تفسير القاسمي - ج ٤

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٤

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

وظاهر هذه الأحاديث ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أمر بقتلها كلها. ثم رخص في استبقائها. إلّا الأسود فإنه مستحق القتل.

وقول إمام الحرمين : ثم استقر الشرع على النهي عن قتل جميع الكلاب حيث لا ضرر فيها حتى الأسود البهيم ـ يحتاج إلى برهان.

قال ابن عبد البر : في هذه الأحاديث إباحة اتخاذ الكلب للصيد والماشية. وكذلك للزرع. لأنها زيادة حافظ. وكراهة اتخاذها لغير ذلك. إلّا أنه يدخل في معنى الصيد وغيره مما ذكر ، اتخاذها لجلب المنافع ودفع المضارّ قياسا ، فتمحض كراهة اتخاذها لغير حاجة ، لما فيه من ترويع الناس ، وامتناع دخول الملائكة إلى البيت الذي الكلاب فيه.

ثم قال : ووجه الحديث عندي ؛ أن المعاني المتعبد بها في الكلاب. من غسل الإناء سبعا ، لا يكاد يقوم بها المكلف ولا يتحفظ منها ، فربما دخل عليه باتخاذها ما ينقص أجره من ذلك.

وروي أن المنصور بالله سأل عمرو بن عبيد عن سبب هذا الحديث؟ فلم يعرفه. فقال المنصور : لأنه ينبح الضيف ويروّع السائل. انتهى.

وقال الخطابي : معنى (قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو لا أن الكلاب أمة من الأمم ... إلخ). أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كره إفناء أمة من الأمم وإعدام جيل من الخلق ، لأنه ما من خلق لله تعالى إلّا وفيه نوع من الحكمة وضرب من المصلحة. يقول : إذا كان الأمر على هذا ، ولا سبيل إلى قتلهن ، فاقتلوا أشرارهن وهي السود البهم. وأبقوا ما سواها لتنتفعوا بهنّ في الحراسة».

وقال الطيبي : قوله «أمّة من الأمم» إشارة إلى قوله تعالى. (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) [الأنعام : ٣٨]. أي : أمثالكم في كونها دالة على الصانع ومسبحة له. قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤]. أي : يسبح بلسان القال أو الحال. حيث يدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته وتنزيهه عمّا لا يجوز عليه ، فبالنظر إلى هذا المعنى ، لا يجوز التعرض لها بالقتل والإفناء. ولكن إذا كان لدفع مضرة ـ كقتل الفواسق الخمس ـ أو جلب منفعة ـ كذبح الحيوانات المأكولة ـ جاز ذلك.

الثاني : ذهب جمهور الصحابة والتابعين والأئمة إلى أنّ الجوارح التي يحل

٤١

صيدها ، ما قبل التعليم من ذي ناب (كالكلب والفهد والنمر) أو ذي مخلب (كالطيور المذكورة قبل). قال في (النهاية) : حتى الهرّ إن تعلّم ، واحتجوا بعموم الآية.

وروى أحمد (١) وأبو داود عن مجالد عن الشعبيّ عن عديّ بن حاتم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما علّمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه ، فكل ما أمسك عليك. قلت : وإن قتل؟ قال : وإن قتل ولم يأكل منه شيئا. فإنما أمسكه عليك».

قال البيهقي : تفرد مجالد بذكر الباز فيه ، وخالف الحفاظ.

أقول : روى ابن جرير بالمسند المذكور إلى عدي قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صيد البازي؟ فقال : ما أمسك عليك فكل». وعن ابن عمر ومجاهد : «لا يحل إلّا صيد الكلب فقط». وروى ابن جرير (٢) بسنده ، أن ابن عمر قال : أما ما صاد من الطير (والبراة من الطير) فما أدركت فهو لك. وإلّا فلا تطعمه وقال ابن أبي حاتم : كره مجاهد صيد الطير كلّه ، وقرأ قوله : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ). أي : فإن قوله تعالى : (مُكَلِّبِينَ) يشير إلى قصر ذلك على الكلب. وقال الحسن البصري والنخعيّ وأحمد وإسحاق : يحل من كل شيء إلا الكلب الأسود البهيم. لأنه قد أمر بقتله.

الثالث : قدمنا أنّ انتصاب (مُكَلِّبِينَ) على الحال من (علمتم). قال ابن

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤ / ٢٥٧ ونصه : عن عدي بن حاتم قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعلمني الإسلام. ونعت لي الصلاة وكيف أصلي كل صلاة لوقتها. ثم قال لي «كيف أنت يا ابن حاتم! إذا ركبت من قصور اليمن لا تخاف إلا الله حتى تنزل قصور الحيرة؟» قال قلت : يا رسول! فأين مقانب طيء ورجالها؟ قال «يكفيك الله طيئا ومن سواها» قال قلت : يا رسول الله! إنا قوم نتصيد بهذه الكلاب والبزاة. فما يحل لنا منها؟ قال «ويحل لكم ما علمتم من الجوارح تعلمونهن مما علمكم الله. فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه. فما علّمت من كلب أو باز ، ثم أرسلت وذكرت اسم الله عليه ، فكل مما أمسك عليك. قلت : وإن قتل؟ قال «وإن قتل ، ولم يأكل منه شيئا. فإنما أمسكه عليك». قلت : أفرأيت إن خالط كلابنا كلاب أخرى حين نرسلها؟ قال «لا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو الذي أمسك عليك» قلت : يا رسول الله! إنا قوم نرمي بالمعراض ، فما يحلّ لنا؟ قال «لا تأكل ما أصبت بالمعراض ، إلا ما ذكيت».

وأبو داود في : الأضاحي ، ٢٢ ـ باب في الصيد ، حديث ٢٨٥١.

(٢) الأثر رقم ١١١٥٥.

٤٢

كثير : ويحتمل أن يكون حالا من المفعول وهو (الجوارح) أي : وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلبات للصيد. وذلك أن تصيد بمخالبها وأظفارها. فيستدل بذلك ، والحالة هذه ، على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته وبمخالبه وظفره ، أنه لا يحل. كما هو أحد قول الشافعيّ وطائفة من العلماء. ولهذا قال (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) وهو أنه إذا أرسله استرسل ، وإذا استشلاه استشلي ، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ، ولا يمسكه لنفسه. ولهذا قال تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ). فمتى كان الجارح معلّما وأمسك على صاحبه ـ وكان قد ذكر اسم الله عليه وقت إرساله ـ حلّ الصيد وإن قتله ، بالإجماع.

وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة. كما ثبت في (الصحيحين) (١) عن عديّ بن حاتم قال : قلت : «يا رسول الله! إني أرسل الكلاب المعلّمة وأذكر اسم الله؟ فقال : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله ، فكل ما أمسك عليك. قلت : وإن قتلن؟ قال : وإن قتلن ، ما لم يشركها كلب ليس منها. فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسمّ على غيره. قلت له : فإني أرمي بالمعراض الصيد؟ فقال : إذا رميت بالمعراض الصيد فخرق فكله فإن أصابه بعرض ، فإنه وقيذ ، فلا تأكله».

وفي لفظ لهما : إذا أرسلت كلبك فاذكر الله. فإن أمسك عليك فأدركته حيّا. فاذبحه ، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه ، فكله ، وإنّ أخذ الكلب ذكاته. وفي رواية لها : فإن أكل فلا تأكله. فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه. فهذا دليل للجمهور أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا. ولم يستفصلوا. كما ورد بذلك الحديث. وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا : لا يحرم مطلقا. أكل أو لم يأكل.

روى ابن جرير (٢) عن سلمان الفارسي وأبي هريرة قالا : كل وإن أكل ثلثيه.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الوضوء ، ٣٣ ـ باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان. عن عديّ بن حاتم قال : سألت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «إذا أرسلت كلبك المعلّم فقتل فكل وإذا أكل فلا تأكل. فإنما أمسكه على نفسه» قلت : أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال «فلا تأكل. فإنما سميت على كلبك ولم تسمّ على كلب آخر».

(٢) الأثر رقم ١١١٨٧ ـ ١١٩٣ عن سلمان الفارسيّ.

٤٣

وعن سعد بن أبي وقاص : ... وإن أكل ثلثيه. وعنه : ... وإن لم يبق إلا بضعة. وعن ابن عمر : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك. أكل أو لم يأكل. وحكاه عن عليّ وابن عباس وغير واحد من التابعين.

وروي ذلك مرفوعا أيضا. أخرج أبو داود (١) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنّ أعرابيّا ، يقال له أبو ثعلبة ، «قال : يا رسول الله! إنّ لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها. قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن كان لك كلاب مكلبة ، فكل مما أمسكن عليك. فقال : ذكيّ وغير ذكي ، وإن أكل منه؟ قال : نعم وإن أكل منه. فقال : يا رسول الله! أفتني في قوسي! فقال : كل ما ردت عليك قوسك. قال : ذكي وغير ذكي؟ قال : وإن تغيب عنك ما لم يضلّ أو تجد فيه أثرا غير سهمك. قال : أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها. قال : اغسلها وكل فيها». هكذا رواه أبو داود وقد أخرجه النسائيّ. وكذا رواه أبو داود (٢) عن أبي إدريس الخولانيّ عن أبي ثعلبة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله ، فكل وإن أكل منه ، وكل ما ردت عليك يدك».

وقد احتج بما ذكرنا من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه ، وقد توسط آخرون فقالوا : إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم. لحديث عديّ ، وللعلة التي أشار إليها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأما إن أمسكه ، ثم انتظر صاحبه ، فطال عليه ، وجاع فأكل منه لجوعه ، فإنه لا يؤثر في التحريم. وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة. وهذا تفريق حسن ، وجمع بين الحديثين ، صحيح.

وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجويني في كتابه (النهاية) : أن لو فصل مفصل هذا التفصيل. وقد حقق الله أمنيته ، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب. أفاده ابن كثير.

قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : وسلك الناس في الجمع بين حديث عدي وأبي ثعلبة طرقا منها للقائلين بالتحريم (الأولى) حمل حديث أبي ثعلبة الأعرابي على ما إذا قتله وخلاه ثم عاد فأكل منه ، و (الثانية) الترجيح ، فرواية عدي في الصحيحين ورواية الأعرابي في غيرهما. ومختلف في تضعيفها. وأيضا ، فرواية عدي

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : الأضاحيّ ، ٢٢ ـ باب في الصيد ، حديث ٢٨٥٧.

(٢) أخرجه أبو داود في : الأضاحيّ ، ٢٢ ـ باب في الصيد ، حديث ٢٨٥٢.

٤٤

صريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم. وهو خوف الإمساك على نفسه ، متأيد بأن الأصل في الميتة التحريم. فإذا شككنا في السبب المبيح ، رجعنا إلى الأصل ولظاهر الآية المذكورة. فإن مقتضاها أنّ الذي تمسكه من غير إرسال لا يباح ، ويتقوى أيضا بالشواهد من حديث ابن عباس عند أحمد (١) : إذا أرسلت الكلب فأكل الصيد ، فلا تأكل. فإنما أمسك على نفسه. فإذا أرسلته فقتله ولم يأكل ، فكلّ. فإنما أمسك على صاحبه. وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عباس. وابن أبي شيبة من حديث أبي رافع ، نحوه بمعناه. ولو كان مجرّد الإمساك كافيا لما احتيج إلى زيادة (عليكم) في الآية. وأما القائلون بالإباحة ، فحملوا حديث عدي على كراهة التنزيه ، وحديث الأعرابيّ على بيان الجواز. قال بعضهم : ومناسبة ذلك أن عدّيا كان موسرا. فاختير له الحمل على الأولى. بخلاف أبي ثعلبة ، فإنه كان بعكسه. ولا يخفى ضعف هذا التمسك ، مع التصريح بالتعليل في الحديث لخوف الإمساك على نفسه. وقد وقع في رواية لابن أبي شيبة : إن شرب من دمه فلا تأكل فإنه لم يعلّم ما علّمته. وفي هذا إشارة إلى أنه إذا شرع في أكله ، دلّ على أنه ليس يعلم التعليم المشترط.

الرابع : في الآية مشروعية التسمية. قال ابن كثير : قوله تعالى : (اذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) أي عند إرساله له ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعدي بن حاتم : «إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك». وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في (الصحيحين) (٢) أيضا : «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله. وإذا رميت بسهمك». ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة ، كالإمام أحمد رحمه‌الله ، في المشهور عنه ، التسمية عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية وهذا الحديث. وهذا القول هو المشهور عند الجمهور أن المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال. كما قال

__________________

(١) أخرجه في المسند ١ / ٢٣١ ، وحديث ٢٠٤٩.

(٢) أخرجه البخاري في : الذبائح والصيد ، ٤ ـ باب صيد القوس ، حديث ٢١٩٨ ونصه : عن أبي ثعلبة الخشنيّ قال : قلت : يا نبيّ الله! إنا بأرض قوم أهل الكتاب. أفنأكل في آنيتهم؟ وبأرض صيد ، أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلّم وبكلبي المعلّم ، فما يصلح لي؟ قال «أما ما ذكرت من أهل الكتاب ، فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها. وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها. وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله ، فكل. وما صدت بكلبك المعلّم فذكرت اسم الله فكل. وما صدت بكلبك غير معلّم ، فأدركت ذكاته ، فكل».

وأخرجه أيضا في : باب ما جاء في التصيد. وفي : باب آنية المجوس والميتة.

وأخرجه مسلم في : الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان ، حديث ٨.

٤٥

السدّيّ وغيره. وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، في هذه الآية : «إذا أرسلت جارحك فقل : بسم الله. وإن نسيت فلا حرج». انتهى.

قال بعض الزيدية : والتسمية هنا كالتسمية على الذبيحة. فمن قائل بوجوبها على الذاكر لا الناسي. لحديث (١) : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان». ومن قائل بأنها مستحبة. ومن قائل بأنها شرط مطلقا. المشهور عن أحمد التفرقة بين الصيد والذبيحة. فذهب في الذبيحة إلى هذا القول الثالث. ثم قال : لقائل أن يقول : يحتمل أن يرجع قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) إلى الأكل. أي : فسموا عند الأكل. فدلالة الآية محتملة في وجوب التسمية. انتهى. وهذا الاحتمال حكاه ابن كثير ونصّه :

وقال بعض الناس : المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل. كما ثبت في (الصحيحين) (٢) ؛ «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علّم ربيبه ، عمر بن أبي سلمة ، فقال : سمّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك». وفي (صحيح البخاري) (٣) عن عائشة ؛ أنهم قالوا : «يا رسول الله! إن قوما يأتوننا ، حديث عهد بكفر ، بلحمان ، لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا؟ فقال : سموا الله أنتم وكلوا أنتم». وقال الترمذي : حسن صحيح.

الخامس : في الآية جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة. لأن التعليم قد يحتاج إلى ذلك. كذا في (الإكليل). وتقدم عن الزمخشريّ والناصر ما في الآية أيضا من الأخذ عن النحرير ، وأن البهائم لها علم. واستدلّ بالآية على إباحة اتخاذ الكلب للصيد وللحراسة ، بالسنة : كما تقدم.

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في : الطلاق ، ١٦ ـ باب طلاق المكره والناسي ، حديث ٢٠٤٣ ونصه : عن أبي ذر الغفاري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه».

(٢) أخرجه البخاري في : الأطعمة ، باب التسمية على الطعام والأكل باليمين ، حديث ٢١٧٣ ونصه : عن عمر بن أبي سلمة قال : كنت غلاما في حجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت يدي تطيش في الصحفة ، فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا غلام! سمّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك». فما زالت تلك طعمتي بعد.

(٣) أخرجه البخاري في : الذبائح والصيد ، ٢١ ـ باب ذبيحة الأعراب ونحوهم. حديث ١٠٣٨ ونصه : عن عائشة رضي الله عنها ، أن قوما قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن قوما يأتونا باللحم ، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال «سموا عليه أنتم وكلوه».

قالت : وكانوا حديثي عهد بكفر.

٤٦

القول في تأويل قوله تعالى :

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٥)

وقوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) أي : من الذبائح والصيد. تكريره تأكيد للمنة. قال أبو السعود : قيل المراد بالأيام الثلاثة وقت واحد. وإنما كرر للتأكيد. ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حسن تكريره. والمراد بالطيبات ما مرّ.

تنبيه :

قال بعض مفسري الزيدية : دلت الآية على جواز أكل العالي من الأطعمة والأصباغ. قال في (الروضة والغدير) : وإن كان التقنع بالأدون هو الأولى ، كما فعله عليّ عليه‌السلام وغيره من الفضلاء. فقد روي أن عليّا عليه‌السلام كان يطعم الناس أطيب الطعام. فرأى بعض أصحابه طعامه. وهو خبر شعير غير منخول ، وملح جريش ، وهو مختوم عليه لئلا يبدل. ومن كلامه عليه‌السلام : والله! لأروضنّ نفسي رياضة تهش إلى القرص إن وجدته مطعوما ، وإلى الملح إن وجدته مأدوما. ولما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كراهة الإدامين مجتمعين. انتهى.

(وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد ابن جبير وغيرهم : يعني ذبائحهم.

قال ابن كثير : وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء ؛ أن ذبائحهم حلال للمسلمين. لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ولا يذكرون على ذبائحهم إلّا اسم الله ، وإن اعتقدوا فيه ما هو منزه عنه ، تعالى وتقدس. انتهى.

قال المهايميّ : وإن لم يعتد بذكرهم اسم الله ، لكنهم لما ذكروه ، أشبه ما يعتد بذكره ، فأشبه طعامهم الطيبات.

مباحث :

الأول : ما ذكرناه من أن المعنيّ بالطعام الذبائح ، هو الذي قاله أئمة السلف : صحابة كابن عباس وأبي أمامة ، وأتباعا كمجاهد وثمانية غيره ، كما في ابن جرير (١) وابن كثير.

__________________

(١) الآثار من رقم ١١٢٣٦ ـ ١١٢٥١.

٤٧

وفي (اللباب) : أجمعوا على أن المراد ؛ (طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ذبائحهم خاصة. لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم. فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة. ولأنّ ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح. فحمل هذه الآية عليه أولى. لأن سائر الطعام لا يختلف ، من تولّاه من كتابيّ أو غيره. وإنما تختلف الذكاة. فلما خص أهل الكتاب بالذكر ، دلّ على أن المراد بطعامهم ذبائحهم. انتهى.

الثاني : استدل بالآية على جميع أجزاء ذبائحهم. وهو قول الجمهور.

قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : وعن مالك وأحمد ، تحريم ما حرم الله على أهل الكتاب كالشحوم. قال ابن القاسم : لأن الذي أباحه الله طعامهم. وليس الشحوم من طعامهم. ولا يقصدونها عند الذكاة. وتعقب بأن ابن عباس فسّر (طعامهم) بذبائحهم ، وإذا أبيحت ذبائحهم لم يحتج إلى قصدهم أجزاء المذبوح. والتذكية لا تقع على بعض أجزاء المذبوح دون بعض. وإن كانت التذكية شائعة في جميعها دخل الشحم لا محالة. وأيضا فإن الله تعالى نص بأنه حرم عليهم كل ذي ظفر. فكان يلزم ، على قول هذا القائل ، إن اليهوديّ ، إذا ذبح ماله ظفر ، لا يحل للمسلم أكله. ثم قال ابن حجر : وقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) يستدل به على الحلّ ، لأنه لم يخص لحما من شحم ، وكون الشحوم محرمة على أهل الكتاب لا يضر ، لأنها محرمة عليهم لا علينا. وغايته بعد أن يتقرر أن ذبائحهم لنا حلال ، أنّ الذي حرم عليهم منها مسكوت في شرعنا عن تحريمه علينا. فيكون على أصل الإباحة. انتهى.

وفي (الصحيح) (١) عن عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه قال : «كنا محاصرين قصر خيبر. فرمى إنسان بجراب فيه شحم. فنزوت لآخذه. فالتفّت فإذا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستحييت منه». وفي رواية : «أدلي بجراب من شحم يوم خيبر. فحضنته وقلت : لا أعطي اليوم من هذا أحدا. والتفتّ فإذا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتبسّم».

قال الحافظ ابن حجر : فيه حجة على من منع ما حرّم عليهم كالشحوم. لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرّ ابن مغفل على الانتفاع بالجراب المذكور. وفيه جواز أكل الشحم ، مما ذبحه أهل الكتاب ، ولو كانوا أهل حرب. انتهى.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الذبائح والصيد ، ٢٢ ـ باب ذبائح أهل الكتاب وشحومها من أهل الحرب وغيرهم ، حديث ١٤٨٨.

٤٨

وقال الحافظ ابن كثير : استدل على المالكية الجمهور بهذا الحديث. وفي ذلك نظر. لأنه قضية عين. ويحتمل أن يكون شحما يعتقدون حله ، كشحم الظهر والحوايا ونحوهما. والله أعلم.

وأجود منه في الدلالة ما ثبت في (الصحيح) (١) أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاة مصلية. وقد سموّا ذراعها ـ وكان يعجبه الذراع ـ فتناوله فنهش منه نهشة. فأخبره الذراع أنه مسموم ، فلفظه وأثّر ذلك في ثنايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي أبهره. وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور ، فمات. فقتل اليهودية التي سمّتها ، وكان اسمها زينب. ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه ، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا؟ وفي الحديث الآخر : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أضافه يهوديّ على خبز شعير وإهالة سنخة. يعني ودكا زنخا».

الثالث : تمسك ابن العربيّ ـ من أئمة المالكية ـ بهذه الآية على حلّ ما يقتله الفرنج ، وإن رأينا ذلك ، لأنه من طعامهم. نقله عنه الشيخ خليل في (توضيحه) واستبعده. وقال الإمام ابن زكري : صنف ابن العربيّ في إباحة مذكّى النصرانيّ بغير وجه ذكاتنا. والمحققون على تحريمه. وقد أوضح ذلك الفقيه محمد الدليميّ السوسيّ المالكيّ في (فتاويه) ، وقد سئل عن ذبيحه الكتابيّ : هل تحل المذكّى كيف كانت. سواء وافقت ذكاتنا أم لا؟ بقوله مجيبا : قال الإمام ابن العربيّ : إذا سلّ النصرانيّ عنق دجاجة حلّ للمسلم أكلها. لأن الله تعالى أحلّ لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم. وكل ما ذكوه على مقتضى دينهم ، حل لنا أكله. ولا يشترط

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الجزية والموادعة مع أهل الحرب ، ٧ ـ باب إذا غدر المشركون بالمسلمين ، هل يعفى عنهم؟ حديث ٢٤٩٨ ونصه : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما فتحت خيبر ، أهديت للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاة فيها سمّ. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أجمعوا إليّ من كان هاهنا من يهود» فجمعوا له. فقال : «إني سائلكم عن شيء. فهل أنتم صادقيّ عنه»؟ فقالوا : نعم. قال لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أبوكم»؟ قالوا : فلان. فقال «كذبتم ، بل أبوكم فلان» قالوا : صدقت. قال «فهل أنتم صادقيّ عن شيء ، إن سألت عنه»؟ فقالوا : نعم. يا أبا القاسم! وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا. فقال لهم «من أهل النار»؟ قالوا : نكون فيها يسيرا ثم تخلفونا فيها. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اخسئوا فيها. والله! لا نخلفكم فيها أبدا» ثم قال «فهل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه»؟ فقالوا : نعم. يا أبا القاسم! قال «هل جعلتم في هذه الشاة سمّا»؟ قالوا : نعم. قال «ما حملكم على ذلك»؟ قالوا : أردنا إن كنت كاذبا نستريح. وإن كنت نبيّا لم يضرك.

وأخرجه أبو داود ، بمعناه ، في : الديات ، ٦ ـ باب فيمن سقى رجلا سمّا أو أطعمه ، فمات ، هل يقاد منه؟ حديث ٤٥٠٨ عن أنس و ٤٥٠٩ وعن أبي هريرة ، حديث ٤٥١٠ و ٤٥١١ و ٤٥١٢.

٤٩

أن تكون ذكاتهم موافقة لذكاتنا. وذلك رخصة من الله تعالى وتيسير منه علينا. ولا يستثنى من ذلك إلّا ما حرّم الله تعالى على الخصوص. فإنه ، وإن كان طعامهم الذي يستحلونه ، فلا يحل لنا أكله. انتهى.

الرابع : قال الرازيّ : نقل عن بعض أئمة الزيدية ؛ أن المراد ب (الطعام) في الآية الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة. انتهى.

وقد اطلعت على قطعة من تفسير بديع لبعض الزيدية قال فيه : اختلف العلماء من الأئمة والفقهاء : ما أريد ب (الطعام)؟ فقال القاسم والهادي ومحمد بن عبد الله ، ورواية عن زيد : إن ذبائح أهل الكتاب وجميع الكفار لا تجوز. لقوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) وهذا خطاب للمسلمين ، والرواية الثانية عن زيد وعامة الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والجعفرية والإمامية. واختاره الأمير ح والأمير يحيى : جواز ذبائح أهل الكتاب. ويفسرون (الطعام) بالذبائح وغيرها. وهذا مرويّ عن الحسن والزهريّ والشعبيّ وعطاء وقتادة وأكثر المفسرين. وأخذوا بالعموم في إطلاق (الطعام). فأجاب الأولون بأن (الطعام) يطلق على الحبوب يقال : سوق الطعام. قال القاضي : الأقرب الحلّ. لأن ذلك بفعلهم يصير طعاما. ولأنه خص أهل الكتاب. أجيب : بأنه خصّهم لئلا يظن أنّ طعامهم الذي لم يذكّوه محرم. ثم عند الهادي والقاسم ، عليهما‌السلام ، تنجس رطوباتهم. لقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة : ٢٨]. فيحرم ما حصل فيه رطوبتهم ، إلّا ما أخذناه قهرا. وعند المؤيد بالله ومن معه : إن رطوبتهم طاهرة. والخلاف في الرطوبة عامة في الكفار. انتهى.

وفي (الروضة الندية) ما نصه : وأما ذبيحة أهل الذمة ، فقد دلّ على حلّها القرآن الكريم بهذه الآية. ومن قال : إن اللحم لا يتناوله (الطعام) فقد قصر في البحث ، ولم ينظر في كتب اللغة ، ولا نظر في الأدلة الشرعية المصرحة بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكل ذبائح أهل الكتاب. كما في أكله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للشاة التي طبختها يهودية وجعلت فيها سمّا ، والقصة أشهر من أن تحتاج إلى التنبيه عليها. ولا مستند للقول بتحريم ذبائحهم إلّا مجرد الشكوك والأوهام التي يبتلى بها من لم يرسخ قدمه في علم الشرع. فإن قلت : قد يذبحونه لغير الله ، أو بغير تسمية ، أو على غير الصفة المشروعة في الذبح. قلت : إن صح شيء من هذا ، فالكلام في ذبيحته ، كالكلام في ذبيحة المسلم إذا وقعت على أحد هذه الوجوه. وليس النزاع إلا في مجرد كون كفر الكتابيّ مانعا ، لا كونه أخذ بشرط معتبر. انتهى.

٥٠

الخامس : أريد ب (أهل الكتاب) اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأما من دخل في دينهم بعد مبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهم متنصّرو العرب من بني تغلب ـ فلا تحلّ ذبيحته. روي عن عليّ بن أبي طالب قال : لا تأكل من ذبائح نصارى بني تغلب. فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلّا بشرب الخمر. وبه قال ابن مسعود. وسئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب؟ فقال لا بأس به. ثم قرأ : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة : ٥١]. وهذا قول الحسن وعطاء والشعبيّ وعكرمة وقتادة والزهريّ والحكم وحماد ـ كذا في (اللباب).

قال ابن كثير : وأما المجوس فإنهم ـ وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب ـ فإنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم. خلافا لأبي ثور ، إبراهيم بن خالد الكلبيّ (أحد الفقهاء من أصحاب الشافعيّ ، وأحمد بن حنبل) ولما قال ذلك ، واشتهر عنه ، أنكر عليه الفقهاء ذلك. حتى قال عنه الإمام أحمد : أبو ثور كاسمه ـ يعني في هذه المسألة ـ وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (١) : سنوا بهم سنة أهل الكتاب.

ولكن لم يثبت بهذا اللفظ. وإنما الذي في (صحيح) البخاريّ (٢) عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر. ولو سلم صحة هذا الحديث ، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) فدلّ بمفهومه مفهوم المخالفة ، على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل ...! السادس : قيل : هذه الآية تقتضي إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا ، وإن ذكروا غير اسم الله تعالى. وعن ابن عمر : لو ذبح يهوديّ أو نصراني على غير اسم الله تعالى ، لا يحل ذلك. وهو قول ربيعة. وسئل الشعبيّ وعطاء ، عن النصرانيّ يذبح باسم المسيح؟ فقال : يحلّ. فإن الله تعالى قد أحلّ ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. وقال الحسن : إذا ذبح اليهوديّ أو النصراني وذكر غير اسم الله ، وأنت تسمع ، فلا

__________________

(١) أخرجه مالك في الموطأ في : الزكاة ، حديث ٤٢.

(٢) أخرجه البخاري في : الجزية ، ١ ـ باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب ، حديث ١٤٩٢ ونصه : عن بجالة قال : كنت كاتبا لجزء بن معاوية ، عم الأحنف. فأتانا كتاب عمر بن الخطاب ، قبل موته بسنة : فرّقوا بين كل ذي محرم من المجوس.

ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس ، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذها من مجوس هجر.

٥١

تأكل. وإذا غاب عنك فكلّ. فقد أحلّه الله لك. كذا في (اللباب). وقول الحسن ـ في هذا البحث ـ هو الحسن.

وفي (النهاية) من كتب الزيدية : أما إذا ذبح أهل الذمة لأعيادهم وكنائسهم. فكرهه مالك ، وأباحه أشهب ، وحرمه الشافعيّ. وذلك لتعارض عموم قوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وعموم قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) [البقرة : ١٧٣] ، فتخصيص كل واحد للآخر محتمل. ثم قال : والجمهور على تحريم ذبيحة المرتدّ. وأجازها إسحاق ، وكرهها الثوريّ. وسبت الخلاف : هل المرتد يتناول اسم (الكتاب) أم لا؟ قال : وهكذا منشأ الخلاف في ذبائح بني تغلب ، هل اسم (الكتاب) يتناول المتنصّر والمتهوّد من العرب ، كما روي عن ابن عباس؟ أو لا يتناول ، كما روي عن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. انتهى.

وقوله تعالى : (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) يعني : ذبائحكم حلال لهم. فتأكل اليهود والنصارى ذبيحة المسلمين. كذا في (التفسير) المنسوب لابن عباس.

ونقل بعض مفسّري الزيدية عن ابن عباس وأبي الدرداء ، وبقية التابعين السالف ذكرهم ، وأكثر المفسرين والفقهاء ، أن المراد ذبائح المسلمين.

وقال الزجاج : تأويله : حلّ لكم أن تطعموهم. لأن الحلال والحرام والفرائض إنما تعقد على أهل الشريعة.

وقال ابن كثير : أي ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم. وليس إخبارا عن الحكم عندهم. اللهم! إلّا أن يكون خبرا عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه. سواء كان من أهل ملّتهم أو غيرها. والأول أظهر في المعنى. أي : ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم. وهذا من باب المكافأة والمجازاة. كما ألبس (١) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثوبه لعبد الله بن أبيّ ، ابن سلول حين مات ودفنه.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الجنائز ، ٧٨ ـ باب هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة؟ حديث ٦٧٦ ونصه : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن أبيّ ، بعد ما أدخل حفرته. فأمر به فأخرج. فوضعه على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه. فالله أعلم. وكان كسا عباسا قميصا.

وقال أبو هريرة : وكان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قميصان. فقال له ابن عبد الله : يا رسول الله! ألبس أبي قميصك الذي يلي جلدك.

قال سفيان : فيرون أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألبس عبد الله قميصه مكافأة لما صنع.

٥٢

فيه. قالوا : لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه. فجازاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ذلك بذلك». فأمّا الحديث (١) الذي فيه (لا تصحب إلّا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلّا تقيّ) فمحمول على الندب والاستحباب ، والله أعلم. انتهى.

وقال الرازيّ : أي : ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم. لأنه لا يمتنع أن يحرم الله أن نطعمهم من ذبائحنا. وأيضا فالفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة في الجانبين ، وإباحة الذبائح كانت حاصلة في الجانبين ، لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيها على التمييز بين النوعين. انتهى.

وقال البرهان البقاعيّ في (تفسيره) : وقوله تعالى (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) أي : تناوله لحاجتكم إلى مخالطتهم ، للإذن في إقرارهم على دينهم بالجزية. ولما كان هذا مشعرا بإبقائهم على ما اختاروا لأنفسهم. زاده تأكيدا بقوله (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) أي : فلا عليكم في بذله لهم ، ولا عليهم في تناوله. انتهى.

وفي (أمالي) الإمام السهيليّ رحمه‌الله تعالى : قيل : ما الحكمة في هذه الجملة وهم كفار لا يحتاجون إلى بياننا؟ فعنه جوابان : أحدهما أن المعنى : انظروا إلى ما أحل لكم في شريعتكم ، فإن أطعموكموه فكلوه ، ولا تنظروا إلى ما كان محرما عليهم ، فإن لحوم الإبل ونحوها كانت محرمة عليهم. ثم نسخ ذلك في شرعنا. والآية بيان لنا لا لهم ، أي : اعلموا أن ما كان محرما عليهم ، مما هو حلال لكم قد أحل لهم أيضا. ولذلك لو أطعمونا خنزيرا أو نحوه وقالوا : هو حلال في شريعتنا ، وقد أباح الله لكم طعامنا ـ كذبناهم وقلنا : إن الطعام الذي يحلّ لكم هو الذي يحل لنا ، لا غيره. فالمعنى ـ طعامهم حل لكم ، إذا كان الطعام الذي أحللته لكم. وهذا التفسير معنى قول السدّي وغيره.

الثاني : للنحاس والزجاج والنقاش وكثير من المتأخرين ، أن المعنى : جائز لكم أن تطعموهم من طعامكم. لا أن يبين لهم ما يحل لهم في دينهم. لأن دينهم باطل. إلّا أنه لم يقل : وإطعامكم ، بل (طعامكم) ـ والطعام المأكول ـ وأما الفعل فهو الإطعام. فإن زعموا أن (الطعام) يقوم مقام (الإطعام) توسعا ، قلنا : بقي اعتراض آخر. وهو الفصل بين المصدر وصلته بخبر المبتدأ. وهو ممتنع بالإجماع. لا

__________________

(١) أخرجه الدارمي في : الأطعمة ، ٢٣ ـ باب من كره أن يطعم طعامه إلا الأتقياء.

وأخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣ / ٣٨ عن أبي سعيد الخدريّ.

٥٣

يجيزون (إطعام زيد حسن للمساكين) ولا (ضربك شديد زيدا) فكيف جاز (وطعامكم حلّ لهم)؟ انتهى.

قال الناصر في (الانتصاف) : وقد يستدل بهذه الآية من يرى الكفار مخاطبين بفروع الشريعة. لأن التحليل حكم وقد علقه بهم في قوله (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) كما علق الحكم بالمؤمنين. وهذه الآية أبين في الاستدلال بها من قوله : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) [الممتحنة : ١٠] ، فإنّ لقائل أن يقول : في تلك الآية نفي الحكم ليس بحكم. ولا يستطيع ذلك في آية (المائدة) هذه. لأن الحكم فيها مثبت ، والله أعلم.

ثم قال : ولما استشعر الزمخشري دلالتها على ذلك ، وهو من القائلين بأن الكفار يستحيل خطابهم بفروع الشريعة ـ أسلف تأويلها بصرف الخطاب إلى المؤمنين ، أي : لا جناح عليكم ـ أيها المسلمون! ـ أن تطعموا أهل الكتاب. انتهى.

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) عطف على (الطيبات) أو مبتدأ حذف خبره لدلالة ما قبله عليه. أي : حلّ لكم. والمراد ب (المحصنات) العفيفات عن الزنى. كما قال تعالى في الآية الأخرى : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) [النساء : ٢٥]. وهو المرويّ عن الحسن والشعبي وسفيان وإبراهيم ومجاهد. وحكى ابن جرير رواية أخرى عن مجاهد أنه قال : المحصنات الحرائر. فقيل : عني بهن غير الإماء. وقيل : أراد بهن العفيفات ، كقول الجمهور. وذلك لأن الحرّ يطلق على خلاف العبد ، وعلى خيار كل شيء ، كما في (القاموس).

قال الزمخشريّ : وتخصيصهن بعث على تخير المؤمنين لنطفهم. والإماء من المسلمات يصح نكاحهن بالاتفاق. وكذلك نكاح غير العفائف منهن. انتهى.

أقول : جواز نكاح الأمة موقوف على خوف العنت وعدم طول الحرة ، لآية : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً ..) [النساء : ٢٥] إلخ. وأما نكاح غير العفيفة فأجازه الأكثرون. وذهب الإمام أحمد إلى تحريم نكاح الزانية على زان وغيره ، حتى تتوب وتنقضي عدتها. لقوله تعالى : (وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [النور : ٣]. ولما أخرجه أحمد (١) بإسناد رجاله ثقات ، والطبرانيّ في (الكبير) و (الأوسط) من حديث عبد الله بن عمرو : أن رجلا من المسلمين

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده ٢ / ٢٢٥ والحديث رقم ٧٠٩٩.

٥٤

استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في امرأة يقال لها أم مهزول ، كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه. فقرأ عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ). وأخرج أبو داود (١) والنسائيّ والترمذي وحسّنه ، من حديث ابن عمر : أن مرثد بن أبي مرثد الغنويّ كان يحمل الأسارى بمكة. وكان بمكة بغيّ يقال لها عناق. وكانت صديقته. قال : فجئت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله! أنكح عناقا؟ قال ، فسكت عني. فنزلت الآية : (وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) [النور : ٣]. فدعاني فقرأها عليّ وقال : لا تنكحها. وأخرج أحمد وأبو داود (٢) بإسناد رجاله ثقات ، من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله». قال ابن القيّم : أخذ بهذه الفتاوى ـ التي لا معارض لها ـ الإمام أحمد ومن وافقه ـ وهي من محاسن مذهبه ـ فإنه لم يجوّز أن ينكح الرجل زوجا تحبه. ويعضد مذهبه بضعة وعشرون دليلا قد ذكرناها في موضع آخر.

وأخرج ابن ماجة (٣) والترمذيّ وصحة ، من حديث عمرو بن الأحوص ، أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال : «استوصوا في النساء خيرا. فإنما هنّ عندكم عوان. ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك. إلّا أن يأتين بفاحشة مبيّنة. فإن فعلن ، فاهجروهنّ في المضاجع ، واضربوهنّ ضربا غير مبرّح ، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا». وأخرج أبو داود (٤) والنسائيّ ، من حديث ابن عباس قال : «جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن امرأتي لا تمنع يد لامس ، قال : غرّبها ، قال : أخاف أن تتبعها نفسي. قال : فاستمتع بها». قال المنذريّ : ورجال إسناده محتج بهم في الصحيحين.

قال ابن القيّم : عورض بهذا الحديث المتشابه ، الأحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تجويز البغايا. واختلفت مسالك المحرّمين لذلك فيه ، فقالت طائفة :

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : النكاح ، ٤ ـ باب في قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) حديث ٢٠٥١.

(٢) أخرجه أبو داود في : النكاح ، ٤ ـ باب في قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) ، حديث ٢٠٥٢.

(٣) أخرجه ابن ماجة في : النكاح ، ٣ ـ باب حق المرأة على الزوج ، حديث ١٨٥١.

والترمذي في : الرضاع ، ١١ ـ باب ما جاء في حق المرأة على زوجها.

(٤) أخرجه أبو داود في : النكاح ، ٣ ـ باب في تزويج الأبكار ، حديث ٢٠٤٩.

وأخرجه النسائي في : الطلاق ، ٣٤ ـ باب ما جاء في الخلع.

٥٥

المراد بـ (اللامس) ملتمس الصدقة لا ملتمس الفاحشة. وقالت طائفة : بل هذا في الدوام غير موثر. وإنما المانع ورود العقد على الزانية فهذا هو الحرام ، وقالت طائفة : بل هذا من التزام أخف المفسدتين لدفع أعلاهما. فإنه لما أمر بمفارقتها خاف من أن لا يصبر عنها فيواقعها حراما ، فأمره حينئذ بإمساكها. إذ مواقعتها بعقد النكاح أقل فسادا من مواقعتها بالسفاح. وقالت طائفة : بل الحديث ضعيف لا يثبت. وقالت طائفة : ليس في الحديث ما يدل على أنها زانية. وإنما فيه أنها لا تمنع ممن يمسّها أو يضع يده عليها أو نحو ذلك ، فهي تعطي الليان لذلك. ولا يلزم أن تعطيه الفاحشة الكبرى. ولكن هذا لا يؤمن معه إجابتها الداعي إلى الفاحشة. فأمره بفراقها ، تركا لما يريبه إلى ما لا يريبه. فلما أخبره بأن نفسه تتبعها ، وأنه لا صبر له عنها ، رأى مصلحة إمساكها أرجح المسالك. والله تعالى أعلم. وتتمة البحث في ذلك يأتي إن شاء الله تعالى في سورة النور.

فائدة :

أفتى جابر بن عبد الله وعامر الشعبيّ وإبراهيم النخعيّ والحسن البصريّ بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها ، أنه يفرق بينهما وتردّ عليه ما بذل لها من المهر. رواه ابن جرير عنهم.

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي : هنّ أيضا حلّ لكم. والجمهور : على أن المراد ب (المحصنات) العفائف عن الزنى ، كما قدمنا.

قال ابن كثير : وهو الأشبه. لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمّية وهي مع ذلك غير عفيفة ، فيفسد حالها بالكلية ، ويتحصل زوجها على ما قيل ، حشفا وسوء كيلة.

وحكى ابن جرير عن طائفة من السلف ـ ممن فسّر (المحصنات) بالعفيفات ؛ أن الآية تعم كل كتابية عفيفة. سواء كانت حرة أو أمة. ومن فسرها ب (الحرائر) قال : لا يصح نكاح الأمة الكتابية بحال ، إذ لا يحتمل عار الكفر مع عار الرق ، على أنه يؤدي إلى استرقاق الكافر ولد المسلم.

تنبيهات

الأول : ظاهر الآية جواز نكاح الكتابية. وهذا مذهب أكثر الفقهاء والمفسرين. ورواية عن زيد والصادق والباقر ، واختاره الإمام يحيى وقال : إنه إجماع الصدر الأول من الصحابة ، وأنّ عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفرافصة على نسائه ، وهي نصرانية. وأنّ طلحة بن عبيد الله تزوج يهودية. كذا نقله المفسرون.

٥٦

وروى البيهقيّ وعبد الرزاق وابن جرير عن عمر أنّه قال : المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصراني المسلمة. وروى عبد الرزاق أيضا عن سعيد بن المسيب ، أن عمر بن الخطاب كتب إلى حذيفة بن اليمان وهو بالكوفة ، ونكح امرأة من أهل الكتاب ، فكتب : أن فارقها فإنك بأرض المجوس ، فإني أخشى أن يقول الجاهل : قد تزوج صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كافرة! ويحلل الرخصة التي كانت من الله عزوجل فيتزوجوا نساء المجوس ... ففارقها.

وروى عبد الرزاق والبيهقيّ عن قتادة : أن حذيفة نكح يهودية. فقال عمر : طلّقها فإنها جمرة. فقال : أحرام هي؟ قال : لا ، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن ...

وروى عبد الرزاق عن زيد بن وهب قال : كتب عمر بن الخطاب : إن المسلم ينكح النصرانية ، والنصرانيّ لا ينكح المسلمة. وروي أيضا عن جابر قال : نساء أهل الكتاب لنا حلّ ، ونساؤنا عليهم حرام. وروي أيضا عن معمر عن الزهريّ قال : نكح رجل من قومي في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم امرأة من أهل الكتاب. وروي عن ابن عمر كراهية ذلك. ويحتج بقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) [البقرة : ٢٢١] وكان يقول : لا أعلم شركا أعظم من قولها : إن ربها عيسى. وأجاب الجمهور بأنه عامّ خص بهذه الآية ، إن قيل بدخول الكتابيات في عموم المشركات ، وإلّا ، فلا معارضة بين الآيتين. لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع. كقوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة : ١]. وكقوله : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ) [آل عمران : ٢٠].

الثاني : استدل بعموم الآية من جوّز نكاح الحربيات الكتابيات. وروي عن ابن عباس : أن الإذن في الذميات خاصة ، ويقرأ : (قاتِلُوا الَّذِينَ) ـ إلى قوله ـ (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ). قال : فمن أعطى ، حل. ومن لا ، فلا. وهذا الاستدلال دقيق جدا. فليتأمل!.

الثالث : قال المهايميّ : لما اعتبر في طعام أهل الكتاب شبهة بالطيب ـ كما قدمنا ـ اعتبر في باب النكاح ، فأحلّ المحصنات منهم ، واحتمل كفرهنّ لأنه إنما لم يحتمل كفر غيرهم لأنهم يدعون إلى النار. وهؤلاء لما اعترفوا بأصل النبوّة ، ولا شبهة لهم في نفي أمر نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فضلا عن حجة ، ضعفت دعوتهم إليها ، فلم يعتد بها. على أن الرجل مستول على المرأة. فلا تؤثر فيه تأثير الرجل ، فلذلك لم يصح

٥٧

تزويج المسلمة بالكتابيّ. على أن فيه إذلالا للمسلمة فلا تحتمل.

الرابع : ذهب ثلة من العترة الطاهرة إلى أن المراد من (المحصنات) المؤمنات منهن. ذهابا إلى تحريم نكاح الكافرة. قال بعض مفسري الزيدية ، بعد أن ساق مذهب الأكثرين المتقدم : وقال القاسم والهادي والنفس الزكية ومحمد بن عبد الله وعامة القاسمية ـ وهو مرويّ عن ابن عمر : إنه لا يجوز لمسلم نكاح كافرة ، كتابية كانت أو غيرها. واحتجوا بقوله في سورة البقرة : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) [البقرة : ٢٢١]. قالوا ـ يعني الأكثرين ـ : هذا في المشركات لا في الكتابيات ، قلنا : اسم الشرك ينطلق على أهل الكتاب بدليل قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ). إلى قوله : (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة : ٣١]. وعن ابن عمر : لا أعلم شركا أعظم من قول النصرانية : إن ربها عيسى. وعن عطاء : قد كثر الله المسلمات. وإنما رخص لهم يومئذ. قالوا : إنه تعالى عطف أحدهما على الآخر فدلّ على أنهما غيرين ، حيث قال تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) [البينة : ١]. قلنا : هذا كقوله تعالى : (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [البقرة : ١٨٠]. قالوا : الآية مصرحة بالجواز في قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) قلنا : في سورة النور : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ) [النور : ٢٦]. وقوله في سورة النساء : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [النساء : ٢٥]. فشرط الإيمان في هذا يقضي بالتحريم. فتتأوّل هذه الآية : أنه أراد المحصنات من أهل الكتاب اللاتي قد أسلمن ، لأنهم كانوا يتكرهون ذلك ، فسماهنّ باسم ما كنّ عليه. وقد ورد مثل هذا في كتاب الله تعالى. قال الله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [البقرة : ١٢١]. وقوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦]. وقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) [آل عمران : ١٩٩]. قالوا : سبب النزول وفعل الصحابة يدل على الجواز. وإنا نجمع بين الآيات الكريمة فنقول : قوله (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) [البقرة : ٢٢١]. عامّ نخصّه بقوله تعالى (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ؛ أو نقول : أراد ب (الْمُشْرِكاتِ) الوثنيات وب (الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ، ما أفاده الظاهر. أو يكون قوله (وَالْمُحْصَناتُ) ناسخا لتحريم الكتابيات بقوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ). قلنا : نقابل ما ذكرتم بما روي ، أن كعب بن مالك أراد أن

٥٨

يتزوج بيهودية أو نصرانية. فسأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فقال : إنها لا تحصن ماءك ؛ وروي أنه نهاه عن ذلك. وبأنا نتأوّل قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) فنجمع ونقول : تخصيص المشركات ب (الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) متراخ ، والبيان لا يجوز أن يتراخى! قالوا : روى جابر بن عبد الله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أحلّ لنا ذبائح أهل الكتاب وأحل لنا نساؤهم وحرم عليهم أن يتزوجوا نساءنا». قال في (الشفا) : قال علماؤنا : هذا حديث ضعيف النقل. قالوا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المجوس : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» الخبر أفاد جواز ذبائحهم ونكاح نسائهم. قلنا : الجواز منسوخ بأدلة التحريم. ثم إنا نقوي أدلتنا بالقياس فنقول : كافرة فأشبهت الحربية ، أو لما حرمت الموارثة حرمت المناكحة. أو لما حرم نكاح الكافر للمسلمة حرم العكس. قالوا : لا حكم للاعتبار مع الأدلة. انتهى بحروفه. وهو فقه غريب.

وقوله تعالى : (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي : أعطيتموهنّ مهورهنّ. وتقييد الحلّ بإيتائها ، لتأكيد وجوبها والحث على ما هو الأولى ، مبادرة لفراغ الذمة. فإن شغل الذمة بحق الآدميّ أشدّ من شغلها بحق الله تعالى : (مُحْصِنِينَ) متعفّفين (غَيْرَ مُسافِحِينَ) أي : غير مجاهرين بالزنى : (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) مسرين به ، و (الخدن) الصديق ، يقع على الذكر والأنثى. وحمل المسافحة على إظهار الزنى لظهور مقابله في الإسرار ، لتبادره من الخدن وهو الصديق. وقيل : الأول نهي عن الزنى ، والثاني نهي عن مخالطتهن. كذا في (العناية).

قال ابن كثير : كما شرط الإحصان في النساء ـ وهي العفّة عن الزنى ـ كذلك شرطها في الرجال. وهو أن يكون الرجل أيضا محصنا عفيفا. ولهذا قال : (غَيْرَ مُسافِحِينَ) وهم الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ولا يردّون أنفسهم عمّن جاءهم (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) أي : ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلّا معهنّ ، كما تقدم في سورة النساء ، سواء ، ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه‌الله ـ إلى أنه لا يصحّ نكاح المرأة البغي حتى تتوب ، وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف. وكذلك لا يصحّ عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنى ، لهذه الآية وللحديث : «لا ينكح الزاني المجلود إلّا مثله».

وروى ابن جرير (١) : أن عمر بن الخطاب قال : لقد هممت أن لا أدع أحدا

__________________

(١) الأثر رقم ١١٢٦٧.

٥٩

أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة. فقال له أبيّ بن كعب : يا أمير المؤمنين! الشرك أعظم من ذلك. وقد يقبل منه إذا تاب.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) يريد ب (الإيمان) شرائع الإسلام. على أنه مصدر أريد به المؤمن به ، ك (درهم ضرب الأمير). (الكفر) الإباء عنه وجحوده. والآية تذييل لقوله : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) ... تعظيما لشأن ما أحله الله وما حرّمه ، وتغليظا على من خالف ذلك. كذلك في (العناية).

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٦)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) لما كان من جملة الإيفاء بالعقود التي افتتحت به هذه السورة إقامة الصلاة ، وكانت مشروطة بالطهارة ، بيّن سبحانه في هذه الآية كيفيّتها.

قال بعض المفسرين : نزلت في عبد الرحمن وكان جريحا : وقيل : لما احتبس صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر ليلا ـ بسبب عقد ضاع لعائشة ، وأصبحوا على غير ماء. انتهى.

والثاني رواه البخاريّ ـ كما في ـ (أسباب النزول) للسيوطيّ ـ وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة النساء في (آية التيمم) ثمة. فانظره.

ولهذه الآية ثمرات هي أحكام شرعية.

الأولى : وجوب الوضوء وقت القيام إلى الصلاة أي إرادته. فقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ). كقوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [النحل : ٩٨]. وكقولك : إذا ضربت غلامك فهوّن عليه : في أن المراد إرادة الفعل. قال الزمخشريّ :

٦٠