موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٨

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٨

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-96-6
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٣٢

البيت اسم لموضع يبات فيه ، واليمين يتقيد بما عرف من مقصود الحالف فأهل الأمصار إنّما يسكنون البيوت المبنيّة عادة ، وأهل البادية يسكنون البيوت المتخذة من الشعر ، فإذا كان الحالف بدوياً فقد علمنا أنّ هذا مقصوده بيمينه فيحنث ، بخلاف ما إذا كان من أهل الأمصار ، واسم البيت للمبني حقيقة ، فلا يختلف فيه حكم أهل الأمصار وأهل البادية لأنّ أهل البادية يسمون البيت للمبني حقيقة.

والأصل في هذا أنّ سائلاً سأل ابن مسعود رضي الله عنه ـ كذا والصواب ابن عباس ـ فقال : إنّ صاحباً لنا أوجب بدنة افتجزي البقرة؟

فقال : ممن صاحبكم؟ فقال من بني رياح ، قال : ومتى اقتنت بنو رياح البقر ، إنّما وَهِمَ صاحبكم ، الأبل ) (١).

أقول : لقد وهم السرخسي في تسمية المسؤول فسماه ابن مسعود إنّما هو ابن عباس كما تقدم ويأتي.

فلقد ذكر الكاساني الحنفي في ( بدائع الصنائع ) هذا أيضاً في حكم اليمين عن ابن عباس وذكر الخبر ، ثم قال : ( فهذا الحديث أصل أصيل في حمل مطلق الكلام على ما يذهب إليه أوهام الناس ، ولأنّ العرف وضع طارئ على الوضع الأصلي فهو مقدم ) (٢). وهذا يعني أنّ الحقيقة العرفية تقضي على الحقيقة الوضعية ، فيحمل اللفظ على معاني ما يفهمه العُرف.

وممّا يشبه هذا في استكناه السائل ويحمل عليه بعض فتاويه المتنافية ظاهراً نحو ما أخرجه ابن حجر في تلخيصه الحبير ، أنّه سئل عمّن قَتَل أله توبة؟

____________________

(١) المبسوط ٨ / ١٦٧ ط دار المعرفة بيروت.

(٢) بدايع الصنائع ٣ / ٣٥.

٤٢١

فقال مرّة : لا وقال مرّة : نعم ، فسئل عن ذلك فقال : ( رأيت في عين الأوّل أنّه يقصد القتل فقمعته ، وكان الثاني صاحب واقعة يطلب المخرج ).

ابن أبي شيبة ، نا يزيد بن هارون ، أنا أبو مالك الأشجعي ، عن سعد ابن عبيدة ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس ، فقال : إنّي أحسبه مغضباً يريد أن يقتل مؤمناً ، قال : فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك ، رجاله ثقات (١).

وفي لفظ عن الخطيب البغدادي في ( الفقيه والمتفقه ) ، قال : ( وسأله رجل عن توبة القاتل؟ فقال : لا توبة له ، وسأله آخر ، فقال : له توبة ، ثم قال : أمّا الأوّل فرأيت في عينيه أرادة القتل فمنعته ، وأمّا الثاني فجاء مستكيناً وقد قتل فلم أوايسه ) (٢).

وممّا يمكن توجيه بعض المنافاة في بعض مرويات الفتاوى عنه ، أنّها كانت على وجه التقية ، فقد روى سفيان الثوري عن عاصم عن الشعبي عن ابن عباس أنّه قال : ( ربما أنّهاكم عن أشياء لعلّها ليس بها بأس ، وآمركم بأشياء لعل بها بأساً ) (٣).

وأقول : ولو سلمنا بصحة هذا فلا يبعد أن يكون منه على مذهب التقية والإستصلاح والتأليف والمداراة ، وعلى هذا كان مذهب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وأهل بيته الطاهرين. ولابن عباس رضي الله عنه تصريح في هذا في مسألة العول حين سئل عن أوّل من أعال الفرائض فأجاب انّه عمر ، وسئل عن سبب عدم إظهاره الخلاف عليه ، فقال : هبته ، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.

____________________

(١) تلخيص الحبير ٤ / ٢٠٦ رقم / ١٧.

(٢) الفقيه والمتفقه ٢ / ١٩٢.

(٣) الفصول المختارة / ٢١٠ للشريف المرتضى.

٤٢٢

فهو في حاله هذه كحال إمامه عليه السلام في أيام عمر ، إذ لم يخالفه في الفتيا خوفاً من انتشار الكلمة ووقوع الفساد ، وذلك هو الذي توجبه الحكمة في تدبير الدين واستصلاح الأنام ، فلمّا أفضى الأمر إلى الإمام زال ما كان يخافه فيما سلف من إظهار الخلاف فحكم بما لم يزل يعتقده ، كما أرتآه الشريف المرتضى ومن قبله شيخه المفيد في حال الإمام عليّ عليه السلام أيام الخالفين قبله (١).

ابن عباس والتقية

وآخر دعوانا في دفع وجه التنافي بين الفتاوى المنقولة عن ابن عباس عليه السلام ، فما كان منها موافقاً لفقه السلطة ، وكان صحيح السند ، فيحمل على التقية ، لأنّه كان يعيش في عصر أميتت فيه كثير من الأحكام وابتدعت فيه أحكام ما أنزل الله بها من سلطان ، وفرضت على الناس بالقوة.

فكان ابن عباس رضي الله عنه بقوله : ( عليكم بالاستفاضة والأثر ، وإياكم والبدع ) (٢).

وهو القائل : ( ما أتى على الناس عام إلاّ أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنّة ، حتى تحيى البدع وتموت السنن ) (٣).

وأحسبه إنّما قال ذلك ردّاً على ما أشاعت السلطة من حديث العرياض بن سارية مرفوعاً : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين

____________________

(١) أنظر الفصول المختارة من العيون والمحاسن / ٢١٤ سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد رحمه الله.

(٢) الاعتصام للشاطبي ١ / ٨١.

(٣) مجمع الزوائد ١ / ١٨٨ ، وقال رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات وذكره السيوطي في مفتاح الجنة ١ / ٥٨ نقلاً عن البخاري في تاريخه والطبراني ، ورواه الديلمي في الفردوس ، والشاطبي في الاعتصام ١ / ٢٢ ـ ٩٤ ط المنار بمصر١٣٣١ هـ.

٤٢٣

عضّوا عليه بالنواجذ )!

فقد قال ابن الأمير في ( سبل السلام ) : ( وأمّا حديث ( عليكم بسنتي ... ) ونحوه ، فليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلاّ طريقتهم الموافقة لطريقته صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنّ الحديث عام لكلّ خليفة راشد لا يخص الشيخين ، ومعلوم من قواعد الشريعة أنّه ليس لخليفة راشد أن يشرع طريقاً غير ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ) (١).

لهذا كان ابن عباس رضي الله عنه يقول الحقيقة ما وسعه الحال ، ويتقي ممن لا يأمن شرّه ، وكان كذّب عليه من لا حريجة له في الدين.

فقد روى عبد الرزاق في ( المصنف ) : ( عن معمر ، عن ابن طاووس ، عن أبيه ، قال : قال رجل لابن عباس : الحمد لله الذي جعل هوانا على سواك ، فقال : إنَّ الهوى كلّه ضلال ) (٢).

وهذا الخبر فيه تحريف أحسبه من ابن طاووس لأنّه كان هواه مع الأمويين كما مر لأنّه قد رواه الشاطبي في ( الإعتصام ) نقلاً عن الثوري : ( إنّ رجلاً أتى ابن عباس رضي الله عنه فقال : أنا على هواك ، فقال له ابن عباس : الهوى كلّه ضلال ، أي شيء أنا على هواك ) (٣). ولم يرد ابن عباس بقوله : ( الهوى كلّه ضلال ) ، إلاّ ما ذكر الله تعالى في كتابه في ذم الهوى نحو قوله تعالى : ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ ) (٤) ، ونحو ذلك من الآيات وفي أيام الحكم الأموي حين تعالت

____________________

(١) سبل السلام ٢ / ١١.

(٢) المصنف ١١ / ١٢٦.

(٣) الاعتصام ٣ / ٢٥.

(٤) القصص / ٥٠.

٤٢٤

نظرية مخالفة الصحابة وعدم جواز مخالفة سيرة الشيخين.

فكانت إجتهادات عمر تحتل مكاناً كبيراً في المخالفات الشرعية ، ومنذ أيامه ما كان أحد يقوى على صدّه أو يفتي بضده ، ومن كان يجرأ على مخالفته؟ لو لا ما كان من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنه في إصلاح بعض ما تيسّر لهما ، حتى أنّه قد اعترف لهما بالفضل نحو أقواله الكثيرة في الإمام عليه السلام ، حتى اشتهر منها قوله : ( لولا عليّ لهلك عمر ) (١) ، وقال في ابن عباس : ( لقد طرأت علينا عضل ) (٢) ، أو ( غص يا غواص ) (٣). ومن بعد عمر ، فقد اتخذت سيرته وسيرة سلفه أبي بكر حجة مقابل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففضلوا سيرة الشيخين ، ولعلّ أوّل من نادى رسمياً بهما عبد الرحمن بن عوف في بيعة عثمان ، وهكذا تغيبّت من أذهان العامة أحكام شرعية ، فكان ابن عباس رضي الله عنه في مسائل العول والتعصب والمتعتين والطلاق ثلاثاً في مجلس واحد وغيرها من مخالفاته مع ابن عمر وعائشة وزيد بن ثابت ، فهو يعلن خلافه ما وسعه ذلك منذ أيام عثمان ومعاوية ويزيد وابن الزبير ، وأمّا قبلهم فكان على حذر من بطش السلطة.

وقد قيل له في مسألة العول وعدم إنكاره على عمر ، فكان يقول عن عمر ( فهبته ) كما مرّ الخبر ، أو ليس معنى هذا هو التقية التي التزم بها أمير

____________________

(١) الإستيعاب / ٣ في ترجمة الإمام علي ، وشرح النهج لابن أبي الحديد ١ / ١٨ ، وذخائر العقبى / ٨١ ، ومناقب الخوارزمي٨٠ / الحديث ٦٥.

(٢) تهذيب الآثار للطبري ( مسند علي ) ١ / ١٧٨ ، وكنز العمال١٣ / ١٩٧ ، وأعلام الموقعين لابن القيم ١ / ١٩ ، وشذرات الذهب١ / ٧٥.

(٣) راجع من كتب التفسير تفسير الفخر الرازي٣٢ / ٣٠ سورة القدر ، ومن كتب الأصول قواطع الأدلة في الأصول١ / ٣٦٢ ، وأصول السرخسي ١ / ٣٠٧ ، وكشف الأسرار باب الإجماع ٣ / ٣٤٦ ، ومن كتب اللغة أساس البلاغة للزمخشري ١ / ٤٥٩ ( غوص ) ، وتاج العروس١٨ / ٦٢.

٤٢٥

المؤمنين عليّ عليه السلام وكان هو على نهجه؟ ألم يقل عليه السلام فيما رواه الشيخ المفيد في ( العيون والمحاسن ) وذكره الشريف المرتضى في ( الفصول المختارة ) ، قال : ( وقد روت الناصبة عنه عليه السلام أنّه قال حين أفضى الأمر إليه لقضاته ، وقد قالوا له : بم نقضي يا أمير المؤمنين؟ فقال : ( اقضوا بما كنتم تقضون حتى تكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي ) ) (١) ، فدّل على أنّه عليه السلام قد أخّر القضاء بمذهبه في كثير من الأحكام لمكان الإختلاف عليه ، وانتظر الإجتماع من المختلفين أو وجود المصلحة.

أقول : لقد روى الدارمي في سننه قال : ( كتب ابن عباس إلى عليّ وابن عباس بالبصرة ، إني أَتيت بجدّ وستة إخوة؟ فكتب إليه عليّ : أن أعط الجدّ السدس ولا تعطه أحداً بعده ... ) (٢) اه. وهذا منه خشية أن يذاع ويشاع عنه الحكم في ميراث الجدّ ، الذي إختلفت فيه منقولات الفقه السلطوي حتى قيل في هذه المسألة عن عليّ عليه السلام ثلاث روايات :

أحداها : إنّه يدفع إلى الجد السُدس أو المقاسمة ، فإن كانت المقاسمة خيراً له من السدس فالمقاسمة وإلاّ فالسدس.

والثاني : للجد المقاسمة أو السُبع.

والثالث : المقاسمة أو الثمن.

وذكر هذا الشيخ الطوسي في كتاب ( الخلاف ) ، ثم قال : ( وروي عنه أنّه قال : في سبعة إخوة وجدّ ( هو كأحدهم ) ، وهذه الرواية تدلّ على مذهبنا لانها مثل ما رويناه عنه عليه السلام ) (٣).

____________________

(١) الفصول المختارة / ٧٧ ـ ٧٨.

(٢) سنن الدارمي ٢ / ٣٥٤.

(٣) الخلاف ٤ / ٩٠ ـ ٩١ ط مؤسسة النشر الإسلامي.

٤٢٦

أقول : وتبقى التقية لدى ابن عباس رضي الله عنه على ما فسّرها في قوله تعالى : ( أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ) (١) ، قال : ( ما لم يهرق دم مسلم ولم يستحل ماله ) (٢).

وعنه أيضاً : ( التقية باللسان أو من حُمل على أمر يتكلم به وهو لله معصية فتكلم مخافة على نفسه ، وقلبه مطمئن بالإيمان فلا إثم عليه ، إنّما التقية باللسان ) (٣).

وأخرج عنه أبو حيّان الأندلسي في تفسيره ( البحر المحيط ) ، أنّه قال : ( إنّها مداراة ظاهرة ، أي يكون المؤمن مع الكفار ، وبين أظهرهم فيتقيهم بلسانه ولا مودة لهم في قلبه ) (٤).

وقال ابن عباس أيضاً : ( فأمّا من أكره فتكلم به لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه فلا حرج عليه ، لأنّ الله سبحانه إنّما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم ) (٥).

ويبدو من كلام ذكره الطحاوي في ( شرح معاني الآثار ) في ( باب الوتر ) ، فقد روى بسنده عن عطاء ، قال : ( قال رجل لابن عباس رضي الله عنه : هل لك في معاوية أوتر بواحدة ( أي صلى الوتر ركعة واحدة ) وهو يريد أن يعيب معاوية ، فقال ابن عباس. أصاب معاوية ).

وتعقب الطحاوي بذكر ما دلّ على إنكار ابن عباس صحة تلك

____________________

(١) آل عمران / ٢٨.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣١٣.

(٣) نفس المصدر.

(٤) البحر المحيط ٢ / ٤٢٣.

(٥) تفسير الطبري ١٤ / ١٢٢ ، وأخرجه السيوطي في الدر المنثور ١ / ١٧٦ عن ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس.

ورواه ابن حجر في فتح الباري ١٢ / ٢٦٣ عن ابن جرير أيضاً ، أقول وعطية العوفي راوي الخبر لهم في وثاقته نظر.

٤٢٧

الصلاة من معاوية فساق بسنده عن عكرمة أنّه قال : ( كنت مع ابن عباس عند معاوية نتحدث حتى ذهب هزيع من الليل ، فقام معاوية فركع ركعة واحدة ، فقال ابن عباس : من أين ترى أخذها الحمار؟).

وأخرج أيضاً عن أبي بكرة مثله ، ثم قال الطحاوي : ( وقد يجوز أن يكون قول ابن عباس : أصاب معاوية على التقية له ، أي أصاب في شيء آخر ، لأنّه كان في زمنه ، لا يجوز عليه عندنا أن يكون ماضي لفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قد علمه عنه صواباً ).

ثم أخرج عن ابن عباس في الوتر أنّه ثلاث (١).

ومهما أردنا أن نحمل على التقية بعض فتاوى ابن عباس رضي الله عنه فتبقى له بعض الشواهد على خلافها قائمة من خلال ولائه في أقواله وأعماله ، فإنّه كان مجاهراً بموالاة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قولاً وعملاً ، وقد مرّت في الحلقة الأولى ( سيرة وتاريخ ) بعض الشواهد كحديث الكتف والدواة ، وما كان عنه في أيام أبي بكر وعمر وعثمان ، وأمّا في أيام معاوية فأكثر من ذلك.

ومنها ما مرّ ذكره وأخرجه النسائي في سننه في كتاب ( المناسك ) في ( باب التلبية بعرفة ) بسنده : ( عن سعيد بن جبير ، قال : كنت مع ابن عباس بعرفات فقال : ما لي لا أسمع الناس يلبّون؟ قلت : يخافون من معاوية.

فخرج ابن عباس من فسطاطه فقال : لبيك اللهم لبيك ، لبيك فإنّهم تركوا السنة من بغض عليّ عليه السلام ) (٢).

وحتى في حديث الكتف والدواة لم يكن دائماً في سعة الأمان حين

____________________

(١) شرح معاني الآثار ١ / ٣٨٩.

(٢) سنن النسائي كتاب المناسك ٥ / ٢٥٣ باب التلبية بعرفة.

٤٢٨

كان يحدّث به ، ولعلّ سرُ معنى بكائه الشديد حتى يبلّ دمعه الحصى ، فهو قد يكنى عن الرجل الذي منع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتابة الكتاب حين لا يأمن شر غائلة المستمعين ، كما صرّح بهذا لسليم بن قيس التابعي الشهير صاحب الكتاب المشهور باسمه ـ وهو أوّل كتاب تصل نسخته من تراث التابعين ـ فقد جاء فيه : ( أبان بن أبي عياش عن سليم ، قال : إنّي كنت عند ابن عباس في بيته وعنده رهط من الشيعة ، قال : فذكروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموته ، فبكى ابن عباس وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الأثنين ـ وهو اليوم الذي قبض فيه ـ وحوله أهل بيته وثلاثون رجلاً من أصحابه : ( ايتوني بكتف أكتب لكم فيه كتاباً لن تضلوا بعدي ولن تختلفوا بعدي ) ، فمنعهم ... هذه الأمة ، فقال : إنّ رسول الله يهجر ، فغضب رسول الله ، وقال : ( إنّي أراكم تخالفوني وأنا حي فكيف بعد موتي ) ، فترك الكتف.

قال سليم : ثم أقبل عليَّ ابن عباس فقال : يا سليم لولا ما قال ذلك الرجل لكتب لنا كتاباً لا يضلّ أحد ولا يختلف اثنان ، فقال رجل من القوم : ومن ذلك الرجل؟ فقال : ليس إلى ذلك سبيل.

فخلوت بابن عباس بعد ما قام القوم ، فقال : هو عمر ، فقلت قد سمعت عليّاً عليه السلام وسلمان وأبا ذر والمقداد يقولون : ( إنّه عمر ) ، فقال : يا سليم أكتم إلاّ ممن تثق بهم من إخوانك ، فإنّ قلوب هذه الأمّة أشربت حبّ هذين الرجلين كما أشربت قلوب بني إسرائيل حبّ العجل والسامريّ ) (١).

ويظهر من رواية سليم عن ابن عباس رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كرر الطلب يوم الأثنين وهو يوم وفاته أيضاً ، بينما كان الطلب الأوّل في يوم الخميس قبل

____________________

(١) كتاب سليم / ٧٩٤ ح ٢٧ تحقيق الأنصاري.

٤٢٩

ذلك بثلاثة أيام وهو يوم الرزية كلّ الرزية ، كما في جملة المصادر الشيعية والسنية ، وقد مرّ الحديث عنه مفصلاً في الحلقة الأولى.

ولقد كان ابن عباس رضي الله عنه قد لزم وصيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حالّ فسادِ الناس حين قال للمسلمين عموماً ولابن عباس خاصة : ( إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفّت أماناتهم ، وكانوا هكذا ) ، وشبك بين أصابعه ...

فقال ابن عباس رضي الله عنه : فكيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟

قال : ( الزم بيتك ، وابك على نفسك ، وخذ ما تعرفه ودع ما تنكر ، وعليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمر العامة ، وأملك عليك لسانك ) (١).

وليكن هذا آخر حديثنا في الفصل الثالث في طابع فقهه وكثرة فتاويه وما بينهما من تفاوت رُبّما كان للتقية دوراً في هذا المجال.

وبهذا نختم الجزء الثالث من هذه الحلقة ، فإلى قراءة الجزء الرابع وأوّله الفصل الرابع حول تضلعه في آداب اللغة العربية ، ومظاهر نبوغه فيها ، وفيما ورد عنه من آثار أدبية ومحاججات كلامية ومفردات حكمية ، وما يلحق بها وهو نهاية الباب الثالث ، أمّا الباب الرابع فنقرأ نماذج من خطبه ورسائله وكلماته القصار ، وبها ختام الجزء الخامس من الحلقة الثانية ، نسأل المولى جلّ اسمه التوفيق والتسديد لإتمامها وباقي الحلقات إنّه سميع جيب.

____________________

(١) مرجت أي فسدت ومنه قوله تعالى : ( بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) ( قّ / ٥ ).

وقوله : ( خفت أماناتهم ) أي قلّت ، مأخوذ من قولهم خفّ القوم أي قلّوا والحديث رواه أبو داود والنسائي بإسناد حسن.

٤٣٠

فهرس الجزء الثامن

تمهيد........................................................................... ٩

عرض المشكلة بأبعادها......................................................... ١٥

وقفة تحقيق في الطريق........................................................... ٢١

وقفة عابرة مع أحمد أمين....................................................... ٢٧

لمحات تاريخية عباسية............................................................ ٣٩

استذكار للتاريخ العباسي ( بين خلفائه وعلمائه ) ................................. ٣٩

حديث الأعمش والمنصور....................................................... ٥٣

قراءة في كتب الموضوعات وعلم الحديث......................................... ٧٩

الفصل الثاني

معارفه في الحديث.............................................................. ٨٩

المبحث الأوّل أحاديث مختارة عن ابن عباس في التراث الشيعي...................... ٩١

المبحث الثاني أحاديث مختارة عن ابن عباس في التراث السنّي...................... ١١١

المختار من أحاديث ( المصنف ) ............................................... ١٢١

الفصل الثالث

ابن عباس فقيهاً............................................................... ٣٥٥

٤٣١

طابع فقاهته المذهبي........................................................... ٣٥٨

كثرة فقه ابن عباس بين الرفض والقبول......................................... ٣٦٠

مدرسة الوضع تنال ابن عباس بالكذب عليه في حياته............................. ٣٦٦

من الحزم شهادة ابن حزم...................................................... ٣٧١

عقوبة التحريق بين التصديق والتلفيق........................................... ٣٧٦

ماذا في التراث الشيعي عن التحريق؟............................................ ٤٠٢

روى الكليني في ( الكافي ) : .................................................. ٤٠٢

يؤتى المرء من مأمنه........................................................... ٤٠٦

قراءة في كتاب عن ابن عبد الوهاب............................................ ٤١٤

ابن عباس والتقية............................................................. ٤٢٣

فهرس الجزء الثامن............................................................ ٤٣١

٤٣٢