الرسائل الفقهيّة

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

الرسائل الفقهيّة

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٥

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

اللهم امددني وأيّدني وسدّدني ووفّقني لما تحبّ وترضى بمحمّد وآله المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.

أمّا بعد :

اعلم! أنّ جمعا من علماء هذا الزمان ـ أيّدهم الله تعالى ـ اعتقدوا حلّية القرض بشرط المعاملة المحاباتيّة ، ومرادي منها هنا أن يبيع المقرض من المقترض بأزيد من ثمن المثل أو يشري منه بأنقص منه ، أو يؤجر بأزيد من اجرة المثل ، أو يستأجر منه بأنقص منها ، أو يصالح كذلك ، أو يعاوض كذلك ، أو يملك منه عينا أو منفعة بعقد هبة أو غيره.

وادّعى بعضهم عدم الخلاف بين الشيعة في هذه الحلّية ، وأنّ الخلاف فيها من العامّة (١) ، وبهذا السبب شاعت هذه المعاملة وذاعت ، بحيث لا يرون فيها

__________________

(١) لاحظ! مفتاح الكرامة : ٥ / ٣٩.

٢٤١

منعا ولا كراهة ، ولا ريبة ولا شبهة ، ولا يحتاطون أصلا ومطلقا ، وإن كان ديدنهم التجنّب عن الشبهة ، مثل أنّهم لا يشربون التتن في الصوم ، وإن كان الصوم مستحبّا ، وترك الشرب مضرّا في الجملة ، مع كون تركهم إيّاه في غاية المشقّة ، ويورث اختلال دماغ وتشويش ذهن بالنسبة إلى الصلاة وغيرها من العبادات ، هذه وغيرها من الشبهات الّتي هي أدون منها شبهة ، وربّما كان الأمر فيها في غاية السهولة ، ولا يحتاطون في القرض المذكور ونفعه.

مع أنّ درهما من الربا أشدّ عند الله من سبعين زنية كلّها بذات محرم ـ مثل الامّ والأخت والخالة والعمّة ـ في جوف الكعبة (١). إلى غير ذلك من التهديدات البالغة والتخويفات الهائلة ، حتّى أنه تعالى في القرآن ما اكتفى بتحذير ، أو تحذيرين ، أو ثلاثة ، أو أربعة ، أو خمسة ، أو ستّة ، بل الّذي عثرت عليه سبع آيات.

ومن تحذيراته فيها ، ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ) (٢) ، ومنها ( وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) (٣) ، ومنها ( وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ أَثِيمٍ ) (٤).

وأمّا الّتي في السنة ، فهي أكثر من أن تحصى ، مثل ما ورد « من أكل الربا ملأ الله بطنه [ من ] نار جهنّم بقدر ما أكل ، وإن حصل منه بغير أكل ما قبل الله منه عملا ، ويكون دائما في لعنة الله والملائكة ما دام معه قيراط منه » (٥) ، وما ورد

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ١٨ / ١٢١ الحديثين ٢٣٢٨١ و ٢٣٢٨٨.

(٢) البقرة (٢) : ٢٧٩.

(٣) البقرة (٢) : ٢٧٥.

(٤) البقرة (٢) : ٢٧٥.

(٥) وسائل الشيعة : ١٨ / ١٢٢ الحديث ٢٣٢٨٤ ، مع اختلاف يسير.

٢٤٢

من أنّه « إذا أراد الله هلاك بلد أظهر فيه الربا » (١) ، وغير ذلك (٢) ، حتّى ورد أنّ الكاتب والشاهد والمعطي والمعطى شركاء في الملعونيّة ، وأنّ الله تعالى لعنهم (٣) ، وورد أنّ « للربا في هذه الأمّة [ دبيب ] (٤) أخفى من دبيب النمل » (٥) ، وورد أنّ الله تعالى قد عظّم أمر الربا وأكثر وبالغ لأجل حصول المعروف بين الناس ، وقرض الحسنة ، وبفتح هذا الباب انسدّ باب المعروف بالكلّية ، واندرس بالمرّة ، حتّى لا يوجد رسمه ولا يسمع اسمه (٦). إلى غير ذلك ، وستعرف بعضا آخر.

هذا ، مع أنّ فقهاءنا ـ رحمهم‌الله ـ بأجمعهم صرّحوا بأنّ القرض بشرط النفع حرام ، مطلقين للفظ النفع ، غير مقيّدين بما إذا لم تكن المعاملة محاباتيّة (٧) ، مثل البيع بغير ثمن المثل ، أو الإجارة كذلك ، أو غير ذلك ، مثل الهبة والعارية وغيرهما ، بل وخصّصوا الحلّية بصورة التبرّع ليس إلّا ، واتّفقت عباراتهم على هذا ، ولم تختلف مقالاتهم فيه أصلاورأسا (٨).

بل جمع منهم صرّحوا بعدم التقييد والتخصيص (٩) ، أو ظهر منهم ظهورا واضحا أنّ القرض بشرط تلك المعاملة حرام ، مثل : الشيخ في

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٨ / ١٢٣ الحديث ٢٣٢٨٦ ، وفيه : ( إذا أراد الله بقوم هلاكا ظهر فيهم الربا ).

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ١٨ / ١١٧ الباب ١ من أبواب الربا.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ١٨ / ١٢٦ الباب ٤ من أبواب الربا.

(٤) أثبتناه من تهذيب الأحكام : ٧ / ٦ الحديث ١٦.

(٥) وسائل الشيعة : ١٧ / ٣٨١ الحديث ٢٢٧٩٤.

(٦) لاحظ! وسائل الشيعة : ١٨ / ١١٨ الحديثين ٢٣٢٧٢ و ٢٣٢٨٠.

(٧) لاحظ! مفتاح الكرامة : ٥ / ٣٩ ، مجمع الفائدة والبرهان : ٩ / ٦٠.

(٨) لاحظ! مفتاح الكرامة : ٥ / ٣٦ ، مجمع الفائدة والبرهان : ٩ / ٦٧.

(٩) لاحظ! مفتاح الكرامة : ٥ / ٣٨.

٢٤٣

« الاستبصار » (١) وغيره أيضا ، والمحقّق في رسالته (٢) ، ويظهر ذلك منه من كلام العلّامة رحمه‌الله في « المختلف » (٣) أيضا.

ويظهر من غيرهم أيضا ، مثل الفقهاء والمحدّثين الّذين حملوا صحيحة يعقوب بن شعيب (٤) على الشرط ، وستعرف.

ويظهر أيضا من العلّامة في بعض كتبه ، مثل « التحرير » (٥) ، و « القواعد » (٦) ، و « المختلف » (٧) ، والشهيد في « الدروس » (٨) ، والفاضل المحقّق أبو طالب الحسيني في رسالته الفارسيّة في حرمة الربا صرّح فيها مكرّرا.

ويظهر من المحقّق الشيخ علي أيضا في شرحه على « القواعد » ، حيث يظهر منه موافقته للمصنّف (٩).

ويظهر من مولانا المقدّس الأردبيلي في « شرح الإرشاد » (١٠) ، والشيخ مفلح أيضا (١١).

ويظهر من الشروح المذكورة ، ومن الرسالة عدم كون ذلك خلافيّا ، إذ لو كان

__________________

(١) الاستبصار : ٣ / ٩ ذيل الحديث ٣.

(٢) لم نعثر عليها.

(٣) مختلف الشيعة : ٥ / ٣٩١.

(٤) تهذيب الأحكام : ٦ / ٢٠٤ الحديث ٤٦٢ ، وسائل الشيعة : ١٨ / ٣٥٦ الحديث ٢٣٨٣٨ ، وستأتي في الصفحتين ٢٦١ و ٢٦٢ من هذا الكتاب.

(٥) تحرير الأحكام : ١ / ١٩٩.

(٦) قواعد الأحكام : ١ / ١٥٦.

(٧) مختلف الشيعة : ٥ / ٣٩١.

(٨) الدروس الشرعيّة : ٣ / ٣١٨.

(٩) جامع المقاصد : ٥ / ٢١.

(١٠) مجمع الفائدة والبرهان : ٩ / ١١٠.

(١١) لم نعثر عليه.

٢٤٤

خلافيّا لتعرّضوا له كما تعرّضوا لسائر الخلافات النادرة في ذلك المقام.

وبالجملة ، المطّلع على طريقتهم ، والمتأمّل في كلامهم يظهر له ما ذكرنا.

وممّا يدلّ عليه ، ما سنذكر من حمل الفقهاء صحيحة يعقوب بن شعيب على صورة الشرط.

وممّا يؤيّد أيضا ، أنّهم ذكروا الحيلة لجعل المدّة في القرض لازمة بأن تجعل شرطا في عقد لازم (١) ، ولم يتعرّض واحد منهم لذلك بالنسبة إلى النفع أصلا.

وممّا يؤيّد (٢) أيضا ، أنّ غير المصرّحين والمظهرين لم يذكروا لهم اصطلاحا في لفظ النفع في المقام ، ولم يشر إلى ذلك غيرهم أيضا ، بل لا شكّ في أنّهم ما غيّروا لغتهم فيه ولا أحدثوا اصطلاحا أصلا في ذلك ، مع أنّهم يسمّون المعاملة محاباة ، والمحاباة بعينها منفعة ، مع أنّهم في كتاب الربا يذكرون الحيلة ، وفي كتاب القرض اتّفقوا على الحكم بالتحريم مطلقا ، واستثنوا صورة التبرّع خاصّة ، من دون تعرّض إلى حيلة اخرى ، وذلك لأنّهم في حيلة الربا يشترطون أن لا تقع مشارطة فيها ، ولا يبقى سوى التبرّع.

وممّا يشهد ، أنّ المظهرين والمصرّحين في كتبهم المختصرة وافقوا غيرهم في الإطلاق المذكور ، فعلم أنّ مرادهم ما يطلق عليه لفظ النفع لغة وعرفا مطلقا ، لأنّ الأصل حمل اللفظ على حقيقته وحمل المطلق على إطلاقه ، سيّما كلام الفقيه في مقام فتواه ، إذ معلوم ـ حينئذ ـ أنّ مراده ما هو نفع عند الناس ، حيث ما ينبّه على خلاف ذلك ، خصوصا مع اتّفاق كلّهم في مقام الفتوى على الإطلاق إلّا قليلا منهم ، وذلك القليل أيضا صرّح بالعموم والشمول لتلك

__________________

(١) لاحظ! جامع المقاصد : ٥ / ٢٥ ، مجمع الفائدة والبرهان : ٩ / ٨٢ ، مفتاح الكرامة : ٥ / ٥٤.

(٢) في ألف ، ب : ( وممّا يدلّ ).

٢٤٥

المعاملة ، والشرّاح صدر منهم ما صدر. إلى غير ذلك ممّا مرّ وسيجي‌ء (١).

ومعلوم ـ بعنوان اليقين ـ أنّ المعاملة المحاباتيّة نفع عند الناس ، فاستعلم الحال منهم ، ولا شكّ في أنّ ما يجعل الفلس ألف تومان أو آلاف تومان ـ مثلا ـ يكون نفعا ، فلو كان قرض مائة ألف تومان ـ مثلا ـ بشرط فلس يكون حراما ، لكون الفلس نفعا ، بل ونصف الفلس أو عشرة ، فكيف لو أقرض مائة ألف تومان بشرط أن يهب عشرين ألف تومان أو يشتري فلسا منه بعشرين ألف تومان أو أزيد لا يكون قرضا بشرط نفع بحسب العرف واللغة ، ويكون (٢) داخلا في القرض الخالي عن النفع مطلقا عند أهل العرف واللغة ، وأيّ عاقل يمكنه أن يقول هذا ويدّعيه ويجوّزه؟!

ومجرّد تسمية النفع بالهبة أو المحاباة لا يخرجه عن كونه نفعا ، ولا يمنع عن تسميته بالنفع ، إذ لا منافاة بين الإطلاقين والتسميتين ، بل النفع الحرام القطعي ربّما يكون له أسام أخر ، وأقلّه أنّه مأخوذ من مسلم بطيب نفسه ، أو إعطاء منه بطيب نفسه ، وورد : أنّ مال المسلم بطيب النفس منه حلال (٣) ، ولم يشترط في النفع الحرام أن لا يكون له اسم آخر وعبارة أخرى.

على أنّ القرض لم يقع بشرط نفس المعاملة ـ أي من حيث هي هي مع قطع النظر عن نفعها ـ بل بشرط نفعها ، فالشرط يرجع إلى القيد أو المقيّد مع القيد لا المقيّد فقط ، وهم قالوا : لو شرط النفع حرم ، أعمّ من أن يكون النفع منضما مع

__________________

(١) سيأتي في الصفحة ٢٦٠ من هذا الكتاب.

(٢) في ألف : ( بل يكون ).

(٣) لاحظ! عوالي اللئالي : ١ / ٢٢٢ الحديث ٩٨ و ٢ / ١١٣ ، وسائل الشيعة : ١٨ / ٢٩٩ الباب ٩ من أبواب السلف و ٢٥ / ٣٨٦ الحديث ٣٢١٩٠ ، وهو نقل للحديث بالمعنى ، حيث ورد في المصدر : ( لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه ).

٢٤٦

شي‌ء أم لا ، وكذا (١) انضمام النفع الحرام القطعيّ بشي‌ء لا يجعله حلالا ، ولو كان الشرط راجعا إلى خصوص المقيّد من دون اعتبار القيد في الشرط أصلا يكون حلالا عند العلّامة (٢) ، وعندي ، لما حقّقته في حاشيتي على شرح مولانا الأردبيلي رحمه‌الله (٣).

نعم ، هو حرام ـ أيضا ـ عند من يقول بحرمة شرط مطلق المنفعة ، كما ستعرف.

وممّا يدلّ أيضا ، اتّفاقهم على أنّ الشرط في المعاملة جزء العوض (٤) ، فثمن دار ـ مثلا ـ لو كان عشرين تومانا بشرط هبة بستان معيّن أو مصالحة بدرهم ، أو شرائه به ، لم يكن الثمن مجرّد عشرين ، بل هو مع الشرط جميعا ثمن ، وهكذا الحال في النكاح والصلح وغيرهما ، حتّى أنّهم في الحيل الشرعيّة للتخلّص عن الربا صرّحوا بأن لا يجعل هبة الزائد وغيرها شرطا ، وعلّلوا بأنّ الشرط جزء العوض ، فيلزم المحذور (٥).

فإن كان مرادهم من الربا ما يشمل القرض بشرط المنفعة ، فهو صريح فيما ذكرنا ، وإلّا فهو أيضا كالصريح (٦) ، لاتّفاقهم جميعا في مبحث الربا على ذكر التخلّص المذكور ، واتّفاقهم جميعا في عدم الذكر في القرض ، بل ذكر المنع مطلقا ، وتخصيص الحلّية بصورة التبرّع فقط. إلى غير ذلك ممّا ذكر.

__________________

(١) في ألف ، ب : ( ولذا ).

(٢) قواعد الأحكام : ١ / ١٥٦.

(٣) حاشية مجمع الفائدة والبرهان : ٢٩١.

(٤) لاحظ! مختلف الشيعة : ٥ / ٢٩٨ ، التنقيح الرائع : ٢ / ٧٣.

(٥) لاحظ! الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة : ٣ / ٤٤٤.

(٦) في ألف : ( كالتصريح ).

٢٤٧

هذا ، مع أنّ الحلال واحد ، إذ لا وجه للزوم المحذور لو جعل شرطا هناك وعدم اللزوم هنا.

فإن قلت : ليس ها هنا قرض.

قلت : كيف لا يكون قرض؟ فإنّ الّذي يعطيه القرض يريد عوضه ، بل المشهور يقولون : لا يمكنه أخذ عين ماله وإن كانت موجودة (١) ، وغير المشهور ، وإن كان يجوّز ذلك (٢) ، إلّا أنّه يجعل طلب العين فسخ المعاملة ، من جهة أنّ المعاملة ليست بلازمة ، وذكروا صيغة القرض أنّه : أقرضك كذا ، أو : خذه وعليك ردّ عوضه ، أو : خذه بمثله ، فتدبّر.

على أنّك عرفت أنّ جمعا كثيرا من الفقهاء قالوا بأنّ القرض بشرط تلك المعاملة حرام (٣) ، فالباقون من الفقهاء إن كانوا مخالفين لهم في ذلك ، فكيف يمكنهم الحكم بحرمة شرط مطلق النفع من دون تقييد بعدم تلك المعاملة ولا تعرّض أصلا ، سيّما وأن يتّفقوا على ذلك ، وخصوصا بعد ملاحظة ما ذكرناه؟!

مع أنّهم ربّما يحكمون بحرمة اشتراط الرهن على دين آخر ، أو الكفيل أو الضامن أو الاستقراض أو البيع بثمن المثل ، وأمثال ذلك (٤) ، وهذا ينادي ببقاء الإطلاق في كلامهم على حاله ، وأنّه يشمل العقود ، لأنّ كلّ واحد من الكفالة والضمان وأمثالهما عقد ، فضلا عن البيع ، وينادي أيضا بأنّهم يحرّمون شرط تلك المعاملة أيضا ، بل بطريق أولى بمراتب.

مع أنّ الهبة وغيرها من العقود الجائزة لا تنحصر صيغتها في لفظ : وهبت

__________________

(١) لاحظ! كفاية الأحكام : ١٠٣.

(٢) لاحظ! كفاية الأحكام : ١٠٣.

(٣) راجع الصفحتين : ٢٤٣ و ٢٤٤ من هذا الكتاب.

(٤) لاحظ! الدروس الشرعيّة : ٣ / ٣١٩.

٢٤٨

ـ مثلا ـ ، بل مثل : أعطيت ، وما أفاد مفاده أيضا هبة ، فلا يبقى ربا حرام (١) عند هؤلاء الأعلام ، بمقتضى ما يلزمهم من كلامهم.

وممّا يؤيّد الإطلاق ، أنّ المحقّق رحمه‌الله وبعض من وافقه لا يرضون بالمعاملة المحاباتيّة بشرط القرض ، كما سنذكر (٢) ، ومع ذلك في مبحث القرض يقولون : لو شرط النفع حرم ، فتأمّل جدّا.

فإن قلت : إنّ بعضهم ذكر من جملة الحيل في الربا ضمّ الضميمة (٣) ، فلم لا يجوز ذلك في القرض؟

قلت : ضمّها هناك لأجل الخروج عن المثليّة ، وفي المقام يحرم المثل وغير المثل لو كان زيادة ، مع أنّ الضميمة هناك تجعل جزء العوض الواحد في المعاملة الواحدة ، فالثمن ـ مثلا ـ عشر توأمين فضّة وفلس ، والمبيع عشرين تومانا فضّة ، فلو جعل الثمن عشر توأمين بشرط أن يعطي عشر توأمين أخر بإزاء فلس ، يكون حراما عندهم ، لأنّ المبيع ليس مجرّد عشر توأمين مطلقا ، بل مشروطا بمعاملة أخرى ، فيكون المجموع عوضا.

نعم ، لو جعل ذلك معاملتين في صيغة واحدة يجوز ذلك عندهم ، لو لم تكن إحداهما شرطا للأخرى ، ولا يتحقّق سفاهة أيضا ، إذ مع السفاهة تكون المعاملة باطلة ، وهذا يتحقّق في القرض أيضا ، ولو جعل كلّ واحد من العشر توأمين والفلس عوضا مستقلّا بإزاء عوض واحد وهو عشرون تومانا ، يكون هذا أيضا حراما عندهم ، لأنّ بناء هذا التقسيط بالنسبة إلى القيمة السوقيّة ، فتأمّل جدّا.

__________________

(١) في ج : ( فلا يبقى بها حرام ).

(٢) سيأتي في الصفحتين : ٢٨٦ و ٢٨٧ من هذا الكتاب.

(٣) لاحظ! الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة : ٣ / ٤٤١.

٢٤٩

ثمَّ اعلم أنّ الحيلة الشرعيّة إنّما هو متحقّق بالنسبة إلى موضوعات الأحكام لا نفس الأحكام ، لأنّها على حسب ما حكم به الشارع ، فأيّ حيلة لنا فيها؟فالنفع المحرّم في القرض بحسب الشرع لو كان أعمّ من المعاملة المحاباتيّة فأيّ حيلة لنا فيه؟ والنفع لو كان مختصّا بغيره فكيف يكون المعاملة حيلة؟ بل هي أمر على حدة.

هذا ، وقد عرفت ممّا ذكرنا أنّ الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ يحرّمون القرض المذكور ، ويؤكّد ذلك ـ أيضا ـ أنّ ديدنهم التعرّض للاحتمالات وإن كانت بعيدة ، والفروض وإن كانت نادرة ، بل ربّما كان مجرّد فرض الفقيه ، فكيف اتّفقوا غاية الاتّفاق في عدم التعرّض للقيد أصلا ، بل وإظهار خلاف ذلك ، سيّما بالنحو الّذي أشرنا.

وممّا يؤيّد ، أنّه وقع منهم اختلاف في بعض المواقع (١) ، وتصريح في الخلاف ، ولم يظهر بالنسبة إلى ما نحن فيه أصلا ، بل أظهروا خلاف ذلك ، فتدبّر.

فإن قلت : عبارة « الدروس » ظاهرة في عدم التحريم ، حيث نسب المنع إلى العلّامة.

قلت : ليس كذلك ، لأنّه بعد ما ذكر أنّ صيغة القرض : ( خذه بمثله ، أو عليك ردّ عوضه ) (٢) ، قال : لا يجوز اشتراط الزيادة في العين أو الصفة ، ربويّا كان أو غيره (٣) ، للنهي عن قرض جرّ منفعة ـ إلى قوله ـ : ولو شرط [ فيه ] رهنا على دين آخر أو كفيلا [ كذلك ] فللفاضل قولان ، أجودهما المنع ، وجوّز أن يشترط

__________________

(١) في ج : ( في بعض المنافع ).

(٢) كذا ، وفي المصدر : ( وعليك ردّ عوضه ، أو خذه بمثله ).

(٣) كذا ، وفي المصدر : ( سواء كان ربويّا أم لا ).

٢٥٠

عليه إجارة أو بيعا أو إقراضا ، إلّا أن يشترط إجارة أو بيعا بدون (١) عوض المثل (٢). انتهى.

فإنّه نسب (٣) تجويز شرط البيع بثمن المثل ، وكذا الإجارة والإقراض إلى العلّامة ، فلو كان نسبة التجويز إليه دليلا على عدم ارتضائه ، فكيف لا يرضى به ويرضى باشتراط البيع والإجارة بدون عوض المثل؟ سيما مع حكمه بالمنع من اشتراط الرهن والكفيل على دين آخر تفريعا على عدم جواز اشتراط الزيادة المعلّل بالنهي عن قرض جرّ منفعة ، وخصوصا بعد أن ذكر الصيغة بما ذكر.

فربّما يظهر منه موافقته للمشهور ، من تحريم مطلق النفع وأنّ البيع بالمثل والإجارة كذلك والإقراض منفعة داخل في زيادة الصفة ، لكن العلّامة لا يجعل مثل ذلك داخلا فيه ، ويخصّص المنفعة المحرّمة بإحدى الزيادتين ، لكن الكلّ متّفقون على جواز اشتراط الرهن أو الضامن أو الكفيل على ذلك القرض ، وفي الحقيقة ليس شرطا زائدا ، بل هو استئناف رأس المال ، وحفظ العوض والمثل من التلف.

فإن قلت : الفقهاء وإن اتّفقوا على الحرمة ، لكن ليس اتّفاقهم حجّة ما لم يكشف عن دخول المعصوم عليه‌السلام ، أو عن قوله عليه‌السلام.

قلت : لهم أخبار كثيرة تدلّ على مطلوبهم.

منها :

الصحيح : « من أقرض [ رجلا ] ورقا فلا يشترط إلّا مثلها ، فإن جوزي بأجود منها فليقبل ، ولا يأخذ أحد منكم ركوب دابّة أو عارية متاع يشترطه من

__________________

(١) كذا ، وفي المصدر : ( بيعا أو إجارة ).

(٢) الدروس الشرعيّة : ٣ / ٣١٩.

(٣) في ألف : ( وفيه أنّه نسب ).

٢٥١

أجل قرض ورقه » (١) ، فإنّه عليه‌السلام نهى عن كلّ شرط سوى شرط عوضه ، وأخذ مثله ، وحصر الشرط الجائز فيه فقط ، وأكّد ذلك بقوله : « فإن جوزي. إلى آخره » ، ثمَّ أكّد بقوله : « ولا يأخذ. إلى آخره » ، وغير خفي أنّ العارية من العقود والمعاملات ، فلا ينفع تسميته عارية ، كما ذكرنا.

ويؤكّد الدلالة ، ما ذكرنا من أنّ الشروط جزء العوضين ، بالتقريب الّذي مرّ.

على أنّه كيف يجوّز عاقل أنّه إذا أقرض ألف تومان بشرط أن يعطي فوق الألف عشر معشار فلس يكون شرطا زائدا على ما أقرض فيكون حراما وربا البتّة ، لكن إذا بدّل لفظ يعطي بلفظ يهب وأمثاله لا يكون شرطا زائدا أصلا ، وإن قال : أقرضت ألف تومان بشرط أن تهب خمسين ألف تومان زائدا على ألف تومان القرض الّذي أقرضت ، لا يكون ها هنا شرطا زائدا أصلا ورأسا ، ويكون القرض بشرط ردّ نفس ما أقرض خاليا عن شرط زائد بالمرّة؟!

وكذلك إن قال : أقرضت الألف بشرط أن تردّه عليّ وتهب لي بعد ذلك خمسين ألف تومان بإزاء فلس منّي يكون لك ، أو يقول : تشتري فلسا منّي بألف ألف تومان ، ويشترط (٢) ذلك في عقد القرض ، هذا وأمثاله ـ بل وأضعافه بمراتب ـ يكون جميع ذلك قرضا خاليا عن شرط زائد على شرط ردّ نفس مال القرض! فإنّ المجنون لا يرضى بذلك ، فضلا عن العاقل.

هذا ، مع ما عرفت من عدم الفرق بين لفظ يعطي ولفظ يهب ، لا عند الفقهاء ولا بحسب الواقع ، فيكون الربا عند هؤلاء مجرّد اللفظ ، والحرام محض حروف

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٦ / ٢٠٣ الحديث ٤٥٧ ، وسائل الشيعة : ١٨ / ٣٥٧ الحديث ٢٣٨٤٠.

(٢) في ج : ( يشتري ).

٢٥٢

كلمة : تعطي ، وتركيبها مثلا ، لا أخذ الزيادة المخصوصة من عين أو منفعة ، ومن البديهيّات أنّ الربا أمر معنوي ، وهو ذلك الأخذ.

ومنها :

صحيح آخر : « الرجل يستقرض الدراهم [ البيض ] عددا ، ويقضي سودا وزنا ، وقد عرف أنّها أثقل ممّا أخذ ، وتطيب نفسه أن يجعل فضلها له ، قال : لا بأس إذا لم يكن فيه شرط ، ولو وهبها له كلّها صلح » (١) ، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم.

ويؤكّده ، عدوله عليه‌السلام عن عبارة « ما لم يشترط » إلى قوله : « ما لم يكن فيه شرط » ، سيّما بملاحظة ازدياد كلمة « فيه » ، وعدم الاقتصار على قوله عليه‌السلام ما لم يكن شرطا (٢) ، فتأمّل جدّا.

ويؤكّده أيضا ، التصريح بلفظ « الهبة » ، مع أنّها أيضا من المعاملات مثل البيع ، فلا ينفع التسمية بالهبة ، مع أنّ المعاملة لو كانت مصحّحة أو محلّلة ، فإن كانت بالشرط لكان المناسب أن يقول : ما لم يكن شرطا ومعاملة ، فالإخلال غير مناسب ، سيّما مع تعبيره بالنحو الّذي أشرنا.

ويؤكّده أيضا ، ما ذكرنا من أنّ الشروط من تتمّة العوض.

هذا ، وغير ذلك ممّا ذكرنا في الصحيحة الأولى ، فإنّ جميعه جار هنا في الأخبار الآتية أيضا ، إذ كيف يجوّز عاقل أنّه إذا قال : بشرط أن يعطي ، وما ماثله يكون شرطا ، وإن قال : بشرط أن تهب أو أن تهب بإزاء فلس أو ببيع كذلك ، لا يكون ها هنا شرطا أصلا ورأسا ، مع ما عرفت من عدم الفرق ، وأنّ الربا ليس

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ٣ / ١٨٠ الحديث ٥١٥ ، تهذيب الأحكام : ٦ / ٢٠٠ الحديث ٤٤٨ ، وسائل الشيعة : ١٨ / ١٩١ الحديث ٢٣٤٦٤.

(٢) في ألف ، ج : ( شرط ).

٢٥٣

مجرّد عبارة ، بل أمر معنوي ، وهو زيادة مخصوصة تؤخذ على سبيل التسلّط من جهة المشارطة ، وليس مخصوصا بهذه العبارات أيضا ، بل يجوز تعبيره بعبارات أخر ، مثل أن يقال : نوع من الاكتساب في الأيّام الجاهليّة ، أو ازدياد العوض بنحو معلوم معهود ، أو يحصل المال والمنفعة بالطريقة المخصوصة ، أو بالنهج المعروف. إلى غير ذلك؟! فتدبّر.

ومنها ،

صحيح آخر : « إذا أقرضت الدراهم ثمَّ أتاك بخير منها فلا بأس ، إذا لم يكن بينكما شرط » (١) ، والتقريب ما مرّ.

ومنها ،

صحيح آخر : « الرجل يستقرض [ من الرجل الدرهم ] فيردّ عليه المثقال .. فقال : إذا لم يكن شرط فلا بأس » (٢) ، والتقريب أيضا كما تقدّم.

وتنبّه لحكاية العدول عن عبارة « شرطا » المنصوب إلى الشرط المرفوع ، واتّفاق الأخبار ، مع كثرتها ووفورها ، وصحّة أكثرها في هذا العدول. وتنبّه ـ أيضا ـ لكون الشرط تتمّة العوض ، ولغير ذلك ممّا مرّ.

وقريب من الصحيحين ، الروايات المتعدّدة المرويّة عن إسحاق بن عمّار ، عن الكاظم عليه‌السلام بمتون مختلفة (٣) ، ويوجد غيرها أيضا.

__________________

(١) الكافي : ٥ / ٢٥٤ الحديث ٣ ، تهذيب الأحكام : ٦ / ٢٠١ الحديث ٤٤٩ ، وسائل الشيعة : ١٨ / ١٩١ الحديث ٢٣٤٦٥.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ٣ / ١٨٠ الحديث ٨١٦ ، وسائل الشيعة : ١٨ / ١٩٣ الحديث ٢٣٤٦٩.

(٣) لا حظ! وسائل الشيعة : ١٨ / ٣٥٤ الحديث ٢٣٨٣٢ و ٣٥٧ الحديث ٢٣٨٤٢ و ٣٥٨ الحديث ٢٣٨٤٤.

٢٥٤

ومنها :

معتبر آخر : « الرجل كانت لي عليه مائة درهم عددا قضانيها (١) وزنا ، قال : لا بأس ما لم يشترط ، وقال : جاء الربا من قبل الشروط ، إنّما يفسده الشروط » (٢) ، والجمع المحلّى باللام يفيد العموم ، مع أنّ في العدول عن المفرد إلى الجمع تنبيه واضح ، وإلّا فالشرط عندكم أمر واحد لا تعدّد فيه ، ولا يناسبه التعدّد.

وفي الحديث أيضا شهادة واضحة ، على أنّ المعيار وما به الاعتبار في تحقيق الربا وفساده إنّما هو الشرط ليس إلّا ، وهذا عين ما ذكره الفقهاء ، فتدبّر.

ومنها :

مارواه علي بن إبراهيم ـ في « تفسيره » ـ عن الصادق عليه‌السلام : « الربا رباءان :

أحدهما حلال ، والآخر حرام ، أمّا الحلال فهو : أن يقرض الرجل قرضا طمعا أن يزيده ويعوّضه بأكثر ممّا أخذ بلا شرط بينهما ، فإن أعطاه أكثر بلا شرط فهو مباح له وليس له عند الله ثواب ، وأمّا الحرام فهو : أنّ الرجل يقرض ويشرط أن يردّ أكثر ممّا أخذه » (٣).

وفيه شهادة واضحة على أنّ المعيار إنّما هو الشرط ، وأنّ الربا هو مطلق الزيادة ـ كما سيجي‌ء ـ وأنّ الحلال ما هو بمحض الطمع ، وهذا هو الّذي عبّر الفقهاء بكونه من نيّتهما ، ويعبّر عنه بالداعي والسبب.

__________________

(١) في الكافي والتهذيب : ( قضانيها مائة درهم وزنا ) ، وفي الوسائل : ( قضانيها مائة وزنا ).

(٢) الكافي : ٥ / ٢٤٤ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٧ / ١١٢ الحديث ٤٨٣ ، وسائل الشيعة : ١٨ / ١٩٠ الحديث ٢٣٤٦٣.

(٣) تفسير القمّي : ٢ / ١٥٩ ، وسائل الشيعة : ١٨ / ١٦٠ الحديث ٢٣٣٨٩.

٢٥٥

ولو كان بشرط المعاملة أيضا حلالا لما خصّص المعصوم عليه‌السلام الحلال بصورة الطمع ، سيّما مع كون نظر آكلي الربا إلى المشارطة ، لا يرضون بغيرها ، وخصوصا إذا لم يكن في المعاملة كراهة أيضا ، كما يظهر من هؤلاء الأعلام.

ومنها :

الخطبة المذكورة في « نهج البلاغة » : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يا علي ، إنّ القوم سيفتنون بأموالهم ـ إلى أن قال ـ : يستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة ، والأهواء الساهية ، فيستحلّون الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهديّة ، والربا بالبيع » (١).

وفي خبر آخر ، ذكره شرّاح « نهج البلاغة » : « إنّ القوم ستفتن من بعدي ، فيؤوّل القرآن ، ويعمل بالرأي ، ويستحلّ الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهديّة ، والربا بالبيع ، ويحرّف الكتاب عن مواضعه » (٢).

فلاحظ كلّ واحدة من الخطبتين من أوّلهما إلى آخرهما ، حتّى يحصل العلم لك بعدم إمكان التأويل بالحمل على الكراهة ، وعدم إمكان الحمل على التقيّة ، مع أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان يتّقي ، سيّما في مثل ما نحن فيه.

وربّما يحصل العلم بصدورهما عن المعصوم عليه‌السلام ، بل الظاهر ذلك بعد ملاحظة الخطبة.

والدلالة في غاية الوضوح ، بل عند التأمّل يظهر أنّه الّذي حلّله هؤلاء الإعلام لا غير.

__________________

(١) نهج البلاغة ( بشرح محمد عبده ) : ٣٣٧ الخطبة ١٤٩ ، وسائل الشيعة : ١٨ / ١٦٣ الحديث ٢٣٣٩٤.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٩ / ٢٠٦ الخطبة ١٥٧ ، وفيه : ( إنّ أمّتي ستفتن من بعدي ، فتتأوّل القرآن ، وتعمل بالرأي ، وتستحلّ الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهديّة ، والربا بالبيع ، وتحرّف الكتاب عن مواضعه. ).

٢٥٦

وعلى تقدير العموم ، خرج منها الحلّية في الربا البيعي ، لمجرّد تصحيح المعاملة بالنصّ والوفاق.

مع أنّ الظاهر من قوله : « يحلّلون الربا بالبيع » أنّ هذا الربا من غير نوع البيع ، والبيع من غير نوع ذلك الربا ، مع أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « سيفتنون بأموالهم » ، قرينة على أنّ مقصودهم زيادة المال وتربيته ، لا مجرّد تصحيح المعاملة.

مضافا إلى أنّ الفرد المتعارف من الربا إنّما هو لزيادة المال ، بل في مقام المذمّة لا يتبادر إلّا ذلك.

ومنها :

ما رواه الفقهاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ كلّ قرض يجرّ منفعة فهو حرام » (١) ، وهذا من جملة الأحاديث الّتي رووها عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معتقدين به ، معتمدين عليه ، نظير : « على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي » (٢) ، وغيره ممّا كتبوا فيه أحكاما كثيرة ، معمولا بها من غير تأمّل.

ومن نهاية اهتمامهم واعتمادهم على هذا الحديث أنّهم ربّما لا يستدلّون على حرمة شرط المنفعة في القرض إلّا به ، ولا يذكرون مستندا سواه ، ويعبّرون [ عن ] الحرام بقرض يجرّ المنفعة (٣) ، ومنفعة القرض ، على وجه يظهر أنّ اعتمادهم في الحقيقة عليه ، يقولون : يحرم شرط النفع ، ويعلّلون بورود النهي عن قرض يجرّ المنفعة (٤) ، فلاحظ.

__________________

(١) لاحظ! السنن الكبرى للبيهقي : ٥ / ٣٥٠ ، مجمع الفائدة والبرهان : ٩ / ٦١.

(٢) عوالي اللئالي : ١ / ٣٨٩ الحديث ٢٢ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ٨٠٢ الحديث ٢٤٠٠.

(٣) لاحظ! التنقيح الرائع : ٢ / ١٥٤.

(٤) لاحظ! الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة : ٤ / ١٣.

٢٥٧

فالضعف منجبر بعمل الأصحاب ، على قياس الأحاديث الواردة في الكتب الأربعة المرويّة بطريق العامّة (١) ، أو الزيديّة ، أو الفطحيّة ، أو غير ذلك ، مع أنّه يظهر من الأحاديث الصحيحة ما يشير إلى صحّة هذه الرواية ، كما ستعرف.

فما في بعض الأخبار أنّ راويا قال لهم عليهم‌السلام : « إنّ من عندنا يروون أنّ كل قرض يجرّ منفعة فهو فاسد ، فأجابوا عليهم‌السلام (٢) أو ليس خير القرض ما جرّ منفعة؟! » (٣) ، لا يظهر منه أنّ مرادهم عليهم‌السلام تكذيب الراوي ، بل المراد تخطئة فهمه ، وما يفهم من ظاهره من حيث أنّه مقيّد بالشرط ، كما أثبتناه مشروحا في حاشيتنا على « شرح الإرشاد » للمولى المقدّس الأردبيلي رضى الله عنه (٤).

ومنها :

صحيحة يعقوب بن شعيب ، عن الصادق عليه‌السلام : « عن الرجل يسلم في بيع أو تمر عشرين دينارا ، ويقرض صاحب السلم عشرة دنانير .. قال : لا يصلح ، إذا كان قرضا يجرّ شيئا فلا يصلح. قال : وسألته عن رجل يأتي حريفه وخليطه فيستقرض منه [ الدنانير ] فيقرضه ، فلو لا أن يخالطه ويحارفه ويصيب عليه لم يقرضه ، فقال : إن كان معروفا بينهما فلا بأس ، وإن كان إنّما يقرضه من أجل أنّه يصيب عليه فلا يصلح » (٥).

ولا يخفى أنّ السؤال ليس عن حكم القرض على حدة وحكم السلم على حدة ، وإلّا لأجاب المعصوم عليه‌السلام عنهما [ كلّ ] على حدة ، مع أنّه ما أجاب عن حال

__________________

(١) في ب : ( بطرق العامّة ).

(٢) كذا ، وفي المصدر : ( فقال ).

(٣) وسائل الشيعة : ١٨ / ٣٥٤ الحديث ٢٣٨٣٣.

(٤) حاشية مجمع الفائدة والبرهان : ٣١٦.

(٥) تهذيب الأحكام : ٦ / ٢٠٤ الحديث ٤٦٢ ، وسائل الشيعة : ١٨ / ٣٥٦ الحديث ٢٣٨٣٨.

٢٥٨

السلم أصلا ، وأمّا القرض فما أجاب فيه غير أنّه « إذا كان يجرّ نفعا فلا يصلح » ، وفيه شهادة واضحة على أنّ السؤال كان عن حكم القرض لأجل السلم.

ويشهد أيضا ، باقي الحديث ، فظاهر أنّ السؤال كان عن صحّة المعاملة وفسادها بقرينة الجواب ، حيث قال : « إذا كان يجرّ نفعا فلا يصلح » ، والصلاح لغة مقابل للفساد ، مع أنّ المقام (١) من المعاملات ، ولذا فهم الكلّ من الحديث الحرمة والفساد ، ولذا حملوه على الشرط وغيره.

ويؤكّد الدلالة ، تكرير قوله : « لا يصلح » ، لأنّ الظاهر من العبارة الإشارة إلى ما اشتهر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كلّ قرض جرّ منفعة فهو فاسد » (٢) كما سمعت ، وأنّ الظاهر أنّ السائلين في أمثال هذا المقام ليس سؤالهم عن معرفة تحقّق خصوص الكراهة ، فالجواب بالنحو المذكور مريدا خصوص الكراهة فيه ما فيه.

وربّما يؤيّد أيضا آخر الحديث ، حيث قال الراوي : « ولو لا أن يصيب عليه لم يقرضه » ، فأجاب عليه‌السلام عن ذلك بعنوان التفصيل : « إن كان معروفا بينهما » يعني الّذي سألت ، ويمكن أن يكون المراد أنّه إن كان الّذي سألت مجرّد المعروفيّة والمعهوديّة بينهما « فلا بأس ، وإن كان إنّما يقرضه من أجل. إلى آخره » ، فيكون المراد أزيد من المعهوديّة ، وهو الاطمئنان ، فيكون ظاهره الشرط.

وربّما يقوّيه حصر كلمة « إنّما » في قوله : « إنّما يقرضه » ، فتأمّل.

مع أنّه يظهر من الأخبار أنّ المحرّم هو الشرط (٣) ، فتأمّل.

__________________

(١) في النسخ : ( من أنّ المقام ) ، والظاهر أنّ الصواب ما أثبتناه.

(٢) مستدرك الوسائل : ١٣ / ٤٠٩ الحديث ١٥٧٤٥ ، وفيه ( فهو ربا ) ، السنن الكبرى للبيهقي : ٥ / ٣٥٠.

(٣) راجع الصفحتين : ٢٥٢ ـ ٢٥٦ من هذا الكتاب.

٢٥٩

ثمَّ إنّ الفقهاء لمّا رأوا دلالته على الحرمة والفساد مطلقا من غير قيد الاشتراط ، توجّهوا إلى الحمل.

فمنهم : من حمل على الاشتراط فقط ، كمولانا الأردبيلي رضى الله عنه (١).

ومنهم : من حمل على الشرط تارة ، وعلى الكراهة أخرى ، كالشيخ (٢) ومن تبعه (٣).

ومنهم : من زاد على الحملين التقيّة أيضا ، كبعض مقاربي عصرنا (٤).

فالكل اتّفقوا على الحمل على الشرط ، وهذا ينادي بأعلى ، صوته على أنّ الشرط عندهم حرام.

ثمَّ إنّ هذا الحمل أولى من الحمل على الكراهة والتقيّة ، لأنّه تخصيص ، وما من عام إلّا وقد خصّ ، ومؤيّد بما ذكرنا من وجوه التأكيد في الدلالة على الحرمة.

ويؤيّده أيضا ، أنّ الغالب من حال السائلين السؤال عن الشرط والتسلّط ، لا مجرّد التبرّع ، ولذا أجاب المعصوم عليه‌السلام بأنّه فاسد ، مع أنّ البناء على كون السؤال عن خصوص غير الشرط فيه ما فيه.

مع أنّ الحمل على الكراهة يقتضي التخصيص أيضا ، أي التخصيص بغير صورة الشرط ، لما عرفت من اتّفاقهم على حرمة الشرط.

وأيضا ، الحمل على الشرط غير مختصّ بهذا الحديث ، بل لعلّ نظيره مكرّر ، فتأمّل.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان : ٩ / ٦٤.

(٢) الاستبصار : ٣ / ١٠ الحديث ٢٧.

(٣) لاحظ! مختلف الشيعة : ٢ / ٣٠٩.

(٤) الوافي : ١٨ / ٦٥٩ الحديث ١٨٠٦٠ ، الحدائق الناضرة : ٢٠ / ١١٤.

٢٦٠