّ ما كان هذا رجائي ، قال الله وما كان رجاءك؟ قال : كان رجائي إذا أخرجتني منها لا تعيدني إليها ، فيرحمه‌الله عزوجل فيدخله الجنّة» [٧٥] (٣).

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ).

قرأ ابن أبي إسحاق : (الْحِجَّ) بكسر الحاء في جميع القرآن وهي لغة تميم وقيس بن غيلان.

وذكر عن طلحة بن مصرف : بالكسر هاهنا ، وفي سورة آل عمران ، وبالفتح في سائر القرآن.

وقرأ أبو جعفر والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم ، برواية حفص : بالكسر في آل عمران وبالفتح في سائر القرآن.

وقرأ الباقون : بالفتح كل القرآن وهي لغة أهل الحجاز. قال الكسائي : هما لغتان ليس بينهما في المعنى شيء مثل رطل ورطل [......] (٤) بنصب وكسر.

وقال أبو معاذ : (الْحَجَّ) بالفتح مصدر والحِج بالكسر الإسم مثل قسم وقسم وشرب

__________________

(١) مجمع الزوائد : ١٠ / ٢٠٠ ، والمعجم الأوسط : ٥ / ١٢٣.

(٢) السنن الكبرى : ١٠ / ١٩٠ بتفاوت.

(٣) مسند أحمد : ٣ / ٧٠ ـ ٢٨٥ ، ومسند أبي يعلى : ٦ / ٩٩.

(٤) بياض في المخطوط والمعنى تام.

٩٤

وشرب وسقي وسقي وفي مصحف عبد الله وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ بالبيت.

وقرأ علقمة وإبراهيم : وأتيموا الحج والعمرة.

واختلف المفسرون في إتمامهما.

فقال بعضهم : معنى ذلك وأتموا الحج والعمرة بمناسكهما وحدودهما وسنتهما وهو قول ابن عباس وعلقمة وإبراهيم ومجاهد.

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس في هذه الآية قال : من أحرم بحج أو عمرة ليس له أن يحل حتّى يتمها ، وتمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة فطاف بالبيت وقد حل من إحرامه كلّه بتمام العمرة ، إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حلّ ، وفرائض الحج أربعة : الإحرام ، والوقوف بعرفة ، وطواف الافاضة ، والطواف والسعي بين الصفا والمروة ، وأعمال العمرة كلها أربعة : فرض الإحرام ، والطواف ، والسعي ، والحلق أو التقصير ، وأقله ثلاث شعرات.

روى سعيد بن جبير وطاوس : تمام الحج والعمرة أن يحرم بهما مفردين .... (١) ..

وروى شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة فقال جاء رجل إلى علي فقال : أرأيت قول الله عزوجل (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قال : إن تحرم من دويرة أهلك (٢).

قال قتادة [إتمام العمرة] أن يعتمر في غير أشهر الحج ، وما كان في أشهر الحج ثمّ أقام حتّى يحج فهي متعة ، وعليه فيها الهدي إن وجد ، أو الصيام ، وتمام الحج أن يأتي بمناسكه كلها حتّى لا يلزم عامله دم بسبب قران ولا متعة.

ابن جريح عن عطاء عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله : «عمرة في رمضان تعدل حجّة» [٧٦] (٣).

وقال الضحاك : أيامها [إتمامها] أن يكون النفقة حلالا [وينتهي] عما نهى الله عنه.

وقال سفيان : تمامها أن يخرج من [بلده] لهما لا يريد غيرهما ولا يخرج لتجارة ولا لحاجة حتّى إذا كنت قريبا من مكّة قلت : لو حججت أو اعتمرت ، وذلك يجزي ولكن التمام أن يخرج له ولا يخرج لغيره.

وروى جعفر بن سليمان [البيعي] (٤) عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله : «يأتي على

__________________

(١) كلمة غير مقروءة.

(٢) كتاب الأم للشافعي : ٧ / ٢٦٩ ، ونصب الراية للزيلعي : ٣ / ٨٨.

(٣) سنن البيهقي : ٤ / ٣٤٦ ، وتحفة الأحوذى : ٤ / ٧.

(٤) هكذا في الأصل.

٩٥

الناس زمان يحج أغنياء الناس للنزهة ، وسائلهم للتجارة وقرّاؤهم للرياء والسمعة وفقرائهم للمسألة» [٧٧] (١).

وفي هذا المعنى كان يقول عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : الوفّاد كثير والحجاج قليل.

حكم الآية

اختلف الفقهاء في العمرة ، فقال قوم : هي سنّة حسنة وليست بفريضة واجبة وهو مذهب أحمد ومالك بن أنس وأبي ثور وقول الشافعي في القديم وهو اختيار جرير بن محمّد الطبري ، واحتجوا بقراءة الشعبي وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةُ لِلَّهِ رفعا.

وبما روى محمّد بن المنكدر عن جابر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّه سأل عن العمرة أواجبة هي أم لا؟

وأن تعتمروا خير لكم؟ وفي مهاجر الحج فريضة والعمرة تطوع قالوا أيضا لما ذكر الله فرض الحج لم يذكر معه العمرة ، وقال عزّ من قائل (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (٢).

وقال الآخرون : ان العمرة فريضة وهي الحج والأصغر ، وهو قول علي وابن عبّاس وزيد ابن ثابت وعلي بن الحسين وعطاء وقتادة وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وقول الشافعي في الجديد والأصح من مذهبه واختيار أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ، واحتجوا في ذلك بقراءة العامة (وَالْعُمْرَةَ) ، نصبا على معنى وأتموا فرض الحج والعمرة.

وبما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّه قال : «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» [٧٨] (٣).

وروى عكرمة عن ابن عبّاس إنّه قال : والله إن العمرة لفريضة الحج ، في كتاب الله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وقال ابن عمر : ليس من خلق الله أحد إلّا وعليه حجة وعمرة واجبتان إن استطاع إلى ذلك سبيلا ، كما قال الله تعالى. فمن زاد بعد ذلك فهو خير وتطوع.

وقال مسروق : أمرنا في كتاب الله بأربعة : إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحجّ والعمرة فنزّلت العمرة من الحجّ منزلة الزكاة من الصلاة ، ثمّ تلا هذه الآية (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ).

وقال عبد الملك بن سليمان : سأل رجل سعيد بن جبير عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ان العمرة فريضة هي أم تطوع؟ فقال : فريضة ، قال : فإن الشعبي يقول هي تطوع ، قال : كذّب الشعبي ، ثمّ قرأ (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ، فمن قال : إن العمرة ليست بفرض يأول الآية على معنى : أتموها إذا دخلتم فيها ولم يرد ابتدأ الدخول فيه فرضا عليه ، وذلك كالمتطوع بالحج لا خلاف فيه إذا أحرم أنّ

__________________

(١) كنز العمال : ٥ / ١٣٣ ح ١٢٣٦٢ ، وتاريخ بغداد : ١٠ / ٢٩٥.

(٢) سورة آل عمران : ٩٧.

(٣) سنن الترمذي : ٢ / ٢٠٥ ح ٩٢٦ ، وسنن النسائي : ٥ / ١٨١.

٩٦

عليه المضي فيه وإتمامه ، فإن لم يكن فرضا عليه ابتدأ الدخول فيه وكذلك العمرة (١).

ومثله روي ابن وهب عن زيد قال : ليست العمرة واجبة على أحد من الناس. قال : فقلت له : قول الله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قال : ليس من الخلق أحد ينبغي له إذا شرع في أمر إلّا أن يتمه وإذا خرج فيها لم ينبغي له أن يحل يوما ثمّ يرجع كما لو صام يوما لم ينبغي له أن يفطر في نصف النهار ، ودليل هذا التأويل قوله (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) (٢) لم يرد به الابتداء وإنّما أراد به إتمام ما مضى من العهد والعقد ، ومن أوجب العمرة تأول الإتمام على معنى الابتداء والإلزام أي أقيموها وافعلوها يدلّ عليه قوله عزوجل (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) (٣) أي فعلهن وقام بهن ، وقوله (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (٤) أيّ ثمّ ابتدئوا الصيام وأتموه لأنه ذكره عقيب الأكل والشرب والصبح ، وهذا هو الأصح والأوضح لأنه جمع بين الاثنين ، وحمل الآية على عمومها فمعناه ابتدئوا العمرة فإذا دخلتم فيها فأتموها ، فيكون جامع بين وجهي الإتمام ، ولأن من أوجهها أكثر ، والأخبار في إيجاب الحجّ والعمرة مقترنتين أظهر وأشهر.

عن أبي رزين العقيلي إنّه قال : يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحجّ والعمرة ولا الطعن ، قال : «حجّ عن أبيك واعتمر» [٧٩] (٥).

وقال أبو المشفق : لقيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعرفة فدنوت منه حتّى اختلفت عنق راحلتي وعنق راحلته فقلت : يا رسول الله انبئني بعمل ينجيني من عذاب الله ويدخلني الجنّة؟ قال : «اعبد الله ولا تشرك به شيئا وأقم الصلاة المكتوبة وأدّ الزكاة المفروضة وحجّ واعتمر وصمّ رمضان وانظر ما تحب من النّاس ان يأتوه إليك فافعله بهم وما تكره من الناس إن يأتوه إليك فذرهم منه» [٨٠].

عاصم عن شفيق عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تابعوا بين الحجّ والعمرة فإنّهم لينفيان الفقر والفاقة والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجّ المبرور ثواب دون الجنّة» [٨١] (٦).

في افراد الحج

عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفرد الحج.

ابراهيم عن الأسود عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا نرى إلّا الحج.

__________________

(١) راجع تفسير الطبري : ٢ / ٢٨٦.

(٢) سورة التوبة : ٤.

(٣) سورة البقرة : ١٢٤.

(٤) سورة البقرة : ١٨٧.

(٥) مصنف ابن أبي شيبة : ٤ / ٤٥٩ ، وصحيح ابن خزيمة : ٤ / ٣٤٦.

(٦) مسند أحمد : ٣ / ٤٤٦. ٤٤٧ ، وسنن ابن ماجة : ٢ / ٩٦٤.

٩٧

حماد عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موافين هلال ذي الحجة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من شاء أن يهل بالحج فليهل ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل بعمرة [٨٢] (١) ، والأفراد ان يحرم بالحج من الميقات ويفرغ منه ثمّ يحرم بالعمرة من مكّة» وهو إختيار الشافعي وأصحابه.

في القران

عبد العزيز بن صهيب وحميد الطويل ويحيى بن إسحاق كلهم عن أنس بن مالك قال :

سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لبيك عمرة وحجا لبيك عمرة وحجا» [٨٣].

حميد بن هلال قال : سمعت مطرفا يقول : قال لي عمران بن الحصين : جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين حجة وعمرة ثمّ توفي قبل أن ينهي عنهما وقبل أن ينزل القرآن بتحريمه.

وعن أبي وائل قال : قال قيس بن معبد : كنت أعرابيا نصرانيا فأسلمت فكنت حريصا على الجهاد فوجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ فأتيت رجلا من عشيرتي يقال له ، هريم بن عبد الله فسألته فقال : اجمعها ثمّ اذبح ما (اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ، فأهللت بهما ، ثمّ أتيت العذيب يلقيني سليمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأنا أهل بهما ، فقال أحدهما للآخر : ما هذا بأفقه من بعيرة ، فأتيت عمر بن الخطاب فقلت : يا أمير المؤمنين إني أسلمت وأنا حريص على الجهاد وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ فأتيت هريم بن عبد الله ، فقال : اجمعهما ثمّ اذبح ما (اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ، وأهللت بهما ، فلما أتيت العذيب لقيني سليمان بن ربيعة وزيد فقال أحدهما للآخر : ما هذا بأفقه من بعيرة فقال عمر : هديت سنّة نبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

علي بن الحسن عن عثمان بن الحكم ان عثمان نهى عن المتعة وأن يجمع الحج والعمرة.

فقال علي : لبيك بحج وعمرة معا ، وقال عثمان : أتفعلها وأنا أنهى عنها؟ فقال علي : لم أكن لأدع سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأحد من الناس (٢).

والقرآن لم يحرم الحج والعمرة معا من الميقات ، وهو إختيار أبي حنيفة وأصحابه.

(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) واختلف العلماء في معنى الإحصار الذي جعل الله على من ابتلى به في حجته وعمرته ما (اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).

وقال قوم : هو كل مانع أو حابس منع المحرم وحبسه عن العمل الذي فرضه الله تعالى عليه في إحرامه ووصوله إلى البيت الحرام أي شيء كان من مرض أو جرح أو كسر أو خوف أو

__________________

(١) الشرح الكبير : ٣ / ٢٣٠ ، وشرح معاني الآثار : ٢ / ٢٠٢.

(٢) رواه البخاري في الصحيح : ٢ / ١٥١ ط : دار الفكر ، والنسائي في سننه : ٥ / ١٤٨.

٩٨

عدو أو لدغ أو ذهاب نفقة أو ضلال راحلته أو غيرها من الاعذار ، فإنه يقيم مكانه على إحرامه ويبعث بهديه أو من الهدي فإذا نحر الهدي حل من إحرامه ، هذا قول إبراهيم النخعي والحسن ومجاهد وعطاء وقتادة وعروة بن الزبير ومقاتل والكلبي ومذهب أهل العراق ، واحتجوا في أن الإحصار في كلام العرب هو صنع العلة من المرض وأشباهه غير القهر والغلبة ، فأما منع العدو بالحبس والقهر من سلطان قاهر فإن ذلك حصر لا إحصار ، كذا قال : الكسائي وأبو عبيدة والفراء قالوا : ما كان من مرض وذهاب نفقه قيل فيه حصر فهو محصر ، وما كان من خشية عدو أو سجن قيل فيه حصر فهو محصور ، يدلّ عليه قوله تعالى (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) أي محبسا ، قالوا : وإنما جعلنا حبس العدو إحصارا قياسا على المرض ، إذ كان في حكمه [فلا دلالة] (١) ظاهرة.

وقال الآخرون : بالأخرى أن يمنع عدو أو قاهر من بني آدم من الوصول إلى البيت ، وأمّا المرض وسائر الاعذار فغير داخل في هذه الآية.

هذا قول ابن عمر وابن عبّاس وعبد الله بن الزبير وسعد بن المسيب وسعيد بن جبير وشهر بن حوشب ومذهب الشافعي وأهل المدينة فاحتجوا بأن نزول هذه الآية في قصة الحديبية وذلك إحصار عدو ، يدلّ عليه قوله في سياق الآية (فَإِذا أَمِنْتُمْ) ولا يكون إلا من الخوف

وفي الحديث : «لا حصر إلّا من حبس عدو» [٨٤] (٢).

وقال ثعلب : تقول العرب حصرت الرجل عن حاجته فهو محصور ، وأحصره العدو إذا منعه من السير فهو محصر ، وذكر يونس عن أبي عمرو قال : إذا منعته من كل وجه فقد أحصرته.

قال الشافعي : فإذا أحصر بعدوّ كافر أو مسلم أو سلطان يحبسه في سجن نحر هديا لإحصاره حيث أحصر في حلّ أو حرم وحلّ من إحرامه ولا شيء إلّا أن يكون واجبا فيقضي فإذا لم يجد هديا يشتريه أو كان فقيرا ففيه قولان أحدهما : لا حلّ إلّا لهدي.

والآخر : حلّ إذا لم يقدر عليه وأتى به إذا قدر عليه.

وقال بعض الفقهاء : إذا لم يعتبر اجزاؤه وعليه طعام أو صيام وكلما وجب على المحرم في ماله من بدنه وجزاء وهدي وصدقة فلا يجزي إلّا في الحرم لمساكين أهلها إلّا في موضعين أحدهما : دم المحصر في العدو فإنه ينحر حيث حبس ويحل.

والآخر : من ساق هديا لغرض فعطب في طريقه فذبحه وخلى بينه وبين المساكين لم يجز له ولا لرؤسائه أن يأكلوا منه شيئا وإن كانوا مساكين.

__________________

(١) هكذا في الأصل.

(٢) تفسير الطبري : ٢ / ٢٩٣.

٩٩

وإن كان ما ساقه لغرض مثل أن يكون قارنا أو متمتعا جاز له أن يأكل ويطعم غيره ، فهذا معنى الإحصار وحكمه ، فأما المرض وما أشبهه فان له أن يتداوى فيما لا بد منه ويفدى ثمّ يجعلها عمرة ويحج عام قابل ويهدي ، وقوله تعالى (فَمَا اسْتَيْسَرَ) أي عليه ما تيسر ، محلّه رفع ، وإن شئت جعلت بها في محل النصب أي قاهر ، واما (اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) مثل جدية السرج ـ وجمعها جدي ـ قاله أبو عمرو. قال : لا أعلم في الكلام ثالثهما.

وقرأ الأعرج : (الْهَدِيِّ) بكسر الدال وتشديد الياء في جميع القرآن على معنى المفعول.

وروى عصمة عن عاصم : بتشديد الهدي في محل الرفع والجر وتخفيفه في حال النصب نحو قوله (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) (١) (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ) (٢) وهما جميعا ما يهدي إلى بيوت الله سمي بذلك لأنه تقرب إلى الله بمنزلة الهدية يهديها الإنسان إلى غيره متقربا بما بعث إليه.

واختلفوا في تأويل قوله (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ). فقال علي وابن عبّاس : شاة.

وقال ابن عمر : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) : الإبل والبقر ناقة دون ناقة وبقرة دون بقرة سن دون سن وأنكر أن يكون الشاة من الهدي ، وأقوى الأقوال بالصواب قول من قال إنه شاة ، لأنه أقرب إلى التيسر ، ولأن الله سمي الشاة هديا في قوله (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) (٣) وفي الظبي شاة. (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ، واختلفوا في المحل الذي يحل المحصر بلوغ هديه إليه فقال بعضهم : هو ذبحه أو نحره بالموضع الذي يحصر فيه سواء كان في الحل أو الحرم ومعنى محلّه : حين يحل ذبحه وأكله والانتفاع به كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اللحم الذي تصدق به عليه بريرة قال : «قربوه فقد بلغ محله» [٨٥] يعني فقد بلغ محل طيبه وحلاله بالهدية إلينا بعد إن كانت صدقة على بريرة : وهذا على قول من جعل الإحصار إحصار العدو.

يدلّ عليه فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بالحديبية حتّى صدوا عن البيت ونحروا هديهم بها والحديبية ليست من الحرم.

روى الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة في قصة الحديبية قال : لما كتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتاب القضية بينه وبين مشركي قريش عام الحديبية فقال لأصحابه : «قوموا فانحروا واحلقوا» [٨٦] قال : فو الله ما قام منهم أحد حتّى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم أحد منهم قام فدخل على أم سلمة فذكر ذلك لها ، فقالت أم سلمة : يا رسول الله أخرج ثمّ لا تكلم أحدا منهم بكلمة حتّى تنحر بدنتك وتدعو حلاقك فتحلق فخرج فلم يتكلم حتّى فعل ذلك ، فلما رأوا ذلك قاموا ونحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتّى كاد بعضهم [يقتل] بعضا غما (٤).

__________________

(١) سورة المائدة : ٩٥.

(٢) سورة المائدة : ٢.

(٣) سورة المائدة : ٩٥.

(٤) نيل الأوطار للشوكانى : ٨ / ١٨٧ ، ومسند أحمد : ٤ / ٣٣١.

١٠٠