تفسير القاسمي - ج ٤

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٤

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

لمقدر هو عبارة عن المذكور. أي : وليكون من الموقنين بالتوحيد ، فعلنا ما فعلنا من الإراءة والتبصير بآيات السموات والأرض.

لطائف :

الأولى ـ قال الرازيّ : وههنا دقيقة عقلية ، وهي أن نور جلال الله تعالى لائح غير منقطع ولا زائل البتة ، والأرواح البشرية ، لا تصير محرومة عن تلك الأنوار إلا لأجل حجاب ، وذلك الحجاب ليس إلا الاشتغال بغير الله تعالى. فإذا كان الأمر كذلك. فبقدر ما يزول ذلك الحجاب ، يحصل هذا التجلي. فقول إبراهيم عليه والسلام : (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) إشارة إلى تقبيح الاشتغال بعبادة غير الله تعالى ، لأن كل ما سوى الله فهو حجاب عن الله تعالى ، فلما زال ذلك الحجاب ، لا جرم تجلّى له ملكوت السموات بالتمام. فقوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ) معناه : وبعد زوال الاشتغال بغير الله حصل له نور تجلى جلال الله تعالى ، فكان قوله (وَكَذلِكَ) منشأ لهذه الفائدة الشريفة الروحانية.

الثانية ـ قال الرازيّ : اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل. ولهذا المعنى لا يوصف علم الله تعالى بكونه يقينا ، لأن عمله غير مسبوق بالشبهة ، وغير مستفاد من الفكر والتأمل. واعلم أن الإنسان في أول ما يستدل به ، فإنه لا ينفك قلبه عن شك وشبهة من بعض الوجوه ، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت ، صارت سببا لحصول اليقين. وذلك لوجوه :

الأول ـ أنه يحصل لكل واحد من تلك الدلائل نوع تأثر وقوة ، فلا تزال القوة تتزايد حتى تنتهي إلى الجزم.

الثاني ـ أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكة. فكثرة الاستدلال بالدلائل المختلفة على المدلول الواحد ، جار مجرى تكرار الدرس الواحد. فكما أن كثرة التكرار تفيد الحفظ المتأكد الذي لا يزول عن القلب ، فكذا هاهنا.

الثالث ـ أن القلب عند الاستدلال كان مظلما جدّا ، فإذا حصل فيه الاعتقاد المستفاد من الدليل الأول ، امتزج نور ذلك الاستدلال بظلمة سائر الصفات الحاصلة في القلب ، فحصل فيه حالة شبيهة بالحالة الممتزجة من النور والظلمة ، فإذا حصل الاستدلال الثاني امتزج نوره بالحالة الأولى ، فيصير الإشراق واللمعان أتم. وكما أن الشمس إذا قربت من المشرق ظهر نورها في أول الأمر ، وهو الصبح ، فكذلك الاستدلال الأول يكون كالصبح. ثم ، كما أن الصبح لا يزال يتزايد بسبب تزايد قرب

٤٠١

الشمس من سمت الرأس ، فإذا وصلت إلى سمت الرأس حصل النور التام ، فكذلك العبد كلما كان تدبره في مراتب مخلوقات الله تعالى أكثر ، كان شروق نور المعرفة والتوحيد أجلى. إلا أن الفرق بين شمس العلم ، وشمس العالم ، أن شمس العالم الجسمانيّ لها في الارتقاء والتصاعد حدّ معين ، لا يمكن أن يزاد عليه في الصعود. وأما شمس المعرفة والعقل والتوحيد ، فلا نهاية لتصاعدها ، ولا غاية لازديادها. فقوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إشارة إلى مراتب الدلائل والبينات. وقوله (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) إشارة إلى درجات أنوار التجلي ، وشروق شمس المعرفة والتوحيد. انتهى.

الثالثة ـ ذكر تعالى الإراءة في هذه الآية مجملة ، ثم فصلها بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (٧٦)

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) قال المهايميّ : لما رأى ـ يعني إبراهيم عليه الصلاة والسلام ـ الملكوت ، وأيقن أن شيئا منها لا يصلح للإلهية ، أراد الرد على قومه في اعتقاد إلهيتها لخستها ، باعتبار افتقارها في أفعالها إلى أجسام لها دناءة الأفول ، وإن كانت علوية ، وكذا في اعتقاد إلهية تلك الأجسام. كما رد عليهم في اعتقاد إلهية الأصنام ، فلتظهر ظهور الكواكب التي كانوا يعبدونها. انتهى.

وبالجملة ، فالآية بيان لكيفية استدلاله عليه الصلاة والسلام ، ووصوله إلى رتبة الإيقان. ومعنى (جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) ستره بظلامه. و (الكوكب) قيل : الزهرة ، وقيل : المشتري.

أقول : (الكوكب) لغة : النجم. قال الزبيديّ في (شرح القاموس) : وكونه علما بالغلبة على الزهرة غير معتدّ به ، وإنما هي الكوكبة بالهاء. انتهى.

قال الزمخشريّ : كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم ، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئا منها لا يصح أن يكون إلها ، لقيام دليل الحدوث فيها وأن وراءها محدثا أحدثها ، وصانعا صنعها ، ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها. وقول إبراهيم لقومه : (هذا رَبِّي) إرخاء للعنان معهم بإظهار موافقته لهم أولا ، ثم إبطال قولهم بالاستدلال ، لأنه أقرب لرجوع الخصم.

٤٠٢

قال الزمخشري : قول إبراهيم ذلك. هو قول من ينصف خصمه ، مع علمه بأنه مبطل. يحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه ، لأن ذلك أدعى إلى الحق ، وأنجى من الشغب. ثم يكرّ عليه بعد حكايته ، فيبطله بالحجة.

(فَلَمَّا أَفَلَ) أي : غاب ، (قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أي : لا أحب عبادة من كان كذلك ، فإن الأفول دناءة تنافي الإلهية ، بل تمنع من الميل إلى صاحبها ، فضلا عن اتخاذه إلها أو معبودا ، فضلا عما يفتقر إليه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)(٧٧)

(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) أي : طالعا منتشر الضوء (قالَ هذا رَبِّي) على الأسلوب المتقدم (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) فإن ما رأيته لا يليق بالإلهية لدناءته بمحوه.

قال الزمحشري : وفيه تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلها ، وهو نظير الكواكب في الأفول ، فهو ضال. وأن الهداية إلى الحق بتوفيق الله تعالى ولطفه.

وفي (الانتصاف) : التعريض بضلالهم ثانيا أصرح وأقوى من قوله أولا (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) وإنما ترقى إلى ذلك ، لأن الخصوم قد أقامت عليه ، بالاستدلال الأول ، حجة فأنسوا بالقدح في معتقدهم ، ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون ، ولا يصغون إلى الاستدلال. فما عرّض صلوات الله عليه بأنهم في ضلالة ، إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى تمام المقصود ، واستماعهم إلى آخره. والدليل على ذلك أنه ترقى في النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم ، والتقريع بأنهم على شرك حين تمّ قيام الحجة ، وتبلّج الحقّ ، وبلغ من الظهور غاية المقصود. كما قال تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(٧٨)

(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) على نحو ما تقدم ، وتذكير اسم الإشارة لتذكير الخبر ، أو لأنه أراد : هذا الطالع ، أو الذي أراه ، أو لصيانة الرب عن شبهة

٤٠٣

التأنيث ، ليستدرجهم. إذ لو حقر بوجه ما كان سببا لعدم إصغائهم ـ وعلى الأخير اقتصر المهايميّ ـ فقال : لم يؤنثه لئلا يعارض عظمته نقص الأنوثة ، ولو غير حقيقية ، وهي وإن كانت في الواقع لم يأت بها لفظا ، لأنه قصد بذلك مساعدة الخصم أولا.

وقوله تعالى : (هذا أَكْبَرُ) أي : أكبر الكواكب جرما ، وأعظمها قوة ، فهو أولى بالإلهية. وفيه تأكيد لما رامه عليه الصلاة والسلام من إظهار النصفة ، مع إشارة خفية إلى فساد دينهم من جهة أخرى ، ببيان أن الأكبر أحق بالربوبية من الأصغر.

(فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ) صادعا بالحق : (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أي من الأجرام المحدثة المتغيرة من حالة إلى أخرى ، أو من إشراككم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٧٩)

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) أي : وجهت قلبي وروحي في المحبة والعبادة ، بل جعلته مسلما (لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) أي : مائلا عن الأديان الباطلة ، والعقائد الزائغة ، (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

وفي هذا المقام :

مباحث :

الأول ـ توسع المفسرون هنا في قوله : (هذا رَبِّي).

فمن قائل بأن المتكلم بهذا آزر ، وأنه لما قال ذلك ، قال إبراهيم (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ).

وقيل : إنه إبراهيم. وكان ذلك في حال الطفولية ، قبل استحكام النظر في معرفة الله تعالى لقوله : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) ... إلخ.

وقيل : بعد بلوغه وتكريمه بالرسالة. إلا أنه أراد الاستفهام الإنكاريّ ، توبيخا لقومه ، فحذف الهمزة ، ومثله كثير.

وقيل : على إضمار القول أي : يقولون هذا ربي ، وإضمار القول كثير.

وقيل : المعنى في زعمكم واعتقادكم.

٤٠٤

وقيل : الإخبار على سبيل الاستهزاء ... إلى أقوال أخر.

والقصد في ذلك تنزيه مقامه عليه الصلاة والسلام عن الشك والحيرة ، واعتقاد ربوبية ذلك ، لمنافاته للعصمة.

وأقول : هذا مسلّم بلا ريب ، ولكنّ الأوجه من جميع ذلك كله ما أسلفناه أوّلا من أن قوله : (هذا رَبِّي) من باب استعمال النصفة مع الخصوم ، على سبيل الوضع ، وهو سوق مقدمة في الدليل لا يعتقدها ، لكونها مسلمة عند غيره ، لأجل إلزامه بها. وهو مصطلح أهل الجدل. وقد اقتصر الزمخشريّ على هذا الوجه الفريد.

قال الناصر في (الانتصاف) : وذلك متعين. وقد ورد في الحديث الوارد في الشفاعة (١) أنهم يأتون إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فيلتمسون منه الشفاعة ، فيقول : نفسي! نفسي! ويذكر كذباته الثلاث ، ويقول : لست لها ، يريد قوله لسارة هي أختي ، وإنما عنى : في الإسلام ، وقوله : إنه سقيم ، وإنما عنى همّه بقومه وبشركهم والمؤمن يسقمه ذلك ـ وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) ، وقد ذكرت فيه وجوه من التعريض. فإذا عدّ صلوات الله عليه وسلامه على نفسه هذه الكلمات ، مع العلم بأنه غير مؤاخذ بها ، دلّ ذلك على أنها أعظم ما صدر منه. فلو كان الأمر على ما يقال ، من أن هذا الكلام محكيّ عنه على أنه نظره لنفسه ، لكان أولى أن يعدّه ، وأعظم ، مما ذكرناه. لأنه حينئذ يكون شكا ، بل جزما. على أن الصحيح أن الأنبياء قبل النبوة معصومون من ذلك ، انتهى.

وقال الحافظ ابن كثير : اختلف المفسرون في هذا المقام ، هل هو مقام نظر أو مناظرة؟ فروى ابن جرير (٢) من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر. واختاره ابن جرير مستدلا عليه بقوله : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) الآية. وقال محمد بن إسحاق قال ذلك حين خرج من السّرب الذي ولدته فيه أمه ، حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان ، لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه ، فأمر بقتل الغلمان عامئذ. فلما حملت أم إبراهيم به ، وحان وضعها ، ذهبت إلى سرب ، ظاهر البلدة ، فولدت فيه إبراهيم ، وتركته هناك. وذكر أشياء من خوارق العادات ، كما ذكرها غيره من المفسرين.

__________________

(١) حديث الشفاعة هذا أخرجه البخاري في مواضع : ومنها في : التوحيد ، ٢٤ ـ باب قول الله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، حديث ٤٠ ، عن أنس وفيه ذكره ، عليه‌السلام ، كذباته الثلاث.

(٢) الأثر رقم ١٣٤٦٢ من التفسير.

٤٠٥

ثم قال ابن كثير : والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظرا لقومه ، مبيّنا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام ، فبين ، في المقام الأول مع أبيه ، خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية ، التي هي على صورة الملائكة السماوية ليشفعوا له إلى الخالق العظيم الذي هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه ، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته ، ليشفعوا لهم عنده في الرزق ، وغير ذلك مما يحتاجون إليه ، وبيّن في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل ، وهي الكواكب السيارة السبعة. وأشدّ هن إضاءة وأشرفهن عندهم ، الشمس ثم القمر ثم الزهرة. فبين أولا صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية ، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين ، لا تزيغ عنه ، ولا تملك لنفسها تصرفا ، بل هي جرم من الأجرام ، خلقها الله منيرة ، لما له في ذلك من الحكم العظيمة ، وهي تطلع من المشرق ، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب ، حتى تغيب عن الأبصار فيه ، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال. وهذه لا تصلح للإلهية. ثم بين في القمر ما بين في النجم ، ثم الشمس كذلك. فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة ، التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار ، وتحقق ذلك بالدليل القاطع ، تبرأ من عبادتهن وموالاتهن ، وأخبر بأنه يعبد خالقهن ومسخرهن.

ثم قال ابن كثير : وكيف يجوز أن يكون ناظرا في هذا المقام ، وهو الذي قال الله في حقه : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) [الأنبياء : ٥١ ـ ٥٢]. وقال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شاكِراً لِأَنْعُمِهِ ، اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل : ١٢٠ ـ ١٢١].

وقد ثبت في الصحيحين (١) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : كل مولود يولد على الفطرة.

وفي صحيح مسلم (٢) عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قال الله

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الجنائز ، ٨٠ ـ باب إذا أسلم الصبي فمات ، هل يصلّى عليه؟ حديث ٧١٦ ونصه : أن أبا هريرة كان يحدّث قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من مولود إلا يولد على الفطرة. فأبواه يهودّانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه. كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء. هل تحسّون فيها من جدعاء؟». ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ...) الآية.

(٢) أخرجه مسلم في : الجنة وصفة نعيمها وأهلها ، حديث رقم ٦٣.

٤٠٦

تعالى : إني خلقت عبادي حنفاء. وقال تعالى : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) وقال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢]. ومعناه ، على أحد القولين ، كقوله : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة ، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله (أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ناظرا في هذا المقام؟ بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة ، والسجية المستقيمة ، بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بلا شك ولا ريب.

ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك ، لا ناظرا ، قوله تعالى : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ ..) الآية الآتية. انتهى.

وممن جوّد هذا المبحث الجليل ، وبيّن أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان مناظرا لقومه ، العلامة الشهرستانيّ في كتابه (الملل والنحل) ، ونحن نسوقه عنه تأييدا لهذا البحث المهم ، وتعرّفا بمعتقد قومه ، وما دفعهم إليه ، لما فيه من الفوائد.

قال رحمه‌الله تحت ترجمة (أصحاب الهياكل والأشخاص) : هؤلاء من فرق الصابئة (وهم المتعصبون للروحانيين) ، وقد أدرجنا مقالتهم في المناظرات جملة ، ونذكرها هاهنا تفصيلا :

اعلم أن أصحاب الروحانيات ، لما عرفوا أن لا بد للإنسان من متوسط ، ولا بد للمتوسط من أن يرى فيتوجه إليه للتقرب به ، ويستفاد منه ، فزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع ، فتعرفوا أولا بيوتها ومنازلها ، وثانيا مطالعها ومغاربها ، وثالثا اتصالاتها على أشكال الموافقة والمخالفة ، مرتبة على طبائعها ، ورابعا تقسيم الأيام والليالي والساعات عليها ، وخامسا تقدير الصور والأشخاص والأقاليم والأمصار عليها ، فعملوا الخواتيم ، وتعلموا العزائم والدعوات ، وعينوا ليوم زحل مثلا يوم السبت ، وراعوا فيه ساعته الأولى ، وتختموا بخاتمه المعمول على صورته وصفته ، ولبسوا اللباس الخاص به ، وبخّروا ببخوره الخاص ، ودعوا بدعواته الخاصة ، وسألوا حاجتهم منه ، الحاجة التي تستدعى من زحل من أفعاله وآثاره الخاصة به.

وكذلك رفع الحاجة التي تختص بالمشتري في يومه وساعته ، وجميع الإضافات التي ذكرنا إليه. وكذلك سائر الحاجات إلى الكواكب. وكانوا يسمونها : أربابا آلهة ، والله تعالى هو رب الأرباب ، وإله الآلهة. ومنهم من جعل الشمس إله الالهة ورب

٤٠٧

الأرباب ، فكانوا يتقربون إلى الهياكل ، تقربا إلى الروحانيات ـ يعني الملائكة ـ ويتقربون إلى الروحانيات ، تقربا إلى البارئ تعالى ، لاعتقادهم بأن لكل روحاني هيكلا ، ولكل هيكل فلكا ، فالهياكل أبدان الروحانيات ، ونسبتها إلى الروحانيات نسبة أجسادنا إلى أرواحنا فهم الأحياء الناطقون بحياة الروحانيات ، وهي أربابها ومدبراتها ، تتصرف في أبدانها تدبيرا وتصريفا وتحريكا ، كما يتصرف في أبداننا. ولا شك أن من تقرب إلى شخص فقد تقرب إلى روحه. ثم استخرجوا من عجائب الحيل المرتبة على عمل الكواكب ما كان يقضي منهم العجب. وهذه الطلسمات المذكورة في الكتب والسحر والكهانة والتختيم والتعزيم والخواتيم والصور ، كلها من علومهم. وأما أصحاب الأشخاص فقالوا : إذا كان لا بد من متوسط يتوسل به ، وشفيع يتشفع إليه ، والروحانيات وإن كانت هي الوسائل ، لكنا إذا لم نرها بالأبصار ، ولم نخاطبها بالألسن ، لم يتحقق القرب إليها إلا بهياكلها ، ولكن الهياكل قد ترى في وقت ، ولا ترى في وقت ، لأن لها طلوعا وأفولا ، وظهورا بالليل ، وخفاء بالنهار ، فلم يصف لنا التقرب بها ، والتوجه إليها ، فلا بد لنا من صور وأشخاص موجودة قائمة منصوبة نصب أعيننا ، فنعكف عليها ، ونتوسل بها إلى الهياكل ، فنتقرب بها إلى الروحانيات ، ونتقرب بالروحانيات إلى الله تعالى ، فنعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ، فاتخذوا أصناما أشخاصا على مثال الهياكل السبعة ، كل شخص في مقابلة هيكل ، وراعوا في ذلك جوهر الهيكل ، أعني الجوهر الخاص به من الحديد وغيره ، وصوروه بصورته على الهيئة التي تصدر أفعاله عنه ، وراعوا في ذلك الزمان والوقت والساعة والدرجة والدقيقة وجميع الإضافات النجومية ، من اتصال محمود يؤثر في نجاح المطالب التي تستدعي منه ، فتقربوا إليه في يومه وساعته ، وتبخّروا بالبخور الخاص به وتختموا بخاتمه ، ولبسوا ثيابه ، وتضرعوا بدعائه ، وعزّموا بعزائمه ، وسألوا حاجتهم منه ، فيقولون : كان تقضى حوائجهم بعد رعاية هذه الإضافات كلها ، وذلك هو الذي أخبر التنزيل عنه أنهم عبدة الكواكب والأوثان ، فأصحاب الهياكل هم عبدة الكواكب ، إذ قالوا بإلهيتها ـ كما شرحنا ـ وأصحاب الأشخاص هم عبدة الأوثان ، إذ سموها آلهة في مقابلة آلهة أولئك السماوية ، وقالوا : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨]. وقد ناظر الخليل عليه الصلاة والسلام هذين الفريقين ، فابتدأ بكسر مذهب أصحاب الأشخاص ، وذلك قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ). وتلك الحجة أن كسرهم قولا بقوله : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ). ولما كان أبوه آزر هو أعلم

٤٠٨

القوم. بعمل الأشخاص والأصنام ورعاية الإضافات النجومية فيها حق الرعاية ، ولهذا كانوا يشترون منه الأصنام ، لا من غيره ، كان أكثر الحجج معه ، وأقوى الإلزامات عليه (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وقال : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم : ٤٢] لأنك جهدت كل الجهد ، واستعملت كل العلم ، حتى عملت أصناما في مقابلة الأجرام السماوية فما بلغت قوتك العلمية والعملية إلى أن تحدث فيها سمعا وبصرا ، وأن تغني عنك ، وتضر وتنفع ، وإنك بفطرتك وخلقتك أشرف درجة منها ، لأنك خلقت سميعا بصيرا ضارّا نافعا ، والآثار السماوية فيك أظهر منها في هذا المتخذ تكلفا ، والمعمول تصنعا ، فيا لها من حيرة ، إذ صار المصنوع بيديك ، معبودا لك ، والصانع أشرف من المصنوع. (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) [مريم : ٤٤ ـ ٤٦]. لم يقبل حجته القولية. فعدل عليه الصلاة والسلام إلى الكسر بالفعل ، فجعلهم جذاذا ، إلا كبيرا لهم (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٥٩]. (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) [الأنبياء : ٦٣ ـ ٦٥]. فأفحمهم بالفعل حيث أحال الفعل على كبيرهم ، كما أفحمهم بالقول ، حيث أحال الفعل منهم ، وكل ذلك على طريق الإلزام عليهم ، وإلا فما كان الخليل كاذبا قط ، ثم عدل إلى كسر مذاهب أصحاب الهياكل كما أراه الله تعالى الحجة على قومه ، قال : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) فأطلعه على ملكوت الكونين والعالمين تشريفا له على الروحانيات وهياكلها ، وترجيحا لمذهب الحنفاء على مذهب الصابئة ، وتقريرا أن الكمال في الرجال ، فأقبل على إبطال مذهب أصحاب الهياكل (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) على ميزان إلزامه على أصحاب الأصنام (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) وإلا فما كان الخليل كاذبا في هذا القول ، ولا مشركا في تلك الإشارة ، ثم استدل بالأفول والزوال والتغير والانتقال ، بأنه لا يصلح أن يكون ربّا إلها ، فإن الإله القديم لا يتغير ، وإذا تغير فاحتاج إلى مغير ، وهذا لو اعتقدتموه ربّا قديما وإلها أزليّا ، ولو اعتقدتموه واسطة وقبلة وشفيعا ووسيلة ، فالأفول والزوال أيضا ، يخرجه عن الكمال. وعن هذا ما ما استدل عليه بالطلوع ، وإن كان الطلوع أقرب إلى الحدوث من الأفول ، فإنهم إنما انتقلوا إلى الأشخاص ، لما عراهم من التحير بالأفول ، فأتاهم

٤٠٩

الخليل عليه الصلاة والسلام من حيث تحيرهم ، فاستدل عليهم بما اعترفوا بصحته ، وذلك أبلغ في الاحتجاج. ثم (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ). فيا عجبا! من لا يعرف ربّا كيف يقول : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)؟ رؤية الهداية من الرب تعالى غاية التوحيد ، ونهاية المعرفة ، والواصل إلى الغاية والنهاية ، كيف يكون في مدارج البداية؟ دع هذا كله خلف قاف ، وارجع بنا إلى ما هو شاف كاف. فإن الموافقة في العبارة على طريق الإلزام على الخصم من أبلغ الحجج ، وأوضح المناهج. وعن هذا قال : (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) لاعتقاد القوم أن الشمس ملك الفلك ، وهو رب الأرباب الذي يقتبسون منه الأنوار ، ويقبلون منه الآثار (فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، قرر مذهب الحنفاء ، وأبطل مذهب الصابئة ، وبين أن الفطرة هي الحنيفية ، وأن الطهارة فيها ، وأن الشهادة بالتوحيد مقصورة عليها ، وأن النجاة والخلاص متعلقة بها ، وأن الشرائع والأحكام مشارع ومناهج إليها ، وأن الأنبياء والرسل مبعوثة لتقريرها وتقديرها ، وأن الفاتحة والخاتمة ، والمبدأ والكمال ، منوطة بتلخيصها وتحريرها. ذلك الدين القيم ، والصراط المستقيم ، والمنهج الواضح ، والمسلك اللائح. انتهى كلام الشهرستاني رحمه‌الله تعالى. وإنما نقلت كلامه برمته ، لأنه كما قيل :

وما محاسن شيء كلّه حسن

وقد قدّم رحمه‌الله الكلام على أصحاب الروحانيات الصابئة ، وأتبعها بمناظرة بديعة جرت بينهم وبين الحنفاء ، بما تفيد مراجعته فائدة كبرى. فجزاه الله خيرا.

الثاني ـ تبيّن مما ذكره الشهرستانيّ أن سر احتجاج الخليل عليه الصلاة والسلام بالأفول دون البزوغ ، مع كون كل منهما منافيا لاستحقاق معروضه للربوبية ـ هو إتيانهم من حيث تحيرهم ، إلزاما لهم بما يعترفون بصحته.

وقال أبو السعود : لما كان البزوغ حالة موجبة لظهور الآثار والأحكام ، ملائمة لتوهم الاستحقاق في الجملة ـ عدل عنه إلى الأفول ، لأنه حالة مقتضية لانطماس الآثار ، وبطلان الأحكام المنافيين للاستحقاق المذكور منافاة بينة ، يكاد يعترف بها كل مكابر عنيد. انتهى. وهو لطيف إلا أن الأول أسدّ.

الثالث ـ لو قيل : إن الأفول ، لما كان يمنع من استحقاق معروضه لصفة

٤١٠

الربوبية على ما ذكرنا ، وقد ثبت ذكر في أكبر الكواكب ـ (أعني الشمس) ـ فلزم ثبوته فيما دونها بالأولى ـ فهلا اقتصر على أفول الشمس رعاية للإيجاز والاختصار؟ أجيب : بأن الأخذ من الأدنى فالأدنى ، إلى الأعلى فالأعلى ، له نوع تأثير في التقرير والبيان والتأكيد ، لا يحصل من غيره ، فكان سوق الاستدلال على هذا الوجه أولى ـ أفاده الرازي ـ

الرابع ـ قال الرازي : تدل هذه الآية على أن الدين يجب أن يكون مبنيّا على الدليل ، لا على التقليد ، وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة البتة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)(٨٠)

قوله تعالى : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) أي جادلوه ، وأرادوا مغالبته بالحجة ، فيما ذهب إليه من توحيد الله ، ونفي الشركاء عنه ، تارة بأدلة فاسدة واقفة في حضيض التقليد ، وأخرى بالتخويف ، وقد أشير إلى جواب كل منهما. (قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) أي : أتجادلونني في توحيده ، وقد هداني لإقامة الحجج ، ورفع الشبه على نفي إلهية ما سواه ، وقد ثبت أنها ناقصة في ذواتها ، فكمالاتها من غيرها ، ولا إلهية للناقص بالذات ، لأن كماله لا يكون مطلقا ، و (تحاجوني) بإدغام نون الجمع في نون الوقاية ، وقرئ بحذف الأولى.

وقوله تعالى : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) أي لا أخاف معبوداتكم ، لأنها جمادات لا تضر بنفسها ولا تنفع ، وهو جواب عما خوفوه عليه الصلاة والسلام في أثناء المحاجة من إصابة مكروه من جهة أصنامهم ، كما قال لهود عليه‌السلام قومه : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود : ٥٤]. وتخويفهم ، وإن لم يسبق له ذكر ، لكنه فهم من قوله : (وَلا أَخافُ).

وقال ابن كثير : أي ومن الدليل على بطلان قولكم ؛ إن هذه المعبودات لا تؤثر شيئا ، وأنا لا أخافها ولا أباليها ، فإن كان لها كيد فكيدوني بها ولا تنظرون. انتهى.

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) أي : من إصابة مكروه بي من جهتها ، وذلك إنما هو من جهته تعالى ، من غير دخل لمعبوداتكم فيه أصلا.

وفي (الانتصاف) : غاية خوف إبراهيم منها. المعلق على مشيئة الله تعالى

٤١١

لذلك ، خوف الضرر عندها بقدرة الله تعالى ، لا بها ، وكأنه في الحقيقة لم يخف إلا من الله ، لأن الخوف الذي أثبته منها معلق بمشيئة الله وقدرته ، وهو كالخوف منها ـ والله أعلم ـ.

وقوله تعالى : (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) كأنه علة الاستثناء ، أي : أحاط بكل شيء علما. فلا يبعد أن يكون في علمه إنزال المخوف بي من جهتها ، أي : كرجمه بالنجوم. لأنه إذا أحيل شيء إلى علم الله ، أشعر بجواز وقوعه. وفي الإظهار في موضع الإضمار ، مع التعرض لعنوان الربوبية ، إظهار منه عليه الصلاة والسلام لانقياده لحكمه سبحانه وتعالى ، واستسلام لأمره ، واعتراف بكونه تحت ملكوته وربوبيته.

هذا ، وجعل المهايمي ذلك علة لاستدراك محذوف ، لعلمه من المقام ، حيث قال في الآية : ولا أخاف الضرر على نفسي من تأثير ما تشركون به ، إلا أن يشاء ربي أن يجعل لهم شيئا من التأثير ، لكنه لا يشاء في شأني ، لأنه (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) فعلم أنه لو أوجد التأثير فيهم بما يضرون به من بعثه لتوحيده ، صار محجوبا انتهى ـ والأول أقرب ـ.

(أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) أي : تعتبرون بأن هذه المعبودات جمادات ، لا تضر ولا تنفع ، وأن النافع الضار هو الذي خلق السموات والأرض.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٨١)

(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) أي : معبوداتكم ، وهي مأمونة الخوف ، (وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) ، أي : بإشراكه (عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) أي : حجة. إذ الإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة. والمعنى : وما لكم تنكرون عليّ الأمن في موضع الأمن ، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع أعظم المخوفات وأهولها (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) أي : فريقي الموحدين والمشركين ، (أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) أي : من لحوق الضرر ، (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي : ما يحق أن يخاف منه. أو من أحق بالأمن أو من أولي العلم؟ وجواب الشرط محذوف. أي : فأخبروني.

ثم بيّن تعالى من له الأمن ، جوابا عما استفهم عنه الخليل عليه‌السلام بقوله :

٤١٢

القول في تأويل قوله تعالى :

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)(٨٢)

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) أي : بشرك ، كما يفعله الفريق المشركون حيث يزعمون أنهم يؤمنون بالله عزوجل ، وأن عبادتهم للأصنام من تتمات إيمانكم وأحكامه ، لكونها لأجل التقريب والشفاعة ، كما قالوا (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣]. وهذا معنى اللبس ـ أفاده أبو السعود ـ وسيأتي زيادة لذلك.

(أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) يوم القيامة (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي : إلى الحق ، ومن عداهم في ضلال.

روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله قال : لما نزلت (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) قال أصحابه : وأينا لم يظلم نفسه؟ فنزلت (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣]. ـ هذا لفظ رواية البخاري ـ.

ولفظ رواية الإمام أحمد عن عبد الله قال : لما نزلت هذه الآية (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) شقّ ذلك على الناس ، فقالوا : يا رسول الله! فأينا لا يظلم نفسه؟ قال : إنه ليس الذي تعنون ، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)؟ إنما هو الشرك.

أقول : هذه الرواية توضح رواية البخاري السابقة ـ أعني : قول ابن مسعود : فنزلت (إِنَّ الشِّرْكَ) .. إلخ ـ من جهة أن النزول أريد به تفسير الآية ، لا سبب نزولها ، وهو اصطلاح الصحابة والتابعين دقيق ، ينبغي التنبه له. وقد أشرنا له في المقدمة. فجدد به عهدا.

ولابن أبي حاتم عن عبد الله مرفوعا (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) قال : بشرك.

قال : وروي عن أبي بكر وعمر وأبي بن كعب وسلمان وحذيفة وابن عباس وابن عمر وعمرو بن شرحبيل وأبي عبد الرحمن السلميّ ومجاهد وعكرمة والنخعي والضحاك وقتادة والسدّيّ ، وغير واحد نحو ذلك. نقله ابن كثير. وبالجملة ، فلا يعلم مخالف من الصحابة والتابعين في تفسير (الظلم) هنا بالشرك ، وقوفا مع الحديث الصحيح في ذلك ، المبين للنظائر القرآنية الموضّح بعضها لما أبهم في بعض. وتعرف تلك القاعدة من مثل هذا الحديث يكشف غمة أوهام كثيرة. ولو قيل : لا

٤١٣

يلزم من قوله : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) أن غير الشرك لا يكون ظلما ، يجاب : بأن التنوين في (بظلم) للتعظيم ، فكأنه قيل : لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم. ولما تبين أن الشرك ظلم عظيم علم أن المراد : لم يلبسوا إيمانهم بشرك ، أو أن المتبادر من المطلق أكمل أفراده ـ كذا في العناية ـ.

قال الرازيّ : والدليل على أن هذا هو المراد ، أن هذه القصة من أولها إلى آخرها إنما وردت في نفي الشركاء والأضداد والأنداد ، وليس فيها ذكر الطاعات والعبادات ، فوجب حمل الظلم هاهنا على ذلك.

تنبيه :

حيث علم أن الصادق المصدوق صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسر الآية بما تقدم فليعضّ عليه بالنواجذ وأما ما هذى به الزمخشري من قوله في تفسير الآية : أي لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم ، وأبى تفسير الظلم بالكفر ، لفظ (اللبس) أي : لأن لبس الإيمان بالشرك أي : خلطه به ، مما لا يتصور ، لأنهما ضدان لا يجتمعان ـ على زعمه ـ فمدفوع بأنه يلابسه. لأنه إن أريد بالإيمان مطلق التصديق ، سواء كان اللسان أو غيره ، فظاهر أنه يجامع الشرك كالمنافق. وكذا إن أريد تصديق القلب ، لجواز أن يصدّق بوجود الصانع ، دون وحدانيته ، لما في قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف : ١٠٦]. وهو ما أشير إليه قبل. ولو أريد التصديق بجميع ما يجب التصديق به بحيث يخرج عن الكفر ، فلا يلزم من لبس الإيمان بالشرك الجمع بينهما ، بحيث يصدق عليه أنه مؤمن ومشرك ، بل تغطيته بالكفر ، وجعله مغلوبا مضمحلا ، أو اتصافه بالإيمان ، ثم الكفر ، ثم الإيمان ثم الكفر مرارا ، وبعد تسليم ما ذكر ، فاختصاص الأمن بغير العصاة لا يوجب كون العصاة معذبين البتة ، بل خائفين ذلك ، متوقعين للاحتمال ، ورجحان جانب الوقوع ـ كذا في (شرح الكشاف).

وفي (الانتصاف) : إنما يروم الزمخشري بذلك تنزيله على معتقده ، في وجوب وعيد العصاة ، وأنهم لا حظ لهم في الأمن كالكفار. ويجعل هذه الآية تقتضي تخصيص الأمن بالجامعين بين الأمرين : الإيمان والبراءة من المعاصي. ونحن نسلم ذلك ، ولا يلزم أن يكون الخوف اللاحق للعصاة ، هو الخوف اللاحق للكفار ، لأن العصاة من المؤمنين إنما يخافون العذاب المؤقت ، وهم آمنون من الخلود. وأما الكفار فغير آمنين بوجه ما. انتهى.

٤١٤

وأما قوله المعتزلة : حديث عبد الله المتقدم ـ إن صح ـ يكون خبر واحد ، في مقابلة الدليل القطعي ، ومثله لا يعمل به ـ فالجواب : بأنه صح بلا ريب ، لتخريج الشيخين له.

وإذا جاء نهر الله ، بطل نهر معقل

وقولهم : في مقابلة الدليل القطعي ، بهتان عظيم. ويا لله العجب من هؤلاء ، قابلوا السنة الصحيحة بكناسة الرأي ، ولم يستحيوا من الله تعالى ورسوله في هذه المخالفة ، فأين تذهب به عقولهم؟ إلى الحق أم إلى الباطل؟ ولكن كما قال ابن سهل :

فما أضيع البرهان عند المقلّد

هذا ، وقد روى ابن مردويه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسير ساره ، إذ عرض له أعرابي فقال : يا رسول الله! والذي بعثك بالحق! لقد خرجت من بلادي وتلادي ومالي ، لأهتدي بهداك ، وآخذ من قولك ، وما بلغتك حتى ما لي طعام إلا من خضر الأرض ، فاعرض عليّ. فعرض عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقبل. فازدحمنا حوله ، فدخل خفّ بكره في بيت جرذان ، فتردّى الأعرابيّ ، فانكسرت عنقه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدق! والذي بعثني بالحق! لقد خرج من بلاده وتلاده وماله ليهتدي بهداي ، ويأخذ من قولي ، وما بلغني حتى ما له من طعام إلا من خضر الأرض. أسمعتم بالذي علم قليلا وأجر كثيرا؟ هذا منهم! أسمعتم ب (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)؟ فإن هذا منهم. وفي لفظ قال : هذا عمل قليلا وأجر كثيرا.

وروى نحو الإمام أحمد (١) عن جرير بن عبد الله مطولا ، وفيه بيان قوله : فاعرض عليّ ، ولفظه : ما الإيمان؟ قال : تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت. قال : قد أقررت.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(٨٣)

قوله تعالى : (وَتِلْكَ) أي : الدلائل المشار إليها في قوله (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً

__________________

(١) أخرجه في المسند ٤ / ٣٥٩.

٤١٥

آلِهَةً) إلى ههنا (حُجَّتُنا) أي : التي لا يمكن نقضها (آتَيْناها إِبْراهِيمَ) أي : أرشدناه إليها ، وعلمناه إياها ، بلا واسطة معلّم (عَلى قَوْمِهِ) متعلق ب (حُجَّتُنا) إن جعل خبر (تِلْكَ) ، وبمحذوف إن جعل بدله ، أي : آتيناها حجة ودليلا على قومه الكثيرين ، ليغلب وحده.

(نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) يعني : في العلم والحكمة ، وقرئ بالتنوين. (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) في رفعه وخفضه ، (عَلِيمٌ) بحال من يرفعه واستعداده له.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ)(٨٦)

(وَوَهَبْنا لَهُ) أي : لإبراهيم عوضا عن قومه ، لما اعتزلهم وما يعبدون ، (إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أي ولدا ، وولد ولد ، لتقر عينه ببقاء العقب (كُلًّا هَدَيْنا) أي : كلّا منهما هديناه الهداية الكبرى ، بلحوقهما بدرجة أبيهما في النبوة ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ، وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) [مريم : ٤٩].

قال ابن كثير : يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق ، وذلك بعد أن طعن في السن ، وأيس وامرأته سارة ، من الولد ، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط ، فبشروهما بإسحاق ، فتعجبت المرأة من ذلك : (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) [هود : ٧٢]. (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ ، رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ، إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) [هود : ٧٣] فبشروهما فتعجبت ، وبشروهما مع وجوده بنبوته ، وبأن له نسلا وعقبا ، كما قال تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات : ١١٢]. وهذا أكمل في البشارة ، وأعظم في النعمة. وقال : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود : ٧١]. أي : ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما ، فتقرّ أعينكما به ، كما قرت بوالده ، وإن الفرح بولد الولد شديد ، لبقاء النسل والعقب. ولما كان ولد الشيخ

٤١٦

والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب لضعفه ، وقعت البشارة به ، وبولد اسمه يعقوب ، الذي فيه اشتقاق العقب والذرية ، وكانت هذه المجازاة لإبراهيم عليه‌السلام حين اعتزل قومه وتركهم ، ونزح عنهم ، وهاجر من بلادهم ، ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض ، فعوضه الله عزوجل عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين ، من صلبه ، على دينه ، لتقر بهم عينه ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ ..) [مريم : ٤٩]. الآية.

(وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) أي : من قبله ، هديناه كما هديناه. وعدّ هداه نعمة على إبراهيم ، من حيث إنه أبوه ، وشرف الوالد يتعدى إلى الولد.

قال ابن كثير : كل منهما له خصوصية عظيمة ، أما نوح عليه‌السلام فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض ، إلا من آمن به ، وهم الذين صحبوه في السفينة ، جعل الله ذريته هم الباقين ، فالناس كلهم من ذريته. وأما الخليل إبراهيم عليه‌السلام ، فلم يبعث الله عزوجل بعده نبيا إلا من ذريته ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) [العنكبوت : ٢٧] الآية. وقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) [الحديد : ٢٦]. وقال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) [مريم : ٥٨].

وقوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) الضمير لإبراهيم أو لنوح ، على ما يأتي ، (داوُدَ) عطف على (نُوحاً) أي : وهدينا داود ، (وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

(وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ).

(وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ).

اعلم أن المقصود من هذه الآيات ، وما قبلها ، وما يلحقها ، تعديد أنواع نعم الله تعالى على إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، جزاء اعتزاله قومه وما يعبدون ، وقيامه بنصرة التوحيد ، ودحض الشرك. فذكر تعالى أولا رفع درجته ، بإيتائه الحجة على قومه ، وتخصيصه بها ، ثم جعله عزيزا في الدنيا ، حسبا ونسبا ، أصلا وفرعا ، لأنه تولد من نوح أول المرسلين رسالة عامة ، ووهبت له الذرية الطاهرة ، أنبياء البشر. ولذا ذهب الأكثرون إلى أن الضمير في (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) لإبراهيم ، لأن مساق النظم لبيان شؤونه العظيمة ، كأنه قيل : ولم نزل نرفع درجاته بعد ذلك إذ هدينا من ذريته داود ..

٤١٧

إلخ ، فهو المقصود بالذكر في هذه الآيات. وذكر نوح عليه‌السلام ، لأن كون إبراهيم من أولاده أحد موجبات رفعته كما تقدم. والغاية هي إلزام من ينتمي إليه من المشركين.

ولا يقال : إن لوطا ليس من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه ، لأنه يقال : إن العرب تجعل العمّ أبا ، كما أخبر تعالى عن أبناء يعقوب أنهم قالوا : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [البقرة : ١٣٣] ، مع أن إسماعيل عم يعقوب ، ودخل في آبائه تغليبا.

وقال محي السنة رحمه‌الله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) أي : ذرية نوح صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يرد من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، لأنه ذكر في جملتهم يونس صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان من الأسباط ، في زمن شعياء ، أرسله الله تعالى إلى أهل نينوى من الموصل.

وقال : إن لوطا عليه‌السلام كان ابن أخي إبراهيم عليه‌السلام ، آمن بإبراهيم ، وشخص معه مهاجرا إلى الشام ، فأرسله الله إلى أهل سدوم.

ومن قال : الضمير لإبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقدّر : ومن ذرية إبراهيم وداود وسليمان هدينا. لأن إبراهيم هو المقصود بالذكر. وذكر نوح لتعظيم إبراهيم. ولذلك ختم بيونس ولوط ، وجعلهما معطوفين على (نُوحاً هَدَيْنا) من عطف الجملة على الجملة. وصاحب (الكشف) أخرج (إلياس) صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وليس كذلك. لما في (جامع الأصول) عن الكسائي ، أنهما من ذريته. فبقي لوط خارجا ، لما كان ابن أخيه آمن به ، وهاجر معه ، أمكن أن يجعل من ذريته على سبيل التغليب ـ كما ذكره الطيبي ـ. وبالجملة ، فالآية المذكورة من المنن على إبراهيم على كلا الوجهين ، لأن شرف الذرية ، وشرف الأقارب شرف ، لكنه على الأول أظهر ، ويكون تطرية في مدح إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعود إليه مرة بعد أخرى.

تنبيهات :

الأول ـ قال الحافظ ابن كثير : في ذكر عيسى عليه‌السلام ، في ذرية إبراهيم أو نوح (على القول الآخر) دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل ، لأن انتساب عيسى ليس إلا من جهة أمه مريم عليهما‌السلام ، وقد روى ابن أبي حاتم أن الحجاج أرسل إلى يحيى بن يعمر فقال : بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تجده في كتاب الله وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده؟! قال : أليس تقرأ سورة الأنعام (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) ... حتى بلغ : (وَيَحْيى وَعِيسى) قال :

٤١٨

بلى! قال : أليس من ذرية إبراهيم ، وليس له أب؟ قال : صدقت! فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته أو وقف على ذريته ، أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم. فأما إذا أعطى الرجل بنيه ، أو وقف عليهم ، فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه ، وبنو بنيه ، واحتجوا بقول الشاعر :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهنّ أبناء الرجال الأباعد

وقال آخرون : ويدخل بنو البنات فيهم ، لما ثبت في صحيح البخاري (١) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للحسن بن عليّ : إن ابني هذا سيّد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. فسماه (ابنا) فدل على دخوله في الأبناء. وقال آخرون : هذا تجوّز : انتهى.

وفي (العناية) : أورد على الاستدلال بتناول الذرية أولاد البنت من هذه الآية ، بأن عيسى عليه‌السلام ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه ، فلا يظهر قياس غيره عليه. والمسألة مختلف فيها ، والقائل بها استدل بهذه الآية ، وآية المباهلة ، حيث دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحسن والحسين رضي الله عنهما بعد ما نزل : (نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) [آل عمران : ٦١]. إن لم نقل إنه من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. انتهى.

الثاني ـ إنما لم يذكر إسماعيل عليه‌السلام مع إسحاق ، بل أخّر ذكره عنه ، لأن المقصود بالذكر هاهنا أنبياء بني إسرائيل ، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب ، وأما إسماعيل فلم يخرج من صلبه من الأنبياء إلا خاتمهم وأفضلهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولا يقتضي المقام ذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه أمر أن يحتج على العرب في نفي الشرك بأن إبراهيم لما ترك قومه وما يعبدون إلى عبادة الله وحده ، رزقه الله النعم العظيمة في الدين والدنيا ، ومنها إيتاؤه أولادا أنبياء. فإذا كان المحتج بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا يذكر في هذا المعرض. ولهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحاق ـ أفاده الرازي ـ.

الثالث ـ اعلم أنه تعالى ذكر هنا ثمانية عشر نبيّا من الأنبياء عليهم‌السلام من

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الفتن ، ٢٠ ـ باب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحسن بن عليّ : إن بني هذا لسيّد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين ، حديث ١٣٠٧ ونصه : حدثنا الحسن قال : لما سار الحسن بن عليّ رضي الله عنهما إلى معاوية بالكتائب ، قال عمرو بن العاص لمعاوية : أرى كتيبة لا تولّى حتى تدبر أخراها. قال معاوية : من لذراري المسلمين؟

قال الحسن : ولقد سمعت أبا هريرة قال : بينا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب جاء الحسن. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ابني هذا سيد ، ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين».

٤١٩

غير ترتيب ، لا بحسب الزمان ، ولا بحسب الفضل ، لأن الواو لا تقتضي الترتيب. ولكن هنا لطيفة في هذا الترتيب ، وهي أن الله تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بنوع من الكرامة والفضل ، فذكر أولا نوحا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب لأنهم أصول الأنبياء ، وإليهم ترجع أنسابهم جميعا. ثم من المراتب المعتبرة ، بعد النبوة ، الملك والقدرة والسلطان. وقد أعطى الله داود وسليمان من ذلك حظّا وافرا. ومن المراتب الصبر عند نزول البلاء والمحن والشدائد ، وقد خص الله بهذه أيوب عليه‌السلام. ثم عطف على هاتين المرتبتين من جمع بينهما ، وهو يوسف عليه‌السلام ، فإنه صبر على البلاء والشدة إلى أن آتاه الله ملك مصر مع النبوة ، ثم من المراتب المعتبرة في تفضيل الأنبياء عليهم‌السلام كثرة المعجزات ، وقوة البراهين ، وقد خص الله موسى وهارون من ذلك بالحظ الوافر. ثم من المراتب المعتبرة الزهد في الدنيا ، والإعراض عنها ، وقد خص الله بذلك زكريا ويحيى وعيسى وإلياس عليهم‌السلام ، ولهذا السبب وصفهم بأنهم من الصالحين ، ثم ذكر الله من بعد هؤلاء الأنبياء ، من لم يبق له أتباع ولا شريعة ، وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط. فإذا اعتبرنا هذه اللطيفة على هذا الوجه ، كان هذا الترتيب من أحسن شيء يذكر ، والله أعلم بمراده ، وأسرار كتابه ـ أفاده الخازن وأصله للرازيّ ـ.

الرابع ـ استدل بقوله تعالى : (وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) من يرى أن الأنبياء أفضل من الملائكة. لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى ، فيدخل فيه الملك.

الخامس ـ نكتة ذكر (الهداية) في قوله تعالى (كُلًّا هَدَيْنا) هو تعديد النعم على إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشرف الأصول والفروع ـ كما أسلفنا ـ والولد لا يعدّ نعمة ما لم يكن مهديّا.

السادس ـ قال السيوطي في (الإكليل) : استدل بقوله تعالى : (كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا) من أنكر إفادة التقديم الحصر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٨٧)

(وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) عطف على (كلًّا) أو (نُوحاً) أي : كلا منهم فضلنا ، وفضلنا بعض آبائهم ، أو هدينا من آبائهم ومن معهم للدين الخالص جماعات كثيرة ، فالمفعول محذوف. (وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

٤٢٠