موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٨

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٨

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-96-6
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٣٢

وقفة تحقيق في الطريق

إنّ ابن عباس رضي الله عنه لمّا كان يروي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله : ( اتقوا الحديث عنّي إلاّ ما علمتم فإنّه من كذّب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ) (١) ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنّ هذا العلم دين فأجيزوا الحديث ما أسند إلى نبيكم ) (٢) ، فهل يعقل أن يتخطى هو ما مُثّل له من سبيل؟

ولا أدلّ على إحتياطه في رواية الحديث من حديثه مع بشير ابن كعب العدوي ، وقد رواه مسلم في مقدمة صحيحه : ( بسنده عن طاووس قال : جاء هذا إلى ابن عباس ـ يعني بشير بن كعب ـ فجعل يحدّثه ، فقال له ابن عباس : عد لحديث كذا وكذا ، فعاد ثم حدّثه ، فقال له : عد لحديث كذا وكذا ، فعاد له ، فقال له : ما أدري أعرفت حديثي كله وأنكرت هذا؟ أم أنكرت حديثي كلّه وعرفت هذا؟ فقال له ابن عباس : إنّا كنّا نحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ لم يكن يُكذب عليه ، فلمّا ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه ) (٣).

____________________

(١) الموضوعات لابن الجوزي ١ / ٨٢.

(٢) الكامل لابن عدي ١ / ١٤٩.

(٣) صحيح مسلم ١ / ١٠.

٢١

وفي لفظ مجاهد : ( قال : جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدّث ويقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه ، فقال : يا بن عباس ما لي أراك لا تسمع لحديثي ، أحدّثك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا تسمع؟ فقال ابن عباس : إنّا كنّا مرّة إذا سمعنا رجلاً يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إبتدرته أبصارنا ، وأصغينا إليه بآذاننا ، فلمّا ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلاّ ما نعرف ) (١).

فابن عباس رضي الله عنه في إمتناعه سماع بشير ، هو تجريح لناس من الصحابة من طرف خفي كانوا يكذبون في أحاديثهم.

وفي لفظ رواه الحاكم في ( المستدرك ) : ( كنّا نحفظ الحديث والحديث يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى ركبتم الصعب والذلول ) (٢).

وأحسب أنّ ابن عباس رضي الله عنه إنّما قد حدّ من نشاطه أيام الضغط الأموي الجائر من معاوية وأشياعه ، وقد مرّ في الجزء الخامس من الحلقة الأولى نماذج من مواقفه ، ولا يبعد أن الضغط بلغ مداه أيام ابن الزبير الذي ضايقه وشهّر به ، وردّ عليه ابن عباس قدر مستطاعه ، فأحسبه صار يستعمل الكناية في التعريض به وبغيره من أمراء الجور ـ إذ ربّ كناية أبلغ من التصريح ـ فصار يتخذ التعريض من خلال تفسيره لقوله تعالى : ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (٣) ، فيقول :

____________________

(١) نفس المصدر.

(٢) مستدرك الحاكم ١ / ١١٣.

(٣) النساء / ٥٩.

٢٢

( يعني أهل الفقه والدين وأهل طاعة الله الذي يعلّمون الناس معالي دينهم ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر فأوجب الله طاعتهم ) (١).

فهو بهذا التفسير الواضح الصريح في قصر ولاية أولي الأمر على أولي الفقه والدين ينفيها كناية عمّن يتولى السلطة يومئذٍ من أمراء الشام وابن الزبير ، إذ ليس فيهم من جمع بعض تلك الصفات المحمودة فضلاً عن كلّها. فصارت الكناية لديه سبيلاً آمناً للتخلص من شرور الحاكمين ، كما أنّها كانت وسيلة اتخذها بعض الصحابة لتمرير رواياتهم ، وإن أسيء فهمها.

ونحن إذا محّصنا روايات الصحابة الآخرين ، فنجدهم قد يكنّون من غير تدليس ، ويعلنون بلا تلبيس ، فنرى أنس بن مالك ـ خادم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ربمّا سئل إذا حَدّث ، فيقال له : ( أنتَ سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فيغضب ثم يقول : ما كُلُ ما نحدّثكم سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما كان بعضنا يكذب على بعض ) (٢) ، وهذا اعتراف خطير! وأخطر منه ما قاله البراء بن عازب ، فهو يقسم على أن ليس كلّ ما حدّثوا به سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول : ( والله ما كُل ما نحدّثكم سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن سمعنا وحُدثنا ، ولم نكن نكذب ) (٣).

____________________

(١) مستدرك الحاكم ١ / ١٢٣.

(٢) الكامل لابن عدي ١ / ١٥٧.

(٣) نفس المصدر.

٢٣

وليتني كنت أدري! إذا كان الرجل بارّاً بقسمه ، فلماذا تكاذبت عائشة وأبو هريرة؟ فقالت له : ( يا أبا هريرة ما هذه الأحاديث التي تبلغنا عنك تحدّث بها عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؟ هل سمعت إلاّ ما سمعنا؟ وهل رأيت إلاّ ما رأينا؟ قال : يا أماه إنّه كان يشغلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المرآة والمكحلة والتصنّع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنّي ما كان يشغلني عنه شيء ) (١)!

وليتني كنت أدري! هل كان البراء بارّاً بقسمه ( ولم نكن نكذب ) ـ ويعني الصحابة ـ كيف وقد أكذب عمر وعليّ عليه السلام وابن عباس وابن عمر وغيرهم أبا هريرة؟ (٢) ، وإن شئت فأنظر ( قبول الأخبار ) للكعبي تجد قول ابن عمر : كذِب أبو هريرة.

وقوله هذا في الحديث : ( من اقتنى كلباً إلاّ كلب الصيد أو ماشية انتقص من أجره كلّ يوم قيراطان ) ، قالوا له : كان أبو هريرة يروي الحديث هكذا : ( إلاّ كلب صيد أو ماشية أو كلب زرع ) ، فقال ابن عمر : إنّ لأبي هريرة زرعاً (٣).

وهو نقد من ابن عمر لطيف يشير إلى الباعث النفسي الحثيث لأبي هريرة مع سخرية بارعة لاذعة (٤). وللجاحظ حول هذا الحديث كلام في

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين للحاكم ٣ / ٥٠٩ ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي في تلخيصه على ذلك ، وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء٢ / ٦٠٤ ، وابن حجر في الإصابة وعزاه لابن سعد وجوّد إسناده ، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية ٨ / ١٠١ ، وغيرهم وغيرهم؛ وجميعهم لم يؤاخذوا أبا هريرة على قولته النكراء مع أم المؤمنين ( الحميراء ).

(٢) راجع شيخ المضيرة لمحمود أبو رية.

(٣) قبول الأخبار للكعبي ١ / ١٨٣ ـ ١٨٤.

(٤) أنظر شرح النووي على صحيح مسلم ٤ / ٣٤.

٢٤

كتاب ( الحيوان ) (١) ، فليرجع إليه من شاء الإطلاع عليه.

ونعود إلى ما افتتحنا القول فيه عن التشكيك في كثرة مرويات ابن عباس رضي الله عنه فنقول :

هل لنا أن نسأل من أولئك المشككين من المفرطين في القلّة ما دام الورع والإحتياط غلب عليهم فرأوا عدم التناسب بين كثرة المرويات عن ابن عباس وقلّة سني الصحبة وهي ثلاث سنين ، هـلا هداهم ذلك الورع إلى ملاحظة مرويات أبي هريرة ـ راوية الإسلام كما سمّوه ـ. فقد كانت سنّي صحبته دون ثلاث سنين فما بالهم لا يشككون في مروياته مع إستنكار الصحابة وتكذيبهم له في حياته ، ومروياته فاقت على الضعف من مرويات ابن عباس ، وقد مرّ بحث المسألة فيما سبق فلا حاجة إلى إعادتها.

____________________

(١) الحيوان ١ / ١٤٨.

٢٥
٢٦

وقفة عابرة مع أحمد أمين

لقد كتب الدكتور أحمد أمين المصري كتابه ( فجر الإسلام ) ، وظهرت طبعته الأولى قبل أكثر من ثمانين عاماً ، فكانت فيه شوائب كثيرة ، وفيه تطاول ظالم على نجوم ثوابت في تاريخ ذلك الفجر ، ووزّع سهام إتهاماته يميناً وشمالاً ، فنالت الشيعة الأبرياء ، منها على ظلم منه وإفتراء. وانبرى له في أيامه من تناوله بالنقد والمناقشة ، وآخر بالعتاب والحساب. وليس يعنينا ذكر ما أعتذر به عندهم يوم زار النجف الأشرف من عدم الإطلاع على مصادرهم (١)! والذي يعنينا في المقام بعض ما قاله في ابن عباس رضي الله عنه من إتهام مقروناً ذكره مع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، ليخلص الباحث إلى رمي الشيعة وجعلهم في مصافّ المتزلفين إلى العباسيين.

فقال ـ والحديث عن شخصية ابن عباس ـ : ( ترى فيها ضرباً من تخصيص الحياة للعلم ، وضرباً من سعة الإطلاع في نواح علمية مختلفة ، نعم قد أحيط اسمه ببعض المبالغات ـ على ما يظهر ـ نشأت في الدولة العباسية ، لما كان جدّ الخلفاء ، ولكن لهذه المبالغات أساساً من الصحة من سعة العلم وقوة الحجة ، وأكثر ما أشتهر به أقواله في تفسير

____________________

(١) كما في حديثه مع المغفور له الشيخ كاشف الغطاء قدس‌سره.

٢٧

القرآن ... ) (١).

وقال : ( ويظهر أنّه وضع على ابن عباس وعليّ أكثر ممّا وضع على غيرهما ، ولذلك أسباب :

أهمها أنّ عليّاً وابن عباس من بيت النبوة ، والوضع عليهما يكسب الموضوع ثقة وتقديساً لا يكسبها الإسناد إلى غيرهما.

ومنها أنّه كان لعليّ شيعة ما لم يكن لغيره ، فأخذوا يضعون وينسبون له ما يظنون أنّه يُعلي من قدره العلمي (؟!). وابن عباس كان من نسله الخلفاء العباسيون ، يُتقرّب إليهم بكثرة المروي عن جدّهم (؟!).

إن شئت فانظر إلى ما روى ابن أبي جمرة عن عليّ ، أنّه قال : ( لو شئت أن أوقر سبعين بعيراًً من تفسير أم القرآن ( الفاتحة ) لفعلت ) ، وما روي عن أبي الطفيل ، قال : شهدت عليّاً يخطب وهو يقول : ( سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء إلاّ أخبرتكم ، وسلوني عن كتاب الله ، فوالله ما من آية إلاّ وأنا أعلم بليل نزلت أم نهار ، أم ( في ) سهل أم في جبل؟ ) ).

ثم قال : ( ومجرّد رواية هذين الحديثين يغني عن التعليق عليهما.

وقد روي عن ابن عباس ما لا يحصى كثرة ، ولا تكاد تخلو آية من آيات القرآن إلاّ ولابن عباس فيها قول أو أقوال ، وكثر الرواة عنه كثرة جاوزت الحدّ ، واضطرت النقاد أن يتتبعوا سلسلة الرواة فيعدّلوا بعضاً ويجرّحوا بعضاً ، فيقولون مثلاً : انّ طريق معاوية بن صالح ، عن

____________________

(١) فجر الإسلام / ١٤٨ ط السابعة.

٢٨

علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس من أجود الطرق ، وقد اعتمد عليها البخاري ، ورواية جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس غير مرضية ، وابن حريج ـ كذا والصحيح ابن جريرـ في جمعه لم يقصد الصحة ، وإنّما روى ما ذكر في كلّ آية من الصحيح والسقيم ، ورواية الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس أوهى طرقه ، فإن انضم إلى ذلك رواية محمد بن مروان السدي الصغير فهي سلسلة الكذب ، إلى كثير من أمثال ذلك.

وقد روي من طرق ابن عبد الحكم ، قال : سمعت الشافعي يقول : ( لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلاّ شبيه بمائة حديث ) (١) ، فإن صح هذا دلّنا على مقدار ما كان يختلق الوضاعون ، وإلى أيّ حدّ بلغت جرأة الناس على الإختلاق.

ومن أدلّة الوضع أنّك ترى روايتين نقلتا عن ابن عباس أحياناً وهما متناقضتان ، لا يصح أن تنسبا إليه جميعاً.

فترى في ابن جرير مثلاً عند تفسير قوله تعالى : ( فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً ) (٢) ، عن معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : ( إنّما هو مثل ، قال : قطّعهنّ ثم اجعلهن في أرباع الدنيا ، ربعاً ههنا ، وربعاً ههنا ، ثم أدعهن يأتينك سعياً ... ) ، وقال بعد قليل : حدثنا محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمير ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( ( فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ) ، صرهنّ ، أوثقهنّ ... الخ ). فهو يفسّر

____________________

(١) الإتقان ٢ / ٢٢٥.

(٢) البقرة / ٢٦٠.

٢٩

صرهنّ ، مرّة بقطّعهْنّ ، ومرّة بأوثقهن ، ومن العسير أن نتكلف القول بأنّه فسّر هذا زمناً وفسر ذلك آخر ، وأمثال ذلك كثير في ابن جرير ) (١). أنتهى ما أردنا نقله عن أحمد أمين.

ومن حقنا أن نسأل القراء : هل اقتنعوا بصحة ما كتبه الدكتور أحمد أمين من إنشاء خطابي ودعاوى فارغة؟ إذ لم يذكر لما استظهره مصدراً ينظر فيه ، وكان عليه أن يوثق ما استظهره بذكر منشأ الظهور.

فهو حين يقول عن ابن عباس رضي الله عنه : ( نعم قد أحيط اسمه ببعض المبالغات ـ على ما يظهر ـ فنشأت في الدولة العباسية لما كان جدّ الخلفاء ). فهل كون الرجل جدّاً للخلفاء يصح أن يكون وحده منشأ للظهور؟!

وقال أيضاً : ( ويظهر أنّه وضع على ابن عباس وعلي أكثر ممّا وضع على غيرهما وذلك لأسباب : أهمها أنّ عليّاً وابن عباس من بيت النبوة ... ) الخ. وهل هذا السبب يمنح الزاعم قوّة استظهار؟ ياللعجب!

وما دام لم يذكر منشأ الظهور ، فأولى به رميه وراء الظهور ، ولنا التنبيه على ما في كلامه من التمويه ، فإنّ شرف الإنتساب المكتسب من شرف النبوة ، لا شك فيه ، إنّما الكلام في زعم الكاتب أنّ الوضع كان من أجله.

____________________

(١) فجر الإسلام / ٣٦ ـ ٣٨ و ٥٥ ـ ٥٧ ط٢ البابي الحلبي ١٣٧٣ هـ.

٣٠

فمن هو الواضع؟

وما هي هوية الرواة؟

ومَن هم الشيعة الذين أخذوا يضعون وينسبون لعليّ عليه السلام ما يظنون أنّه يُعلي من قدره العلمي؟

وما هو التراث الذي وضعوه؟

وهل كان عليّ عليه السلام بحاجة لأن يعلي قدره العلمي بما يضع له الشيعة؟

إنّها مزاعم صبيانية كان على ابن الأزهر أن يتجنبها لما يعلمه هو وغيره بأنَّ عليّاً عليه السلام لم يكن ينقصه شيء ، حتى يكملوه له شيعته ، وهل بعد قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : ( أنا مدينة العلم وعليّ بابها ) (١) مجال للتنطع ( ليعلي من قدره العلمي )؟!

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أقضاكم عليّ ) ، أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ ) ، أو قوله : صلى الله عليه وآله وسلم ( عليّ عيبة علمي ) ، إلى غير ذلك ممّا دلّ على تميّز عليّ عليه السلام على سائر الصحابة في مقامه العلمي.

ودع شهادات أعيانهم بذلك ، فمن كان بهذا المقام السامي وله الأفضلية ، فهو بغير حاجة إلى شيعته يضعون له ما يعلي قدره العلمي.

وأمّا شأن الحديثين اللذين ذكرهما وجعلهما بمثابة دليل على وضع الشيعة ولم يعلّق عليهما ساخراً بقوله : ( ومجرّد رواية هذين الحديثين يغني عن التعليق عليهما ).

____________________

(١) راجع كتاب عليّ إمام البررة ١ / ٢٢٤ ـ ٢٤١.

٣١

ونحن أيضاً لسنا بحاجة إلى التعليق منه عليهما بشىء ، بعد أن عرفنا مبلغ علمه في جعله لهما من أحاديث الشيعة ليَعلوا قدر عليّ عليه السلام العلمي؟ وهما ـ الحديثان ـ ليسا من أحاديث الشيعة فحسب ، بل رواهما من أهل السنة في مصادرهما المعتبرة عند أحمد أمين! وعنهم أخذت المصادر الشيعية من باب إلزام الخصم وتأكيد الحجة.

فالحديث الذي رواه أبو جمرة ، لقد رواه الغزالي في ( إحياء العلوم ) في الباب الرابع فصل في القرآن ، ورواه أبو طالب المكي في كتابه ( علم الغيوب ) (١) ، ورواه السيوطي في ( الإتقان ) (٢) ، وهؤلاء من أئمة أهل السنة ، وقد اعتمد هو على السيوطي فأخذ عن كتابه ( الإتقان ) مقولة الشافعي ( لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلاّ شبيه بمائة حديث ) ، فعليه أن يقبل هنا ما ذكرته عنه ، ولا يكونن من الممترين.

وأمّا الحديث الثاني الذي رواه أبو الطفيل ، فقد رواه ابن سعد في ( الطبقات (٣) ، وابن جرير في تفسيره (٤) ، وعبد الرزاق في ( المصنف ) كما في ( فتح الباري ) لابن حجر (٥) ، وابن عبد البر في ( الإستيعاب ) (٦) ، وابن حجر في

____________________

(١) كتاب علم الغيوب / ٧٢.

(٢) الإتقان ٢ / ١٦ النوع ٨٢.

(٣) طبقات ابن سعد ٢ / ق٢ / ١٠١.

(٤) تفسير ابن جرير ٢٦ / ١١٦.

(٥) فتح الباري ١٠ / ٢٢١.

(٦) الإستيعاب ٢ / ٤٦٣ وذكره أيضاً في كتاب العلم.

٣٢

( الإصابة ) (١) ، وفي ( تهذيب التهذيب ) (٢) ، وابن الأنباري في كتاب ( المصاحف ) كما في ( كنز العمال ) (٣) ، فهؤلاء وغيرهم رووا حديث أبي الطفيل فقلنا بصحته.

وكيف لا يذعنون وأبو الطفيل من الصحابة ، وقالوا فيه إنّه آخر الصحابة موتاً بالكوفة مات سنة ١٠٠ هـ؟! ومَن كان من الصحابة لا ينبغي أن يسخر من روايته أحمد أمين ، ( إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ) (٤).

هذا ما جرى عرضاً ذكره عن إتهام أحمد أمين للشيعة في وضعهم ما يظنون أنّه يعلي قدر عليّ عليه السلام العلمي!

ونعود إلى صلب الموضوع فيما يتعلق بابن عباس رضي الله عنه.

فقد ذكر أحمد أمين كثرة الروايات ( ما لا يحصى كثرة ... وكثر الرواة عنه كثرة جاوزت الحدّ ، واضطرت النقاد أن يتتبعوا سلسلة الرواة فيعدّلوا بعضاً ويجرّحوا بعضاً ).

وهذا كلام متين لا غبار عليه ، لولا استجواده تفضيل طريق معاوية ابن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس! مع العلم بأنّ علي بن أبي طلحة لم يرو عن ابن عباس ، وإنّما قالوا عنه : انّه روى عن مجاهد عن ابن عباس ، وقد عُدّ من المدلّسين! وقد مرّ بنا بعض ما يتعلق بالمقام.

____________________

(١) الإصابة ٤ / ق١ / ٢٧٠.

(٢) تهذيب التهذيب ٧ / ٣٣٧.

(٣) كنز العمال ١ / ٢٢٠٨ ط الأولى بحيدر آباد.

(٤) هود / ٣٨.

٣٣

وأحسب أنّ الذين فضّلوا روايته على غيره ، لأنّ البخاري أخرجها في صحيحه ، وليس لهم أن يناقشوا ما دام الراوي عنه هو البخاري ، ومن روى عنه فقد جاز القنطرة؟!

ومهما يكن من أمرهم ، فعليهم وزرهم ولهم أجرهم ، ولكن هلمّ الخطب فيما ذكره أحمد أمين من أدلّة الوضع ، فقال : ( إنّك ترى روايتين نقلتا عن ابن عباس أحياناً وهما متناقضتان لا يصح أن تنسبا إليه جميعاً ، فترى ابن جرير مثلاً عند تفسير قوله تعالى : ( فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً ) (١) ، عن معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : ( إنّما هو مثل ) ، قال قطعهن ... وقال بعد قليل : حدثنا محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ) ، صرهن : أوثقهن ... ).

واللافت للنظر أنّ أحمد أمين لم يكن دقيقاً في أمانته في النقل ، كما ينبغي أن يكون ويقتضيه لقب الأمين في نسبه ، وذلك أنّه نقل عن ابن جرير روايتين تخيّل فيهما شاهداً على التناقض بينهما في الروايات عن ابن عباس ، بينما كانت الأمانة تفرض عليه نقل ما ذكره ابن جرير من الروايات جملة وتفصيلاً ، ثم يحكم عليها بالتناقض لو كان. أمّا وقد اقتصر على روايتين من ست روايات تتفق في معناها وتتفاوت في ألفاظها ثم يزعم التناقض ، فليس هذا في شيء من الأمانة!

____________________

(١) البقرة / ٢٦٠.

٣٤

وإلى القارئ أذكر ما رواه ابن جرير في تفسير الآية الكريمة مع حذف الإسناد إلى من دون الراوي عن ابن عباس :

الأولى : ( ... عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( فَصُرْهُنَّ ) قال : نبطية ، فشقّقهن ) (١) ، وهذه الرواية لم يذكرها أحمد أمين.

الثانية : ( ... عن أبي حمزة ، عن ابن عباس ، قال : في هذه الآية ... قال : إنّما هو مثل ، قال : قطّعهن ، ثم اجعلهن في أرباع الدنيا ، ربعاً ههنا ، وربعاً ههنا ... ) (٢) ، وهذه كسابقتها لم يذكرها أحمد أمين بهذا الإسناد ، فوهم إذ ذكرها منسوبة عن علي بن أبي طلحة ، بينما متن رواية ابن أبي طلحة هو كالآتي :

الثالثة : ( ... عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( فَصُرْهُنَّ ) قال : قطّعهن ) (٣) ، وهذه هي الرواية التي ركّب إسنادها على التي قبلها.

الرابعة : ( محمد بن سعد .... عن أبيه ، عن ابن عباس : ( فَصُرْهُنَّ ) صرهن : أوثقهن ) (٤) ، وهذه ذكرها دون بقيتها كما ستأتي في الرواية السادسة.

الخامسة : ( ... عن أبي حمزة ، عن ابن عباس : ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ) قال : اجعلهن في أرباع الدنيا ، ربعاً ههنا ، وربعاً ههنا ... ) (٥).

____________________

(١) جامع البيان ٣ / ٧٨.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر.

(٤) نفس المصدر ٣ / ٨٠.

(٥) نفس المصدر.

٣٥

السادسة : ( محمد بن سعد ... عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لمّا أوثقهن ذبحهنّ ثم جعل على كلّ جبل منهن جزءاً ... ) (١).

هذه هي الروايات التي ذكرها ابن جرير في تفسير الآية الكريمة ، وأنت تجد أربعاً منها متفقة في معنى ( فَصُرْهُنَّ ) ، ففي الرواية الأولى ( فشقّقهن ) ، وفي الثانية والثالثة ( قطعهن ) ، وفي الخامسة عن أبي حمزة اجعلهن في أرباع الدنيا ، وهذا من تتمة روايته الأولى التي هي بحسب التسلسل الثانية ، وقد مرت ، وفيها : ( قطعهنّ ).

أمّا روايتا محمد بن سعد ... عن أبيه ، عن ابن عباس ، ففي أوّلاهما : ( فَصُرْهُنَّ ) أوثقهن ، وفي ثانيتها : ( لمّا أوثقهنّ ذبحهنّ ، ثم جعل على كلّ جبل منهن جزءاً ) ، فكلتا هاتين الروايتين في معناهما لا يناقضان معنى مع ما مرّ ، وإن اختلفت ألفاظهما ، فأين التناقض المزعوم؟

على إنّا لا ننكر وجود روايات متنافية وأخرى موضوعة على ابن عباس رضي الله عنه مروية عن بعض أصحابه عنه ، كما ستأتي شواهد على ذلك عن عكرمة البربري الخارجي في الحلقة الرابعة إن شاء الله تعالى.

أمّا ما ذكره بقوله : ( وابن عباس كان من نسله الخلفاء العباسيون يتقرب إليهم بكثرة المروي عن جدّهم ) ، فهذه على عمومها دعوى تحتاج إلى برهان ، وأدلة الإثبات قاصرة ، فهي مجرد احتمال ، ولم يبين لنا أحمد أمين كيف يكون المنشأ أنّ الخلفاء العباسيين من نسله ، فيتقرب إليهم بكثرة المروي. ولم يأت بشاهد على ذلك!

____________________

(١) نفس المصدر.

٣٦

وهذا قد يكون وجيهاً لو ذكر له شاهداً مقبولاً (١) ، وإنّا إذا رجعنا إلى تاريخ الحكم العباسي ، ففي عصور السبعة الأوائل من خلفائه نجدهم ليسوا بأغبياء ، بل كانوا أذكياء وعلى جانب من الفطنة واليقظة في رعاية الحركات الفكرية ، وإن كان ذلك لمصالحهم السياسية ، فكانوا يحضرون العلماء ويطارحونهم المسائل ، وربما كانت المسائل على درجة عالية من الحساسية لكونها عقائدية ، والشواهد على ذلك كثيرة ، كما نقرأ في بعض ما ذكر في تاريخهم عن وجود عناصر مختلفة من العلماء اجتمعوا بهم ، فكان منهم الصلب في دينه ، ومنهم المتخاذل الخاوي ، وكان الخلفاء يعرفون كلاً بسيماهم ، فيعاملونهم حسب ولاءاتهم العقائدية ، بما تمليه عليهم سياساتهم المختلفة.

فالمنصور الدوانيقي مثلاً ثاني خلفائهم ، فبالرغم من شدّته وتنمّره للعلويين وبني الحسن خاصة ، كان يرسل إلى العلماء فيحضرهم ويطارحهم بما شاء ، وسيأتي بعض أخباره مع مالك بن أنس الذي كتَب له الموطأ بإشارة منه ، وغير مالك ممن لم يبع دينه كعمرو بن عبيد والأعمش ، وهكذا كان أخلافه من بعده ، وقد تميّز عصر المأمون بتفوقه في نشاط الحركات الفكرية المتصارعة وتنسم المعتزلة الحرية ، وكان عصره هو الفترة الذهبية من عصور بني العباس ، وقد قال دعبل الخزاعي في هؤلاء السبعة من خلفاء بني العباس مفضلاً إياهم فسمّاهم

____________________

(١) وللدكتور مصطفى السباعي في كتابه ( السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ) مناقشات جادة وحادة مع أحمد أمين ، فراجع.

٣٧

ملوكاً ، وهم كانوا كذلك ، فقال وقد هجا المعتصم ثامنهم :

ملوك بني العباس في الكتب سبعة

ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب

كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة

توفوا زمانا وثامنهم كلب

٣٨

لمحات تاريخية عباسية

فعلينا أن نقرأ بعض اللمحات في تاريخ هؤلاء السبعة بحثاً عن شاهد يؤكد مزاعم الزاعمين ، أنّ المتزلفين إليهم هم الذين أكثروا الرواية ونسبوها إلى ابن عباس ليرفعوا بضبعه ، ويشيدوا بذكره ليجعلوه في مصافّ الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، إرغاماً لأنوف العلويين الذين بدأت حركاتهم تتنامى في سبيل الحكم واسترداد ما استلبه بنو العباس من الأمويين باسم الدعوة للعلويين تحت شعار ( الرضا من آل محمد ) فإلى :

استذكار للتاريخ العباسي ( بين خلفائه وعلمائه )

كما يوجد في كلّ عصر مَن يسبّح بحمد الحاكمين على ما فيهم من ظلم وجور ، وفسق ومجون ، كذلك يوجد مَن يأبى الخنوع والخضوع لكبرياء السلطة ، وكذلك يوجد ما بين العزّة والخضوع أنماط وأخلاط.

وحكم العباسيين لم يخل من متزلفة باعوا دينهم بأثمان بخسة ، إمّا بوظيفة ، أو ببدرة دراهم ودنانير ، أو جلسة شراب وغناء ، ومن هذا النمط المنحط أفراد اتخذوا من الحديث وسيلة لبلوغ مآربهم ، فتزلّفوا

٣٩

إلى بني العباس ليضعوا لهم الحديث في آبائهم ، فكانوا هؤلاء ركيزة الإتهام في كثرة مروّيات ابن عباس ، لكنه إتهامٌ فقد وسائل الإثبات ، وجعجعة بلا طحين.

وهكذا تبقى هذه المسألة عقدة مستعصية يصعب حلّها ، قبل الإلمام بشيء من تاريخ العباسيين ، الذين كانوا من نسل ابن عباس رضي الله عنه ، فناله من رذاذ مظالمهم في الحكم ما شوّه ناصع تاريخه ، فكانت الكثرة الكاثرة من المروّيات عنه في شتى فنون المعرفة ، مثار شك ، فحمل المشككون تبعة ذلك على المتزلفين إلى أبنائه ، إذ هالهم أن يجدوا ابن عباس رضي الله عنه ماثلاً شاخصاً في كتب التفسير والفقه والحديث واللغة والأدب والتأريخ وغيرها ، وهذا ما لا تحتمله عقول زوامل الأسفار من محللي الأخبار والآثار ، من مستعربين غرباء عن هذه الديار ، فنقّ معهم الأمعيّون من أبنائها ، يتلو بعضهم بعضاً ، من دون معاناة البحث عن موازين الصحة وعدمها في هذا المجال.

وأقصى ما لديهم من حجة أنّ ابن عباس من نسله الخلفاء ، إذاً لابدّ كان مَن يتزلّف إليهم بتفخيم أبيهم ، بتضخيم مروياته. وهذا مثار العجب!! إذ لا يصح ما ذكروه لتلك الكثرة الكاثرة أن يكون هذا وحده هو السبب.

ولقد سبق أن قلت مكرراً وأقولها الآن ولاحقاً كلمّا دعت الحاجة إليها : إنّ القاعدة العقلية ـ وهي المقولة الذهبية ـ تحكم بين المتنازعيَن في قولٍ أو رأي أو فعل : ( إن كنتَ راوياً فالصحة ، وإن كنتَ مدّعيا

٤٠