خاتمة مستدرك الوسائل - ج ٢

الشيخ حسين النوري الطبرسي [ المحدّث النوري ]

خاتمة مستدرك الوسائل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسين النوري الطبرسي [ المحدّث النوري ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : رجال الحديث
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-86-8
ISBN الدورة:
964-5503-84-1

الصفحات: ٤٧١

وتصريحه بكون المهدي الموعود صلوات الله عليه هو الحجة بن الحسن العسكري عليهما‌السلام ، كما عليه الإمامية ، لا ينافي النصب فضلا عن التسنن ، كما أوضحناه في كتابنا النجم الثاقب (١). وله في هذا الاعتقاد شركاء من علمائهم ، ذكرنا أساميهم في الكتاب المذكور ، ومع ذلك كلّه كيف يقول الإمامي في حقّه : المحقّق العارف بالله ، ومن لا يجازف في القول. وأمثال ذلك فيه وفي أضرابه.

ومن تصانيفه شرح أصول الكافي ، شرحه على مذاقه وعقائده وأصوله ومطالبه ، فاستحسنه من استصوبها ، واستحقره من استضعفها ، بل في الروضات : فمنهم من ذكر في وصف شرحه على الأصول :

شروح الكافي كثيرة جليلة قدرا

وأوّل من شرحه بالكفر صدرا

انتهى (٢).

وفيه منه أوهام عجيبة ، بل في كتاب التوحيد منه وهم لم يسبقه إلى مثله أحد ، ولم يلحقه أحد.

ففي أوّل باب جوامع التوحيد : محمّد بن أبي عبد الله ومحمّد بن يحيى جميعا رفعا إلى أبي عبد الله عليه‌السلام ، أن أمير المؤمنين عليه‌السلام استنهض الناس في حرب معاوية في المرة الثانية ، فلمّا حشر (٣) الناس قام خطيبا فقال : الحمد لله الواحد الأحد ، الصمد المتفرد ، الذي لا من شيء كان ، ولا من شيء خلق ما كان قدرة بان بها من الأشياء ، وبانت الأشياء منه ، فليست له صفة تنال ، ولا حدّ تضرب له فيه الأمثال. الخطبة (٤).

__________________

(١) انظر النجم الثاقب آخر الباب الرابع والباب الخامس.

(٢) روضات الجنات ٤ : ١٢١ / ٣٥٦.

(٣) ظاهرا حشد. ( منه قدس‌سره )

(٤) شرح الأصول من الكافي لملاّ صدرا : ٣٢٩.

٢٤١

والمضبوط فيما رأينا من النسخ الصحيحة ، وعليه مبني شروح الكافي من غيره : القدرة ـ بالقاف ـ بمعناها المعروف المناسب في المقام.

قال تلميذه في الوافي في البيان : ( ولا من شيء خلق ما كان ) تحقيق لمعنى الإبداع الذي هو تأييس الآيس من الليس المطلق ، لا من مادة ولا بمدّة ، وهذا في كل الوجود ، أو على ما هو التحقيق عند العارفين ، وإن كان في الكائنات تكوين من موادها المخلوقة إبداعا لا من شيء عند الجماهير. قدرة ـ منصوب على التمييز ، أو نزع الخافض ـ يعني ولكن خلق الأشياء قدرة أو بقدرة ، أو مرفوع ، أي له قدرة أو هو قدرة فإنّ صفته عين ذاته (١). انتهى.

وقال الحكيم المتألّه الآميرزا رفيع الدين النائيني في شرحه : وقوله عليه‌السلام : ( قدرة بان بها من الأشياء ) أي : له قدرة بان بهذه القدرة من الأشياء ، فلا يحتاج أن يكون الصدور والحدوث عنه في مادّة ، بأن يؤثر في مادة فينقلها من حالة إلى حالة كغيره سبحانه ، فإن التأثير من غيره لا يكون إلاّ في مادة ، بل إيجادا لا من شيء بأمر ( كن ). وبانت الأشياء منه سبحانه بعجزها عن التأثير لا في مادّة ، فليست له صفة تنال (٢).

وقال المولى محمّد صالح الطبرسي في شرحه : « ولا من شيء خلق ما كان قدرة » الظاهر أن كان تامّة ، بمعنى : وجد ، وقدرة بالنصب على التمييز ، أو بنزع الخافض وإن كان شاذّا في مثله ، وفي بعض نسخ هذا الكتاب وفي كتاب التوحيد للصدوق ( بقدرة ) (٣) وهو يؤيد الثاني ، أي لم يخلق ما وجد من الممكنات بقدرته الكاملة من مثال سابق يكون أصلا له ، ودليلا عليه ، لا من مادة أزليّة

__________________

(١) الوافي ١ : ٩٣.

(٢) شرح الكافي للنائيني : غير موجود.

(٣) في توحيد الصدوق : ٤١ / ٣ : قدرته.

٢٤٢

كما زعمت الفلاسفة من أن الأجسام لها أصل أزلي هي المادة ، بل هو المخترع للممكنات بما فيها من المقادير والأشكال والنهايات ، والمبتدع للمخلوقات بما لها من الهيئات والآجال والغايات بمحض القدرة على وفق الإرادة والحكمة.

ويحتمل أن يقرأ : قدرة ـ بالرفع على الابتداء ـ أي له قدرة بان بها ـ أي بتلك القدرة الكاملة التي لا يتأبّي منها شيء ـ من الأشياء ، وبانت الأشياء منه ، لتحقّق تلك القدرة له لا لغيره. انتهى (١).

وقال العلامة المجلسي رحمه‌الله في مرآة العقول : قوله عليه‌السلام : ( قدرة ) ـ أي له قدرة ـ أو هو عين القدرة ، بناء على عينيّة الصفاة. وقيل : نصب على التمييز ، أو على أنّها منزوع الخافض ، أي ولكن خلق الأشياء قدرة أو بقدرة. وفي التوحيد : قدرته ، فهو مبتدأ ، وبان بها خبره ، أو خبره كافية ، فكانت جملة استئنافية فكأنّ سائلا سأل وقال : كيف خلق لا من شيء؟ فأجاب : بأن قدرته كافية (٢).

إلى غير ذلك من كلماتهم التي يشبه بعضها بعضاً في شرح الفقرة المذكورة ، واتفاقهم على كون الكلمة قدرة ـ بالقاف ـ.

وأمّا المولى المذكور فقرأها فدرة ـ بالفاء ـ وهي ـ كما في القاموس وغيره ـ قطعة من اللحم ، ومن الليل ، ومن الجبل (٣) ، ولم يقنع بذلك حتى جعلها أصلا ، ورتّب عليه ما لا ربط له بالفقرة المذكورة ، فقال بعد مدح الخطبة وتوصيفها بما هي أهلها : فلنعقد لبيانها وشرحها عدّة فصول. إلى أن قال : الفصل الثالث : في نفي التركيب عنه تعالى ، قوله عليه‌السلام : ( ما كان فدرة

__________________

(١) شرح الكافي للطبرسي ٤ : ١٦٨.

(٢) مرآة العقول ٢ : ٨٥.

(٣) القاموس المحيط ـ فدرة ـ ٢ : ١٠٨.

٢٤٣

بان بها من الأشياء وبانت الأشياء منه ) يعني أنه بسيط الذات ، أحدي الحقيقة بذاته ، يمتاز عن الأشياء ، وتمتاز الأشياء عنه بذواتها لا ببعض من الذات ، وإنما يقع الامتياز بفصل ذاتي بين الأمور التي كان اشتراكها بالذات ، أو بأمر مقوّم للذات كالإنسان والفرس ، فإنّهما لمّا اشتركا في أمر ذاتي كالحيوانية فلا بد أن يفترقا أيضا بأمر ذاتي ، وبعض من الذات سواء كان محسوسا أو معقولا. ففي الإنسان بعض به امتاز عن الفرس وبان منه ، وهو معنى الناطقيّة ، وكذا الفرس بان من الإنسان ببعض منه كالصاهليّة ، أو بسلب النطق كالعجم. والخطّ الطويل والخط الصغير مثلا تقع البينونة بينهما بعد اشتراكهما في طبيعة الخطيّة بقطعة من الخط بان بها الطويل من القصير ، وبان القصير من الطويل بوجودها في أحدهما ، وعدمها في الآخر.

فعبّر عن الفصل المميّز للشيء عمّا عداه من الأشياء بالفدرة وهي القطعة تمثيلا وتشبيها لمطلق الفصل الذاتي سواء كان في المعاني والمعقولات أو في الصور والمحسوسات ، وسواء كان في المقادير أو في غيرها بالقطعة المتكمّمة التي تقع بها البينونة ، والاختلاف بينه وبين متكمّم آخر من جنسه ، فالباري جلّ اسمه إذ ليس في ذاته تركيب بوجه من الوجوه سواء كان عقليّا أو خارجيا ، ولا أيضا موصوف بالتقدير والكمّية ، فليس امتيازه عن الأشياء وامتياز الأشياء عنه إلاّ بنفس ذاته المقدسة ، وليس كمثله شيء بوجه من الوجوه. انتهى (١).

وأنت خبير بأنّ ( ما ) موصولة ، وجملة ( ما كان ) متعلّقة بخلق ، و ( لا ) نافية كما عليه بناء كلامه ، ويكون ابتداء الجملة ويصير قوله عليه‌السلام : ( خلق ) بلا متعلّق ، ثم إن استعمال هذه الكلمة الغريبة الوحشيّة الغير المعهودة في كلماتهم عليهم‌السلام خصوصا في هذه الخطبة البليغة التي صرّح بأنّها في

__________________

(١) شرح الكافي لملاّ صدرا : ٣٣١.

٢٤٤

أعلى درجة الفصاحة ، ما لا يخفى. مع أنّ في التعبير عن الفصل المميّز بقطعة من اللحم من البرودة والبشاعة ما لا يحصى ، بل على ما فسره فاللازم أن يكون الكلام هكذا : ما كان له فدرة أي فصل يميّزه عمّا عداه ، وعلى ما ذكره في آخر كلامه من أن امتيازه عن الأشياء وامتيازها عنه تعالى بنفس ذاته المقدسة ، فالمناسب حينئذ أن يكون ( ما كان ) متعلقا بالسابق ، أو يكون القدرة خبرا للمحذوف ، أي هو تعالى فدرة بان بها من الأشياء وبانت الأشياء منه ، وهذا أحسن من نفيها عنه ، كما لا يخفى.

وقريب من هذا في الغرابة ما ذكره في كتاب الحجّة ، في شرح الخبر الرابع من باب الاضطرار إلى الحجّة.

ففيه بالإسناد عن يونس بن يعقوب قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فورد عليه رجل من أهل الشام ، فقال : إني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض ، وقد جئت لمناظرة أصحابك. إلى أن قال : ثم قال عليه‌السلام لي : اخرج إلى الباب فانظر من ترى من المتكلّمين فأدخله ، قال : فأدخلت حمران بن أعين وكان يحسن الكلام ، وأدخلت الأحول وكان يحسن الكلام ، وأدخلت هشام بن سالم وكان يحسن الكلام ، وأدخلت قيس بن الماصر وكان عندي أحسنهم كلاما ، وكان قد تعلّم الكلام من علي بن الحسين عليهما‌السلام. فلمّا استقر بنا المجلس وكان أبو عبد الله عليه‌السلام قبل الحج يستقر أياما في جبل في طرف الحرم في فازة (١) له مضروبة.

قال : فأخرج أبو عبد الله عليه‌السلام رأسه من فازته ، فإذا هو ببعير يخب فقال : هشام وربّ الكعبة.

قال : فظننت أن هشاما رجل من ولد عقيل كان شديد المحبّة له ، قال :

__________________

(١) فازة : مظلّة تمد بعمود. انظر ( لسان العرب ـ فوز ـ ٥ : ٣٩٣ )

٢٤٥

فورد هشام بن الحكم وهو أول ما اختطت لحيته ، وليس فينا إلاّ من هو أكبر سنّا منه ، قال : فوسع له أبو عبد الله عليه‌السلام وقال : ناصرنا بقلبه ولسانه ويده (١) ، انتهى موضع الحاجة.

وصريح هذا الخبر ـ الذي لا أظن أحدا يحتمل غيره ـ أن الإمام عليه‌السلام كان جالسا في الفازة ، وكان يونس عنده ، ودخل عليه‌السلام فيها الشامي ، وأمر عليه‌السلام حينئذ يونس بأن يدخل عليه من ذكرهم ، وأنه عليه‌السلام بعد دخولهم عليه أخرج رأسه الشريف من الفازة ، وأن هشام بن الحكم هو الذي كان يخب به البعير ، وأنه عليه‌السلام لما رآه قال : « هشام » أي جاء هشام ، أو هو ، أو هذا هشام ، مستبشرا به ، فظنّوا أنّه عليه‌السلام يبشرهم بهشام العقيلي لشدّة محبّته له ، إذ ورد هشام بن الحكم ، وهذا من الوضوح بمكان.

وقال المولى المذكور في الشرح : كأنّه عليه‌السلام بعد ما لاقاه الرجل الشامي ، وأمر يونس بإحضار جماعة من متكلّمي أصحابه ، كان في منزل آخر بعيد عن منزل الفازة ، فدخل إلى تلك الفازة لشغله من عبادة أو صحبة مع أهله ، حتى إذا حضرت الجماعة واستقرّ بهم المجلس خرج عليه‌السلام من الفازة راكبا بعيره ، جائيا إليهم مخبّأ. فقال هشام : وربّ الكعبة ـ أي أقسم بالله أن الذي يجيء هو ـ هو عليه‌السلام.

وقوله : ( فظننا أن هشاما رجل من ولد عقيل ) أي لشدة محبّته إياه ، فعلّل ذلك الظنّ. بقوله : كان شديد المحبّة له ، أي كما يحب قرابته من أولاد عقيل ابن أبي طالب ، والمراد منه هشام بن سالم دون ابن الحكم ، لأن وروده بعد ذلك ، وكلا الهشامين كانا محبوبين له وجيهين عنده ، بل الثاني أحبّ إليه وأوجه

__________________

(١) شرح الكافي لملاّ صدرا : ٤٤٣ ، وانظر مرآة العقول ٢ : ٢٦٨ ، والكافي : ١٣٠ / ٤.

٢٤٦

عنده ، لما ظهر من صنيعه لأجله من التوسيع له في المجلس ، والقول بأنّه ناصرنا بقلبه ولسانه ويده. انتهى (١).

وعدد مواقع الأوهام في هذه الكلمات غير خفي على الناظر.

وله في شرح حال مولانا صاحب الزمان صلوات الله عليه عند قوله عليه‌السلام : « إذا قام قائمنا وضع الله يده على رؤوس العباد ، فجمع بها عقولهم » كلام ينبئ عن اعتقاد له فيه عليه‌السلام غير ما عليه معاشر الإمامية. فراجع وتأمّل.

ومن عادته في مؤلفاته نقل مطالب القوم في الحكمة والمعارف والأخلاق بعباراتهم كثيرا من غير نسبتها إليهم ، خصوصا من كتب الغزالي وابن عربي.

وعندنا رسالة من الفخر الرازي في تفسير أربع سور ، قال في أوّلها : هذه رسالة عملتها في التنبيه على بعض الأسرار المودوعة في بعض سور القرآن العظيم ، والفرقان الكريم ، تنبيها على أن أكثر المفسرين كانوا محرومين عن الفوز بالمقصد القويم ، غير واصلين إلى الصراط المستقيم (٢).

ثم رتّبها على أربعة فصول :

الأول : في الإلهيات ، وفسر فيه سورة الإخلاص.

الثاني : في تفسير سورة مشتملة على الإلهيات والنبوات والمعاد ، وهي سورة سبّح اسم ربّك الأعلى (٣) وفسرها بترتيب لطيف.

وللمولى المتقدم رسالة في تفسير هذه السورة المباركة ، ولمّا عرضناها على تفسير الرازي لم نجد بينهما فرقا إلاّ في بعض كلمات زائدة لا يضرّ إسقاطها في

__________________

(١) شرح الكافي لملاّ صدرا : ٤٤٣.

(٢) رسالة الفخر الرازي : غير متوفر لدينا.

(٣) الأعلى ٨٧ : ١

٢٤٧

أصل المطالب.

توفي بالبصرة وهو متوجّه إلى الحجّ سنة ١٠٥٠ ، وهذا المولى يروي :

١ ـ عن شيخنا البهائي طاب ثراه.

٢ ـ وعن العالم المحقق النحرير السيد السند النقاد الخبير مير محمّد باقر ابن السيد الفاضل الأمير شمس الدين محمّد الحسيني الأسترآبادي الملقب بالداماد ، لأنّ أباه كان صهرا للشيخ الأجلّ المحقق الثاني على بنته ، فافتخر بهذا اللقب ، وورثه منه ولده (١).

ذكر الفاضل علي قلي خان الداغستاني ، المعروف بشش انگشتى (٢) ، المتخلّص بواله ، في رياض الشعراء ، على ما نقله عنه الفاضل المعاصر الكشميري في كتاب نجوم السماء :

إن الشيخ الأجل علي بن عبد العالي رأى في المنام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأنه عليه‌السلام يقول له : تزوج بنتك من مير شمس الدين يخرج منها ولد يكون وارثا لعلوم الأنبياء والأوصياء ، فزوّج الشيخ بنته منه ، وتوفيت بعد مدّة قبل أن تلد ولدا ، فتحيّر الشيخ من ذلك ، وأنه لم يظهر لمنامه أثر ، فرأى أمير المؤمنين عليه‌السلام مرّة أخرى في المنام وهو عليه‌السلام يقول له : ما أردنا هذه الصبيّة بل البنت الفلانية ، فزوّجها إيّاه ، فولدت السيد المحقق المذكور. انتهى (٣).

قال تلميذه الفاضل العارف قطب الدين الاشكوري في محبوب القلوب : السيد السند المحقق في المعقول والمحقق في المنقول ، سمّي خامس

__________________

(١) انظر رياض العلماء ٥ : ٤٢.

(٢) أي : ذو الأصابع الستة.

(٣) نجوم السماء : ٤٧.

٢٤٨

أجداده المعصومين ، مير محمّد باقر الداماد ، لا زال سعيه في كشف معضلات المسائل مشكورا ، واسمه في صدر جريدة أهل الفضل مسطورا :

علم عروس همه استاد شد

فطرت أو بود كه داماد شد(١)

ثم ذكر وجه التسمية وقال : وكان شكر الله سعيه ، ورفع درجته ، تصرّح النجابة بذكره ، وتخطب المعارف بشكره ، ولم يزل يطالع كتب الأوائل متفهّما ، ويلقى الشيوخ متعلّما ، حتى فاق في أقصر مدة في كل فن من فنون العلم على أوحدي أخصّ ، وصار في كل مآثر كالواسطة في النص :

عقليش از قياس عقل برون

نقليش از قياس نقل فزون(٢)

يخبر عن معضلات المسائل فيصيب ، ويضرب في كل ما ينتحله من التعاليم بأوفى نصيب ، توحّد بإبداع دقائق العلوم والعرفان ، وتفرّد بفرائد أبكار لم يكشف قناع الإجمال عن جمال حقائقها إلى الآن ، فلقد صدق ما أنشد بعض الشعراء في شأنه :

بتخميرش يد الله چون فروشد

نم فيض آن چه بد در كار أو شد(٣)

انتهى (٤).

ونقل في النجوم عن محمّد طاهر نصرآبادي أنّه ذكر في ترجمته : أنّه رحمه‌الله كان مجدّا ساعيا في تزكيته لنفسه النفيسة ، وتصفية باطنه الشريف ، حتى

__________________

(١) ترجمته :

العلم عروس لكلّ أستاذ علامة ولكن هو الوحيد الذي صار عريسا لهذه العروس لكمال فطرته.

(٢) ترجمته :

معقولاته عن قياس العقل خارجة

ومنقولاته عن قياس النقل زائدة

(٣) ترجمته :

عند ما عجنت طينته اليد الإلهيّة أفاض كلّ الفيض في طينته.

(٤) محبوب القلوب : غير موجود.

٢٤٩

اشتهر أنّه لم يضع جنبه على فراشه بالليل في مدة أربعين سنة ، ولم تفته نوافل الليل والنهار في مدة عمره (١).

وفي محبوب القلوب : وله برد الله مضجعه :

از خوان فلك قرص جوى بيش مخور

انگشت عسل مخواه وصد نيش مخور

از نعمة ألوان شهان دست بدار

خون دل صد هزار درويش مخور(٢)

قال في الحاشية : إن المشهور أنّ هذه الرباعية تعريض منه بمعاصرة شيخنا البهائي طاب ثراه ، وقد أنشد الشيخ في جوابه هذه الرباعية :

زاهد به تو تقوى وريا ارزانى

من دانم بي ديني وبى ايمانى

تو باش چنين وطعنه مى زن بر من

من كافر ومن يهود ومن نصراني(٣) (٤)

وعن حدائق المقربين للأمير محمّد صالح : إنّه كان متعبدا في الغاية ، مكثارا لتلاوة كتاب الله المجيد ، بحيث ذكر لي بعض الثقات أنه كان يقرأ كل ليلة خمسة عشر جزءا من القرآن ، وكان مقرّبا عند السلطان شاه عباس الماضي الصفوي كثيرا ، وكذلك من بعده عند خليفته الشاه صفي.

وذكر جماعة أنه ذهب في آخر عمره الشريف من أصفهان بمرافقة السلطان شاه صفي المرحوم إلى زيارة العتبات العاليات ، فمات هناك في سنة إحدى وأربعين وألف ، كما نصّ عليه الخواتون آبادي ، في تاريخ وقائع

__________________

(١) نجوم السماء : ٤٩.

(٢) ترجمته :

لا تأكل من مائدة الدهر أكثر من قرص شعير ، ولا تطلب العسل قدر إصبع فتلدغ مائة لدغة ، ادفع يدك عن ألوان نعيم الملوك ، حتى لا تشرب مهجة قلب مائة ألف فقير.

(٣) وترجمته :

أيها الزاهد لك التقدس والرياء ، وأنا أعلم بأنّك لست ذا دين وايمان ، كن أنت كذلك وتعرض لي ، وأنا كافر بزعمك ويهودي ونصراني.

(٤) محبوب القلوب : لم نعثر عليه فيه.

٢٥٠

السنين (١). ودفن في النجف الأشرف ، والعراق يومئذ كان في تصرّف السلاطين الصفوية ، وأخذه من يدهم السلطان مراد في سنة ألف وثمانية وأربعين (٢).

وهذا السيد الجليل يروي عن جماعة من المشايخ (٣) :

أوّلهم : السيد نور الدين علي بن أبي الحسن الموسوي العاملي ، المتقدم (٤) ذكره.

ثانيهم : خاله المعظم العالم الجليل الشيخ عبد العالي ابن المحقق الثاني ، وهو كما في الرياض : العالم الفاضل الجليل ، وقد كان ظهر الشيعة وظهيرها بعد أبيه ، ورأس الإمامية أثر والده ، قال : وكان معاصرا لا ميرزا مخدوم الشريفي السني ، صاحب كتاب نواقض الروافض ، وبينهما مناظرات ومباحثات في الإمامة وغيرها.

وقال صاحب تاريخ عالم آرا ما معناه : إن الشيخ عبد العالي المجتهد كان من علماء دولة السلطان شاه طهماسب ، وبقي بعده أيضا ، وكان في العلوم العقلية والنقلية رئيس أهل عصره ، وكان حسن النظر ، جيد المحاورة ، وصاحب الأخلاق الحسنة ، وجلس على مسند الاجتهاد بالاستقلال ، وكان أغلب إقامته بكاشان ، ويشتغل فيها بالتدريس وإفادة العلوم ، ويعيّن جماعة فيها لفصل القضايا الشرعية ، والإصلاح بين الناس ، ويتوجّه بنفسه أحيانا لذلك ، وإذا جاء إلى معسكر الشاه طهماسب يبالغ في تعظيمه وتكريمه ، وكان بابه قدس‌سره مرجعا للفضلاء والعلماء ، وأكثر علماء عصره أذعن لاجتهاده ،

__________________

(١) وقائع السنين والأعوام : ٥١٠.

(٢) حدائق المقربين : غير موجود.

(٣) ذكر هنا ثلاثة طرق ، وفي المشجرة اثنين ، ولم يتعرض إلى ذكر السيد نور الدين علي العاملي ، فراجع.

(٤) تقدم ذكره في : ٨٥.

٢٥١

ويعمل على قوله في الفروع والأصول ، وهو في الحقيقة زينة لبلاد إيران (١).

وذكر في الرياض له مؤلفات كثيرة.

وفي نقد التفريشي في ترجمته : جليل القدر ، عظيم المنزلة ، رفيع الشأن ، نقي الكلام ، كثير الحفظ ، من تلامذة أبيه ، تشرّفت بخدمته (٢).

وفي أول المقابيس في ذكر ما اصطلحه فيه : ومنها العلائي لولده وتلميذه الفاضل السديد ، الفقيه العابد السعيد ، المحدث الحفظة الرشيد ، المحقق المدقق المتكلم المجيد ، صاحب المفاخر والمعالي ، الشيخ عبد العالي ، بلّغه الله في الجنان إلى منتهى الأماني والأعالي ، وقد أدركه ونال صحبته ، وأطرى في مدحه ، وروى عنه السيد السند المؤيد المرتضى ، صاحب نقد الرجال الأمير مصطفى التفريشي ، وأجاز لابن أخته المحقق الداماد ، وروى عن أبيه وغيره من المشايخ الأمجاد. انتهى (٣).

وفي الرياض : ويروي عنه الشيخ يونس الجزائري ، والقاضي معزّ الدين حسين الأصفهاني ، والشيخ البهائي.

قال : ولمّا توفي قيل بالفارسية : ( ابن مقتداى شيعة ) ، وقد كان تاريخ وفاة والده ( مقتداى شيعة ) (٤).

يروي عن والده الأجل الأكمل ، المحقق الثاني رحمه‌الله.

ثالثهم : العالم الجليل عزّ الدين الحسين بن عبد الصمد الحارثي الهمداني.

أ ـ عن السيد الأجل السيد حسن بن السيد جعفر المتقدم (٥) ذكره.

__________________

(١) تاريخ عالم آرا ١ : ١٥٤ ، رياض العلماء ٣ : ١٣١.

(٢) نقد الرجال : ١٨٨ ، رياض العلماء ٣ : ١٣١.

(٣) مقابس الأنوار : ١٤.

(٤) رياض العلماء ٣ : ١٣١.

(٥) تقدم في : ٢٣٤.

٢٥٢

ب ـ وعن أفضل المتأخرين ، وأكمل المتبحرين ، نادرة الخلف ، وبقيّة السلف ، مفتي طوائف الأمم ، والمرشد إلى التي هي أحقّ وأقوم ، قدوة الشيعة ، ونور الشريعة ، الجامع في معارج الفضل والكمال والسعادة ، بين مراتب العلم والعمل والجلالة والكرامة والشهادة ، الشيخ زين الدين بن نور الدين علي بن أحمد بن محمّد بن جمال الدين بن تقي بن صالح بن مشرف الجبعي العاملي.

وكان والده الشيخ نور الدين علي المعروف بابن الحجة أو الحاجة ، من كبار أفاضل عصره ، وقد قرأ عليه ولده الشهيد جملة من كتب العربية والفقه ، وكان قد جعل له راتبا من الدراهم بإزاء ما كان يحفظه من العلم ، وكذلك جميع أجداده كانوا أفاضل أتقياء ، وجده الأعلى الشيخ صالح بن مشرف الطوسي العاملي كان من تلامذة العلامة.

تولد رحمه‌الله ثالث عشر شوال سنة ٩١١ ، وختم القرآن وعمره تسع سنين ، وقرأ على والده العربية ، وتوفي والده سنة ٩٢٥ وعمره إذ ذاك أربع عشرة سنة ، وارتحل إلى ميس وهي أوّل رحلته ، فقرأ على الشيخ الجليل علي بن عبد العالي الميسي الشرائع والإرشاد وأكثر القواعد ، وكان هذا الشيخ زوج خالته ، ووالد زوجته الكبرى.

ثم ارتحل إلى كرك نوح وقرأ على السيد المعظم السيد حسن بن السيد جعفر الكركي الموسوي ـ صاحب كتاب المحجّة البيضاء ـ قواعد ميثم البحراني ، والتهذيب والعمدة كلاهما في أصول الفقه من مصنّفات السيد المذكور ، والكافية في النحو. وغير ذلك.

ثم ارتحل إلى جبع سنة ٩٣٤ ، وأقام بها مشتغلا بمطالعة العلم والمذاكرة إلى سنة ٩٣٧.

ثم ارتحل إلى دمشق وقرأ على الشيخ الفاضل الفيلسوف شمس الدين

٢٥٣

محمّد بن مكّي (١) ، من كتب الطب : الموجز النفيسي ، وغاية القصد في معرفة الفصد من تصانيفه ، وفصول الفرعاتي في الهيئة ، وبعض حكمة الإشراق.

وقرأ على الشيخ المرحوم أحمد بن جابر الشاطبية في علم القراءات.

ثم رجع إلى جبع سنة ٩٣٨ ، ثم ارتحل إلى دمشق يريد مصر ، واجتمع في تلك السفرة مع الشيخ الفاضل شمس الدين بن طولون الدمشقي ، وقرأ عليه جملة من الصحيحين في الصالحية بالمدرسة السليميّة وأجيز منه روايتهما.

وكان القائم بإمداده وتجهيزه في هذه السفرة الحاج شمس الدين محمّد ابن هلال ، وقام بكلّ ما احتاج إليه مضافا إلى ما أسدى إليه من المعروف ، وأجرى عليه من الخيرات في مدة طلبه للعلم قبل سفره هذا. وأصبح هذا الحاج مقتولا في بيته هو وزوجته وولدان له أحدهما رضيع سنة ٩٥٢.

وسافر من دمشق إلى مصر يوم الأحد منتصف ربيع الأول سنة ٩٤٢ ، واتفق له في الطريق ألطاف خفيّة وكرامات جليّة.

منها : برواية تلميذه الشيخ محمّد بن علي بن الحسن العودي العاملي عنه ـ وكان معه إلى دمشق ـ قال : أخبرني ليلة الأربعاء عاشر ربيع الأول سنة ٩٥٠ أنّه في منزل الرملة مضى إلى مسجدها المعروف بالجامع الأبيض لزيارة الأنبياء عليهم‌السلام الذين في الغار وحده ، فوجد الباب مقفولا وليس في المسجد أحد ، فوضع يده على القفل وجذبه فانفتح ، فنزل إلى الغار فاشتغل بالصلاة والدعاء ، وحصل له إقبال إلى الله بحيث ذهل عن انتقال القافلة وسيرها ، ثم جلس طويلا ودخل المدينة بعد ذلك ومضى إلى مكان القافلة فوجدها قد ارتحلت ولم يبق منها أحد ، فبقي متحيّرا في أمره مع عجزه عن المشي ، فأخذ يمشي على أثرها وحده ، فمشى حتى أعياه التعب ، فبينما هو في هذا الضيق إذ

__________________

(١) وهذا غير الشهيد الأوّل قدس‌سره وان اتحد معه في الاسم.

٢٥٤

أقبل عليه رجل لا حق به وهو راكب بغلا فلمّا وصل إليه قال له : اركب خلفي ، فردفه ومضى كالبرق ، فما كان إلاّ قليلا حتى لحق بالقافلة وأنزله وقال له : اذهب إلى رفقتك ، ودخل هو في القافلة ، فتحريته مدّة الطريق أني أراه ثانيا فما رأيته أصلا ولا قبل ذلك.

ومنها : لمّا وصل إلى غزّة ، واجتمع بالشيخ محي الدين عبد القادر بن أبي الخير الغزيّ ، وجرت بينه وبينه احتجاجات ومباحثات ، وأجازه إجازة عامة ، وصارت بينهما مودّة زائدة ، وأدخله إلى خزانة كتبه فقلب الكتب ، وتفرّج في الخزانة ، فلما أراد الخروج قال له : أختر لنفسك كتابا من هذه الكتب ، فوضع يده على كتاب من غير تأمّل ولا انتخاب فظهر كتاب لا يحضرني اسمه من كتب الشيعة من مصنفات المرحوم الشيخ جمال الدين بن المطهر (١).

ودخل مصر بعد شهر من خروجه ، واشتغل على جماعة :

١ ـ الشيخ شهاب الدين أحمد الرملي الشافعي : قرأ عليه منهاج النّووي ، وأكثر مختصر ابن الحاجب في الأصول ، وشرح العضدي ، وسمع عنه كتبا كثيرة في الفنون العربية وغيرها.

٢ ـ المولى حسين الجرجاني : قرأ عليه شرح التجريد مع حاشية الدواني ، وشرح أشكال التأسيس في الهندسة ، وشرح الجغميني ، كلاهما للقاضي زاده.

٣ ـ المولى محمّد الأسترآبادي : قرأ عليه جملة من المطوّل مع حاشية المير ، وشرح الجامي على الكافية.

٤ ـ المولى محمّد الگيلاني : قرأ عليه جملة من المعاني والمنطق.

٥ ـ الشيخ شهاب الدين بن النجار الحنبلي : قرأ عليه جميع شرح الشافية للجاربردي ، وجميع شرح الخزرجية في العروض والقوافي.

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٦١.

٢٥٥

٦ ـ الشيخ الجليل أبو الحسن البكري ، صاحب كتاب الأنوار في مولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومقتل أمير المؤمنين وفاطمة عليهما‌السلام : قرأ عليه جملة من الكتب في الفقه والتفسير ، وبعض شرحه على المنهاج.

٧ ـ الشيخ زين الدين الجرمي المالكي : قرأ عليه الفية ابن مالك.

٨ ـ الشيخ ناصر الدين الملقاني المالكي : قال الشهيد : لم أر في الديار المصرية أفضل منه في العلوم العقلية والنقلية ، قرأ عليه البيضاوي في التفسير ، وغيره من الفنون.

٩ ـ الشيخ ناصر الدين الطيلاوي الشافعي.

١٠ ـ الشيخ شمس الدين محمّد النّحاس.

١١ ـ الشيخ عبد الحميد السمهودي.

١٢ ـ الشيخ شمس الدين محمّد بن عبد القادر العرضي.

١٣ ـ الشيخ عميرة.

١٤ ـ الشيخ شهاب الدين بن عبد الحق

١٥ ـ الشيخ شهاب الدين البلقيني.

١٦ ـ الشيخ شمس الدين الديروطي. وغيرهم.

ثم ارتحل إلى الحجاز في شوال سنة ٩٤٣ ، ولما قضى مناسكه زار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد وعده بالخير في المنام بمصر فلمّا رأى القبر الشريف خاطبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنشد : صلاة وتسليم على أشرف الورى إلى آخر الأبيات ، وفيها :

ومن عادة العرب الكرام بوفدهم

إعادته بالخير والحبر والوفر

وان يك وفد قد وفوا لنزيلهم

فكيف وقد أوعدتني الخير في مصر

٢٥٦

والعجب ما في أمل الآمل حيث قال : ما رأيت له شعرا إلاّ بيتين رأيتهما بخطّه ونسبهما إلى نفسه :

لقد جاء في القرآن آية حكمة

تدمّر آيات الضلال ومن يجبر

وتخبر أنّ الاختيار بايدنا

ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر(١)

مع أن القطعة المذكورة موجودة في رسالة ابن العودي ، وكانت عنده.

ثم ارتحل إلى بلدة جبع في صفر سنة ٩٤٤ ، وأقام بها إلى سنة ٩٤٦ وتوشح ببرد الاجتهاد ، إلاّ أنه بالغ في كتمان أمره.

ثم سافر إلى العراق لزيارة الأئمة عليهم‌السلام في ربيع الآخر من السنة المذكورة ، ورجع في خامس شعبان منها ، وأقام في جبع إلى سنة ٩٤٨ ، ثم سافر إلى بيت المقدس في ذي الحجة ، واجتمع بالشيخ شمس الدين بن أبي اللطيف المقدسي ، وقرأ عليه بعض صحيح البخاري ، وبعض صحيح مسلم ، وأجازه إجازة عامة ، ثم رجع إلى وطنه واشتغل بمطالعة العلوم ومذاكرتها مستفرغا وسعه إلى أواخر سنة ٩٥١ ، ثم جرى القضاء وأبان من أمر الله ومشورته أن يسافر إلى جهة الروم ، ويجتمع مع فضلائها ، ويتعلّق بسلطان الوقت السلطان سليمان بن عثمان ، وكان ذلك على خلاف مقتضى طبعه ، ولكن ليطيع من هو عالم بعواقب الأمور ، فخرج في ذي الحجة من السنة المذكورة وأقام بدمشق.

ثم ارتحل إلى حلب ، ودخل في ١٦ محرّم ، وخرج منها ٧ صفر سنة ٩٥٢ ، ودخل القسطنطينية ١٧ ربيع الأول ، ولم يجتمع مع أحد من الأعيان إلى ثمانية عشر يوما ، وكتب في خلالها رسالة في عشرة مباحث من عشرة علوم وأوصلها إلى قاضي العسكر محمّد بن محمّد بن قاضي زاده الرومي ، فوقعت منه موقعا حسنا ، وكان رجلا فاضلا ، واتفق بينهما مباحثات في مسائل كثيرة.

__________________

(١) أمل الآمل ١ : ٨٩ / ٨١.

٢٥٧

وكان من قواعد الروم أن كلّ طالب علم منهم لا بدّ وأن يكون معه عرض من قاضي بلده ، فيه جهة تعريفه ، وأنه أهل لما طلب ، إلاّ الشهيد فإنّه حين الخروج استخار الله تعالى أن يأخذ من قاضي صيدا ـ وهو المعروف الشامي ـ عرضا فلم يظهر خيرة ، وقد سأله بعض الفضلاء في قسطنطنية هل معك عرض من القاضي؟ فقال : لا ، فقال : إذن أمرك مشكل ، فأخرج له الرسالة المذكورة ، وقال : هذا عرضي ، فقال : لا تحتاج معه شيئا.

ثم إن قاضي العسكر بعث إليه بعد اثني عشر يوما من اجتماعه به الدفتر المشتمل على الوظائف والمدارس ، وبذل له ما اختاره ، وأكد كون ذلك في الشام أو حلب ، فاختار منه بعد الاستخارة المدرسة النوريّة ببعلبك التي وقفها السلطان نور الدين فأعرضها إلى السلطان ، وكتب بها برأت (١) ، وجعل له في كل شهر ما شرطه واقفها ، وأقام بها بعد ذلك قليلا ، واجتمع فيها بالسيد عبد الرحيم العباسي صاحب معاهد التنصيص ، وأخذ منه شطرا.

وخرج منها في ١١ رجب متوجّها نحو العراق ، وبعد زيارة أئمتها عليهم‌السلام رجع إلى جبع في صفر سنة ٩٥٣ ، وقد تفأل بكتاب الله في المشهد الغروي في عاقبة أمره بعد هذه السفرة مع الأعداء والحساد ، فظهر في أول الصفحة ( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ) (٢) ، الآية.

وأقام ببعلبك يدرس في المذاهب الخمسة ، واشتهر أمره ، وصار مرجع الأنام ومفتي كلّ فرقة بما يوافق مذهبها ، وصار أهل البلد كلّهم في انقياده ، ورجعت إليه الفضلاء من أقاصي البلاد.

ثم انتقل بعد خمس سنين إلى بلده بنيّة المفارقة ، وأقام في بلده مشتغلا

__________________

(١) مصطلح يراد به ما يقابل ( المرسوم ) في هذا العصر عندنا و ( الفرمان ) سابقا. انظر لغتنامه دهخدا مادة برأت.

(٢) الشعراء ٢٦ : ٢١.

٢٥٨

بالتدريس والتصنيف ، وأوّل مصنفاته الروض وآخرها الروضة ألّفها في ستة أشهر وستة أيام ، وكان غالب الأيام يكتب كرّاسا ، ومن عجيب أمره أنّه كان يكتب بغمسة واحدة في الدواة عشرين أو ثلاثين سطرا ، وخلّف ألفي كتاب ، منها مائتا كتاب كانت بخطه الشريف من مؤلفاته وغيرها.

مع أنه ذكر تلميذه الفاضل ابن العودي في رسالة بغية المريد : ولقد شاهدت منه سنة ورودي إلى خدمته أنّه كان ينقل الحطب على حمار في الليل لعياله ، ويصلّي الصبح في المسجد ، ويشتغل بالتدريس بقيّة نهاره ، فلما شعرت بذلك كنت أذهب معه بغير اختياره ، وكان رحمه‌الله يصلي العشاء جماعة ويذهب لحفظ الكرم ، ويصلّي الصبح في المسجد ، ويجلس للتدريس والبحث كالبحر الزاخر ، ويأتي بمباحث غفل عنها الأوائل والأواخر.

ولعمري لقد اشتمل على فضيلة جميلة ، ومنقبة جليلة ، تفرّد بها عن أبناء جنسه ، وحباه الله بها تزكية لنفسه ، وهو أنه من المعلوم البيّن أنّ العلماء رحمهم‌الله لم يقدروا على أن يروّجوا أمور العلم ، وينظموا أحواله ، ويفرغوه في قالب التصنيف والترصيف حتى يتفق لهم من يقوم بجميع المهمات ويكفيهم كلما يحتاجون من التعلّقات ، ويقطع عنهم جميع العلائق ، ويزيل عنهم جميع الموانع والعوائق ، أمّا من ذي سلطان يسخّره الله لهم ، أو من ذي مروّة وأهل خير يلقى الله في قلبه قضاء مهمّاتهم ، ومع ذلك كانوا في راحة من الخوف بالأمان ، وفي دعة من حوادث الزمان ، ولكلّ منهم وكلاء قوّامون بمصالح معيشتهم ، ونظام دنياهم ، بحيث لا يعرفون إلاّ العلم وممارسته ، ولم يبرز منهم من المصنّفات في الزمان الطويل إلاّ القليل ، ومن التحقيقات إلاّ اليسير.

وكان شيخنا المذكور ـ روّح الله روحه ـ مع ما عرفت يتعاطى جميع مهمّاته بقلبه وبدنه ، حتى لو لم يكن إلاّ مهمّات الواردين عليه ، ومصالح الضيوف المترددين إليه ، مضافا إلى القيام بأحوال الأهل والعيال ، ونظام المعيشة وإتقان

٢٥٩

أسبابها ، من غير وكيل ولا مساعد يقوم بها ، حتى أنه ما كان يعجبه تدبير أحد من أموره ، ولا يقع على خاطره ترتيب مرتّب لقصوره عمّا في ضميره ، ومع ذلك كلّه فقد كان غالب الزمان في الخوف الموجب لإتلاف النفس ، والتستر والاختفاء الذي لا يسع الإنسان أن يفكّر معه في مسألة من الضروريات البديهية ، ولا يحسن أن يعلّق شيئا يقف عليه من بعده ، وقد برز منه مع ذلك من التصنيفات ، والأبحاث والكتابات والتحقيقات والتعليقات ما هو ناش عن فكر صاف ، وغارف من بحار علم واف (١). إلى آخر ما ذكره.

ثم لمّا كان في سنة خمس وستين بعد التسعمائة وهو رحمه‌الله في سن أربع وخمسين ، ترافع إليه رجلان فحكم لأحدهما على الآخر ، فذهب المحكوم عليه وذهب إلى قاضي صيدا ـ اسمه معروف ، وكان الشيخ مشغولا بتأليف شرح

__________________

(١) بغية المريد المطبوع ضمن الدر المنثور ٢ : ١٥٥.

وقد جاء في هامش المخطوط ما يلي :

وممّا أنعم الله عليّ من نعمائه الجليّة الجليلة المجلّد الثاني من شرح اللمعة الدمشقية من كتاب الإجارة إلى آخر الكتاب بخطه الشريف قدس‌سره ولو كانت نسخته الاولى فغريب عجيب في الغاية لقلّة المضروب فيها والحواشي وكأنها نسخة مبيضّة من النسخة الاولى ولكنه خلاف الظاهر لكثرة مشاغله وعدم الفراغ إلى هذه الغاية ، فالظاهر أنّها النسخة الأولى التي صدرت من قلمه الشريف حين التصنيف وهو غريب مع هذا العظم والشأن وقلّة المضروب فيها والحواشي الملحقة.

وتاريخه الذي بخط يده المباركة هكذا : وفرغ من تسويده مؤلفه الفقير إلى عفو الله تعالى ورحمته زين الدين بن علي بن أحمد الشامي العاملي عامله الله تعالى بفضله ونعمه وعفى عن سيئاته وزلاّته بجوده وكرمه على ضيق المجال وتراكم الأهوال الموجبة لتشوش البال خاتمة ليلة السبت وهي الحادي والعشرون من شهر جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وتسعمائة من الهجرة النبويّة حامدا مصليّا مسلّما اللهم صلى على محمد وآل محمد واختم بالخير يا كريم. انتهى خط يده الشريفة المباركة في آخر المجلّد الثاني الذي أوّله كتاب الإجارة والحمد لله رب العالمين العالمين أوّلا وآخرا.

لمحرره يحيى بن محمد شفيع عفى عنهما.

٢٦٠