الرسائل الفقهيّة

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

الرسائل الفقهيّة

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٥

وورد أنّ الناجي قليل (١) ، و « الجنّة طيّب لا يدخلها إلّا الطيّب » (٢) ، و « الجنّة محفوفة بالمكاره » (٣).

وقال عزوجل ( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) (٤).

إلى غير ذلك ممّا هو مذكور في كتب الأخلاق ، ومنها خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام في « نهج البلاغة » وغيره ، وفي كتاب الإيمان والكفر في « الكافي » ، وغير ذلك ، ممّا لا يحصى (٥) ، وهي كثيرة.

وإن لم يثبت ، فأصالة العدم تكفي من دون حاجة إلى التمسّك بالحرج ، مع أنّ المناسب لما ذكرت صحّة عبادة الجاهل مطلقا ، وأنت متحاش عنه.

وإن أردت أنّه في بعض الأحيان يتحقّق بواسطة الحرج ، مثل أن تاب وندم وقد كثر عبادته الفاسدة على تقدير اشتراط الصحّة بالمعرفة.

ففيه : أنّ جميع التكليفات كذلك ، مثلا لو ظهر بعد مدّة مديدة أنّ عباداته لو كانت مخالفة للواقع ما ذا يصنع؟ بل ولو ترك في المدّة المديدة جميع عباداته ما ذا يصنع؟ هل ذلك (٦) يصير سببا للحكم بعدم التكليف أصلا ورأسا؟.

فإن قلت : لمّا كانت التكاليف ثابتة فلا محيص.

قلت : فلعلّ ما نحن فيه أيضا كذلك ، لما عرفت من دليل الثبوت.

__________________

(١) لاحظ! غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي : ٩١ / ١٧٤٩ ، مستدرك الوسائل : ١٢ / ١١٣ الحديث ١٣٦٦٨.

(٢) لاحظ! الكافي : ٢ / ٢٦٩ الحديث ٧ ، وسائل الشيعة : ١٥ / ٢٩٩ الحديث ٢٠٥٦٧.

(٣) الكافي : ٢ / ٨٩ الحديث ٧ ، وسائل الشيعة : ١٥ / ٣٠٩ الحديث ٢٠٦٠٠.

(٤) سورة ق (٥٠) : ٣٠.

(٥) في ب : ( لا يعدّ ).

(٦) في ج ، ه : ( ذاك ).

٤١

والحاصل ، أنّ تحقّق الحرج أمر على حدة ، فإذا تحقّق أمكن الحكم بعدم الحرج.

فإن قلت : غالب الأوقات لا يتحقّق مجتهد يقلّد بغير واسطة أو بواسطة.

قلت : حاله حينئذ حال من خالف عبادته للواقع ، فما تقول هناك يقول الفقهاء هاهنا.

مع أنّ الغالب عدم موافقة عبادة الجاهل للواقع ، وأقلّ ذلك أن يتحقّق منه رياء أو سمعة ، أو غير ذلك ممّا هو مبتلى به غالبا ، ويصعب الخلاص ويخفى طريقه.

مع أنّ (١) غالب المسائل الفقهيّة محلّ الخلاف بين الفقهاء ، فيشكل الحكم بالصحّة عند جميع الفقهاء ، والصحّة عند بعض كيف تكون كافية مع عدمها عند بعض؟! وليس حال هذا حال تقليد بعض الفقهاء ، لما فيه من الدليل القطعي ، بخلاف ما نحن فيه ، فتأمّل جدّا!

مع أنّ العبادة ما وافقت الواقع ، بل وافقت ظنّ المجتهد ، بل وفي الغالب وافقت ظنّ بعض المجتهدين دون بعض ، بل وظنّ ذلك البعض حين حكمه بإصابته للواقع عنده وبحسب ظنّه ، واعتبار مثل هذا شرعا يحتاج إلى دليل شرعي ، وهو منتف ، وقياسه على ارتكاب العمل تقليدا للمجتهد قياس مع الفارق بحسب الظاهر ، مع أنّ القياس غير حجّة عندنا.

فالعمدة ، شمول ما دلّ على حجّية ذلك لما نحن فيه ، وهو أوّل الكلام وعين الدعوى ، بل الظاهر أنّه ليس كذلك ، للإجماع (٢) هناك وعدمه هنا ، لو لم يكن

__________________

(١) في ب : ( على أنّ ).

(٢) في ألف : ( بالإجماع ).

٤٢

الإجماع على عدمه.

وكذا ما دلّ على جواز تقليد المجتهد من النصّ ، مثل قوله عليه‌السلام : « فللعوام أن يقلّدوه » (١) ، فإنّه ظاهر في الأوّل لا فيما نحن فيه أيضا. على أنّه أيضا نوع تقليد ، مع أنّ كلامكم ومقتضى دليلكم الصحّة لو طابقت الواقع ، وإن لم يقلّد مجتهدا ، ولا يحكم بصحّتها أحد أبدا.

فإن قلت : المسلمون في الأعصار والأمصار كانوا يأخذون عن غير الفقيه أيضا ، مثل الآباء والأمّهات والأساتيد والمعلّمين ، من غير أن يعلموا أنّهم أخذوا ذلك من الفقيه ، وما كانوا يلاحظون ذلك مطلقا.

قلت : لا شكّ في (٢) أنّ المسلمين كانوا صنفين ، صنف منهم كانوا متديّنين بالدين متعبّدين ، وصنف منهم كانوا لا يبالون بالدين متسامحين متساهلين ، والله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام دائما كانوا يحذّرون أمثال هؤلاء وينهون ويهدّدون ويوعدون ، وكذلك بعدهم العلماء والفقهاء والواعظون (٣) كانوا يعظونهم ويأمرونهم وينهونهم (٤).

ومسلّم عندكم أيضا أنّهم كانوا عاصين في ترك المعرفة والتعلّم ، آثمين بذلك ، ولذا عباداتهم لو كانت مخالفة للواقع كانت باطلة ، وإلّا لكان حكم الله الظاهري في شأنهم هو ما ارتكبوا.

فإن قلت : بقاء التكاليف (٥) من ضروريّات الدين ، وكثيرا ما لا يؤخذ من

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٣١ الحديث ٣٣٤٠١ ، وقد مرّت الإشارة إليه آنفا.

(٢) لم ترد : ( في ) في ب.

(٣) في ب : ( والوعّاظ ).

(٤) في ألف ، ج ، ه : ( وينهون ).

(٥) في ب ، د ، ه : ( التكليف ).

٤٣

مجتهد (١) سيّما الحي منه ، والفقهاء لا يجوّزون تقليد الميّت ، مع أنّهم كثيرا ما لا يكونون مقصّرين في تحصيل الاجتهاد والمجتهد ، وعلى تقدير أن يكونوا مقصّرين كيف لا يأتون بعبادة أصلا مع أنّها فاسدة؟!

قلت : هذا مشترك الورود ، إذ كثيرا ما لا يحصل ما اعتبرتم من الظنّ أصلا ، وكثيرا ما يحصل لكن تكون عبادتهم غير مطابقة للواقع ، بل هو الأكثر في العوام.

وعلى تقدير اتّفاق تحقّق المطابقة من حيث لا يشعرون ولا يعلمون ، فمسلّم عندكم أنّهم عاصون في ترك العلم والمعرفة ، من حيث إنّه فريضة عينيّة على كلّ مؤمن ومؤمنة ، وأنّ من بلغه التكاليف بلغه أيضا وجوب معرفتها على حسب ما مرّ ، فلو أراد المكلّف أن لا يعصي في تحصيل المعرفة ويفعل العبادة بطريق المعرفة كيف كان يصنع؟!

وبالجملة ، مجرّد اتّفاق المطابقة في بعض الأفراد لا أثر له فيما ذكرت ، بل أثره تخفيف العذاب ، أو أنّه إذا تاب وندم على (٢) عدم تحصيل المعرفة ويكون عنده مجتهد موجود يحكم بالصحّة ، لا يكون عليه قضاء ، وغير خفيّ أنّ المطابقة للواقع غير معلومة قطعا ، بل المعلوم المطابقة لظنّ المجتهد.

ومعلوم أيضا ، أنّ المسائل الفقهيّة قلّما تكون وفاقيّة عند الفقهاء ، فلو كانت مطابقة لظنّ مجتهد تكون مخالفة لظنّ مجتهد آخر ، فلا يتأتّى ذلك إلّا أن يكون مجتهد موجود اختار العاميّ تقليده ، واتّفق مطابقتها لظنّ ذلك الموجود ، ومع ذلك يكون الموجود يحكم بصحّتها بمجرّد اتّفاق مطابقتها لمظنونه في الآن ،

__________________

(١) في ألف : ( ما لا يوجد مجتهد ) ، وفي ب : ( ما لا يأخذون من مجتهد ).

(٢) في ألف : ( عن ) ، وفي ه : ( من ).

٤٤

ويكون ظهور المطابقة الآن ، والمجتهد لو كان موجودا لا يحكم بالصحّة ، لفقد الدليل على حكمه ، وعلى فرض أنّه لو وجد منهم من يحكم فالمفروض عدمه.

وأمّا كتب المجتهدين الميّتين ، فكيف يتأتّى منه تقليدها وهم يمنعون عن تقليد الميّت؟

وعلى فرض أن يوجد من يجوّز تقليد الميّت ويكون مجتهدا ، فهو أيضا ميّت فكيف يمكنه تقليده؟! لأنّه موقوف على صحّة تقليد الميّت ، ولا دليل على الصحّة ، والعمومات المانعة عن العمل بالظنّ وعن التقليد (١) شاملة ، خرج الحيّ بالدليل وبقي الباقي.

مع أنّه ادّعي إجماع الشيعة على المنع (٢) ، وجعل الجواز من شعار العامّة ومن دأبهم ، كما كتبناه مشروحا في رسالتنا المكتوبة في منع تقليد الميّت.

وعلى تقدير أن يكون دليل ، فكيف يمكن للعامّي الاجتهاد؟ وسيّما في مثل هذه المسألة ، يخالف (٣) فقهاء الشيعة!

ولو كان قادرا على ذلك لكان قادرا على الحكم بالصحّة ، وتصحيح نفس المسألة بطريق أولى.

ولو كان يجوز له تقليد الميّت من دون دليل ويكون هذا علما ومعرفة للعبادة لكان ظنّه أوّل الأمر بصحّة العبادة علما ومعرفة بطريق أولى ، فتأمّل.

هذا هو النقض.

وأمّا الحلّ والجواب الواقعي ، هو ما كتبناه في الرسالة من وجود الواسطة بين الاجتهاد والتقليد ، وهو الاحتياط مهما أمكن.

__________________

(١) لاحظ! بحار الأنوار : ٢ / ٨١.

(٢) لاحظ! معالم الأصول : ٢٤٨ ، الوافية في أصول الفقه للفاضل التوني : ٣٠٠.

(٣) في د : ( ومخالفة ).

٤٥

فلو لم يمكن ، فالعمل بعنوان التخيير بعد بذل الجهد بقدر الوسع في تحصيل الاحتياط. وأنّ التخيير حينئذ أيضا احتياط.

فلو لم يوجد الاجتهاد ولا التقليد ، ينبغي الاحتياط ، و ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (١) ، مع أنّ الاحتياط حسن واحتياط على كلّ حال ، لو علم أنّه احتياط.

والله هو العالم بأحكامه ، ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخلفاؤه صلوات الله عليهم أجمعين.

والحمد لله ربّ العالمين.

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٨٦.

٤٦

رسالة

في

أصالة طهارة الأشياء

٤٧
٤٨

بسم الله الرحمن الرحيم

فائدة :

الأصل طهارة الأشياء :

وهو من المسلّمات عند المجتهدين والأخباريّين.

ناقش في ذلك صاحب « الذخيرة » قائلا : إنّ الطهارة حكم شرعي يتوقّف على النصّ كالنجاسة من دون تفاوت ، وما ورد في الموثّق من قولهم عليهم‌السلام : « كلّ شي‌ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر » (١) موثّق ، فلا يكون حجّة ، وعلى تقدير التسليم ، لا دلالة لها ، لإمكان إرادة أنّ ما هو طاهر شرعا طهارتها مستصحبة حتّى تعلم أنّه قذر ، مع أنّ ثبوت هذا الأصل الكلّي بهذا محلّ تأمّل (٢).

وفيه ، أنّ الموثّق حجّة كما حقّق في محلّه ، بل هو معترف بحجّيته ، مصرّ في المبالغة فيها (٣).

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٨٢ الحديث ٨٣٢ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦٧ الحديث ٤١٩٥.

(٢) ذخيرة المعاد : ١١٦ و ١١٩ و ١٥٩ و ١٧٢.

(٣) ذخيرة المعاد : ٨٣.

٤٩

مع أنّها متأيّدة بعمل الأصحاب ، فإنّ الظاهر منهم الاتّفاق على هذا الأصل ، والأصل الكلّي إذا ثبت بدليل كان حجّة شرعيّة (١).

مع أنّ النجاسة الشرعيّة لا معنى لها سوى وجوب الاجتناب عن الصلاة معها ، والأكل والشرب بملاقاتها رطبا ، فضلا عن أكل نفسها وشربها ، وكذا وجوب الإزالة عن المسجد وأمثاله. وغير ذلك من أحكامها.

ولا شكّ في أنّ الأصل عدم الوجوب ، لانّه تكليف ، والأصل براءة الذمّة.

والطهارة الشرعيّة في مقابل النجاسة ، فمعناها عدم تعلّق تكليف بالاجتناب شرعا.

فإن قلت :

أصل البراءة حجّة فيما إذا لم يتحقّق التكليف به من جهة أخرى ، مثلا إذا انحصر الماء في الماء الّذي يحكم بطهارته من جهة الأصل يلزم على المكلّف الطهارة به لأجل الصلاة.

ولو لم يكن طاهرا لم يجب الطهارة للصلاة (٢) ، أو الطهارة فقط على القول بوجوبها لنفسها ، أو إذا نذر بفعلها مثلا.

فلو لم يكن طاهرا لم يجب الطهارة ، ومجرّد وجود مقتضي الوجوب لا يكفي في التكليف ما لم يكن الماء طاهرا ، فإذا طهر وجب ، وإلّا فلا وجوب البتّة.

فأصل الطهارة إن كان عبارة عن أصالة عدم التكليف ، يكون مقتضاه عدم ماهيّة التكليف وطبيعته ، ونفي جميع أفراده ، لا خصوص وجوب الاجتناب عنه ، فكيف يقتضي أصل البراءة وجوب الطهارة؟!

__________________

(١) في النسخ : ( والأصل الكلّي ثبت بدليل إذا كان حجّة شرعيّة ) ، والظاهر أنّ الصواب ما أثبتناه.

(٢) في الأصل : ( لم يجب الطهارة والصلاة ) ، والظاهر أنّ الصواب ما أثبتناه.

٥٠

قلت :

مقتضى الطهارة. هو وجوب الوضوء أو الغسل بما هو ماء حقيقة.

خرج عنه ما علم نجاسته شرعا ، ويبقى المشكوك فيه داخلا في العموم ، إذ القدر الّذي ثبت المنع عن الطهارة به شرعا هو ما ثبت نجاسته ، لا ما احتمل ، فليس وجوب الطهارة به من جهة أصالة الطهارة.

سلّمنا ، لكن في هذه الصورة النادرة لا يتمسّك بأصل البراءة ، بل بالموثّقة المنجبرة بما ذكر ، المتأيّدة بقوله تعالى ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ) (١) وأمثاله.

أمّا في غيرها ، فيتمسّك بها وبالأصل جميعا.

مع أنّها المتعارفة الشائعة ـ والمدار في غالب الأحكام على الصور المتعارفة ، لا الفروض النادرة ـ فيصحّ أن يصير الأصل أيضا مستندا.

مع أنّ الأدلّة الفقهيّة ربّما يكون بعضها غير واف بجميع المطلوب ، بل لا بدّ من ثبوت الحكم بالأدلّة كيف كان.

تمّت الرسالة.

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٩.

٥١
٥٢

رسالة

في حكم العصير التمري والزبيبي

٥٣
٥٤

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

فيقول الأقلّ الأذلّ ، محمّد باقر بن محمّد أكمل :

فهذه مسألة في حكم عصير التمري والزبيبي.

قال مولانا أحمد الأردبيلي قدس‌سره : فيهما خلاف (١) ، والمشهور الحلّ .. وقيل بالتحريم ، ويظهر أيضا القول بالنجاسة من « الذكرى » (٢). انتهى (٣).

ونقل القول بأنّه يحدّ شاربهما حدّ شرب الخمر في « المفاتيح » (٤) ، فلاحظه ولا حظ غيره أيضا ، فما ادّعاه بعض من الإجماع في التمري (٥) ظاهر الفساد.

وأمّا الشهرة ، فلعلّها تحقّقت بعد زمان الشهيد رحمه‌الله ، لأنّه قال في

__________________

(١) كذا ، وفي المصدر : ( فيهما مع الغليان خلاف ).

(٢) ذكري الشيعة : ١٣.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان : ١١ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٤) مفاتيح الشرائع : ٢ / ٨٧.

(٥) لاحظ! الحدائق الناضرة : ٥ / ١٢٥.

٥٥

« الدروس » : ( أمّا عصير التمر ، فقد أحلّه بعض الأصحاب ) (١) ، وهذا يدلّ على عدم الشهرة ، بل وعلى قلّة القائل ، وظاهر في استضعافه أيضا.

مع أنّ الحلّية مقتضى الأصل والعمومات كتابا وسنّة وإجماعا ، فلا نحتاج إلى التعرّض ، فكيف يتعرّض؟ سيّما وأن يتعرّض بالنحو الّذي ذكر ، ويشير إلى الظهور والإشعار أنّه أتى في مقابل هذا القول بموثّقة إسحاق بن عمّار (٢) من دون إشارة منه إلى تأمّل أصلا ، لا في سندها ولا في دلالتها.

وأمّا الزبيبي ، فإنّه رحمه‌الله حكم بحلّية ما طبخ دون ما غلا ونشّ ، وأشار إلى الخلاف في الأوّل دون الثاني ، ولم يستظهر بالشهرة فيه مع تمسّكه بمثل ذهاب الثلاثين بالشمس غالبا ، مع أنّ الشهرة عنده حجّة ، فتأمّل.

وما قيل من أنّ غاية ما يستفاد من « الدروس » أنّ الشهيد متوقّف فيه (٣) ، فيه ما فيه.

وأمّا [ ال ] فقهاء الّذين رووا ما دلّ بظاهره على الحرمة ممّا سيجي‌ء ، والظاهر اعتمادهم عليه وعلى ظاهره حتّى أنّ الكليني (٤) رحمه‌الله قال : ( في باب صفة شراب الحلال ) ، وأتى بما دلّ على أنّ الحلّية بذهاب الثلاثين ، وأتى في أبواب أخر ما ستعرف. إلى غير ذلك ممّا سنشير.

والبناء على أنّهم كانوا معتمدين على التأويلات عاملين بما يخالف الظاهر المتبادر وإن لم يشيروا إلى تأويل أصلا ولم يذكروا أنّ المراد الغير الظاهر ما ذا ، فيه ما فيه.

__________________

(١) الدروس الشرعيّة : ٣ / ١٧.

(٢) الكافي : ٦ / ٤٢٦ الحديث ٤ ، وسائل الشيعة : ٢٥ / ٢٩١ الحديث ٣١٩٣٣.

(٣) لاحظ! الحدائق الناضرة : ٥ / ١٤٣.

(٤) الكافي : ٦ / ٤٢٤ ـ ٤٢٦.

٥٦

مضافا إلى ما أشرنا ممّا ظهر منهم من أنّ المراد هو الظاهر ، مع أنّ التوجيه في الحقيقة تخريب وإبطال أنّ البناء على العمل بالمعارض ، فتدبّر.

والصدوق في أوّل « الفقيه » قال عند ذكر الوضوء بماء التمر : ( والنبيذ الّذي يتوضّأ به وأحلّ شربه هو الّذي ينبذ بالغداة ويشرب بالعشيّ. إلى آخره ) (١).

وهذا في غاية الظهور في إفتائه بحرمة ما زاد مكثه ، لا أنّ الحرمة مختصّة بالمسكر على حسب ما اعتقده المحلّلون.

وما ذكره الصدوق هو الظاهر من الكليني (٢) ، وورد في كثير من الأخبار (٣) ، ورواه العامّة أيضا (٤) ، والشيخ نقل بعض تلك الأخبار ساكتا عن التوجيه (٥) ، والشهيد في « الدروس » بعد ما حكم بحرمة الفقّاع قال : ( في رواية شاذّة ، حلّ ما لم يغل (٦) ، وهي محمولة على التقيّة ، أو على ما لم يسمّ فقّاعا ، كماء الزبيب قبل غليانه ، ففي رواية صفوان : حلّ الزبيب إذا ينقع غدوة ويشرب بالعشيّ ، أو ينقع بالعشي ويشرب غدوة (٧) ) (٨) انتهى ، فتدبّر جدّا.

والمحقّق في « الشرائع » قال : ( والتمر إذا غلى ولم يبلغ حدّ الإسكار ، ففي تحريمه تردّد ، والأشبه بقاؤه على التحليل. وكذا البحث في الزبيب ) (٩) ، وكذا قال

__________________

(١) من لا يحضر الفقيه : ١ / ١١.

(٢) لاحظ! الكافي : ٦ / ٤١٥ باب النبيذ.

(٣) لاحظ! الكافي : ٦ / ٤٠٩ الحديث ٧ / ٤١٥ الحديثين ١ و ٢.

(٤) لاحظ! سنن النسائي : ٨ / ٣٣٢ ـ ٣٣٦.

(٥) تهذيب الأحكام : ٩ / ١٢٠ الأحاديث ٥١٦ و ٥١٧ و ٥١٨ و ٥٢٢ و ٥٢٣ و ٥٢٩ و ٥٣١.

(٦) لاحظ! تهذيب الأحكام : ٩ / ١٢٦ الحديث ٥٤٦ ، وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٨١ الحديث ٣٢١٨١.

وهو منقول بالمعنى.

(٧) لاحظ! الكافي : ٦ / ٤٠٨ الحديث ٧ ، وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٣٧ الحديث ٣٢٠٦٤.

(٨) الدروس الشرعيّة : ٣ / ١٦.

(٩) شرائع الإسلام : ٤ / ١٦٩.

٥٧

العلّامة في « القواعد » (١).

وبالجملة ، الفاضلان (٢) هما الأصل في دعوى الشهرة ، وأنت ترى أنّهما رجّحا الحلّية بعد تردّد واضطراب ، ولم يتّفق اتّفاقهما معا في التردّد في الموضع الّذي لا يوجد قائل ، أو وجد نادر ، أو لم يكن دلالة حديث ، بل وربّما يكون دلالة حديث لكن السند ليس بصحيح.

وجعل فخر المحقّقين منشأ التردّد في التمري دخوله في عموم ما دلّ على حرمة النبيذ والعصير ، ومنع ذلك منضما إلى الأصل ، والظاهر تساوي الاحتمالين ، حيث جعل منشأ الترجيح لزوم الحرج ، وفي الزبيبي اتّحاد الحقيقة مع العنب فيكون عصيرا ، وأصلي الإباحة والاستصحاب ، والحرج ، وعدم الإسكار ، وعدم ما هو معلوم الثبوت (٣) ، والظاهر أنّ منشأ ترجيحه داخل فيما ذكره.

وبالجملة ، بالتأمّل فيما ذكره هؤلاء الرؤساء الأعلام يظهر أنّ كون العصير حقيقة في خصوص العنبي دون غيره عند الفقهاء ، كما يدّعيه بعض الفضلاء (٤) ، وسيجي‌ء تتمّة الكلام في الدليل السادس ، وكذا ما يدّعيه من انحصار النبيذ في المسكر (٥) ، بل وكيف يدّعي اشتهار الحلّية عندهم إلّا بأن يكون مرادهم الشهرة (٦) عند المتأخّرين وإن كان بترجيح ما ، وأنّ مراده من المتأخّرين الفاضلان وبعض من تبعهما ، وإلّا فلا شكّ في أنّ الفقهاء متّفقون على الإفتاء بحرمة العصير والنبيذ ، بحيث لا يخفى على من له أدنى فهم.

__________________

(١) قواعد الأحكام : ٢ / ٢٦٣.

(٢) أي : المحقّق والعلّامة ، لا حظ الهامشين السابقين!

(٣) لاحظ! إيضاح الفوائد : ٤ / ٥١٢.

(٤) لا حظ! مجمع الفائدة والبرهان : ١١ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

(٥) لاحظ! مجمع الفائدة والبرهان : ١١ / ٢٠٤.

(٦) كذا ، والظاهر أنّ الصواب : ( إلّا بأن يكون مراده الشهرة ).

٥٨

فمن تقدّم على الفاضلين إمّا يظهر منه حرمة الزبيبي والتمري أيضا على سبيل الخصوص والتعيين ، كما عرفت. وأمّا من لم يظهر منه التعرّض لهما بعنوان الخصوص أصلا ، فيتحمل أن يكون هو أيضا قائلا بحرمتهما ، لما عرفت ، بل ربّما يظهر أنّه قائل كذلك ، بملاحظة أنّه لم يتعرّض لتوجيه الأخبار الكثيرة الظاهرة على حسب ما ستعرف ، وأنّه بعيد غاية البعد أنّه يردّ الجميع ويطرحه ، سيّما من دون تعرّض وإظهار ، سيّما في مقام درس الأحاديث ونقلها للغير في مقام الإجازة أو غيرها.

مع أنّ العلّامة في جواب مسائل سادات آل زهرة أو غيرهم أو في مقام إجازتهم صرّح بحرمة العصير الزبيبي وعدم حرمة المطبوخ منه مع غيره (١) ، على ما هو ببالي.

وأمّا الشهيد ، فقد عرفت حاله ، بل وظهور كلامه في أنّ المشهور ليس كما توهّمه البعض.

وأيضا ، المحقّق المدقّق البحراني ممّن يقول بحرمتها (٢) ، وكذا صاحب « المفاتيح » (٣) ، وكذا بعض علمائنا المتأخّرين (٤).

مع أنّه على تقدير تسليم الشهرة لا عبرة بها ، لما ظهر من خطأ كلّ واحد منهم في مقام استدلالهم واستنادهم ، بحيث لا يخفى على من له أدنى فهم.

وسيظهر لك في الجملة ، أنّ المحرّمين مع وجود الأخبار الكثيرة المعتبرة

__________________

(١) أجوبة المسائل المهنّائية : ١٠٤ المسألة ١٧٤.

(٢) لاحظ! الحدائق الناضرة : ٥ / ١٥٩ ـ ١٦٠.

(٣) مفاتيح الشرائع : ٢ / ٢٢١ ، . ولكنّه في موضع آخر قال : ( وفي التمري قولان ، وكذا الزبيبي ، والأصح عدم التحريم فيهما ) : مفاتيح الشرائع : ٢ / ٧٨.

(٤) لاحظ! بداية الهداية : ٢ / ٣٧١ ، الحدائق الناضرة : ٥ / ١٤١.

٥٩

السند الظاهرة الدلالة ، ونهاية وضوح وأنّهم استندوا إلى هذه الأخبار في حكمهم بالتحريم بحيث لا يبقى شبهة ، وأنّهم ما استندوا إلى قياس أصلا كما ينادي إلى ذلك كتبهم ، يقول هؤلاء المتأخّرون : إنّه لا دليل لهم سوى قياس باطل (١) ، وإنّ الأصل والعمومات تقتضي الحلّية من دون شائبة معارض أصلا سوى القياس الباطل ، ولأجل هذا ردّوا عليهم واختاروا الحلّية ، فكيف يبقى وثوق بهذه الشهرة على تقدير تسليمها؟ مع أنّه لم يظهر شهرة سوى ما عرفت ، بل ولا يمكن ظهورها ، لما عرفت ، فتأمّل!

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ الأقوى عندي الحرمة لوجوه :

الأوّل :

موثّقة عمّار عن الصادق عليه‌السلام أنّه « سئل عن الزبيب ، كيف [ يحلّ ] طبخه حتّى يشرب حلالا؟ فقال : تأخذ ربعا من زبيب ـ إلى أن قال : ـ ثمَّ توقد تحته النار حتّى يذهب ثلثاه ـ إلى أن قال : ـ فإن أردت (٢) أن تقسمه أثلاثا [ لتطبخه ] فكله ـ إلى أن قال : توقد تحته بنار ليّنة حتّى يذهب ثلثاه » (٣).

وموثّقته الأخرى ، قال : « وصف لي أبو عبد الله عليه‌السلام المطبوخ كيف يطبخ حتّى يصير حلالا ، قال عليه‌السلام : تأخذ ربعا من زبيب وتنقّيه وتصبّ عليه اثني عشر رطلا من ماء ، ثمَّ تنقعه ليلة ، فإذا كان أيّام الصيف وخشيت أن ينشّ جعلته في تنوّر مسجور قليلا ، حتّى لا ينشّ ، ثمَّ تنزع الماء ـ إلى أن قال : ـ ولا تزال تغليه حتّى يذهب الثلثان ـ إلى أن قال : ـ ثمَّ اشربه ، فإن أحببت أن يطول

__________________

(١) في النسخ الخطّية : ( لا دليل لهم سواه قياس باطل ) ، والظاهر أنّ الصواب ما أثبتناه.

(٢) كذا ، وفي المصدر : ( فإذا أردت ).

(٣) الكافي : ٦ / ٤٢٥ الحديث ٢ ، وسائل الشيعة : ٢٥ / ٢٩٠ الحديث ٣١٩٣١.

٦٠