رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٥

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٥

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٦

فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [الصافات : ٢٧]؟

قلت : يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة ، ففيه أزمنة مختلفة وأوقات متغايرة يتساءلون في وقت ، ويشغلهم ما خامرهم من الأهوال والشدائد عن السؤال في وقت.

قرأت على قاضي القضاة أبي صالح نصر بن عبد الرزاق بن عبد القادر الجيلي الحنبلي ، أخبرتكم شهدة بنت أحمد بن الفرج الإبري فأقرّ به قالت : أخبرنا أبو الفضل محمد بن عبد السّلام الأنصاري ، أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب الخوارزمي البرقاني قال : قرأت على أبي العباس بن حمدان ، حدّثكم محمد بن إبراهيم بن [سعيد](١) البوشنجي (٢) ، حدثنا أبو يعقوب يوسف بن عدي (٣) ،

__________________

ـ ثقات ، والحاكم (٣ / ١٥٣ ح ٤٦٨٤) وقال : حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، والمقدسي في الأحاديث المختارة (١ / ١٩٧ ح ١٠١) وقال : إسناده حسن ، والبيهقي في الكبرى (٧ / ٦٤ ح ١٣١٧٢).

(١) في الأصل : سعد. والصواب ما أثبتناه ، انظر ترجمته في التعليق التالي.

(٢) محمد بن إبراهيم بن سعيد بن عبد الرحمن بن موسى العبدي ، أبو عبد الله البوشنجي الفقيه المالكي ، ولد سنة أربع ومائتين ، ارتحل شرقا وغربا ولقي الكبار ، وجمع وصنّف وسار ذكره وبعد صيته ، مات في آخر يوم من سنة تسعين ومائتين بنيسابور (سير أعلام النبلاء ١٣ / ٥٨١ ـ ٥٨٩ ، وتذكرة الحفاظ ٢ / ٦٥٧ ـ ٦٥٩).

(٣) يوسف بن عدي بن زريق بن إسماعيل ، ويقال : بن الصلت بن بسطام التيمي مولاهم ، أبو يعقوب الكوفي ، ثقة ، سكن مصر ، وذهب إليها في التجارة ومات بها في ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائتين (تهذيب التهذيب ١١ / ٣٦٧ ، والتقريب ص : ٦١١).

١٦١

حدثنا عبيد الله بن عمرو الرقي (١) ، عن زيد بن أبي أنيسة (٢) ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : «جاء رجل فقال : يابا عباس ، إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ ، وقد وقع ذلك في صدري ، فقال ابن عباس : أتكذيب؟ فقال الرجل : ما هو بتكذيب ولكن اختلاف. قال : فهلمّ ما وقع في نفسك؟ فقال له الرجل : أسمع الله يقول : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) وفي آية أخرى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) ، وقال في آية أخرى : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء : ٤٢] ، وقال في آية أخرى : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] ، فقد كتموه في هذه الآية. وفي قوله : (أَمِ السَّماءُ بَناها* رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها* وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها* وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٢٧ ـ ٣٠] ، فذكر في هذه الآية خلق السماء قبل الأرض ، وقال في الآية الأخرى : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ* وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ* ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ٩ ـ ١١] ، فذكر في هذه الآية (٣) خلق الأرض قبل السماء وقوله : (كانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٩٦] ، (وَكانَ اللهُ

__________________

(١) عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الأسدي مولاهم ، أبو وهب الجزري الرقي ، ثقة صدوق ، مات سنة ثمانين ، وهو ابن ست وسبعين سنة (تهذيب التهذيب ٧ / ٣٨ ، والتقريب ص : ٣٧٣).

(٢) زيد بن أبي أنيسة واسمه زيد الجزري ، أبو أسامة الرهاوي ، كان يسكن الرها ومات بها ، وكان ثقة كثير الحديث ، فقيها راوية للعلم ، مات سنة تسع عشرة ومائة (تهذيب التهذيب ٣ / ٣٤٣ ، والتقريب ص : ٢٢٢).

(٣) ساقط من ب.

١٦٢

عَزِيزاً حَكِيماً) [النساء : ١٥٨] ، (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) [النساء : ١٣٤] ، كأنه كان ثم تقضّى؟ فقال ابن عباس : هات ما في نفسك من هذا؟ فقال السائل : إذا أنبأتني بهذا فحسبي. قال ابن عباس : قوله : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) فهذا في النفخة الأولى ينفخ في الصور ، فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ، فإذا كانت النفخة الأخرى قاموا فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون.

وأما قول الله تعالى : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) وقوله : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) فإن الله تبارك وتعالى يغفر يوم القيامة لأهل الإخلاص ذنوبهم لا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره ، ولا يغفر شركا ، فلما رأى المشركون ذلك قالوا : إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر شركا ، تعالوا نقول : إنا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين ، فقال الله : أما إذا كتموا الشرك فاختموا على أفواههم ، فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون. فعند ذلك عرف المشركون أن الله لا يكتم حديثا (١) ، فذلك قوله : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً).

وأما قوله تعالى : (أَمِ السَّماءُ بَناها* رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها* وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها* وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) فإنه خلق الأرض في يومين قبل خلق السماء ، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ، ثم نزل إلى الأرض فدحاها ، ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وشقّ فيها الأنهار ، وجعل فيها

__________________

(١) في ب : ذنبا.

١٦٣

السبل ، وخلق الجبال والرمال والأكوام وما فيها في يومين آخرين ، فذلك قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) ، وقوله : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ* وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) فجعلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام ، وجعلت السماوات في يومين.

وأما قوله : (كانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ، (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) ، (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) فإن الله جعل نفسه ذلك وسمّى نفسه ذلك ، ولم ينحله أحدا غيره ، (وَكانَ اللهُ) أي : لم يزل كذلك.

ثم قال ابن عباس : احفظ عني ما حدّثتك ، واعلم أن ما اختلف عليك من القرآن أشباه ما حدّثتك به ، فإن الله تعالى لم ينزل شيئا إلا قد أصاب به الذي أراد ، ولكن الناس لا يعلمون ، فلا يختلفن عليك القرآن ، فإن كلا من عند الله» (١). هذا حديث ذكره البخاري في كتابه بأن قال : وقال المنهال بن عمرو فذكره.

وقد سبق ذكر الميزان في أول الأعراف (٢).

قوله تعالى : (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) بدل من قوله : (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) ، أو خبر بعد خبرك" أولئك" ، أو خبر مبتدأ محذوف (٣).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ١٨١٥ ـ ١٨١٦ ح ٤٥٣٧) ، والطبراني في الكبير (١٠ / ٢٤٥ ـ ٢٤٦ ح ١٠٥٩٤).

(٢) آية رقم : ٨.

(٣) هذا قول الزمخشري في الكشاف (٣ / ٢٠٦). وانظر : الدر المصون (٥ / ٢٠٢).

وقال أبو حيان في البحر (٦ / ٣٨٨) : جعل" في جهنّم" بدلا من" خسروا" وهذا بدل غريب ، وحقيقته : أن يكون البدل الفعل الذي يتعلّق به" في جهنّم" ، أي : استقروا في جهنم ، وهو بدل شيء ـ

١٦٤

قوله تعالى : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) أي : تسفع وتحرق ، يقال : لفحته النار ؛ إذا أحرقته (١).

قال الزجاج (٢) : اللّفح والنّفح واحد ، إلا أن اللّفح أعظم تأثيرا.

(وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) قال الزجاج (٣) : الكالح : الذي قد تشمّرت شفتاه عن أسنانه ، نحو ما يرى برؤوس الغنم إذا برزت الأسنان وتشمّرت الشّفاه.

قال مالك بن دينار : كان سبب توبة عتبة الغلام أنه مرّ في السوق برأس أخرج من التنور ، فغشي عليه ثلاثة أيام ولياليهن.

قرأت على أبي المجد محمد بن الحسين القزويني ، أخبركم محمد بن أسعد العطاري فأقرّبه ، حدثنا أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي ، أخبرنا ابن أبي توبة ، أخبرنا محمد بن أحمد الحارثي ، أخبرنا محمد بن يعقوب ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن سعيد بن يزيد ، عن أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) قال : تشويه النار ، فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه ،

__________________

ـ من شيء ؛ لأن من خسر نفسه استقر في جهنم. ا ه.

وقال السمين الحلبي في الدر المصون (٥ / ٢٠٢) : جعل الشيخ ـ يعني أبو حيان ـ الجار والمجرور ، البدل دون" خالدون" ، والزمخشري جعل جميع ذلك بدلا ، بدليل قوله بعد ذلك : " أو خبرا بعد خبر لأولئك ، أو خبر مبتدأ محذوف". وهذان إنما يلتقيان ب" خالدون" وأما" في جهنم" فمتعلق به ، فيحتاج كلام الزمخشري إلى جواب ، وأيضا فيصير" خالدون" مفلتا. ا ه.

(١) انظر : اللسان (مادة : لفح).

(٢) معاني الزجاج (٤ / ٢٣).

(٣) معاني الزجاج ، الموضع السابق.

١٦٥

وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرّته» (١).

قال [الترمذي](٢) : هذا حديث حسن غريب.

قلت : وقد أخرجه الحاكم في صحيحه (٣).

وبهذا الإسناد قال : حدثنا ابن المبارك ، عن حاجب بن [عمر](٤) ، عن الحكم بن الأعرج قال : قال أبو هريرة : «يعظم الكافر في النار مسيرة سبع ليال ، [فيصير](٥) ضرسه مثل أحد ، وشفاههم عند [سررهم](٦) ، سود زرق حبن مقبوحون» (٧).

قال البغوي : الحبن جمع الأحبن ، وهو العظيم البطن ، ويقال للذي به السقي : أحبن ، وأم حبين : دويبة على خلقة الحرباء عريضة البطن (٨).

(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ٧٠٨ ح ٢٥٨٧) ، وأحمد (٣ / ٨٨ ح ١١٨٥٤) ، والبغوي في تفسيره (٣ / ٣١٨).

(٢) في الأصل وب : البغوي. وهو خطأ وانظر الترمذي ، الموضع السابق.

(٣) أخرجه الحاكم (٢ / ٤٢٨ ح ٣٤٩٠).

(٤) في الأصل وب : عمرو. والتصويب من مصادر التخريج. وانظر ترجمته في : التقريب (ص : ١٤٤) ، وتهذيب الكمال (٥ / ٢٠٢).

(٥) زيادة من البغوي (٣ / ٣١٨).

(٦) في الأصل : رؤسهم. والتصويب من ب ، ومن البغوي ، الموضع السابق.

(٧) أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص : ٨٤ ح ٢٩٣) ، والبغوي في تفسيره (٣ / ٣١٨).

(٨) انظر : اللسان (مائدة : حبن).

١٦٦

فَإِنَّا ظالِمُونَ) (١٠٧)

قوله تعالى : (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) قرأ حمزة : " شقاوتنا" بألف مع فتح الشين ، وكذلك قرأ الحسن وقتادة إلا أنهما كسر الشين (١). وقرأ الباقون : " شقوتنا" بكسر الشين من غير ألف (٢). وكذلك قرأ عمرو بن العاص وأبو رزين وأبو رجاء إلا أنهم فتحوا الشين (٣).

والمعنى في الجميع واحد ، وهو سوء العاقبة.

ومعنى : (غَلَبَتْ عَلَيْنا) : ملكتنا" شقوتنا" التي كتبت علينا في الدنيا.

(وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) عن طريق الهدى.

(رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) أي : من النار.

قال ابن عباس : طلبوا الرجوع إلى الدنيا (٤).

(فَإِنْ عُدْنا) إلى الكفر والمعاصي (فَإِنَّا ظالِمُونَ).

(قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما

__________________

(١) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٥ / ٤٩٢) ، والدر المصون (٥ / ٢٠٣).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ١٨٦) ، والحجة لا بن زنجلة (ص : ٤٩١) ، والكشف (٢ / ١٣١) ، والنشر (٢ / ٣٢٩) ، والإتحاف (ص : ٣٢٠) ، والسبعة (ص : ٤٤٨).

(٣) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٥ / ٤٩٢).

(٤) ذكره القرطبي (١٢ / ١٥٣) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٤٩٢).

١٦٧

صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) (١١١)

(قالَ اخْسَؤُا فِيها) قال الزجاج (١) : " اخسأوا" تباعدوا تباعد سخط ، يقال : خسأت الكلب أخسؤه ؛ إذا زجرته ليتباعد (٢).

[وبالإسناد](٣) السابق آنفا قال : حدثنا ابن المبارك ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة يذكره ، عن أبي أيوب ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : «إن أهل النار يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ، ثم يردّ عليهم : إنكم ماكثون ، قال : هانت والله دعوتهم على مالك وعلى رب مالك ، ثم يدعون ربهم فيقولون : غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال : فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين ، ثم يرد عليهم : اخسؤوا فيها ولا تكلمون. قال : فو الله ما نبس القوم بعدها بكلمة ، وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم ، فشبه أصواتهم بأصوات الحمير ، أولها زفير وآخرها شهيق» (٤).

قوله : " ما نبس القوم بعدها" ، أي : ما تكلموا بكلمة. ويجوز : نبّس بالتشديد.

قال الحسن البصري رحمه‌الله : هو آخر كلام يتكلم به أهل النار ، ثم لا يتكلمون بعدها إلا الشهيق والزفير ، ويصير لهم عواء كعواء الكلب ، لا يفهمون

__________________

(١) معاني الزجاج (٤ / ٢٤).

(٢) انظر : اللسان (مادة : خسأ).

(٣) في الأصل : بالإسناد. والتصويب من ب.

(٤) أخرجه ابن أبي شيبة (٧ / ٤٨ ح ٣٤١٢٢) ، وهناد في الزهد (١ / ١٥٨ ح ٢١٤) ، والطبري (٢٥ / ٩٩) ، والحاكم (٢ / ٤٢٩ ح ٣٤٩٢) وقال : حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

١٦٨

ولا يفهمون (١).

وقال القرظي : إذا قيل لهم : اخسؤوا فيها ولا تكلمون ، انقطع رجاؤهم ودعاؤهم ، وأقبل بعضهم يصيح في وجه بعض ، وأطبقت عليهم (٢).

ثم بيّن السبب الموجب لذلك فقال : (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) وفي حرف ابن مسعود وأبيّ : " أنه" بفتح الهمزة (٣) ، على معنى : لأنه كان فريق من عبادي.

قال ابن عباس : يريد : المهاجرين (٤).

(يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ* فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) قرأ نافع وحمزة والكسائي : " سخريا" بضم السين هنا وفي صاد (٥). وكسرها الباقون في الموضعين (٦) ، وهو اختيار الفراء والزجاج (٧).

واتفقوا على ضم السين في الزخرف (٨) ، يقال منه : سخر به وسخر منه يسخر سخرية وسخريا وسخريا ؛ إذا هزئ به ، ومن السّخرة التي هي بمعنى العبودية :

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره (٣ / ٣١٨) عن الحسن ، وأبو حيان في البحر (٦ / ٣٨٩) بلا نسبة.

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٢٩٩).

(٣) انظر قراءة ابن مسعود وأبيّ في : زاد المسير (٥ / ٤٩٣) ، والدر المصون (٥ / ٢٠٣).

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٢٩٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٤٩٣).

(٥) عند الآية رقم : ٦٣.

(٦) الحجة للفارسي (٣ / ١٨٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٤٩١ ـ ٤٩٢) ، والكشف (٢ / ١٣١) ، والنشر (٢ / ٣٢٩) ، والإتحاف (ص : ٣٢١) ، والسبعة (ص : ٤٤٨).

(٧) انظر : معاني الفراء (٢ / ٢٤٣) ، ومعاني الزجاج (٤ / ٢٤).

(٨) آية رقم : ٣٢).

١٦٩

سخريا ، بالضم لا غير ، [ولذلك](١) اتفقوا على ضم السين في الزخرف ؛ لأنه من السّخرة (٢).

قال الخليل وسيبويه في هذا الموضع وفي صاد : هما لغتان بمعنى واحد ، ومثله : بحر لجّي ولجي ، وكوكب دري ودري (٣).

وقال أبو عبيدة (٤) : الكسرة بمعنى : الهزء ، والضم بمعنى : السّخرة والاستعباد. وهذا المعنى مروي عن الحسن وقتادة (٥).

وقال أبو علي (٦) : قراءة من كسر أرجح ؛ لأنه من الهزء ، والأكثر في الهزء ؛ كسر السين.

قال مقاتل (٧) : كان رؤوس الكفار من قريش ؛ كأبي جهل ، وعتبة ، والوليد ، قد اتخذوا فقراء أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ كعمار ، وبلال ، وخبّاب ، وصهيب ، سخريا يستهزئون بهم ويضحكون منهم.

(حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) أي : حتى نسيتم ذكري ؛ لاشتغالكم [بالسخرية](٨) منهم وبالضحك.

__________________

(١) في الأصل : وكذلك. والتصويب من ب.

(٢) انظر : اللسان (مادة : سخر).

(٣) انظر قول الخليل وسيبويه في : زاد المسير (٥ / ٤٩٣).

(٤) مجاز القرآن (٢ / ٦٢).

(٥) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٤٩٣).

(٦) الحجة (٣ / ١٨٧).

(٧) تفسير مقاتل (٢ / ٤٠٥).

(٨) في الأصل : بالسخرة. والتصويب من ب.

١٧٠

ونسب الإنساء إلى عباده المؤمنين وإن لم يفعلوه ؛ لكنهم السبب في ذلك ، كقوله تعالى : (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم : ٣٦].

(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) على أذاكم واستهزائكم (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ).

وقرأ حمزة والكسائي : " إنهم" بكسر الهمزة على الاستئناف (١). ومن فتح الهمزة جعله المفعول الثاني ل" جزيتهم" ، أو هو على تقدير حذف اللام ، أي : لأنهم هم الفائزون.

(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (١١٦)

(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ) أي : قال الله تعالى ، أو قال من أمره الله بسؤال الكافرين يوم البعث ، وقيل : بعد حصولهم في النار.

وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : " قل" على الأمر (٢) ، على معنى : قل أيها الكافر المسؤول عن قدر لبثه ، أو قل أيها الملك للكفار : كم لبثتم.

(فِي الْأَرْضِ) يعني : في الدنيا ، وقيل : في القبور ، (عَدَدَ سِنِينَ).

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ١٨٩) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٤٩٢) ، والكشف (٢ / ١٣١ ـ ١٣٢) ، والنشر (٢ / ٣٢٩ ـ ٣٣٠) ، والإتحاف (ص : ٣٢١) ، والسبعة (ص : ٤٤٨ ـ ٤٤٩).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ١٨٩) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٤٩٣) ، والكشف (٢ / ١٣٢) ، والنشر (٢ / ٣٣٠) ، والإتحاف (ص : ٣٢١) ، والسبعة (ص : ٤٤٩).

١٧١

قال الزجاج (١) : " كم" في موضع نصب بقوله : " كم لبثتم" ، و" عدد سنين" منصوب ب" كم".

(قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) استقصروا مدة لبثهم في القبور ، وإن كانوا معذّبين ؛ لأن عذابهم فيها بالنسبة إلى عذاب الآخرة كلا عذاب.

أو نقول على القول الأول : استقصروا مدة الحياة ؛ لأنها أيام راحتهم ، وأيام السرور قصار. أو لأن ما تقضّى من الزمان كأن لم يكن.

(فَسْئَلِ الْعادِّينَ) قال مجاهد : هم الملائكة الذي يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم (٢).

وقال قتادة : هم الحسّاب (٣).

وقرأ الحسن البصري والزهري : " العادين" بالتخفيف (٤) ، على معنى : سل الظّلمة الفجرة فإنهم يقولون كما نقول.

وقرئ : " العاديّين" (٥) القدماء المعمّرين ، فإنهم يستقصرونها فكيف بمن دونهم؟.

__________________

(١) معاني الزجاج (٤ / ٢٥).

(٢) أخرجه الطبري (١٨ / ٦٣) ، ومجاهد (ص : ٤٣٥) مختصرا ، وابن أبي حاتم (٨ / ٢٥١٢). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ١٢٢) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري (١٨ / ٦٣) ، وابن أبي حاتم (٨ / ٢٥١١). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ١٢١) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٥ / ٤٩٥) ، والدر المصون (٥ / ٢٠٥).

(٥) انظر هذه القراءة في : الكشاف (٣ / ٢٠٨) ، والبحر المحيط (٦ / ٣٩١) نقلا عن الزمخشري.

١٧٢

(قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ) أي : قال الله.

وقرأ حمزة : " قل" على الأمر (١) ، أي : قل أيها الملك السائل ، أو الكافر المسؤول إن لبثتم في الدنيا أو في القبور (إِلَّا قَلِيلاً) زمنا قليلا ، وسمّي قليلا ؛ لتناهيه ، فإن كل متناه قليل وإن طال.

(لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي : لو علمتم مقدار لبثكم. وفي هذا دليل على جهلهم مقدار لبثهم.

قال ابن عباس : أنساهم الله تعالى قدر لبثهم ، فيرون أنهم لم يلبثوا إلا يوما أو بعض يوم ؛ لعظيم ما هم بصدده من العذاب نسوا ذلك (٢).

قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) العبث : اللعب وفعل الشيء لا لغرض صحيح. ونصبه على الحال ، على معنى : عابثين ، وهو اختيار سيبويه ، أو هو مفعول لأجله ، أي : للعبث (٣).

قال ابن [عباس](٤) : كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب [عليها](٥). (٦).

(وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) الأظهر أنه معطوف على (أَنَّما خَلَقْناكُمْ) ، ويجوز أن

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ١٨٩) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٤٩٣) ، والكشف (٢ / ١٣٢) ، والنشر (٢ / ٣٣٠) ، والإتحاف (ص : ٣٢١) ، والسبعة (ص : ٤٤٩).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٣٠٠).

(٣) انظر : التبيان (٢ / ١٥٢) ، والدر المصون (٥ / ٢٠٥).

(٤) زيادة من ب.

(٥) في الأصل : علينا. والتصويب من ب.

(٦) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٣٠٠).

١٧٣

يكون معطوفا على" عبثا" ، على معنى : [للعبث](١) ولترككم غير مرجوعين (٢).

قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) أي : تعظّم وارتفع عما يصفه الجاهلون عن الشريك والولد." الملك الحق" أي : الملك الثابت الذي لا يزول ملكه ، أو الحق الذي يحق له الملك.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) أي : السرير الحسن ، والكريم في صفة الجماد بمعنى : الحسن.

وقيل : وصف العرش بالكرم ؛ لأن الرحمة تنزل منه والخير والبركة.

وقيل : لنسبته إلى أكرم الأكرمين ، كما يقال : بيت كريم ؛ إذا كان ساكنوه كراما.

وقرأ ابن محيصن : " الكريم" بالرفع (٣) ، صفة للرب عزوجل ، ونحوه : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) [البروج : ١٥].

(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (١١٨)

ثم توعد المشركين وهددهم فقال : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ... الآية.

وقوله : (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) صفة لازمة ، إذ ليس في الآلهة ما يقوم عليه برهان. ويجوز أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء (٤).

__________________

(١) في الأصل : اللعب. والتصويب من ب ، والكشاف (٣ / ٢٠٨).

(٢) هو قول الزمخشري في الكشاف (٣ / ٢٠٨).

(٣) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٢٠).

(٤) ذكر هذين الوجهين الزمخشري في الكشاف (٣ / ٢٠٩). قال أبو حيان في البحر (٦ / ٣٩١) : وكلاهما تخريج صحيح.

١٧٤

(فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) المعنى : هو الذي يتولى حسابه وجزاؤه. ويا له من تهديد ما أعظمه ، وتخويف ما أفخمه.

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) افتتح سبحانه السورة ببشارة المؤمنين بالفلاح وختمها ببشارة الكافرين بعدم الفلاح ، فشتّان ما بين البشارتين.

ثم إن الله تعالى أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطلب منه المغفرة والرحمة لنفسه وللمؤمنين فقال : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).

١٧٥

سورة النور

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وهي أربع وستون آية ، وهي مدنية بإجماعهم.

أخبرنا المؤيد بن محمد الطوسي في كتابه ، أخبرنا عبد الجبار بن محمد بن أحمد الخواري ، أخبرنا علي بن أحمد [النيسابوري](١) ، أخبرنا الأستاذ أبو [منصور](٢) البغدادي ، أخبرنا محمد بن الحسن بن أحمد السراج ، حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي ، حدثنا محمد بن إبراهيم الشامي ، حدثنا شعيب [بن](٣) إسحاق الدمشقي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تنزلوهن الغرف ، ولا تعلمونهن الكتابة ، وعلموهن الغزل وسورة النور ـ يعني : النساء» (٤). هذا حديث صحيح (٥) ، أخرجه الحاكم في

__________________

(١) في الأصل : النيسابري. والتصويب من ب.

(٢) في الأصل : منصر. والتصويب من ب.

(٣) في الأصل : عن. والتصويب من ب. وكذا وردت في الموضع التالي. وانظر ترجمته في : تهذيب التهذيب (٤ / ٣٠٤) ، والتقريب (ص : ٢٦٦).

(٤) أخرجه الحاكم (٢ / ٤٣٠ ح ٣٤٩٤).

(٥) في هامش مصورة ب : قوله : " صحيح" ؛ ليس بصحيح. فإن الحاكم خرجه من حديث عبد الوهاب بن الضحاك ، وهو كذاب ، كما قال أبو حاتم وغيره ونسب إلى الوضع ، وقد تابعه محمد بن إبراهيم الدمشقي السائح ، وهو أيضا مثله كذاب ، منسوب إلى الوضع. وإنما حمل المصنف على تصحيحه قول الحاكم : صحيح الإسناد ، والأمر ليس كما قال كما قد عرفت.

قال الذهبي في مختصره للمستدرك : هو موضوع ، والله أعلم.

١٧٦

صحيحه ، عن أبي علي الحافظ ، عن الباغندي ، عن عبد الوهاب بن الضحاك (١) ، عن شعيب بن إسحاق.

وأخرجه الأستاذ أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره (٢) ، عن ابن فنجويه الدينوري (٣) ، عن ابن شنبة (٤) ، عن محمد بن أحمد الكرابيسي ، عن سلمان (٥) بن توبة ، عن محمد بن إبراهيم الشامي (٦). وكأنني رويته عن رجل عن الثعلبي.

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢)

قال الله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) وقرأ جماعة ، منهم : أبو رزين ، ومحبوب ، عن أبي عمرو : " سورة" بالنصب (٧).

__________________

(١) كتب فوق هذا الاسم بخط مغاير في مصورة ب : البلاء منه أو من الشامي.

(٢) أخرجه الثعلبي (٧ / ٦٢).

(٣) الحسين بن محمد بن الحسين بن عبد الله بن فنجويه الدينوري ، كان ثقة صدوقا ، كثير الرواية للمناكير ، حسن الخط ، كثير التصانيف ، ولد سنة خمس وتسعين وثلاثمائة ، ومات بنيسابور في ربيع الآخر سنة أربع عشرة وأربعمائة (سير أعلام النبلاء ١٧ / ٣٨٤ ، وتكملة الإكمال (٤ / ٤٩٧).

(٤) هو عبيد الله بن محمد بن شنبة.

(٥) ويقال : سليمان. انظر ترجمته في : تهذيب التهذيب (٤ / ١٥٥) ، والتقريب (ص : ٢٥٠).

(٦) كتب فوق هذا الاسم بخط مغاير في مصورة ب : المصيبة منه أو من عبد الوهاب.

(٧) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٢٢).

١٧٧

فمن رفع فعلى معنى : هذه سورة. و" أنزلناها" صفة ل" سورة" (١).

وقال الأخفش : " سورة" ابتداء وخبره في" أنزلناها" (٢).

وردّ هذا القول الزجاج (٣) وغيره ؛ لأن النكرة لا يبتدأ بها إلا إذا وصفت ، وإن جعل" أنزلناها وفرّضناها" بقي المبتدأ بلا خبر. وجوّز بعضهم أن تكون" سورة" مبتدأ ، والخبر مضمر ، تقديره : فيما يتلى عليكم سورة أنزلناها ، ولا يجوز أن يقدّر هذا الخبر متأخرا ؛ لأن خبر النكرة يتقدم عليها ، نحو قولك : في الدار رجل وله مال ، ولا يحسن : رجل في الدار ومال له ؛ لقلة الفائدة فيه.

ومن نصب فعلى معنى : أنزلنا سورة ، أو : اقرأ سورة أنزلناها (٤).

(وَفَرَضْناها) قرأ ابن كثير وأبو عمرو : " وفرّضناها" بالتشديد ، على معنى : كثّرنا فرائضها ، أو فصّلنا وبيّنا ما فيها من الفرائض (٥). وقرأ الباقون بالتخفيف ، على معنى : فرضنا ما فيها وألزمنا العمل بها.

قال أبو علي (٦) : التخفيف يصلح للقليل والكثير. ومن حجّة التخفيف قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) [القصص : ٨٥] ، والمعنى : أحكام القرآن وفرائض القرآن ، كما أن التي في سورة النور كذلك.

__________________

(١) انظر : الدر المصون (٥ / ٢٠٧).

(٢) انظر قول الأخفش في : القرطبي (١٢ / ١٥٨).

(٣) انظر : معاني الزجاج (٤ / ٢٧).

(٤) انظر : الدر المصون (٥ / ٢٠٧).

(٥) الحجة للفارسي (٣ / ١٩١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٤٩٤) ، والكشف (٢ / ١٣٣) ، والنشر (٢ / ٣٣٠) ، والإتحاف (ص : ٣٢٢) ، والسبعة (ص : ٤٥٢).

(٦) الحجة (٣ / ١٩١).

١٧٨

وأصل الفرض في اللغة : التأثير والحزّ ، ومنه : فرضة النّهر والقوس ، ثم اتسع فيه حتى استعمل في معنى الواجب المقطوع به (١).

(وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) سبق تفسيره.

قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) قرأ الأكثرون : " الزانية" بالرفع على الابتداء. وقرأ جماعة منهم أبو رزين وعيسى بن عمر : " الزانية" بالنصب (٢) ، واختاره الخليل وسيبويه (٣) ، على معنى : " اجلدوا الزانية".

وقال الزجاج (٤) : الرفع أقوى في العربية ؛ لأن المعنى : من زنى فاجلدوه ، فتأويله الابتداء.

فإن قيل : لم قدّم الزانية على الزاني ، والمذكّر أبدا يقدّم ، وباعتبار ذلك قدّم السارق على السارقة (٥)؟

قلت : العرب أبدا تراعي الأهم فتبدأ به ، وذكر الزانية أهم من الزاني ؛ لأن عارها بالزنا أكثر ، وحرصها عليه أشد ، وقبحه في حقها أغلظ ، [وقدرتها](٦) عليه أتم ، وباعتبار ذلك قدّم السارق ؛ لأن العار والقبح في حقه أشد ، وحرصه على السرقة أكثر ، وقدرته عليها أتم.

قوله تعالى : (فَاجْلِدُوا) معنى الجلد : ضرب الجلد ، يقال : جلده ؛ إذا ضرب

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : فرض).

(٢) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٦ / ٥) ، والدر المصون (٥ / ٢٠٨).

(٣) انظر : الكتاب (١ / ١٤٤).

(٤) معاني الزجاج (٤ / ٢٧ ـ ٢٨).

(٥) في سورة المائدة عند قوله تعالى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [٣٨].

(٦) في الأصل : قدرتها. والتصويب من ب.

١٧٩

جلده ، مثل : رأسه ، إذا ضرب رأسه وبطنه (١).

فصل

قال بعض [علمائنا](٢) : هذه الآية تقتضي وجوب الجلد (٣) على البكر والثّيّب ، وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حق البكر زيادة على الجلد بتغريب عام ، وفي حق الثيب زيادة على الجلد [بالرجم](٤) بالحجارة (٥) ؛ فروى عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم [بالحجارة](٦)» (٧).

قلت : وهذا الحديث صحيح ، وقد ذكرته معنعنا وتكلمت عليه في سورة النساء (٨).

وممن قال بوجوب النفي في حق البكر : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن عمر ، وعطاء ، وطاووس ، وسفيان ، ومالك ، وابن أبي ليلى ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق (٩).

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : جلد).

(٢) في الأصل : العلمائنا. والتصويب من ب.

(٣) في ب : الحد.

(٤) في الأصل : الرجم. والتصويب من ب.

(٥) انظر : المغني (٩ / ٤٥).

(٦) في الأصل : الحجارة. والتصويب من ب.

(٧) أخرجه مسلم (٣ / ١٣١٦ ح ١٦٩٠) ، والنسائي (٦ / ٣٢٠ ح ١١٠٩٣).

(٨) عند الآية رقم : ١٦.

(٩) زاد المسير (٦ / ٦).

١٨٠