الكشف والبيان - ج ٢

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٢

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١١

في الربا. قال عمر رضي‌الله‌عنه : لا تبيعوا الذهب بالذهب إلّا مثل بمثل ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلّا مثل بمثل ، ولا تبيعوا الذهب بالذهب أحدهما غائب والآخر حاضر ، وإن استنظرك حتّى يلج بيته فلا تنظره إلّا يدا بيد هات وهذا أني أخاف عليكم الربا (١).

قالوا : وقياس كتابته بالياء لكسرة أوّله ، وقد كتبوه في القرآن بالواو. قال الفراء : إنّما كتبوه كذلك لأنّ أهل الحجاز تعلّموا الكتابة من أهل الحيرة ولغتهم الربوا ، فعلّموهم صورة الحرف على لغتهم فأخذوه كذلك عنهم. وكذلك قرأها الضحاك [الربوا] بالواو.

وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة مكان كسرة الراء. وقرأ الباقون بالتفخيم بفتحة الباء ، قالوا : اليوم فأنت فيه [بالخيار إن شئت] كتبته على ما في المصحف موافقة له ، وإن شئت بالياء وإن شئت بالألف. ومعنى قوله (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) [يأكلونه] حق الأكل لأنّه معظم الأمر.

والربا في أربعة أشياء : الذهب ، والفضّة ، والمأكول ، والمشروب. فلا يجوز بيع بعضها ببعض إلّا مثلا بمثل ويدا بيد ، وإذا اختلف الصنفان جاز التفاضل في النقد وحرّم في النسيئة ، ولا يجوز صاع بر بصاعين لا نقدا ولا نسيئة لأنّهما جنس واحد ، وكذلك الذهب بالذهب مثقال باثنين لا نقدا ولا نسيّة ، وكذلك الفضّة بالفضّة ، وكذلك صاع بر بصاعين شعير وصاع شعير بصاعين بر نقدا ولا يجوز نسيئة. ويجوز مثقال بعشرين درهما أو أقل أو أكثر نقدا ولا يجوز نسيئة ، وجماع ما شايع الناس عليه ثلاثة أشياء : أحدهما : ما يعتدي به ممّا كان مأكولا أو مشروبا. والثاني : ما كان ثمنا للأشياء وقيمة للمتلفات وهو الذهب والفضّة فهذان فيهما الربا فلا يجوز بيع شيء متفاضلا نقدا ونسيئة ، والصنف الثالث : ما عدا هذين مما لا يؤكل ولا يشرب ولا يكون ثمنا ، فلا ربا فيه فيجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا نقدا ونسيئة. فهذا جملة القول فيما فيه الربا على مذهب الشافعي.

وقال مالك : كلّ ثمن أو يقتات أو ما يصلح به القوت فهو الذي فيه الربا (٢).

وقال أهل العراق : كلّ مكيل أو موزون فيه الربا. وقال أهل الحجاز ما روي محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار وعبد الله بن عبك قالا : جمع المنزل بين عبادة بن الصاحب ومعاوية ، فقال عبادة : نهانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بيع الذهب بالذهب والورق بالورق والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر ، وقال أحدهما : والملح بالملح ، وقال الآخر : إلّا مثلا بمثل ويدا بيد ، وأمرنا أن نبيع الذهب بالورق والورق بالذهب والبر بالشعير والشعير بالبر ويدا بيد كيف شئنا. قال أحدهما : فمن ناد أو ازداد فقد أربى.

__________________

(١) المجموع لمحيي الدين النووي : ١٠ / ٧٣.

(٢) راجع المغني : ٤ / ١٢٧.

٢٨١

قوله تعالى : (لا يَقُومُونَ) يعني يوم القيامة من قبورهم (إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ) أي يصرعه ويخبطه (الشَّيْطانُ) وأصل الخبط الضرب والوطء ويقال ناقة خبوط ، التي تطأ الناس وتضرب بقوائمها الأرض. قال زهير :

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب

تمته ومن تخطي يعمر فيهرم (١)

(مِنَ الْمَسِ) الجنون. يقال : مسّ الرجل وألس فهو ممسوس ومالوس ، إذا كان مجنونا ، وأصله مسّ الشيطان إياه. ومعنى الآية : إنّ آكل الربا يبعثه الله يوم القيامة مجنونا [ ] (٢) وذلك علامة أهل الربا يبعثون وفيهم خبل من الشيطان. قاله قتادة.

أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قصّة الإسراء ، قال : «فانطلق بي جبرائيل إلى رجال كثير كلّ رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم متصدّين على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار (غُدُوًّا وَعَشِيًّا).

قال : فيقبلون مثل الإبل المنهومة يخبطون الحجارة [لا يسمعون ولا يعقلون] فإذا أحسّ بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون ، ثم يقوم أحدهم فتميل بطنه فيصرع فلا يستطيعون أن يبرحوا حتّى يغشاهم آل فرعون فيطؤونهم مقبلين ومدبرين فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة». قال : «وآل فرعون يقولون اللهمّ لا تقم الساعة أبدا قال : ويوم يقال لهم : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٣) قال : قلت : يا جبرائيل من هؤلاء؟

قال : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ)» (٤).

حمّاد بن سلمة عن عليّ بن زيد عن أبي الصلت عن أبي هريرة إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أسري به رأى في السماء رجالا بطونهم كالبيوت فيها الحيّات ترى خارج بطونهم فقلت : من هؤلاء يا جبرائيل؟

قال : هؤلاء أكلة الربا (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أي ذلك الذي نزل بهم لقولهم هكذا واستحلالهم إياه.

وذلك إنّ أهل الجاهليّة كان أحدهم إذا أجلّ ماله على غريمه فطالبه بذلك يقول الغريم لصاحب الحقّ : زدني في الأجل وامهلني حتّى أزيدك في مالك فيفعلان ويقولان : سواء علينا الزيادة في أوّل البيع بالربح أو عند محل المال لأجل التأخير. فكذّبهم الله تعالى فقال :

__________________

(١) لسان العرب : ٧ / ٢٨١.

(٢) غير مقروءة في المخطوط.

(٣) سورة غافر : ٤٦.

(٤) تفسير القرطبي : ٣ / ٣٥٥.

٢٨٢

(وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) تذكير وتخويف. قال السدي : أمّا الموعظة فالقرآن ، وإنّما ذكر الفعل لأنّ الموعظة والوعظ واحد.

وقرأ الحسن : فمن جاءته موعظة كقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) (١).

(مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى) من أكل الربا (فَلَهُ ما سَلَفَ) أي ما مضى من ذنبه قبل النهي فهو مغفور له (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) يعني النهي إن شاء عصمه حتّى يثبت على الانتهاء وان شاء خذله حتّى يعود ، وقيل : (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) فيما يأمره وينهاه ويحلّ له ويحرّم عليه وليس إليه من أمر نفسه شيء. وفيه يقول محمود الورّاق :

إلى الله كلّ الأمر في كلّ خلقه

وليس إلى المخلوق شيء من الأمر

(وَمَنْ عادَ) بعد التحريم والموعظة إلى أكل الربا مستحلّا له (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أبو سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الربا سبعون بابا أهونها عند الله كالذي ينكح أمّه» [٢٠٢] (٢).

وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عبد الله بن مسعود قال : لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده (٣).

الحسن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أراد الله بقرية هلاكا أظهر فيهم الربا» (٤).

(يَمْحَقُ اللهُ) أي ينقصه ويهلكه ويذهب ببركته وإن كان كثيرا كما يمحق القمر.

وعن عبد الله بن مسعود رفعه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قلّة» [٢٠٣] (٥).

وروي جويبر عن الضحاك عن ابن عباس : (يَمْحَقُ اللهُ) يعني لا يقبل منه صدقة ولا جهاد ولا حجّا ولا صلة.

(وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) أي يزيدها ويكثرها ويبارك فيها في الدنيا ويضاعف الأجر والثواب في العقبى وإن كانت قليلة ، قال عزّ من قائل : (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) (٦).

__________________

(١) سورة يونس : ٥٧.

(٢) المنقى من السنن المسندة لابن الجارود النيسابوري : ١٦٣ بتمامه ، وكنز العمال : ٤ / ١٠٨ ح ٩٧٧٤ بتفاوت يسير.

(٣) سنن أبي داود : ٢ / ١١٠ ح ٣٣٣٣.

(٤) كنز العمال : ٤ / ١٠٤ ح ٩٧٥١.

(٥) فتح الباري : ٨ / ١٥٢.

(٦) سورة البقرة : ٢٤٥.

٢٨٣

القاسم بن محمد قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله عزوجل يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلّا الطيّب ويأخذها بيمينه ويربيها كما يربّي أحدكم مهره أو [فصيله] حتّى أن اللقمة لتصير مثل أحد» (١)

وتصديق ذلك في كتاب الله عزوجل : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) (٢).

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) قال يحيى بن معاد : لا أعرف حبّة تزن جبال الدنيا إلّا الحبّة من الصدقة (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ) بتحريم الربا مستحل له (أَثِيمٍ) [متماد في الإثم] (٣).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١))

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) قال عطاء وعكرمة : نزلت هذه الآية في العبّاس بن عبد المطلب وعثمان بن عفّان وكانا قد أسلفا في التمر ، فلما حضر الجداد قال لهما صاحب التمر : لا يبقى ما يكفي عيالي إن أنتما أخذتما حقّكما كلّه فهذا لكما أن تأخذا النصف وتؤخّرا النصف وأضعف لكما فقبلا ، فلمّا جاء الرجل طلبا الزيادة ، فبلغ ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنهاهما وأنزل الله هذه الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما.

وقال السدي : نزلت في العبّاس عبد المطلب وخالد بن الوليد وكانا شريكان في الجاهليّة يسلّفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير. ناس من ثقيف. ولهما أموال عظيمة في الربا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإنّ كلّ ربا من ربا الجاهليّة موضوع وأوّل الربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطلب ، وكلّ دم من دم الجاهليّة موضوع وأوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحرث ابن عبد المطلب. كان مرضعا في بني ليث قتله هذيل».

وقال مقاتلان : أنزلت في أربعة أخوة : من ثقيف مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة ، وهم

__________________

(١) مسند الشاميين : ٣ / ١١٥.

(٢) سورة التوبة : ١٠٤.

(٣) زيادة عن تفسير الطبري : ١٩ / ١٥٣.

٢٨٤

بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي وكانوا يداينون المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وكانوا يربون ، فلما ظهر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الطائف وصالح ثقيفا أسلم هؤلاء الأربعة الأخوة وطلبوا رباهم من بني المغيرة ، فقالت بنو المغيرة : والله ما نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله ورسوله عن المؤمنين ، فما يجعلنا أشقى الناس بهذا ، فاختصموا إلى عتّاب بن أسيد بن أبي العيص بن أميّة.

وكان عامل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مكّة وقال : «أبعثك على أهل الله» فكتب عتّاب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصّة الفريقين وكان ذلك مالا عظيما فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) وذر لفظ تهديد ، وقرأ الحسن ما بقي بالألف وهي لغة طيئ ، ويقول للحجارية : جاراة ، وللناصية : ناصاة.

قال الشاعر منهم :

لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقا

على الأرض قيسي يسوق الأباعرا (١)

(إِنْ كُنْتُمْ) إذا كنتم (مُؤْمِنِينَ) كقوله : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ) (٢) (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) فإنّ لم تذروا ما بقي من الربا (فَأْذَنُوا) قرأ الأعمش وعاصم وحمزة رواية أبي بكر فَآذَنُوا ممدودا على وزن آمنوا وقرأ الباقون (فَأْذَنُوا) مقصورا مفتوح الذال ، وهي قراءة علي واختيار أبي عبيد وأبي حاتم.

فمن قصر معناه : فاعلموا أنتم واسمعوا ، يقال : أذن الشيء يأذن أذنا وأذانة إذا سمعه وعلمه. قال الله : (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) (٣). ومن مدّ معناه : فاعلموا غيركم. قال الله تعالى : (قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) (٤).

وأصل الكلمة من الأذن أي أقعوه في الأذان.

(بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : يقال يوم القيامة لا تأكل الربا : خذ سلاحك للحرب. وروى الوالبي عنه قال : من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه ، فحقّ على إمام المسلمين أن يستتيبه فإنّ نزع وإلّا ضرب عنقه.

وقال أهل المعاني : حرب الله النار وحرب رسوله السيف (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ) بطلب الزيادة (وَلا تُظْلَمُونَ) النقصان عن رأس المال. وروى آبان والمفضّل عن عاصم بضم التاء الأولى وفتح الثانية. قال أهل المعاني أنّها شرط التوبة لأنّهم أن لم يتوبوا كفروا بردّ حكم الله واستحلال ما حرّم الله فيصير مالهم فيأ للمسلمين. فلما نزلت هذه الآيات

__________________

(١) تفسير الطبري : ١١ / ١٢٧.

(٢) سورة آل عمران : ١٣٩.

(٣) سورة الانشقاق : ٢.

(٤) سورة فصّلت : ٤٧.

٢٨٥

قالت بنو عمرو [بن عمير لبني المغيرة :] بل نتوب إلى الله فإنّه ليس لنا يدان بحرب الله وحرب رسوله فرضوا برأس المال وسلّموا لأمر الله فشكى بنو المغيرة العسرة وقالوا : أخرونا إلى أن ندرك الغلات ، فأبوا أن يؤخروا فأنزل الله : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) رفع الكلام باسم كان ولم يأت لها بخبر وذلك جائز في النكرة.

يقول العرب : إنّ كان رجل صالح فأكرمه ، وقيل : كان لمعنى وقع الحدث وحينئذ لا يحتاج إلى الخبر.

وقرأ أبي وابن مسعود وابن عباس : إنّ كان ذا عسرة على إضمار الإسم وان الغريم أو المطلوب ذا عسرة. وقرأ آبان بن عثمان : ومن كان ذا عسرة لهذه الغلّة. وقرأ الأعمش : وإن كان معسر وهو دليل قراءة العامّة.

والعسرة : الفقر والضيق والشدّة. وقرأ أبو جعفر : عسُرة بضم السين ، وهما لغتان.

(فَنَظِرَةٌ) أمر في صيغة الخبر ، والفاء فيه لجواب الشرط تقديره : فعليه نظرة ، أي قال : واجب نظره بالنصب على معنى فلينظر نظرة لكان صوابا كقوله (فَضَرْبَ الرِّقابِ) ، والنظرة : الإنظار.

وقرأ أبو رجاء والحسن وقتادة : فناظرة بكسر الضاد ورفع الراء والهاء أي منتظرة. وقرأ عطاء بن أبي رباح : فنظْرة ساكنة الظاء وهي مصدر يجوز أن يكون من النظر والانتظار جميعا.

(إِلى مَيْسَرَةٍ) قرأ عطاء وشيبة ونافع وحميد بن محيص : مَيْسُرَةٍ بضم السين والتنوين.

وقرأ عمر وعلي وأبو رجاء والحسن وقتادة وعبد الله بن مسلم وأبو جعفر وأبن كثير وابن عامر وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأبو عمرو ويعقوب وأيوب : (مَيْسَرَةٍ) بالتنوين وفتح السين وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأنّها اللغة السائرة. وقرأ مجاهد وأبو سراح الهذلي : (ميسُره) بضم السين مضافا هو مثله روى زيد عن يعقوب ، وروى الأعمش عن عاصم عن زرّ عن عبد الله أنّه كان يقرأها : فناظروه إلى ميسورة ، وكلّها لغات معناها اليسار والغنى والسعة.

(وَأَنْ تَصَدَّقُوا) رؤوس أموالكم على المعسر فلا تطالبونه بها (خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وقرأ عاصم : (تَصَدَّقُوا) بتخفيف الصاد. الباقون بتشديده.

ذكر حكم الآية

أمر الله تعالى بانظار المعسر فمتى ما أعسر الرجل وتبيّن إعساره ، فلا سبيل لرب المال إلى مطالبته بماله إلى أن يظهر يساره ، فإذا ظهر يساره كان عليه توفير الحق إلى ربّ المال وعلم أنّ الحقوق [تخلف] وكلّ حق لزم الإنسان عوضا عن مال حصل في يده مثل قرض أو ابتياع

٢٨٦

سلعة ، فإذا ادّعى الإعسار لزمته البيّنة على الإعسار ؛ لأنّ الأصل فيه استغناؤه بحصول ما صار في يده ، وكلّ حق لزمه من غير حصول مال في يده كالمهر والضمان ، فإذا ادّعى الإعسار لزم ربّ المال أمامه البيّنة على كونه موسرا لأن الأصل في الناس الفقر ، وإذا لم يعلم له حالة استغناء كان الحكم فيه البقاء على أصل ما كان عليه إلى أن يتبيّن يساره.

وقال الحسن : إذا قال : أنا معدم ، فالقول قوله مع يمينه وعلى غرامه إظهار ماله ببيّنة أو عيان.

وكان أبو حنيفة يرى أن يحبس شهرين أو ثلاثة ثم يسأل عنه في السرّ ، فإنّ تبيّن أنّه معسر خلّى عنه.

ودليل من قال : لا يحبس ، حديث أبي سعيد الخدري قال : أصيب رجل في ثمار فكثر دينه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خذوا ما وجدتم ليس لكم إلّا ذلك».

وكان أبو هريرة على قضاء المدينة فأتاه رجل بغريم فقال : أريد أن تحبسه.

قال : هل تعلم له عين مال نأخذه منه فنعطيك؟

قال : لا ، قال : فهل تعلم له أصل مال فنبيعه ونعطيك؟

قال : لا ، قال : فما تريد ، قال : أريد أن تحبسه ، قال : «لكنّي ادعه يطلب لك ولنفسه وعياله فإذا أيسر لزمه قضاء الدين».

سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مشى إلى غريمه بحقّه صلت عليه دواب الأرض ونون الماء وكتب الله عزوجل بكلّ خطوة شجرة يغرس له في الجنّة وذنبا يغفر له فإنّ لم يفعل ومطل فهو متعدّ» [٢٠٤] (١).

أبو الزياد الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الظلم مطل الغنى فإذا اتبع أحدكم على ملئ فليتبع» [٢٠٥] (٢).

في فضل إنظار المعسر

زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أنظر معسرا أو وضع له ، أظلّه الله في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه» (٣) ، وعن ابن عمر قال : قال رسول

__________________

(١) كنز العمال : ٦ / ٢٢٦ ح ١٥٤٦١.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ٣١٥ ، وسنن ابن ماجة : ٢ / ٨٠٣ ح ٢٤٠٣.

(٣) سنن الترمذي : ٢ / ٣٨٥.

٢٨٧

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحب أن يستجاب دعوته ويكشف كربته فلييسّر على المعسر» [٢٠٦] (١).

ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال : أتى الله عزوجل بعبده يوم القيامة فقال أي ربّ ما عملت لك خيرا قط أريدك به إلّا إنّك رزقتني مالا فكنت أتوسّع على المعسر. وأنظر المعسر ، فيقول الله عزوجل : أنا أحق بذلك منك فتجاوزوا عن عبدي.

قال : فقال أبو مسعود الانصاري : فاشهد على رسول الله أنّه سمعه منه.

الأعمش عن أبي داود عن بريدة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة» ثم قال بعد ذلك : «من أنظر معسرا كان له بكلّ يوم مثل الذي أنظره صدقة» قال : فقلت : يا رسول الله قلت : من أنظر معسرا فله بكلّ يوم صدقة ، ثم قلت : من أنظر معسرا كان له بكلّ يوم مثل الذي أنظره صدقة.

قال : «إن قولي بكل يوم صدقة قبل الأجل ، وقولي بكل يوم مثل الذي أنظره صدقة بعد الأجل» وعن سعيد بن أبي سعيد عن أخيه عن أبيه : أن جابر بن عبد الله خرج إلى غريم له يتقاضاه فقال هاهنا [حقّي] ، فقالوا : لا فتنحّى فلم يلبث أن خرج مستحييا منه فقال : ما حملك على أن تحبسني حقّي وتغيّب وجهك عنّي؟ قال : العسرة ، قال : قال الله : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) ، فأخرج كتابه فمحاه.

فصل في الدّين

جعفر بن محمد عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله عزوجل مع الدائن حتّى يقضي دينه ما لم يكن فيما يكره الله عزوجل» قال : فكان عبد الله بن جعفر يقول لخازنه : أذهب فخذ لنا بدين فإني أكره أن أبيت ليلة إلّا والله عزوجل معي منذ سمعت هذا الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أدان دينا وهو ينوي أن لا يؤدّيه فهو سارق» [٢٠٧] (٣).

عثمان بن عبد الله عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه : إنّ رجلا أتى به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصلّي عليه ، فقال : «صلّوا على صاحبكم فإنّ عليه دينا» قال أبو قتادة : فأنا أكفل به ، قال : «بالوفاء» ، قال بالوفاء فصلّى عليه وكان عليه ثمانية عشر درهما أو سبعة عشر درهما.

__________________

(١) مسند أبي يعلى : ١٠ / ٧٨.

(٢) السنن الكبرى للبيهقي : ٥ / ٣٥٥.

(٣) كنز العمال : ١٦ / ٣٢٢ ح ٤٤٧٢٤ بتفاوت يسير.

٢٨٨

وعن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أعوذ بالله من الكفر والدين» فقال رجل : يا رسول الله يعدل الدين بالكفر؟

قال : «نعم» (١).

وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدين راية الله في الأرض ، فإذا أراد أن يذلّ عبده ابتلاه بالدين وجعله في عنقه» (٢).

وعن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من خطيئة أعظم عند الله بعد الكبائر من أن يموت الرجل وعليه أموال الناس دينا في عنقه لا يوجد لها قضاء».

يزيد بن أبي خالد عن ابن أيوب عن أنس بن مالك : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إياكم والدين فإنّه هم بالليل ومذلّة بالنهار» (٣).

(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) قرأ أبو بحرية وابو عمرو وسلام ويعقوب : تَرْجِعُونَ بفتح التاء واعتبروا بقراءة أبيّ (فاتقوا يوما تصيرون فيه إلى الله). وقرأ الآخرون بضمّ التاء اعتبارا بقراءة عبد الله. (واتقوا يوما تردّون فيه إلى الله).

(ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) قال : هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال جبرائيل : ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة.

سفيان عن عاصم عن الشعبي عن ابن عباس قال : [هذه] آخر آية نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فصل في تفصيل آخر ما نزل من القرآن

قال المفسّرون : لمّا نزلت هذه الآية (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٤) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليتني أعلم متّى يكون ذلك» (٥) فأنزل الله تعالى سورة النصر ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول هذه السورة يسكت من التكبير والقراءة فيقول فيها : «سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه» فقيل : إنّك لم تكن تقوله يا رسول الله قبل هذا ، قال : «إنّها نفسي نعيت إلي» ثمّ بكى بكاء شديدا فقيل : يا رسول الله أو تبكي من الموت وقد عفا الله

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ٣٨.

(٢) كنز العمال : ٦ / ٢٣١ ح ١٥٤٧٨ بتفاوت يسير.

(٣) كنز العمال : ٦ / ٢٣٢ ح ١٥٤٨٣.

(٤) سورة الزمر : ٣٠.

(٥) تفسير مجمع البيان : ٢ / ٢١٤.

٢٨٩

لك (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) ، قال : «فأين هول المطلع فأين ضيق القبر وظلمة اللحد فأين القيامة والأهوال» فعاش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ستة أشهر ثم لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حجّة الوداع نزلت عليه في الطريق (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) (١) إلى آخرها فسمّى آية الصيف.

ثم نزل عليه وهو واقف بعرفة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (٢) الآية فعاش بعدها أحدا وثمانين يوما ، ثم نزلت عليه آيات الربا ، ثم نزلت بعدها (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) وهي آخر آية نزلت من السماء ، فعاش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها أحدا وعشرين يوما.

قال ابن جريج : تسع ليال. سعيد بن جبير ومقاتل : سبع ليال ثم مات يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل حين زاغت الشمس سنة أحدى عشرة من الهجرة وأحدى من ملك أردشير شيرون بن أبرويز بن هرمز بن نوشروان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ) قال ابن عباس : لمّا حرّم الله الربا ، أباح السلم ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ) أي داين بعضكم بعضا ، والدين ما كان مؤجّلا والعين ما كان حاضرا ، يقال : دان فلانا يدينه ، إذا أعطاه الدين فهو دائن ، والمعطا مدين ومديون. قوله (إِذا تَدايَنْتُمْ) يدخل فيه الدين والنسيئة والسلم وما كان مؤجّلا من الحقوق.

فإنّما قال : (بِدَيْنٍ) والمداينة لا تكون إلّا بدين لأنّ المداينة قد [تكون] (٣) مجازاة وتكون معاطاة فأبان ذلك وقيّده بقوله (بِدَيْنٍ).

وقيل : هو بمعنى التأكيد كقوله : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (٤) وقوله : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ

__________________

(١) سورة النساء : ١٧٦.

(٢) سورة المائدة : ٣.

(٣) غير مقروءة في المخطوط والظاهر ما أثبتناه.

(٤) سورة الأنعام : ٣٨.

٢٩٠

كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (١).

(إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي وقت معلوم (فَاكْتُبُوهُ) أي اكتبوا الذي تداينتم به بيعا كان أو قرضا لئلّا يقع فيه جحود ولا نسيان ولا تدافع.

واختلفوا في هذا الكتابة ، هل هي واجبة أم لا؟ فقال بعضهم : فرض واجب ، قال ابن جريج : من أدان فليكتب ، ومن باع فليشهد. وهذا القول اختيار محمد بن جرير الطبري ، يدلّ عليه ما روى الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى عن أبيه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم : رجل كانت عنده امرأة سيئة الخلق فلم يطلّقها. ورجل كان له دين فلم يشهد ، ورجل أعطى سفيها مالا ، وقد قال الله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) (٢)».

قال قوم : هو أمر استحباب وتخيير فإن كتب فحسن وإن ترك فلا بأس.

كقوله : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) (٣). وقوله : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) (٤). هو اختيار الفراء.

وقال آخرون : كان كتاب الدين والإشهاد والرهن فرضا ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) (٥) وهو قول الشعبي.

ثم بيّن كيفيّة الكتابة فقال عزّ من قائل : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) وقرأ الحسن وَلْيَكْتِبْ بكسر اللام ، وهذه اللام ، لام الأمر ولا يؤمر بها غير الغائب ، وهي إذا كانت مفردة فليس فيها إلّا الحركة ، فإذا كانت قبلها واو أو فاء أو ثم ، فأكثر العرب على تسكينها طلبا للخفّة ومنهم من يكسرها على الأصل.

ومعنى الآية : (وَلْيَكْتُبْ) كتاب الدين. بيع البائع والمشتري والطالب والمطلوب. (كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) أي بالحق والإنصاف فلا يزيد فيه ولا ينقص منه ولا يقدّم الأجل ولا يؤخّره ولا يكتب به شيئا يبطل به حقّا لأحدهما لا يعلمه هو.

(وَلا يَأْبَ) ولا يمتنع (كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ) وذلك إنّ الكتّاب كانوا قليلا علي عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) سورة الحجر : ٣٠.

(٢) المستدرك : ٢ / ٣٠٢.

(٣) سورة المائدة : ٢.

(٤) سورة الجمعة : ١٠.

(٥) سورة البقرة : ٢٨٣.

٢٩١

واختلف العلماء في وجوب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد ، فقال مجاهد والربيع : واجب على الكاتب أن يكتب إذ أمر. وقال الحسن : ذلك في الموضع الذي لا يقدر فيه على كاتب غيره فيضر صاحب الدين إن امتنع ، فإذا كان كذلك فهو فريضة ، وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام به غيره.

وقال الضحاك : كانت هذه عزيمة واجبة على الكاتب والشاهد فنسخها قوله : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ). السدي : هو واجب عليه في حال فراغه.

(وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ). المديون والمطلوب يقرّ على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه ، والإملال والإملاء لغتان فصيحتان جاء بهما القرآن.

قال الله تعالى : (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (١).

أصل الإملال : إعادة الشيء مرّة بعد مرّة والإلحاح عليه. قال الشاعر :

ألّا يا ديار الحيّ بالسبعان

أملّ عليها بالبلى الملوان (٢)

ثم خوّفه فقال : (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً). أي لا ينقص من الحقّ الذي عليه شيئا ، يقال : بخسه حقّه وبخسه إذا أنقصه ونظائرها في القرآن كثيرة.

(فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ). يعني وإن كان المطلوب الذي عليه المال (سَفِيهاً).

جاهلا بالمال. قاله مجاهد ، وقال الضحاك والسدي : طفلا صغيرا (أَوْ ضَعِيفاً). أو شيخا كبيرا. السدي وابن زيد : يعني عاجزا أحمق (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ). لخرس أو عيّ أو غيبة أو عجمة أو زمانة أو حبس لا يمكنه حضور الكتاب أو جهل ماله عليه (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ). أي قيّمه ووارثه.

ابن عبّاس والربيع ومقاتل : يعني فليملل وليّ الحق وصاحب الدين لأنّه أعلم بدينه (بِالْعَدْلِ) بالصدق والحق والإنصاف (وَاسْتَشْهِدُوا). هذا السين للسؤال والطلب (شَهِيدَيْنِ).

شاهدين (مِنْ رِجالِكُمْ). يعني الأحرار البالغين دون العبيد والصبيان ودون أحرار الكفّار. وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وسفيان وأكثر الفقهاء.

وأجاز شريح وابن سيرين بشهادة العبد وهو قول أنس بن مالك. وأجاز بعضهم شهادتهم في الشيء التافه. (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ). يعني فإنّ لم يكن الشاهدان رجلين (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ). أو فليشهد رجل وامرأتان.

__________________

(١) سورة الفرقان : ٥.

(٢) الصحاح : ٣ / ١٢٢٧.

٢٩٢

وأجمع الفقهاء على أنّ شهادة النساء جائزة مع الرجال في الأموال ، واختلفوا في غير الأموال. وكان مالك والأوزاعي والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأحمد لا يجزونها إلّا في الأموال. وكان أبو حنيفة وسفيان وأصحابهما يجيزون شهادتين مع الرجل في كلّ شيء ما عدا الحدود والقصاص. (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ). يعني من كان مرضيّا في ديانته وأمانته وكفائته.

قال عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه : من أظهر لنا خيرا ظننا به خيرا فأجبناه عليه ومن أظهر لنا شرّا ظننا به شرّا وأبغضناه عليه ، وإذا حمد الرجل جاره وقرائبه ورفيقه فلا تشكّوا في صلاحه.

وقال إبراهيم النخعي : العدل : من لم يظهر منه ريبة. وقال الشعبي : العدل : من لم يطعن عليه في بطن ولا فرج.

وقال الحسن : هو من لم يعلم له خزية.

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ولا ذي غمر على أخيه ولا مجرّب عليه شهادة زور ولا التابع مع أهل البيت ـ يعني الخادم لهم ـ [ولا الظنين في ولاء ولا قرابة]» (١).

وجملة القول فيمن تقبل شهادته : أن تجتمع فيه عشر خصال : يكون حرّا بالغا مسلما عدلا عالما بما يشهد به ولا يجز بشهادته إلى نفسه منفعة ولا يدفع عن نفسه مضرّة ولا يكون معروفا بكثرة الغلط ولا يترك المروءة ولا يكون عنده لين [ولا] يشهد عليه عبده ، فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال كان مقبول القول جائز الشهادة.

وتقبل شهادة النساء على الانفراد لا رجل معهن في أربع مواضع : عيوب النساء وهو ما يكون عيبا في موضع هي عورة منها ـ في الحرّة في جميع بدنها إلّا وجهها وكفّيها ، ومن الأمة ما بين سرّتها إلى ركبتها ـ وفي الرضاع ، وفي الولادة ، وفي الاستهلال.

ولا خلاف في ذلك كلّه إلّا في الرضاع. وان أبا حنيفة ذهب إلى أنّ شهادة النساء على الانفراد لا تقبل فيه حتّى يشهد رجلان أو رجل وامرأتان.

وأمّا صفة الشهادة فروى طاوس عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشهادة فقال : «ترى الشمس»؟

قال : نعم ، قال : «على مثلها فاشهد أو دع» (٢) وعن عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جدّه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أكرموا الشهود فإنّ الله عزوجل يستخرج بهم

__________________

(١) كنز العمال : ٧ / ١٥ ح ١٧٧٤٧.

(٢) كنز العمال : ٧ / ٢٣ ح ١٧٧٨٢.

٢٩٣

الحقوق ويدفع بهم الظلم» [٢٠٨] (١).

خارجة بن نور عن عبد الرحمن بن عبيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حبس ذكر حقّ بعد ما تقبض ما فيه ثلاثا فعليه قيراط من الإثم» [٢٠٩].

(أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى). قرأ الأعمش وحمزة : «إِنْ» بكسر الألف (فتذكرُ) رفعا ، ومعناه الجزاء والابتداء ، وموضع (تَضِلَّ) جزم للجزاء إلّا أنّه لا يتبيّن في التضعيف (فَتُذَكِّرَ) رفع لأن ما بعد فاء الجزاء مبتدأ.

وقراءة العامّة بنصب الألف ، فالفاء على الاتصال بالكلام الأوّل وموضع (أَنْ) نصب بنزع حرف الصفة يعني لأنّ ، و (تَضِلَّ) محلّه نصب بأن (فَتُذَكِّرَ) مسوّق عليه. ومعنى الآية : فرجل وامرأتان كي تذكّر إحداهما الأخرى إنّ ضلّت.

وهذا من المقدّم والمؤخّر ، كقولك : إنّه ليعجبني أن يسأل فيعطى ، يعني : يعجبني أن تعطي السائل إذا سأل ؛ لأن العطاء تعجّب لا السؤال. قال الله : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) (٢) الآية.

ومعناه : لولا أن يقولوا إذا أصابتهم مصيبة : هلّا أرسلت إلينا رسولا.

ومعنى قوله (أَنْ تَضِلَّ) : أي تنسى ، كقوله : (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) (٣). وقوله : (قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) (٤) و (حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا) (٥) وذهاب قول العرب : ضلّ الماء في اللبن ، وقال الله : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) (٦) وقرأ عاصم الجحدري : أن تُضلّ أحداهما بضمّ التاء وفتح الضاد على المجهول ، وقرأ زيد بن أسلم : فتذكّر من المذاكرة.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وأبو حاتم وقتيبة : فتذكر خفيفه ، وقرأ الباقون مشددا.

وذكّر وأذكر بمعنى واحد كما يقال : نزّل وأنزل وكرّم وأكرم ، وهما معها الذكر الذي هو [ضد] النسيان قال الشاعر :

تذكرنيه الشمس عند طلوعها

وتعرض ذكراه إذا غربها أفل (٧)

__________________

(١) كنز العمال : ٧ / ١٢ ح ١٧٧٣٣.

(٢) سورة القصص : ٤٧.

(٣) سورة طه : ٥٢.

(٤) سورة الشعراء : ٢٠.

(٥) سورة النحل : ٣٦.

(٦) سورة السجدة : ١٠.

(٧) تفسير القرطبي : ١٤ / ١١٨.

٢٩٤

قال أبو عبيد : حدثت عن سفيان بن عينية أنّه قال : هو من الذكر ، يعني أنّها إذا شهدت مع أخرى صارت شهادتهما كشهادة الذكر.

قلت : هذا القول لا يعجبني لأنّه معطوف على النسيان والله أعلم.

(وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا). قال بعضهم : هذا في محمل الشهادة وهو أمر إيجاب.

قال قتادة والربيع : كان الرجل يطوف في الحيّ العظيم فيه القوم فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتّبعه أحد منهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال الشعبي : هو مخيّر في تحمّل الشهادة إذا وجد غيره ، فإن شاء شهد وإن شاء لم يشهد ، فإذا لم يوجد غيره فترك إلّا ما فرض عليه. وقال بعضهم : هذا أمر ندب وهو مخيّر في جميع الأحوال إن شاء شهد وإن شاء لم يشهد. وهو قول عطاء وعطيّة.

وقال أبو بحريّة : قلت للحسن : أدعى إلى الشهادة وأنا كاره ، قال : فلا تجب ولا تشهد إن شئت. وقال مغيرة : قلت لإبراهيم : إنّي أدعى إلى الشهادة وإنّي أخاف أن أنسى ، قال : فلا تشهد أن تحب.

وقال بعضهم : هذا في إقامة الشهادة وأدائها ، ومعنى الآية : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) لإقامة الشهادة إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك. وهو قول مجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والسدي ، وروى سفيان عن جابر عن عامر قال الشاهد بالخيار ما لم يشهد. وقال الحسن والسدي هذه الآية في الأمرين جميعا في التحمّل والاقامة إذا كان فارغا.

(وَلا تَسْئَمُوا). ولا تملّوا يقال : سئمت أسأم سأما وسأمة ، قال زهير :

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولا لا أبا لك يسأم

وقال لبيد :

ولقد سئمت من الحياة وطولها

وسؤال هذا الناس كيف لبيد

وأن في محلّ النصب من وجهين : إن شئت جعلته مع الفعل مصدرا وأوقعت السآمة عليه ، تقديره : ولا تسأموا كتابته ، وإن شئت نصبت بنزع حروف الصفة ، تقديره : ولا تسأموا من أن تكتبوه ، والهاء راجع إلى الحق.

وقرأ السلمي : ولا يسأموا بالياء.

(صَغِيراً). كان الحقّ (أَوْ كَبِيراً). قليلا كان المال أو كثيرا ، وانتصاب الصغير والكبير من وجهين : أحدهما على الحال والقطع من الهاء ، والثاني أن تجعله خبرا لكان وأضمر ، يعني : وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً كان الحق أَوْ كَبِيراً.

٢٩٥

(إِلى أَجَلِهِ). إلى محلّ الحق (ذلِكُمْ). الكتاب (أَقْسَطُ). أعدل (عِنْدَ اللهِ). لأنّه أمر به ، واتباع أمره أعدل من تركه (وَأَقْوَمُ). وأصوب (لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى). وأحرى وأقرب إلى (أَلَّا تَرْتابُوا). تشكّوا في الشهادة ومبلغ الحق والأجل إذا كان مكتوبا ، نظير قوله : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) (١) وهو أفعل من الدنو ، ثم استثنى فقال :

(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً). قرأها عاصم بالنصب على خبر كان وأضمر الاسم ، مجازه : إلّا أن تكون التجارة تجارة ، والمبايعة تجارة. وأنشد الفراء :

لله قومي أي قوم بحرة

إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا (٢)

أي إذا كان اليوم يوما. وأنشد أيضا :

أعينيّ هل تبكيان عفاقا

إذا كان طعنا بينهم وعناقا (٣)

أراد إذا كان الأمر.

وقرأ الباقون بالرفع على وجهين : أحدهما : أن يكون معنى الكون الوقوع ، أراد : إلّا أن تقع تجارة ، وحينئذ لا خبر له.

والثاني : أن يجعل الاسم في التجارة والخبر في الفعل ، وهو قوله تعالى : (تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) تقديره : إلّا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم ، ومعنى الآية : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً) يدا بيد (تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) ليس فيها أجل ولا نسيئة.

(فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها). يعني التجارة (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ). قال الضحاك : هو عزم من الله عزوجل ، والاشهاد واجب في صغير الحق وكبيره نقده ونسأه ولو على باقة بقل وهو اختيار محمد بن جرير.

وقال أبو سعيد الخدري : الأمر فيه إلى الامانة. قال الله (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً). وقال الآخرون : هو أمر ندب إن شاء أشهد وإن لم يشاء لم يشهد ثم قال : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ). هو نهي الغائب ، وأصله يضارر فأدغمت الراء في الراء ونصبت لحق التضعيف لاجتماع الساكنين ، والفتح أخفّ الحركات فحركت إليه.

وأما تفسير الآية ، فأجراها بعضهم على الفعل المعروف ، وقال : أصله يضارر بكسر الراء وجعل الفاعل الكاتب والشهيد ، معناه : (وَلا [يُضَارَّ] كاتِبٌ) فيكتب ما لم يملل عليه يزيد أو ينقص

__________________

(١) سورة المائدة : ١٠٧.

(٢) تفسير الطبري : ٣ / ١٨٠.

(٣) جامع البيان : ٣ / ١٧٩.

٢٩٦

أو يحرّف ، (وَلا شَهِيدٌ) فيشهد ما لم يشهد عليه أو يمتنع من إقامة الشهادة ، وهذا قول طاوس والحسن وقتادة وابن زيد. وأجراه آخرون على الفعل المجهول وجعلوا الكاتب والشهيد مفعولين وقالوا : أصله لا يضار.

ومعنى الآية : هو أن الرجل يدعوا الكاتب أو الشهيد وهما على حاجة مهمّة فيقولان : إنا مشغولان فاطلب غيرنا ، فيقول الذي يدعوه : إن الله أمر كما أن تجيبا في الكتابة والشهادة ويلحّ عليهما ويشغلهما عن حاجتهما فنهى الله عزوجل [عن مضارتهما] وأمر أن يطالب غيرهما.

وقال الربيع بن أنس : لما نزلت هذه الآية (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا). كان أحدهما يجيء إلى الكاتب فيقول له : أكتب ، فيقول : إنّي مشغول ، أو لي حاجة فانطلق إلى غيري ، فيلزمه ويقول : إنّك قد أمرت بالكتابة ، فلا يدعه فيضاره بذلك وهو يجد غيره. وكذلك يفعل مع الشاهد ، فأنزل الله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ).

ودليل هذا التأويل قراءة عمر وأبيّ وابن مسعود ومجاهد : ولا يضارر كاتب ولا شهيد بإظهار التضعيف على وجه ما لم يمنع ([وَلا يُضَارَّ]).

وقرأ أبو جعفر : ولا يضارْ ، مجزوما مخفّفا القى راء واحدة أصلا ، وقرأ الحسن ولا يضارِّ بكسر الراء مشدّدا.

(وَإِنْ تَفْعَلُوا). ما نهيتكم عنه من الضراء (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ). خروج عن الأمر (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦))

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً). قرأ ابن عباس وأبو العالية ومجاهد : كتابا ،

٢٩٧

وقالوا : ربّما وجد الكاتب ولم يجد المداد ولا الصحيفة ، وقالوا : لم تكن [قبيلة] من العرب إلّا كان فيهم كاتب ولكن كانوا لا يقدرون على القلم والدواة.

وقرأ الضحاك : كتّابا على جمع الكاتب. وقرأ الباقون : (كاتِباً) على الواحد وهو الأنسب مع المصحف.

(فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ). قرأ ابن عباس وإبراهيم وزر بن حبيش ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو : فرُهُن بضم الراء والهاء. وقرأ عكرمة والمنهال وعبد الوارث : فرُهْن بضم الراء وجزم الهاء ، وقرأ الباقون : (فَرِهانٌ) وهو جمع الرهن ، ذلك [نحو] فعل وفعال ، وحبل وحبال وكبش وكباش ، وكعب وكعّاب.

والرهن جمع الرهان : جمع الجمع ، قاله الفراء والكسائي. وقال غيرهما وأبو عبيدة : هو جمع الرهن. قالوا : ولم نجد فعلا يجمع على فعل إلّا ثمانية أحرف : خلق وخلق ، وسقف وسقف ، وقلب وقلب ، [وجد وجد بمعنى الحظ ، وثط وثط ، وورد وورد ،] ونسر ونسر. ورهن ورهن.

قال الأخطل وعمرو بن أبي عوف : [...] (١)

به حتّى يغادره العقبان والنسر.

وأنشد الفراء :

حتّى إذا بلّت حلاقيم الحلق

أهوى لأدنى فقرة على شفق

وقال أبو عمرو : وإنّما قرأنا (فرهن) ليكون قرفا [بينها وبين] رهان الخيل ، وأنشد لقعنب ابن أم الصاحب :

بانت سعاد وأمسى دونها عدن

وغلّقت عندها من قلبك الرهن (٢)

أي وحب لها.

والتخفيف والتثقيل في الرهن لغتان مثل كتّب وكتب ورسّل ورسل.

ومعنى الآية : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) الآن للكتابة فارتهنوا ممن تداينونه رهونا ليكون وثيقة لكم بأموالكم. وأجمعوا : إن الرهن لا يصح إلّا بالقبض ، وقال مجاهد : ليس الرهن إلّا في السفر عند عدم الكاتب. وأجاز غيره في جميع الأحوال.

ورهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم درعه عند يهوديّ.

(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً). مدني. حرف أبيّ ، فإن أمن. يعني : فإن كان الذي عليه

__________________

(١) كلمة غير مقروءة.

(٢) تفسير الطبري : ٣ / ١٨٩ ، وتاج العروس : ٩ / ٢٢٢.

٢٩٨

الحق أمينا عند صاحب الحق فلم يرتهن منه شيئا لثقته وحسن ظنّه (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ). أفتعل من الأمانة ، وهي الثقة كتبت همزتها واوا لاضمام ما قبلها (أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ). في أداء الحق.

ثم رجع إلى خطاب الشهود فقال : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ). إذا دعيتم إلى إقامتها ، وقرأ السلمي : ولا يكتموا بالياء ومثله يعملون.

ثم ذكر وعيد كتمان الشهادة فقال عزّ من قائل : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ). فاجر قلبه وهو ابتداء وخبر. وقرأ إبراهيم بن أبي عيلة : فإنّه أثم قلبه على وزن أفعل أي جعل قلبه أثما.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ). من بيان الشهادة وكتمانها.

روى مكحول عن أبي بردة عن أبيه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كتم الشهادة إذا دعي ، كان كمن شهد بالزور» (١).

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ). الآية. اختلف العلماء في هذه الآية ، فقال قوم : هي خاصة. ثم اختلفوا في وجه خصوصها ، فقال بعضهم : نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها يعني : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ). أيّها الشهود من كتمان الشهادة (أَوْ تُخْفُوهُ). الكتمان (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ). وهو قول الشعبي وعكرمة ورواية مجاهد ومقسم عن ابن عباس ، يدلّ عليه قوله فيما قبله : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ).

وقال بعضهم : نزلت هذه الآية فيمن يتولّى الكافرين من المؤمنين. يعني : وإن تعلنوا ما في أنفسكم من ولاية الكفّار أو تستروه يحاسبكم الله. وهو قول مقاتل والواقدي. يدلّ عليه قوله في آل عمران : [(قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ). من ولاية الكفّار (يَعْلَمْهُ اللهُ)] (٢) يدلّ عليه ما قبله.

وقال آخرون : هذه الآية عامّة. ثم اختلفوا في وجه عمومها ، فقال بعضهم : هي منسوخة.

روت الرواية بألفاظ مختلفة. قال : لمّا نزلت هذه الآية جاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وناس من الأنصار إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجثوا على الركب وقالوا : يا رسول الله والله ما نزلت آية أشد علينا من هذه الآية وإنّا لا نسر أن يكون لأحدنا الدنيا وما فيها وإنّا لمأخوذون ما نحدّث به أنفسنا هلكنا والله ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هكذا نزلت». قالوا : هلكنا وكلّفنا من العمل ما لا نطيق.

قال : «فلعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه‌السلام (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) ، بل قولوا : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا)» [٢١٠].

__________________

(١) مجمع الزوائد : ٤ / ٢٠٠ ، والمعجم الأوسط : ٤ / ٢٧٠.

(٢) سورة آل عمران : ٢٩.

٢٩٩

واشتد ذلك عليهم فمكثوا بذلك حولا ، فأنزل الله عزوجل الفرج والراحة بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها). فنسخت الآية ما قبلها. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله عزوجل قد تجاوز لأمّتي ما حدّثوا به أنفسهم ما لم يعملوا أو يتكلّموا به» (١). وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة وعائشة وابن عباس برواية سعيد بن جبير وعطاء ، ومن التابعين وأتباعهم محمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة وقتادة والكلبي وشيبة.

قال سعيد بن مرجانة : بينما نحن جلوس عند عبد الله بن عمر إذ تلا هذه الآية (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ).

فقال ابن عمر : إن أخذنا الله بها لنهلكن ، ثم بكا حتّى سمع. قال ابن مرجانة : فذكرت ذلك لابن عباس فقال : يغفر الله لأبي عبد الرحمن فقد وجد المسلمون منها حين نزلت مثل ما وجد فأنزل الله (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها). وكانت الوسوسة ممّا لا طاقة للمسلمين بها ، فصار الأمر إلى القول والفعل به فنسخت تلك الآية.

وقال بعضهم : هذه الآية محكمة غير منسوخة ، لأن النسخ والأخبار غير جائز إلّا في خبر فيه أمر أو نهي أو شرط. ثم اختلفوا في وجه تأويلها فقال قوم من أهل المعاني : قد اثبت الله عزوجل للقلب كسبا فقال : (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ). وكلّ عامل مأخوذ بكسبه ومجازى على عمله ، [فلا تظنّ] الله عزوجل بتارك عبدا يوم القيامة أسرّ أمرا أو أعلنه من حركة في جوارحه أو [همسة] في قلبه دون أن يعرّفه إياه ويخبره به ، ثم يغفر ما شاء لمن يشاء ويعذّب من شاء بما يشاء.

معنى الآية : وإن تظهروا ما في أنفسكم من [المعاصي] فتعملوه أي تضمروا إرادتها في أنفسكم فتخفوها يخبركم به ويحاسبكم عليه ، ثم يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء.

وهذا معنى قول الحسن ، والربيع ، وقيس بن أبي حازم ، ورواية الضحاك عن ابن عباس ، يدلّ عليه قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٢).

وقال آخرون : معنى الآية إن الله تعالى يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم وأخفوه ، ويعاقبهم عليه غير أن معاقبته إيّاهم على ما أخفوه ممّا لم يعملوها ، بما يحدث في الدنيا من النوائب والمصائب والأمور التي يحزنون عليها ويألمون بها ، وهذا قول عائشة ، روي بأنّها سئلت عن هذه الآية فقالت : ما سألت عنها أحد فقد سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ٦١.

(٢) سورة الإسراء : ٣٦.

٣٠٠