الرسائل الفقهيّة

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

الرسائل الفقهيّة

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٥

الفساد ، كما أنّ باستماع لفظ الفساد لا يفهم سوى معنى نفسه ، لا معنى التحريم أيضا.

ومن هذا ، لو وطئ رجل الحائض من زوجاته ، فلا شكّ (١) في تحريمه ، ومع ذلك صحيح شرعا ، لاستحقاقها بذلك تمام المهر لزوما ، ولزوم العدّة ، وصحّة نسب الولد الّذي حصل منه ، وترتّب جميع آثار [ ال ] نسب الصحيح ، وغير ذلك من الثمرات.

وقس على هذا غيره ممّا لم يفسد بالنهي.

فعلى هذا ، إدخال معنى الفساد في معنى مجرّد لفظ التحريم بعد عن قول الشارع بالبديهة ، وحكم بغير ما أنزل الله قطعا ، وفهم الفساد في آية ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) (٢) الآية وأمثالها إنّما هو من الإجماع بالبديهة ، لإجماع جميع المسلمين على الفساد ، بل كونه ضروري الدين ، ولذا نعلم الفساد بالبداهة ، بل النساء والجهّال والأطفال يعلمون الفساد بالبديهة.

ومن هذا ، محقّقونا يحكمون بالفساد بالبديهة مع قولهم بعدم اقتضاء النهي الفساد ، والشاذّ القائل ظانّ في قوله به بالبديهة.

فإن قلت : مع من تباحث وقد قلت : شيخنا الحرّ رحمه‌الله لم يقل بصحّة هذا العقد ، بل قال بالحرمة ، ومع ذلك نقل أنّه توقّف فيه (٣)؟

قلت : مع بعض مشايخنا المعاصرين سلّمه الله وعافاه ، فإنّه حكم بالفساد ،

__________________

(١) في الأصل : ( لو وطئ رجل الحائض من زوجته ولا شكّ. ) ، والظاهر أنّ الصواب ما أثبتناه.

(٢) النساء (٤) : ٢٣.

(٣) لاحظ! الحدائق الناضرة : ٢٣ / ٥٤٦ ـ ٥٤٧ ، وقد مرّت الإشارة إليه في الصفحة ١٩٧ من هذا الكتاب.

٢٢١

ويحكم بالتفريق لو اتّفق (١) ، وإن كان الزوج أيضا من أولاد فاطمة عليها‌السلام ، والتفريق بالنسبة إليه وزوجاته في غاية الشدّة ، ونهاية المحنة ، ويكون على الكلّ أعظم مصيبة ، كما اتّفق أنّي شاهدت ما ذكرت.

وأعجب من هذا أنّه يدّعي وفاق جماعة من المتأخّرين معه ، وكلمات بعضهم تنادي بخلاف أنّه وافق الفقهاء ، ومع ذلك أتعجّب أنّه ما قرع سمع واحد منهم أنّ النهي إذا تعلّق بخارج المعاملة لا يقتضي فسادها بلا شبهة ، وأنّه وفاقيّ.

فإن قلت : هؤلاء يدّعون عدم العبرة بما قاله المجتهدون ما لم يرو فيه حديث ، ولم يرو حديث أنّ هذا النهي لا يقتضي الفساد ، ويقولون : فهم الحديث لا يراعى فيه القواعد الأصوليّة ، لأنّها من بدع العامّة ، لأنّ الأئمّة عليهم‌السلام كانت مكالماتهم على وفق مكالمات أهل العرف العام مع الناس ، فالحجّة في الحديث فهم العوام ، لا العلماء الأعلام ، لأنّهم يجتهدون ، وعلى قواعده يمشون.

قلت : ما قالوه من أنّ الأئمّة عليهم‌السلام كانت مكالماتهم مكالمات العرف والعوام والكلام حقّ صدر منهم ، وقواعد الأعلام ما شيّدت إلّا لتحصيل هذا الفهم ، فأنا متعجّب من أنّ هؤلاء لم لا يراعون ما قالوا ، ويشنّعون على المجتهدين بأنّهم لا يراعون؟!

فلم لا يعرضون فهمهم هذا الحديث على طريقة مكالمات أهل العرف وفهمهم فيها ، فإنّهم إذا سمعوا واحدا يقول لشخص : لا تزوّج فلانة ، فإنّه يبلغ والديك وأجدادك الموجودين فيشقّ عليهم ويؤذيهم بحيث لا يكادون يصبرون ، فتصير عاقّا قاطعا من كلّ واحد واحد ، فهل يفهم أطفالهم وجهّالهم ـ فضلا عن غيرهم ـ من القول المذكور سوى التزويج الشرعي ، وأنّه إذا صارت فلانة

__________________

(١) لاحظ! الحدائق الناضرة : ٢٣ / ٥٤٤ ـ ٥٤٥.

٢٢٢

زوجته شرعا يترتّب عليه الشاقّية والأذيّة والعقوق المزبورة.

كما أنّهم إذا سمعوا واحدا قال لآخر : لا يحلّ لك أن لا تطلّق (١) ابنة عمّك ، فإنّه يبلغ آباءك الموجودين ونسائبك وعمّك فيشقّ عليهم بما لا يصبرون ، فتصير عاقّا قاطعا. إلى غير ذلك من الأمثلة ، مثل : لا تشتر [ الجارية ] الفلانيّة ، لأنّها مغنّية فتدخلك النار ويلزمك العار. إلى غير ذلك.

فعلى هذا الفهم السليم والدرك المستقيم ، يصير حديثهم الّذي استدلّوا به على بطلان العقد خصما لهم ، وحجّة عليهم ، وأنّه بخصوصه يكفي للحكم ، بالصحّة ، من دون حاجة إلى الأدلّة الواضحة الّتي لا تحصى ، كلّ واحد منها كالشمس في الضحى ، بل شموس طالعة ، وأنوار ساطعة ، لا حدّ لها من الكثرة.

سلّمنا ، لكن من أين يحكم بصحّة العقود والإيقاعات الّتي تعلّق بخارجها نهي ، كما ذكرنا سابقا ، بل العبادات أيضا؟!

سلّمنا ، لكن نقول : كما لم يرو حديث يدلّ على أنّ النهي إذا تعلّق بخارج المعاملة لا يقتضي الفساد ، لم يرو أيضا حديث يقتضي الفساد ، فمن أيّ سبب رجّحوا الثاني على الأوّل وأوقعوا أنفسهم في المهالك الّتي لا تحصى ، وخالفوا الأوامر الّتي لا تخفى؟!

فإن قلت : إنّهم لمّا نظروا إلى قوله [ تعالى ] ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ) (٢) ، وأنّه يدلّ على الفساد أيضا بالبديهة ورأوا أنّ هذا الحديث موافق له في العبادات ، حكموا بالفساد هنا أيضا.

قلت :

أوّلا : عرفت عدم دلالة الآية على الفساد ، لأنّه من ضروريّات الدين ،

__________________

(١) كذا في النسخ ، والظاهر أنّ المراد : ( أن تطلّق ).

(٢) النساء (٤) : ٢٣.

٢٢٣

من أنكره أو توقّف فيه يكون منكرا لضرورة الدين كافرا ، وإن كان من عوام المسلمين ، وأين هذا من دلالة الآية الّتي لا تكون حجّة عند الأخباريين؟!

وأمّا المجتهدون ، فعندهم أنّ دلالة الألفاظ كلّها ظنّية ، وأنّ القرآن ظنّي الدلالة ، ومع ذلك عرفت أنّ النهي لا يقتضي الفساد ، كما عليه المجتهدون والفقهاء إلّا نادر منهم.

وعرفت غاية وضوح دليل المعظم ، وأنّ الحقّ معهم بلا شبهة.

وثانيا : كون عبارة الحديث عين عبارة القرآن فيه ما فيه ، إذ لم يذكر في القرآن علّة لتحريم الجمع بين الأختين ، وذكر في الحديث أنّ علّة الحرمة الشاقيّة على فاطمة عليها‌السلام ، ليس نفس العقد ، ولا جزؤه بالبديهة ، بل أمر خارج عنه بلا ريبة.

فقياسه بالآية قياس مع الفارق ، بل مع الفوارق ، لما عرفت وستعرف.

وثالثا : عرفت أنّ حمل التزويج في الحديث على الفاسد منه ممّا لا يستقيم ، ولا يتلائم ظاهر أجزائه ، بخلاف الآية.

ورابعا : إنّ القياس ليس بحديث ، بل حرام عند الشيعة بالضرورة ، وكونه حراما ضروريّ مذهب أهل البيت.

فهذا أيضا حرام آخر يزيد على ما مرّ من المحرّمات والشنائع.

وخامسا : إنّ هذا القياس ممّا يتبرّأ عنه أهل السنّة ، فضلا عن الشيعة ، إذ ما يقولون : إنّ الأمر في حديث كذا نحمله على الاستحباب ، لقوله تعالى : ( فَكاتِبُوهُمْ ) (١) وغيره ممّا ورد في استحباب شي‌ء أو الإباحة ، لقوله تعالى : ( فَانْتَشِرُوا ) (٢) ، أو التهديد أو غير ذلك.

__________________

(١) النور (٤) : ٣٣.

(٢) الأحزاب (٣٣) : ٥٣.

٢٢٤

وكذلك الحال في سائر الألفاظ واللغات.

وسادسا : لما [ ذا ] لا يقيسون عبارة « لا يحلّ » في هذا الحديث بعبارة « لا يحلّ » في الأحاديث الأخر ، المسلّم عندهم أنّه محمول على الكراهة ، مثل ما رواه الصدوق عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه « لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله وباليوم الآخر أن تدع عانتها فوق عشرين يوما » (١). إلى غير ذلك ، مع أنّ ذلك غير واجب إجماعا؟!

هذا وغيره من الأخبار الظاهرة في الحرمة حملت على الكراهة ، وهذه الكثرة بمكان لا يحصى ، كما لا يخفى على من له أدنى اطّلاع ، كما أنّ لفظ الوجوب المحمول على الاستحباب أيضا كما مرّ ، بل الإشارة إلى ذلك ، مع أنّ التأكيد الّذي في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « تؤمن بالله واليوم الآخر » يشهد على التحريم ، ومع ذلك حمل على الكراهة.

فإن قلت : ذكر الشيخ المعظم هذا الإيراد في الجملة ، وأجاب عنه بأنّ الأصل حمل الألفاظ على حقائقها ما لم يصرف عنه صارف ، وإلّا لبطلت القواعد والأحكام. هكذا قال ، بعد أن استدلّ بالتبادر على كون « لا يحمل » حقيقة في الحرمة (٢) ، لأنّ التبادر علامة الحقيقة عند علماء الأصول.

قلت : كما أنّ المتبادر من لفظ « لا يحلّ » الحرمة ، يكون الحرمة منه أيضا هو عدم الرخصة خاصّة ، لأنّ المتبادر من الحلّ هو الرخصة وعدم المنع خاصّة ، لا يزيد على ذلك شي‌ء أصلا ورأسا ، كما عرفت مبيّنا.

وأيّ عاقل يمكنه التأمّل في كون معنى كلمة « لا » هو النفي خاصّة ، ومعنى « يحلّ » أنّه لا مانع منه ، وأنّ ما زاد على ما ذكر لا يتبادر ، وأنّ علماء الأصول

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٦٧ الحديث ٢٦٠ ، وهو منقول بالمعنى.

(٢) لاحظ! الدرر النجفيّة : ٢٠٠ ـ ٢٠١.

٢٢٥

أيضا صرّحوا بذلك؟!

فإن قلت : شاذّ منهم ادّعى الدلالة الالتزاميّة بالنسبة إلى معنى الفساد.

قلت : الشاذّ ما ادّعى ذلك إلّا في الموضع الّذي علم تعلّق النهي فيه بنفس المعاملة ، وأمّا في مثل المقام ، فقد صرّح هو أيضا بعدم الدلالة الالتزاميّة البتّة ، بل ظهر عليك صحّة ذلك ، وأنّ النهي عنه فرع الصحّة.

مع أنّك عرفت الحال في الدلالة الالتزاميّة ، [ الّتي ] ادّعى ، وأنّها لا أصل لها أصلا ، ووضح عليك غاية الوضوح ، والحقّ أحقّ أن يتّبع.

مع أنّا نقول : علماء الأصول فرقتان ، فرقة تدّعي الحقيقة الشرعيّة ، وأنّ المتبادر عندنا هو الحقيقة في كلام الشارع ، وفرقة تنكر ذلك (١) ، ويقولون : التبادر عندنا يقتضي كون ذلك حقيقة عندنا ، وكونه حقيقة باصطلاح المعصوم عليه‌السلام من أين؟!

بل أكثر المحقّقين منهم اختار هذا ، وهذا الشيخ المعظّم إليه غافل عن هذا على ما نقول (٢) لم لم يقل الشيخ ومشاركوه بحرمة ترك العانة عليها أزيد من عشرين؟ لأنّه روى الرواية المذكورة ومعلوم عامل بها ، معتقد لها.

وعلى فرض أن يكون موجّها لها بالحمل على الكراهة وثبت اتّفاق الكلّ عليها ـ كما ذكر ـ لا يلتفت إليه في مقابل الحديث ، ولا يرفع عمّا ظهر من الحديث بسببه ، بل الإجماع عنده لا عبرة به أصلا ، لأنّ المجمعين غير معصومين ، يجتمعون على الخطأ.

وبالجملة ، أيّ فرق عنده بين الحديث الّذي دلّ على حرمة الجمع بين

__________________

(١) لاحظ! معالم الأصول : ٣٤ ، الوافية في أصول الفقه : ٦.

(٢) في ب : ( على ما نقول به ).

٢٢٦

فاطميّتين والّذي دلّ على حرمة تركها عانتها أزيد من عشرين؟ مع أنّ المفاسد الّتي تترتّب على الاستدلال بالأوّل كثير منها غير مترتّب على الثاني ، كما لا يخفى ، فاستدلاله بالثاني على حرمة ترك العانة عليها أولى ثمَّ أولى.

والله الهادي إلى الرشاد والسداد.

تمّت الرسالة بعون الملك الوهّاب.

٢٢٧
٢٢٨

رسالة

في

حكم متعة الصغيرة

٢٢٩
٢٣٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وبه نستعين

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين. ربّ وفّقني وأيّدني وسدّدني وأرشدني واهدني للصواب.

ما تقول فيمن زوّج بنته الرضيعة لزيد متعة يوما أو ساعة ، بمهر درهم ـ مثلا ـ لأجل محرميّة أمّها عليه؟

اعلم! أنّ فقهاءنا اختلفوا في أنّ تزويج الولي إذا كان أبا أو جدّا ، هل يشترط أن يكون على وجه الغبطة والمصلحة أم لا؟

فعلى القول بالاشتراط ، لا تأمّل في عدم صحّة هذا العقد ، فلا تصير الام محرما البتّة.

واشترط بعضهم كونه بمهر المثل أو أزيد ، وبعضهم كون التزويج بالكف‌ء ، فحال هذين الشرطين حال السابق.

قال في « المفاتيح » : ( تثبت ولاية النكاح (١) للأب والجدّ [ وإن علا ] على

__________________

(١) كذا ، وفي المصدر : ( يثبت الولاية ).

٢٣١

الصغير بالنصوص (١) المستفيضة (٢) ، وعلى السفيه والمجنون ـ ذكورا كانوا أو إناثا ـ مع اتّصال الجنون والسفه بالصغر بلا خلاف ، سواء كان فيه مصلحة أم لا ، على المشهور ، ومال بعض المتأخّرين إلى اشتراطها ، ولا يخلو من قوّة ) (٣). انتهى.

وقال في « الكفاية » : ( إذا عقد عليها الولي من كف بمهر المثل ، فإن كان على وجه المصلحة فلا اعتراض [ لها في شي‌ء ] مطلقا ، وإن كان لا على وجه المصلحة فوجهان .. وإذا عقد عليها من كف‌ء بدون مهر المثل ، فقيل : يصحّ مطلقا ، وقيل : لا يصحّ ، وقيل : لها الاعتراض في المسمّى ـ إلى أن قال ـ : ولو زوّجها من غير كف‌ء بمهر المثل احتمل بطلان العقد ، وأن يكون لها الخيار في العقد ، وإن كان بدون مهر المثل ثبت احتمال الخيار في المسمّى والرجوع إلى مهر المثل أيضا ) (٤). انتهى.

وقال صاحب « المدارك » في شرحه على « المختصر النافع » : ( ولم يعتبر المصنّف في هذا الكتاب في صحّة عقد الصغيرة وقوعه بمهر المثل ، وقد اعتبره جماعة ، منهم العلّامة رحمه‌الله في جملة [ من ] كتبه (٥) ، والشهيد رحمه‌الله في « اللمعة » (٦) ـ إلى أن قال ـ : والمعتمد أنّه إن زوّجها بدون مهر المثل مع المصلحة .. فلا اعتراض [ لها أصلا ] ، وإلّا كان لها فسخ النكاح ـ ثمَّ قال ـ : ويحتمل (٧) قويّا

__________________

(١) كذا ، وفي المصدر : ( للنصوص ).

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢٠ / ٢٧٥ الباب ٦ من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد.

(٣) مفاتيح الشرائع : ٢ / ٢٦٥.

(٤) كفاية الأحكام : ١٥٦.

(٥) لاحظ! قواعد الأحكام : ٢ / ٧ ، إرشاد الأذهان : ٢ / ٩.

(٦) الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة : ٥ / ١٣٩.

(٧) كذا ، وفي المصدر : ( بل يحتمل ).

٢٣٢

بطلانه من رأس ، لأنّ العقد جرى (١) على خلاف المصلحة ، فلا يكون صحيحا ، لأنّ تصرّف الولي منوط بالمصلحة ) (٢). انتهى.

وفيه شهادة واضحة على أنّ كون تصرّف الولي منوطا بالمصلحة وبعنوان العموم من الواضحات.

والظاهر أنّ منشأ اعتبار الجماعة الوقوع بمهر المثل هو هذا ، ولا يتصوّر منشأ غيره ، كما لا يخفى.

وأمّا اشتراط الكف‌ء ، فلعلّ المنشإ أيضا ذلك ، إذ الظاهر أنّه ليس المراد اشتراط الكفاية الّتي هي شرط لصحّة العقد مطلقا.

وبالجملة ، على القول باشتراط الشروط ظهر حاله.

وأمّا على القول بعدمه ، فالحكم بصحّة هذا العقد مشكل أيضا ، لأنّ الصحّة حكم شرعي يتوقّف على دليل شرعي ، ولم يوجد كما ستعرف ، وما توهّم كونه دليلا ستعرف فساده.

وأيضا ، الصحّة عبارة عن ترتّب أثر شرعي ، والأصل عدمه.

وأيضا ، الأصل بقاء ما كان على ما كان حتّى يثبت خلافه.

وأيضا ، [ ما ] ورد من أنّها لو لم تف بما عقدت عليه يحبس عنها المهر بمقدار ما لم تف ، وأنّ مثل الحيض معفوّ عنه (٣) .. إلى غير ذلك.

ولا شكّ في أنّ هذه الرضيعة ليست بمستأجرة (٤).

__________________

(١) كذا ، وفي المصدر : ( لأنّه عقد جرى ).

(٢) نهاية المرام : ١ / ٨٩.

(٣) لاحظ! الكافي : ٥ / ٤٦١ الحديث ٤ ، من لا يحضره الفقيه : ٣ / ٢٩٤ الحديث ١٣٩٧ ، وسائل الشيعة : ٢١ / ٦١ الحديثين ٢٦٥٣٥ و ٢٦٥٣٦.

(٤) في ج : ( بمستأمرة ).

٢٣٣

وأيضا ، ظاهر قوله تعالى ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ ) (١). الآية اعتبار الاستمتاع منها ، ولا أقلّ بتمكينها من الاستمتاع منها ، لأنّ القاعدة المقرّرة في الشرع في أمثال هذه العقود بأنّ في الوفاء بإعطاء العوض يكفي التمكين (٢) ، والتسليم ، وأنّ ظاهرها (٣) فعليّة الاستمتاع ، لأنّ الشارع جعل حكم ذلك حكم الفعليّة (٤).

وأيضا ، خرج ما خرج بالدليل وبقي الباقي.

وأيضا ، إذا تعذّرت الحقيقة فالحمل على أقرب المجازات ، فالمستفاد من الإتيان أنّ المهر عوض الاستمتاع وأجرته ، ولم يتحقّق شي‌ء من الأمرين فيما نحن فيه.

وأيضا ، قد عرفت أنّ الصحّة في المعاملات عبارة عن ترتّب أثر شرعي ، ولم نجده فيما نحن فيه أصلا ، إذ لا توارث بين هذين الزوجين ، على المذهب الحقّ (٥).

ورؤية مثل هذه الرضيعة لم تكن حراما حتّى تصير حلالا بهذا العقد ، وبالقدر المذكور فيه مثل الساعة أو اليوم لا أزيد ولا أنقص ، وأن يكون استحلال الدرهم المذكور بإزاء هذا القليل من الرؤية.

وكذا الكلام في القبلة والملامسة وأمثالهما ، بل حال هذه الرضيعة في هذه الساعة أو اليوم حال قبلهما وحال بعدهما ، من دون تفاوت أصلا ، ولا خروج أثر من العدم إلى الوجود مطلقا.

__________________

(١) النساء (٤) : ٢٤.

(٢) في ألف ، ب : ( التمليك ).

(٣) في ج : ( والتسليم إن كان ظاهرها ).

(٤) في ألف : ( لأنّ الشارع حكمه وكذلك حكم الفعليّة ).

(٥) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢١ / ٦٦ الباب ٣٢ من أبواب المتعة.

٢٣٤

وأيضا ، الأب لا يقصد بهذا العقد حصول أثر أصلا بين المتعاقدين ، بل وربّما لا يبالي بأخذ الدرهم من الزوج وضبطه للصغيرة أو صرفه ، بل ولا يخطر هذا بباله أصلا ، مع أنّه لا يجوز رفع اليد عن مال الصغيرة بغير عوض إجماعا ، مع أنّ المهر ركن ولا يجوز المسامحة فيه بأن لا يخطر بالبال أخذه أصلا.

وأيضا ، الزوج [ أعطى ] هذا الدرهم بغير شي‌ء يجعل في العقد بإزائه ، فيكون مبنيّا على الغرر والضرر ، وعدم تحقّق الذكر فيه.

وأيضا ، ذكر المدّة ركن وشرط للصحّة ، وقد عرفت أنّ ذكرها لغو بحت لا يراد منها كونها ظرفا لأثر شرعي ، فضلا عن أن يكون في هذه المدّة خاصّة دون ما قبلها وما بعدها.

وأيضا ، معاني عبارات العقود لا بدّ أن تكون مقصودة ، وإلّا لكانت فاسدة مثل عقود الغافلين والهازلين ، ومعنى متّعتك بنتي : جعلتها متعتك ، ومعنى متعتك : ما يتمتّع به ، تتمتّع بها شرعا ، ولم يقصد الأب نوعا من أنواع التمتّع أصلا ، وإن فرض جواز الاستمتاع بها وحلّيته بحسب العقد ، وخصوصا في خصوص المدّة وكونه بإزاء الدرهم.

بل كلّ ما كانت البنت أكبر ، وتحقّق الاستمتاع الشرعي أكثر ، كان استنكاف الأب وإباؤه عن الاستمتاع أشدّ وأزيد.

بل لو كانت بالغة لا يرضى الأب ـ من جهة هذا العقد ـ أن ينظر الزوج إليها تحت الإزار والثياب أيضا ، فضلا عن أن يكون في خصوص المدّة وبإزاء الدرهم ، وكذا الكلام في قصد الزوج.

فإن قلت : الأب قصد من هذا العقد حلّية نظر أمّ البنت على الزوج ، وهذا أثر

٢٣٥

من آثار العقد ، ويكفي لصحّته ، إذ لا يجب قصد الجميع. وأمّا كونه بإزاء الدرهم ، فالمفروض صحّة عقد من قصد كونه بإزاء الدرهم واعتنى بشأن الدرهم : إمّا بالأخذ من الزوج ، أو بأن يهب الزوج ويعطيه من نفسه.

قلت : إن أردت أنّ الأب أراد من قوله : متّعتك بنتي ، متّعتك أمّ بنتي على سبيل المجاز ، وتكون الامّ متمتّعا بها والمهر مهر الأب وحلّية نظر الأمّ في خصوص المدّة وبإزاء الدرهم ، وتكون الامّ غير ذات البعل ، فهذا عقد صحيح على القول بصحّة العقد باللفظ المجازي وأن يذكر في متن العقد خصوص هذا النوع من التمتّع ، ويكون العقد وكالة عنها ، لكنّه غير مفروض المسألة بغير خفاء.

وإن أردت أنّ الأب يريد أنّ بنته تكون متعة الزوج إلّا أنّ الزوج لا يستمتع بها أصلا ، بل يستمتع من أمّها بخصوص النظر إليها لا غيره من أنواع الاستمتاع ، ففيه ما فيه من الفضاعة والشناعة.

ووجوه الاعتراض :

الأوّل : أنّ الأب لم يقصد من العقد معناه ـ كما عرفت ـ فيكون عقده كعقد الغافل والهازل.

الثاني : كون ذكر المدّة لغوا ، لأنّ رؤية الأمّ على الدوام لا في المدّة.

الثالث : كون المهر لا بإزاء الاستمتاع ، وقد عرفت أنّه بإزائه من الزوجة.

والقول بأنّه بإزائه من الأمّ إلّا أنّ الحقّ حقّ البنت ، فيه ما فيه.

الرابع : أنّ حلّية نظر أمّ الزوجة أمر قهري بحسب الشرع لا مدخليّة لقصد الأب فيها أصلا ، إذ ليست بحيث أنّ قصد الأب يتحقّق شرعا وإلّا فلا ، بل موقوفة على صحّة عقد البنت ، فإن ثبت ثبت الحلّية وإن لم يقصدها الأب ، بل وإن قصد عدمها أيضا ، فإنّ الحلّية ثابتة قهرا. وإن لم يثبت صحّة العقد لم تثبت الحلّية ، سواء

٢٣٦

قصدها الأب أم لا ، أو قصد عدمها.

فالعبرة بصحّة العقد على البنت ، لا قصد الأب إيّاها.

والكلام في صحّة العقد وحلّية النظر إلى الأمّ معا ، وأنّه لا يحلّ النظر إلى الأمّ [ إلّا ] بثبوت صحّة العقد ، دور واضح.

الخامس : صحّة العقد عبارة عن تحقّق الأثر بين طرفي العقد ، وهما هنا المتمتّع والمتمتّع بها ، لا أنّها عبارة عن تحقّق الأثر بين أحد طرفي العقد خاصّة وأمر خارج عن العقد أجنبي بالنظر إليه ولا يكون بينهما أثر.

وممّا ذكر ظهر فساد الاستدلال على صحّة هذا العقد بعموم قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) ، وقوله تعالى ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ) (٢) ، فإنّ الكلام الّذي ليس معناه مقصودا ليس بعقد ولا عهد ، سيّما إذا لم يكن تحقّق أثر حادث من جهتها.

مضافا إلى أنّ الأمر بالوفاء تكليف ، والتكليف لا يكون إلّا في الأفعال الاختياريّة ، والصحّة الّتي ثبتت من الآيتين لا تثبت إلّا من هذين الأمرين.

فهذه الصحّة لا تثبت إلّا في الفعل الاختياري للعاقد الّذي أوقع عقده عليه ، وليس فيما نحن فيه فعل اختياري للأب أوقع عقده عليه وأمكنه الوفاء وعدم الوفاء ، إلّا أنّه أمر شرعي بالوفاء ، فتثبت الصحّة من جهة هذا الأمر ، وتتبعه وتتفرّع عليه.

وممّا ذكر ظهر فساد الاستدلال بما ورد في غير واحد من الأخبار من أنّ الأب إذا زوّج ابنته الصغيرة أو ولده الصغير وكذا وكذا. وأمثال ذلك ممّا يدلّ على

__________________

(١) المائدة (٥) : ١.

(٢) الإسراء (١٧) : ٣٤.

٢٣٧

صحّة عقد الأب مطلقا (١) ، فإنّه يشمل ما نحن فيه ، وذلك لأنّ التزويج عقد وعهد بلا شبهة ، وقد عرفت الحال فيهما.

مضافا إلى أنّ في جلّ تلك الأخبار قرينة واضحة على إرادة خصوص الدوام ، والشاذّ الّذي ليس فيه قرينة معلوم أنّ الإطلاق ينصرف إلى الدوام.

ألا ترى أنّك إذا سمعت أحدا قال : إنّ فلانا زوّج بنته الصغيرة وأطلق ، لم يتبادر إلى ذهنك سوى الدوام؟! بل الظاهر أنّ لفظ التزويج المطلق الغير المقيّد بمدّة لا ينصرف إلّا إلى الدوام ، ولذا لو أوقع العقد كذلك لم ينصرف إلّا إلى ذلك ، كما هو المشهور وورد في الخبرين المفتي بهما (٢).

فقد ظهر بما ذكرناه أنّ الحكم بصحّة هذا العقد مشكل ، بل الحكم بالفساد أولى ، إلّا أنّ الأحوط أن لا يتزوّج الزوج أمّ البنت أبدا ، بل لا يترك هذا الاحتياط ، لأنّ أمر الفرج شديد ، ومنه يكون الولد ، فاحتط.

تمّت الرسالة.

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢٠ / ٢٧٥ الباب ٦ من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢٠ / ٢٥٨ الباب ١٥٧ من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه.

٢٣٨

رسالة

في القرض بشرط المعاملة المحاباتيّة

٢٣٩
٢٤٠