تفسير القاسمي - ج ٤

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٤

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

محمد بن كعب القرظيّ وغيره قالوا : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة ، فيقيل تحتها. فأتاه أعرابيّ فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني؟ قال : الله عزوجل. فرعدت يد الأعرابيّ وسقط السيف منه. قال : وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه فأنزل الله عزوجل : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

وروى ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لما غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني أنمار ، نزل ذات الرقاع بأعلى نخل. فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلّى رجليه ، فقال الوارث من بني النجار : لأقتلنّ محمدا. فقال له أصحابه : كيف تقتله؟ قال : أقول له أعطني سيفك ، فإذا أعطانيه قتلته به. قال : فأتاه فقال : يا محمد! أعطني سيفك أشيمه. فأعطاه إياه. فرعدت يده حتى سقط السيف من يده. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حال الله بينك وبين ما تريد. فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

قال ابن كثير : وهذا حديث غريب من هذا الوجه. ثم قال : وقصة غورث بن الحارث مشهورة في الصحيح. يريد ما أخرجه الشيخان (١) عن جابر قال : غزونا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل نجد. فلما قفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدركتهم القائلة في واد كثير العضاه. فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر. فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت شجرة. فعلق بها سيفه ونمنا معه نومة. فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعونا. وإذا عنده أعرابيّ فقال : إنّ هذا اخترط عليّ سيفي وأنا نائم. فاستيقظت وهو في يده صلتا. فقال : من يمنعك مني؟ فقلت : الله. ثلاثا. ولم يعاقبه وجلس.

وفي رواية أخرى قال جابر : كنا مع رسول الله بذات الرقاع. فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فجاء رجل من المشركين ، وسيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معلق بالشجرة. فاخترطه فقال : تخافني؟ فقال : لا! فقال : من يمنعك مني؟ قال : الله. فتهدده أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وزاد البخاريّ في رواية له : إن اسم ذلك الرجل غورث بن الحارث.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الجهاد ، ٨٤ ـ باب من علّق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة. و ٨٧ ـ باب تفرّق الناس عن الإمام عند القائلة والاستظلال بالشجر. والحديث رقم ١٣٩٣.

وأخرجه مسلم في : صلاة المسافرين وقصرها ، حديث ٣١١ و ٣١٢.

٢٠١

وروى ابن مردويه عن أبي هريرة قال : كنا إذا صحبنا رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها. فينزل تحتها. فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها. فجاء رجل فأخذه فقال : يا محمد! من يمنعك مني؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الله يمنعني منك. ضع السيف. فوضعه. فأنزل الله عزوجل : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) وكذا رواه ابن حبان. في (صحيحه).

وروى الإمام أحمد (١) عن جعدة بن خالد بن الصمة قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورأى رجلا سمينا ، فجعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئ إلى بطنه بيده ويقول : لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك. قال : وأتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجل فقالوا : هذا أراد أن يقتلك. فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لم ترع ، لم ترع. ولو أردت ذلك لم يسلطك الله عليّ.

الثالث : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل نزول هذه الآية يحرس ، كما روى الإمام أحمد (٢) عن عائشة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه ، قالت : فقلت : ما شأنك يا رسول الله؟ قال : ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة! قالت : فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال : من هذا؟ فقال : أنا سعد بن مالك. فقال : ما جاء بك؟ قال : جئت لأحرسك ، يا رسول الله! قال : فسمعت غطيط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نومه. أخرجاه في (الصحيحين) (٣) :

وفي لفظ : سهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة مقدمة المدينة ، يعني على أثر هجرته بعد دخوله بعائشة ، وكان ذلك في سنة ثنتين منها.

وعن عائشة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرس ليلا حتى نزلت (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فأخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأسه من القبة فقال لهم : أيها الناس! انصرفوا فقد عصمني الله. أخرجه الترمذيّ (٤) والحاكم وابن أبي حاتم وابن جرير (٥).

وقد روى ابن جرير (٦) عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرس. فكان أبو طالب يرسل إليه كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه. حتى نزلت عليه هذه

__________________

(١) أخرجه في المسند ٣ / ٤٧١.

(٢) أخرجه في المسند ٦ / ١٤٠.

(٣) أخرجه البخاري في : التمني ، ٤ ـ باب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليت كذا وكذا» حديث ١٣٨٠.

وأخرجه مسلم في : فضائل الصحابة ، حديث ٣٩ و ٤٠.

(٤) أخرجه الترمذي في : التفسير ، ٥ ـ سورة المائدة ، ٤ ـ حدثنا عبد بن حميد.

(٥) الأثر رقم ١٢٢٧٦ من التفسير.

(٦) هذان الأثران ذكرهما ابن كثير في تفسيره عن ابن مردويه (٢ / ٧٨) ولم أجدهما في الطبري.

٢٠٢

الآية : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). قال : فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه فقال : إن الله قد عصمني من الجن والإنس. ورواه الطبراني أيضا. وروى ابن جرير نحوه أيضا عن جابر.

قال ابن كثير : وهذا حديث غريب ، وفيه نكارة. فإن هذا الآية مدنية ، بل هي من أواخر ما نزل بها ، وهذا الحديث يقتضي أنها مكية ، والله أعلم! انتهى.

أقول : بمراجعة ما أسلفنا في (المقدمة) من قاعدة أسباب النزول يرتفع الإشكال ، فتذكر.

الرابع : قال العلامة أبو السعود : إيراد هذه الآية الكريمة في تضاعيف الآيات الواردة في حق أهل الكتاب ، لما أن الكل قوارع يسوء الكفار سماعها. ويشق على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشافهتهم بها ، وخصوصا ما يتلوها من النص الناعي عليهم كمال ضلالتهم. ولذلك أعيد الأمر فقيل خطابا للفريقين :

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٦٨)

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) أي : من الدين (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي : تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائل نبوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتّباعه.

قال بعض المحققين :

معنى قوله تعالى : (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي : تعملوا طبق الواجب بأحكامهما ، وتحيوا شرائعهما ، وتطيعوا أوامرهما ، وتنتهوا بنواهيهما. فإن الإقامة هي الإتيان بالعمل على أحسن أوجهه ، كإقامة الصلاة مثلا. أي فعلها على الوجه اللائق بها. ولا يدخل في ذلك القصص التي فيهما ولا العقائد ونحوها فإنها ليست عملية. والمراد أن يعملوا بما بقي عندهم من أحكام التوراة والإنجيل على علاته وعلى ما به من نقص وتحريف وزيادة. فإن شرائع هذه الكتب وأوامرها ونواهيها هي أقل أقسامها تحريفا ، وأكثر التحريف في القصص والأخبار والعقائد وما ماثلها ، وهي لا تدخل في الأمر بالإقامة. ولا شك أن أحكام التوراة والإنجيل وما فيهما من شرائع ومواعظ

٢٠٣

ونصائح ونحوها ، لا تزال فيهما أشياء كثيرة لا عيب فيها ، ونافعة للبشر وفيها هداية عظمى للناس ، فهي مما يدخل تحت قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ) [آل عمران : ٣ ـ ٤] ، فإذا أقام أهل الكتاب أحكامهما على علاتها كانوا لا شك على شيء يعتد به ويصح أن يسمى دينا. وإذا لم يقيموهما وجروا على خلافهما ، كانوا مجردين من كل شيء يستحق أن يسمى دينا. وكانوا مشاغبين معاندين ، وبدينهم غير مؤمنين إيمانا كاملا. وهذا معنى صحيح ، وهو المتبادر من الآية. فأي شيء في هذا المعنى يدل على عدم تحريف التوراة والإنجيل وعلى وجودهما كاملين ، كما يدعي ذلك المكابرون من أهلهما ، وخصوصا بعد قوله تعالى : (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)؟ [المائدة : ١٣].

ثم قال : ولك أن تقول : معنى قوله تعالى : (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ). الحقيقيّين. وذلك يستلزم البحث والتنقيب والجد والاجتهاد في نقد ما عندهم منهما نقدا عقليا تاريخيا صحيحا ، حتى يستخلصوا حقهما من باطلهما بقدر الإمكان ، ونتيجة ذلك العناء كلّه ، أن يكونوا على شيء من الدين الحقّ ، وهذا أمر لا شبهة فيه. ولو اتبعوا القرآن لأراحوا واستراحوا. ولكنهم ـ كما أخبر تعالى عنهم ـ لا يزيدهم القرآن إلّا طغيانا وكفرا حسدا وعنادا فلا يؤمنون به. ولا يهتم جمهورهم بإصلاح دينهم من المفاسد وتنقيته من الشوائب. فلم يدركوا خير هذا ولا ذاك. فكأن الآية تريهم أنهم إذا لم يتبعوا القرآن يجب عليهم القيام بعبء ثقيل جدّا من البحث والتمحيص ، وبعد ذلك يكونون على شيء من الحق لا على الحق كله ولو أقاموا التوراة والإنجيل الحقيقيين غاية الإقامة ، فما بالك إذا كان ذلك مستحيلا لعدم وجودهما على حقيقتهما؟ فهم ليسوا على شيء مطلقا. ولا يمكن أن يكونوا عليه. فإن كتبهم قد صارت خلقة بالية. لذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر رضي الله عنه ، حينما رأى ورقة من التوراة بيده : ألم آتكم بها بيضاء نقية؟ والله لو كان موسى حيّا ما وسعه إلّا اتباعي. (فإن قيل) : وكيف يحثهم الله على العمل بأي شيء من دينهم ، ومنه ما جاء القرآن ناسخا له؟ (قلت) : لا شك عند كل عاقل أنه خير لأهل الكتاب أن يعملوا بشرائع دينهم الأصلية ، فإنهم حينئذ يتجنبون الكذب والتحريف والعناد والأذى والإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل والزنى ، وغير ذلك مما يعمله الناس. فمراد القرآن على التفسير الأول للآية حثهم ـ إن أصروا على عدم الإيمان به ـ على العمل بدينهم على الأقل ليستريح النبيّ وأتباعه من أكثر شرورهم ورذائلهم. ولكن بعد العمل بدينهم لا يكونون على الدين الحق الكامل ؛ بل

٢٠٤

الذي يفهم من الآية أنهم يكونون على شيء من الدين ، وهو ـ ولا شك ـ خير من لا شيء. ولا يفهم أنهم يكونون على الحق كله وعلى الدين الكامل الذي لا غاية أعظم منه ، فإن ذلك لا يكون إلّا بالإسلام (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [آل عمران : ٨٣]. انتهى.

ولا يخفى أنهم إذا أقاموا التوراة والإنجيل ، آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. لما تتقاضى إقامتهما الإيمان به. إذ كثر ما جاء فيهما من البشارات به والتنويه باسمه ودينه. فإقامتهما على وجوههما تستدعي الإسلام البتة ، بل هي هو ، والله الموفق ...

(وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : القرآن المجيد بالإيمان به. وفي التعبير بقوله تعالى (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) من التحقير والتصغير ما لا غاية وراءه. كما تقول : هذا ليس بشيء! تريد غاية تحقيره وتصغير شأنه. وفي أمثالهم : أقل من لا شيء. أي : لستم على دين يعتد به حتى يسمى شيئا ، لفساده وبطلانه.

ثم بيّن تعالى غلوّهم في العناد وعدم إفادة التبليغ فقال : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً). أي تماديا (وَكُفْراً) أي ثباتا على الكفر (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي : فإذا بالغت في تبليغ ما أنزل إليك ، فرأيت مزيد طغيانهم وكفرهم ، فلا تحزن عليهم لغاية خبثهم في ذواتهم ، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك ، وفي المؤمنين غنى عنهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦٩)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فيما يستقبلهم من العذاب (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي : في الآخرة إذا خاف المقصرون وحزنوا على تضييع العمر ..

لطائف :

الأول : (الصابئون) رفع على الابتداء. وخبره محذوف. والنية به التأخير عما في حيز (إن) من اسمها وخبرها. كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا. والصائبون كذلك ، وأنشد سيبويه شاهدا له :

وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم

بغاة ما بقينا في شقاق

٢٠٥

أي : فاعملوا أنا بغاة ، وأنتم كذلك. ثم قال الزمخشريّ : فإن قلت : ما التقديم والتأخير إلّا لفائدة ، فما فائدة التقديم؟ قلت : فائدته التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح. فما الظنّ بغيرهم؟ وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالا وأشدّهم غيّا ، وما سموا صابئين إلّا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها. أي : خرجوا. كما أن الشاعر قدم قوله (وأنتم) تنبيها على أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغاة من قومه. حيث عاجل به قبل الخبر الذي هو (بغاة) لئلا يدخل قومه في البغي قبلهم ، مع كونهم أوغل فيه منهم وأثبت قدما. انتهى.

قال الناصر في (الانتصاف) :

ثمة سؤال ، وهو أن يقال : لو عطف (الصابئين) ونصبه ـ كما قرأ ابن كثير ـ لأفاد أيضا دخولهم في جملة المتوب عليهم ، ولفهم من تقديم ذكرهم على (النصارى) ما يفهم من الرفع من أن هؤلاء الصابئين ـ وهم أوغل الناس في الكفر ـ يتاب عليهم ، فما الظنّ بالنصارى؟ ولكان الكلام جملة واحدة بليغا مختصرا ، والعطف إفراديّ. فلم عدل إلى الرفع وجعل الكلام جملتين؟ وهو يمتاز بفائدة على النصب والعطف الإفراديّ؟ ويجاب عن هذا السؤال بأنه لو نصبه وعطفه لم يكن فيه إفهام خصوصية لهذا الصنف. لأن الأصناف كلها معطوف بعضها على بعض عطف المفردات. وهذا الصنف من جملتها ، والخبر عنها واحد. وأما مع الرفع فينقطع عن العطف الإفراديّ وتبقى بقية الأصناف مخصصة بالخبر المعطوف به. ويكون خبر هذا الصنف المنفرد بمعزل. تقديره مثلا (والصابئون كذلك) فيجيء كأنه مقيس على بقية الأصناف وملحق بها. وهو بهذه المثابة ، لأنهم لما استقر بعد الأصناف من قبول التوبة ، فكانوا أحقاء بجعلهم تبعا وفرعا مشبهين بمن هم أقعد منهم بهذا الخبر ، وفائدة التقديم على الخبر أن يكون توسط هذا المبتدأ المحذوف الخبر ، بين الجزأين ، أدلّ على الخبر المحذوف من ذكره ، بعد تقضي الكلام وتمامه ، والله أعلم.

الثانية ـ فإن قلت : إن قوله تعالى : (مَنْ آمَنَ) منهم كيف يقع خبرا عن (الَّذِينَ آمَنُوا) أو بدلا ، وهو يقتضي انقسام المؤمنين إلى مؤمنين وغير مؤمنين؟

أجيبك بأن المراد ب (الَّذِينَ آمَنُوا) الذي آمنوا باللسان فقط. وهم المنافقون. فالمعنى : الذين آمنوا باللسان ومن معهم ، من أحدث منهم إيمانا خالصا. أو يؤول (مَنْ آمَنَ) بمن ثبت على الإيمان. فيصح في حق المؤمنين الخلص. وفي هذا شبه

٢٠٦

جمع بين الحقيقة والمجاز ، ودفع بأن الثبات على الإيمان ليس غير الإيمان ، بل هو وإحداثه فردان من مطلقه. والوجه الأول. إذ في ضمّ المؤمنين إلى الكفرة إخلال بتكريمهم ، قاله الخفاجيّ.

قال أبو السعود : أما على تقدير كون المراد ب (الَّذِينَ آمَنُوا) مطلق المتدينين بدين الإسلام ، المخلصين منهم والمنافقين فالمراد ب (مَنْ آمَنَ) من اتصف منهم بالإيمان الخالص على الإطلاق ، سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام عليه ـ كما هو شأن المخلصين. أو بطريق إحداثه وإنشائه ـ كما هو حال من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف. وفائدة التعميم للمخلصين المبالغة في ترغيب الباقين في الإيمان ، ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غير مخلّ بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين الأعلام. انتهى.

الثالثة : قال الرازيّ : لما بيّن تعالى أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا ، بيّن أن هذا الحكم عام في الكل ، وأنه لا يحصل لأحد فضيلة ولا منقبة إلا إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا ، وذلك لأن الإنسان له قوتان : القوة النظرية والقوة العملية. أما كمال القوة النظرية فليس إلا بأن يعرف الحق. وأما كمال القوة العملية فليس إلا بأن يعمل الخير. وأعظم المعارف شرفا معرفة أشرف الموجودات وهو الله سبحانه وتعالى. وكمال معرفته إنما يحصل بكونه قادرا على الحشر والنشر ، فلا جرم كان أفضل المعارف هو الإيمان بالله واليوم الآخر. وأفضل الخيرات في الأعمال أمران : المواظبة على الأعمال المشعرة بتعظيم المعبود ، والسعي في إيصال النفع إلى الخلق. ثم بين تعالى أن كل من أتى بهذا الإيمان وبهذا العمل ، فإنه يرد يوم القيامة من غير خوف ولا حزن. والفائدة في ذكرهما : أن الخوف يتعلق بالمستقبل ، والحزن بالماضي ، فقال : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) بسبب ما يشاهدون من أهوال القيامة (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بسبب ما فاتهم من طيّبات الدنيا ، لأنهم وجدوا أمورا أعظم وأشرف وأطيب. (فإن قيل) : كيف يمكن خلوّ المكلف ، الذي لا يكون معصوما ، عن أهوال يوم القيامة؟ فالجواب من وجهين : الأول ـ أنه تعالى شرط ذلك بالعمل الصالح. ولا يكون آتيا بالعمل الصالح إلّا إذا كان تاركا لجميع المعاصي. والثاني ـ أنه إذا حصل خوف ، فذلك عارض قليل لا يعتد به. انتهى.

ثم بين تعالى بعضا آخر من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم بقوله :

٢٠٧

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ)(٧٠)

(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : على الإيمان بالله ورسله (وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً) ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) أي : بما يخالف هواهم ويضادّ شهواتهم من الأحكام الحقة. مع أن وضع الرسالة ، الدعوة إلى مخالفة الهوى (فَرِيقاً) منهم (كَذَّبُوا) مع ظهور دلائل صدقهم (وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) بعد التكذيب. سدّا لدعوتهم إلى ما يخالف أهويتهم.

لطيفتان :

الأولى : قال الزمخشريّ : جواب الشرط محذوف يدل عليه قوله (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) كأنه قيل : كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه.

قال الناصر في (الانتصاف) : ومما يدل على حذف الجواب أنه جاء ظاهرا في الآية الأخرى ، وهي توأمة هذه ، قوله تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) [البقرة : ٨٧]. فأوقع قوله (اسْتَكْبَرْتُمْ) جوابا. ثم فسر استكبارهم وصنيعهم بالأنبياء بقتل البعض وتكذيب البعض. فلو قدر الزمخشري هاهنا الجواب المحذوف مثل المنطوق به في أخت الآية فقال : وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا ، لكان أولى ، لدلالة مثله عليه.

الثانية : قال الزمخشريّ : فإن قلت : لم جيء بأحد الفعلين ماضيا وبالآخر مضارعا؟ قلت : جيء (يَقْتُلُونَ) على حكاية الحال الماضية استفظاعا للقتل واستحضارا لتلك الحال الشنيعة ، للتعجيب منها.

قال في (الانتصاف) : أو يكون حالا على حقيقته. لأنهم داروا حول قتل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد قيل هذا الوجه في أخت هذه الآية في (البقرة) ؛ وقد مضى وجه اقتضاء صيغة الفعل المضارع لاستحضاره دون الماضي ، وتمثيله بقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [الحج : ٦٣]. فعدل عن (فأصبحت) إلى (فتصبح) تصويرا للحال واستحضارا لها في ذهن السامع ، ومنه :

٢٠٨

بأني قد لقيت الغول تهوى

بسهب كالصحيفة صحصحان

فأضربها بلا دهش فخرّت

صريعا لليدين وللجران

وأمثاله كثيرة. انتهى.

قال الخفاجيّ : اقتصر العلامة هنا على حكاية حال أسلافهم ، لقرينة ضمائر الغيبة ، وترك تلك الآية ـ يعني آية البقرة ـ على الاحتمالين لقرينة ضمائر المخاطبين. ليكون توبيخا وتعبيرا للحاضرين بفعل آبائهم. ولذا عقبت هذه الآية بقصة عيسى عليه‌السلام. فتأمل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(٧١)

(وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي : ظن بنو إسرائيل أنهم لا يصيبهم من الله عذاب بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل (فَعَمُوا وَصَمُّوا) عطف على (حسبوا) ، و (الفاء) للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها ؛ أي : آمنوا بأس الله تعالى ، فتمادوا في فنون الغيّ والفساد ، وعموا عن الدين ، بعد ما هداهم الرسل إلى معالمه الظاهرة ، وصمّوا عن استماع الحق الذي ألقوه عليهم ، ولذلك فعلوا ما فعلوا (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي : مما كانوا فيه.

قال العلامة أبو السعود : لم يسند التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى والصمم ، تجافيا عن التصريح بنسبة الخير إليهم. وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبته تعالى عليهم ، تمهيدا لبيان نقضهم إياهم بقوله تعالى :

(ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) كرة أخرى (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) بدل من الضمير في الفعلين أو خبر محذوف ، أي : أولئك كثير منهم (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي : بما عملوا ، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورتها الفظيعة ورعاية للفواصل. والجملة تذييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور. ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا ، إشارة إجمالية ، اكتفي بها تعويلا على ما فصل نوع تفصيل في سورة (بني إسرائيل) [الإسراء]. أفاده أبو السعود. وهو مأخوذ من كلام القفال ، كما سيأتي :

تنبيه :

في هذه الآية إشارة إلى ما اكتنف بني إسرائيل من الفتنة وعذاب الله الذي حاق

٢٠٩

بهم قبل عيسى وبعده. وذلك أن أنبياءهم قبل عيسى كانوا يوبخون رؤساءهم الأشرار وشعبهم على خطاياهم. ولا سيما في عبادتهم الأوثان. وينحصوهم أن يرجعوا إلى الله. وينذرونهم بعقابه تعالى الشديد ودمارهم إن لم يتوبوا. كما أنبأهم إرميا عليه‌السلام بخراب بلدهم ، وقضائه تعالى الهائل عليهم ، إن أصرّوا على طغيانهم. فما استمعوا له. حتى روي أنه ختم له بالشهادة. إذ رجمته اليهود بمصرّ عتوّا واستكبارا. ثم سلط الله عليهم بختنصر ، ملك بابل ، وسبى شعبهم وهدمت جنوده مدينتهم بيت المقدس وهيكلها. وصار تلال خراب. وذلك لاستئصال كفرهم وشرورهم ، وتطهير هيكلهم من نجاسة أوثانهم. فحلّ عليهم من البابلية الشقاء والويل. وأخذوا أسرى إلى ما وراء الفرات. ولم يترك منهم إلّا الفقراء فقط ، وبذلك انتهى ملكهم ، وكان ذلك قبل ولادة عيسى عليه‌السلام بنحو خمسمائة وثمان وثمانين سنة. ثم تاب الله عليهم ورحمهم من سبيهم ، وأعادهم برحمته إلى مدينتهم بيت المقدس. بعد أن أقاموا في بابل سبعين سنة. وابتدءوا ببناء هيكلهم ثانية. وأرجعوا العبادة إليه. وقام حزقيال عليه‌السلام بوعظهم وتهذيبهم ودعوتهم إلى التوبة وتذكيرهم بما مضى ليعتبروا. وهكذا كل نبيّ فيهم ، لم يزل ينذرهم ويدعوهم إلى الله إلى أن بعث الله عيسى عليه‌السلام. فعموا عن الاهتداء به وصمّوا عن وعظه ، وكان ما كان من همّهم بقتله. فدمرهم الله بعد ذلك وأباد مملكتهم. وطردوا من أرضهم بعد رفع عيسى عليه‌السلام بنحو أربعين سنة. وأخذ الرومانيون مدينتهم وهدموها مع الهيكل. وحلت عليهم نقمة الله فتفرقوا شذر مذر.

هذا ، وما قيل بأن قوله تعالى (فَعَمُوا وَصَمُّوا) إشارة إلى عبادتهم العجل ـ فإنه بعيد. لأنها ، وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم ، لكنها في عصر موسى عليه‌السلام. ولا تعلّق لها بما حكي عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاءوهم بعده عليه‌السلام بأعصار. وكذا ما قيل بأن قوله تعالى : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) إشارة إلى طلبهم الرؤية ـ فبعيد أيضا ، لما ذكرنا. وفنون الجنايات الصادرة عنهم لا تكاد تتناهى. خلا أنّ انحصار ما حكي عنهم هاهنا في المرتين ، وترتبه على حكاية ما فعلوا بالرسل عليهم‌السلام ، يقضي بأن المراد ما ذكرناه. والله عنده علم الكتاب. كذا أفاده أبو السعود.

ونحن نوافقه على ما رآه. بيد أنّ ما سقناه في التنبيه أظهر في ما جرياتهم ، وأشد مطابقة لما في تواريخهم ، مما ساقه هنا. فتثبّت.

ويرحم الله الإمام القفال حيث قال : ذكر الله تعالى في سورة (بني إسرائيل)

٢١٠

ما يجوز أن يكون تفسيرا لهذه الآية فقال : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ ، وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) [الإسراء : ٤ ـ ٦] فهذا في معنى (فعموا وصموّا) ثم قال : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً). فهذا في معنى قوله (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) انتهى. ثم بيّن تعالى كفر النصارى وما هم عليه من فساد الاعتقاد المباين لأصل دعوة عيسى عليه‌السلام ، من التوحيد الخالص ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)(٧٢)

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ).

قال الرازيّ : هذا قول اليعقوبية منهم. يقولون : إن مريم ولدت إلها. قال : ولعلّ معنى هذا المذهب أنهم يقولون : إن الله تعالى حلّ في ذات عيسى واتّحد بها ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

وقد سبق الكلام على مثل هذا الآية في هذه السورة مفصّلا ، فتذكّر.

ثم بيّن تعالى أنهم صمّوا عن مقالات عيسى الداعية إلى التوحيد ، كما عموا عما فيه من أمارات الحدوث ، بقوله سبحانه : (وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ) ولم يقل اعبدوني. ثم صرّح بقوله : (رَبِّي وَرَبَّكُمْ) قلعا لمادة توهم الاتحاد (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ) كيف والشرك أعظم وجوه الظلم (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أي : ما لهم من أحد ينصرهم بإنقاذهم من النار ، إما بطريق المغالبة أو بطريق الشفاعة. والجمع لمراعاة المقابلة ب (الظالمين) ؛ و (اللام) إما للعهد ، والجمع باعتبار معنى (مَنْ) ، كما أن الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها. وما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليّا. ووضعه على الأول موضع الضمير ، للتسجيل عليهم بأنهم ظلموا بالإشراك وعدلوا عن طريق الحقّ. والجملة تذييل مقرّر لما قبله. وهو إمّا من تمام كلام عيسى عليه‌السلام ، وإمّا وارد من جهته تعالى ،

٢١١

تأكيدا لمقالته عليه‌السلام ، وتقريرا لمضمونها. أفاده أبو السعود. ثم بيّن تعالى كفر طائفة أخرى منهم بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٧٣)

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) أي : أحد ثلاثة آلهة ، بمعنى واحد منها ، وهم الله ومريم وعيسى.

وقال بعضهم : كانت فرقة منهم تسمى (كولى ري دينس) تقول : الآلهة ثلاثة : الأب والابن ومريم.

وجاء في كتاب (علم اليقين) : أن فرقة منهم تسمى (المريميّين) قال : يعتقدون أن المريم والمسيح إلهان. قال : وكذلك البربرانيّون وغيرهم. انتهى.

وأسلفنا عن ابن إسحاق أنّ نصارى نجران ، منهم من قال بهذا أيضا.

أو المعنى : أحد ثلاثة أقانيم كما اشتهر عنهم. أي هو جوهر واحد ، ثلاثة أقانيم : أب وابن وروح القدس. وزعموا ، أن الأب إله والابن إله والروح إله والكلّ إله واحد. كما قدمنا عنهم في قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ).

قال الرازي رحمه‌الله : واعلم أن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل. فإن الثلاثة لا تكون واحدا ، والواحد لا يكون ثلاثة. ولا يرى في الدنيا مقالة أشدّ فسادا وأظهر بطلانا من مقالة النصارى. انتهى.

وقد صنفت عدة مصنفات في تزييف معتقدهم هذا ، وهي شهيرة متداولة ، والحمد لله.

لطيفة :

اتفق النحاة واللغويون على أن معنى قولهم (ثالث ثلاثة ورابع أربعة ..) ونحو ذلك أحد هذه الأعداد مطلقا. لا الوصف بالثالث والرابع.

وفي (التوضيح وشرحه) : لك في اسم الفاعل المصوغ من لفظ اثنين وعشرة وما بينهما أن تستعمله على سبعة أوجه : (أحدها) أن تستعمله مفردا عن الإضافة ، ليفيد الاتصاف بمعناه. فتقول : ثالث ورابع. ومعناه حينئذ واحد موصوف بهذه الصفة وهي كونه ثالثا ورابعا.

٢١٢

(الوجه الثاني) أن تستعمله مع أصله الذي صيغ هو منه ، ليفيد أن الموصوف به بعض تلك العدة المعينة لا غير. فتقول : خامس خمسة أي : واحد من خمسة لا زائد عليها ، ويجب حينئذ إضافته إلى أصله. كما يجب إضافة البعض إلى كله. ك : يد زيد ، قال تعالى : (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ) [التوبة : ٤٠]. وقال تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ). وزعم الأخفش وقطرب والكسائي وثعلب أنه يجوز إضافة الأول إلى الثاني ، ونصبه إياه ، فعلى هذا يجوز ثالث ثلاثة بجرّ (ثلاثة) ونصبها. كما يجوز في (ضارب زيد).

(الوجه الثالث) أن تستعمله مع ما دون أصله الذي صيغ منه بمرتبة واحدة ، ليفيد معنى التصيير ، فتقول : هذا رابع ثلاثة أي : جاعل الثلاثة بنفسه أربعة ، قال تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) [المجادلة : ٧]. أي : إلا هو مصيّرهم أربعة ومصيرهم ستة. ويجوز حينئذ إضافته وإعماله ، كما يجوز الوجهان في جاعل ومصير ونحوهما.

وانظر تتمة الأوجه.

وبما ذكرناه يعلم ردّ ما ذهب إليه الجامي في (شرح الكافية) من اعتبار الصفة في نحو (ثالث ثالثة) حيث قال في شرح قول ابن الحاجب (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) : أي أحدها. لكن لا مطلقا. بل باعتبار وقوعه في المرتبة الثالثة. قال : وإلّا يلزم جواز إرادة الواحد الأول من عاشر العشرة وذلك مستبعد جدّا. انتهى.

فكتب عليه بعض المحققين ما نصّه : الظاهر من عبارة (التوضيح) ومن كلام المصنف أنه لا يعتبر الوقوع في المرتبة الثانية أو الثالثة وهكذا .. إذ يبعد في الآيتين كون المراد ب «ثاني اثنين وثالث ثلاثة» كونه في المرتبة الثانية أو الثالثة بل المراد أنه بعض تلك العدّة ، بلا نظر لكونه في المرتبة الثانية أو الثالثة. إلّا أن يكون هذا باعتبار الوضع ، وإن كان الاستعمال بخلافه. ولذا كتب العلامة عبد الحكيم على قوله (وذلك مستبعد جدّا) أي : عند العقل ، وإلّا فالاستعمال بخلافه. انتهى.

(وَما مِنْ إِلهٍ) في نصّ الإنجيل والتوراة وجميع الكتب السماوية ودلائل العقل (إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) لا يتعدد أفرادا ولا أجزاء (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) من هذا الافتراء والكذب ، بعد ظهور الدلالة القطعية ، متمسكين بمتشابهات الإنجيل التي أوضحتها محكماته (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة. من عذاب الحريق والأغلال والنكال.

٢١٣

قال الزمخشريّ : ولم يقل (ليمسّنهم) لأن في إقامة الظاهر مقام المضمر فائدة. وهي تكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا) وفي البيان فائدة أخرى وهي الإعلام في تفسير (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) أنهم بمكان من الكفر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٧٤)

(أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) بالتوحيد والتنزيه عمّا نسبوه إليه من الاتحاد والحلول ، فيرجعوا عن التمسك بالمتشابهات إلى القطعيات ، فالاستفهام لإنكار الواقع واستبعاده ، فيه تعجيب من إصرارهم. ومدار الإنكار والتعجيب عدم الانتهاء والتوبة معا. أو معناه : ألا يتوبون ـ بعد هذه الشهادة المكررة عليهم بالكفر وهذا الوعيد الشديد ـ مما هم عليه. فمدارهما عدم التوبة عقب تحقق ما يوجبها من سماع تلك القوارع الهائلة.

قال ابن كثير : هذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه. مع هذا الذنب العظيم ، وهذا الافتراء والكذب والإفك ، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة. فكل من تاب إليه تاب عليه. كما قال (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيغفر لهؤلاء إن تابوا ، ولغيرهم. قال أبو السعود : الجملة حالية من فاعل (يَسْتَغْفِرُونَهُ) مؤكدة للإنكار والتعجيب من إصرارهم على الكفر وعدم مسارعتهم إلى الاستغفار. أي : والحال أنه تعالى مبالغ في المغفرة. فيغفر لهم عند استغفارهم ، ويمنحهم من فضله.

ثم أشار تعالى إلى بطلان التمسك بمعجزات عيسى وكرامات أمّه على إلهيتهما. بأنّ غايتهما الدلالة على نبوّته وولايتها ، استنزالا لهم عن الإصرار على ما تقوّلوا عليهما ، وإرشادا لهم إلى التوبة والاستغفار فقال :

القول في تأويل قوله تعالى :

(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٧٥)

(مَا الْمَسِيحُ) أي : المعلوم حدوثه من كونه (ابْنُ مَرْيَمَ) بالخوارق الظاهرة على يديه (إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ) أي : مضت (مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) أولو الخوارق الباهرة.

٢١٤

فله أسوة أمثاله. كما قال تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) [الزخرف : ٥٩]. أي : ما هو إلّا رسول من جنس الرسل الذين خلوا قبله ، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها. إن أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده ، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى وفلق بها البحر على يد موسى. وهو أعجب. وإن خلقه من غير أب ، فقد خلق آدم من غير أب ولا أم. وهو أغرب منه ، وفي الآية وجه آخر : أي مضت من قبله الرسل ، فهو يمضي مثلهم. فالجملة ـ على كل ـ منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) أي : مبالغة في الصدق. ووقع اسم الصديقة عليها لقوله تعالى : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ). والوصف بذلك مشعر بالإغراق في العبودية والقيام بمراسمها. فمن أين لهم أن يصفوها بما يباين وصفها؟

تنبيه :

قال ابن كثير :

دلت الآية على أن مريم ليست بنبيّه. كما زعمه ابن حزم وغيره ـ ممن ذهب إلى نبوّة سارة أم إسحاق ونبوّة أم موسى ونبوّة أم عيسى ـ استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم وبقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ). وهذا معنى النبوّة. والذي عليه الجمهور أنّ الله لم يبعث نبيا إلّا من الرجال. قال الله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [يوسف : ١٠٩]. وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعريّ ، رحمه‌الله ، الإجماع على ذلك. انتهى.

فائدة (في حقيقة الصديق والصدق):

قال العارف القاشانيّ قدس الله سرّه في (لطائف الأعلام) :

الصدّيق الكثير الصدق. كما يقال : سكّيت وصرّيع إذا كثر منه ذلك. والصديق من الناس من كان كاملا في تصديقه لما جاءت به رسل الله علما وعملا ، قولا وفعلا وليس يعلو على مقام الصديقية إلّا مقام النبوّة. بحيث إن من تخطى مقام الصديقية حصل في مقام النبوّة. قال الله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ). [مريم : ٥٨]. الآية. فلم يجعل تعالى بين مرتبتي النبوة والصديقية مرتبة أخرى تتخللهما. ثم بيّن قدس‌سره صدق الأقوال ، وصدق الأفعال ، وصدق الأحوال. (فالأول) هو موافقة الضمير للنطق. قال الجنيد : حقيقة الصدق أن تصدق في مواطن لا ينجيك فيه إلّا الكذب. و (صدق الأفعال) هو الوفاء لله بالعمل من غير مداهنة. قال المحاسبيّ : الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب

٢١٥

الخلق من أجل إصلاح قلبه. ولا يحب اطّلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله. ولا يكره أن يطلع الناس على السيء من حاله. لأن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم. وليس هذا من أخلاق الصدّيقين. و (صدق الأحوال) اجتماع الهم على الحق ، بحيث لا يختلج في القلب تفرقة عن الحق بوجه.

وقوله تعالى : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) استئناف مبين لما قبله من أنهما كسائر البشر في الافتقار إلى الغذاء. وفيه تبعيد عما نسب إليهما.

قال الزمخشريّ : لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام ، وما يتبعه من الهضم والنفض ، لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة ، مع شهوة وقرم وغير ذلك ... مما يدل على أنه مصنوع مؤلّف مدبّر كغيره من الأجسام.

لطيفة :

إنما أخر في الاستدلال على بطلان مذهب النصارى ، حاجتهما للطعام عما قبله من مساواتهما للرسل عليهم‌السلام ، ترقيا في باب الاستدلال من الجليّ للأجلى ، على ما هو القاعدة في سوق البراهين لإلزام الخصم ، حتى إذا لم يسلّم في الجليّ لغموضه عليه ، يورد له الأجلى تعريضا بغباوته. فيضطر للتسليم ، إن لم يكن معاندا ولا مكابرا.

هذا ما ظهر لي في سر التقديم والتأخير.

وأما قول الخفاجيّ ـ ملخصا كلام البيضاويّ ـ في سر ذلك : أنه تعالى بين أولا أقصى مراتب كمالهما ، وأنه لا يقتضي الألوهية ، وقدمه لئلا يواجههما بذكر نقائص البشرية الموجبة لبطلان ما ادعوا فيهما ، على حد قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ). حيث قدم العفو على المعاتبة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى ـ فبعيد.

وقياسه على الآية قياس مع الفارق لاختلاف المقامين. فالأظهر ما ذكرناه ، والله أعلم بأسرار كتابه.

(انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) أي : على توحيد الله ، وبطلان الاتحاد وإلهية عيسى وأمه ، وبطلان شبهاتهم! (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي : كيف يصرفون عن التأمل فيها إلى الإصرار على التمسك بالشبهات الظاهرة البطلان.!

قال أبو السعود : وتكرير الأمر بالنظر ، للمبالغة في التعجيب من حال الذين

٢١٦

يدعون لهما الربوبية ، ولا يرعوون عن ذلك ، بعد ما بين لهم حقيقة خالهما بيانا لا يحوم حوله شائبة ريب ، وثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت. أي إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه ، بالغ لأقاصي الغايات القاصية من التحقيق والإيضاح. وإعراضهم عنها ـ مع انتفاء ما يصححه بالمرة ، وتعاضد ما يوجب قبولها ـ أعجب وأبدع.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٧٦)

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) هذا دليل آخر على فساد قول النصارى ، والموصول كناية عن عيسى وأمه ، أي : لا يستطيعان أن يضراكم بمثل ما يضركم به الله من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال. ولا أن ينفعاكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والسعة والخصب. ولأن كل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع ، فبإقدار الله وتمكينه ، فكأنهما لا يملكان منه شيئا. وإيثار (ما) على (من) لتحقيق ما هو المراد من كونهما بمعزل من الألوهية رأسا. ببيان انتظامهما في سلك الأشياء التي لا قدرة لها على شيء أصلا ؛ أي : وصفة الرب أن يكون قادرا على كل شيء لا يخرج مقدور عن قدرته. وإنما قدم (الضر) لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع. (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) بالأقوال والعقائد. فيجازي عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، فهو وعد ووعيد.

تنبيهات :

الأول. جعل ابن كثير الخطاب في قوله تعالى (أَتَعْبُدُونَ) عامّا للنصارى وغيرهم ، أي قل لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بني آدم.

وفي (تنوير المقباس) أن (ما) عبارة عن الأصنام خاصة.

وكلاهما مما يأباه السباق والسياق.

الثاني : قال في (فتح البيان) : إذا كان هذا في حق عيسى النبيّ ، فما ظنك بوليّ من الأولياء؟ فإنه أولى بذلك.

الثالث : جعل أكثر المفسرين (ما) كناية عن عيسى عليه‌السلام فقط ، والمقام أنها كناية عنه وعن أمه عليهما‌السلام ، كما أوضحه المهايميّ واعتمدناه.

الرابع : دلت الآية على جواز الحجاج في الدين ؛ فإن كان مع الكفار وأهل

٢١٧

البدع ، فذلك ظاهر الجواز ؛ وإن كان مع المؤمن جاز بشرط أن يقصد إرشاده إلى الحق ، لا إن قصد العلوّ فمحظور. وحكي عن الشافعيّ أنه كان إذا جادل أحدا قال : اللهم! ألق الحق على لسانه. أفاده بعض الزيدية.

ولما أقام تعالى الأدلة القاهرة على بطلان ما تقوله النصارى ، أرشدهم إلى اتباع الحق ومجانبة الغلوّ الباطل ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ)(٧٧)

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) أي : الذي هو ميزان العدل (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ) أي : لا تتجاوزوا الحد في تعظيم عيسى وأمه ، وترفعوهما عن رتبتهما إلى ما تقوّلتم عليهما من العظيمة ، فأدخلتم في دينكم اعتقادا غير الحق بلا دليل عليه ، مع تظاهر الأدلة على خلافه. ونصب (غير) على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : غلوّا غير الحق. يعني غلّوا باطلا. أو حال من ضمير الفاعل أي : مجاوزين الحق. و (الغلو) نقيض التقصير ، ومعناه الخروج عن الحد ؛ وذلك لأن الحق بين طرفي الإفراط والتفريط ، ودين الله بين الغلو والتقصير.

تنبيه :

دلت الآية على أن الغلوّ في الدين غلوّان : (غلوّ حق) كأن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه ؛ و (غلوّ باطل) وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه.

قال بعض الزيدية : دلت الآية على أن الغلوّ في الدين لا يجوز ، وهو المجاوزة للحق إلى الباطل. ومن هذا ، الغلوّ في الطهارة مع كثير من الناس ، بالزيادة على ما ورد به الشرع لغير موجب. انتهى.

ومن هذا القبيل الغلوّ في تعظيم الصالحين وقبورهم حتى يصيّرها كالأوثان التي كانت تعبد.

وروى (١) الإمام أحمد والنسائيّ وابن ماجة والحاكم عن ابن عباس ، أن النبيّ

__________________

(١) أخرجه في المسند ١ / ٢١٥ ، والحديث رقم ١٨٥١.

والنسائي في : مناسك الحج ، ٢١٨ ـ باب التقاط الحصى.

٢١٨

صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إيّاكم والغلوّ في الدين. فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ في الدين.

وعن عمر (١) ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله. أخرجاه.

ولمسلم (٢) عن ابن مسعود ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : هلك المتنطّعون! قالها ثلاثا. ثم نهاهم تعالى عن اتباع سلفهم وأئمتهم الضالين بقوله سبحانه :

(وَلا تَتَّبِعُوا) قال المهايميّ : أي : تقليدا (أَهْواءَ قَوْمٍ) تمسّكوا بخوارقهما على إلهيتهما. فإن نظروا إلى سبقهم فغايتهم أنهم (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ) إلى كثرة أتباعهم فغايتهم أنهم (أَضَلُّوا كَثِيراً) ممن شايعهم على التثليث (وَ) إلى تمسّكهم بمتشابهات الإنجيل ، فغايتهم أنهم (ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) إذ لم يردّوها إلى المحكمات.

تنبيهات :

الأول : قال الرازي :

الهواء ـ هاهنا ـ المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجّة. قال الشعبيّ : ما ذكر الله لفظ الهوى في القرآن إلّا ذمّه. قال : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [ص : ٢٦]. (وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) [طه : ١٦]. (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم : ٣]. (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الفرقان : ٤٣]. قال أبو عبيدة : لم نجد الهوى يوضع إلّا في موضع الشر. لا يقال : فلان يهوى الخير. إنما يقال : يريد الخير ويحبه. وقال بعضهم : الهوى إله يعبد من دون الله. وقيل : سمّي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار. وأنشد في ذم الهوى :

إنّ الهوى لهو الهوان بعينه

فإذا هويت فقد لقيت هوانا

وقال رجل لابن عباس : الحمد لله الذي جعل هواي على هواك ، فقال ابن عباس : كل هوى ضلالة.

الثاني : قال الرازي أيضا :

__________________

(١) أخرجه البخاريّ عن عمر رضي الله عنه ، في : الأنبياء ، ٤٨ ـ باب (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ) ، حديث ١٢١٤.

(٢) أخرجه مسلم في : العلم ، حديث ٧.

٢١٩

إنه تعالى وصفهم بثلاث درجات في الضلال : فبيّن أنهم كانوا ضالين من قبل ، ثم ذكر أنهم كانوا مضلّين لغيرهم ، ثم ذكر أنهم استمرّوا على تلك الحالة حتى إنهم الآن ضالون كما كانوا. ولا نجد حالة أقرب إلى البعد من الله والقرب من عقاب الله تعالى ، من هذه الحالة. نعوذ بالله منها. ويحتمل أن يكون المراد أنهم ضلوا وأضلوا ثم ضلوا بسبب اعتقادهم ، في ذلك الإضلال ، أنه إرشاد إلى الحقّ. ويحتمل أن يكون المراد بالضلال عن الدين ، وبالضلال عن طريق الجنة. انتهى.

وهذه الوجوه ـ مع ما أسلفناه عن المهايميّ ـ كلّها مما يصح إرادتها من الآية لتصادقها جميعا عليهم.

الثالث : دلت الآية على أن ما لهؤلاء الكفرة من الأباطيل ـ مع مخالفتها للعقول ومزاحمتها للأصول ـ لا مستند ولا معول لهم فيها غير التقليد لأسلافهم الضالّين ، الذين أحدثوا القول بالتثليث بعد نحو ثلاثمائة سنة من رفع المسيح عليه‌السلام. وقرروه في تعاليمهم بعد جدال واضطراب. وتمسّكوا في ذلك ، بظواهر الألفاظ التي لا يحيطون بها علما ، مما لا أصل له في شرع الإنجيل ، ولا مأخوذ من قول المسيح ولا من أقوال حواريّيه. وهو مع ذلك مضطرب متناقض متهافت ، يكذب بعضه بعضا ، ويعارضه ويناقضه ، كما تبيّن من الكتب المصنفة في الردّ عليهم.

الرابع : جاء في (تنوير المقباس) :

إن المراد ب (أهل الكتاب) هنا : نصارى نجران الذين قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وبقوله (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ) العاقب والسيد. والأول ـ كما قال ابن إسحاق ـ كان أمير القوم وذا رأيهم. والثاني صاحب رحلهم ومجتمعهم.

والأظهر أن المعني ب (أهل الكتاب) عموم النصارى. والمذكورون يدخلون فيه دخولا أوليّا.

الخامس : ذكر كثير من المفسّرين : أن المراد ب (أهل الكتاب) هنا : اليهود والنصارى. وأن كليهما غلا في عيسى عليه‌السلام : أما غلوّ اليهود فالتقصير في حقه حتى نسبوه إلى غير رشدة. وأما غلوّ النصارى فمعلوم. وأن الخطاب في قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ) لليهود والنصارى الذين كانوا في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه من الضلالة بأهوائهم. انتهى.

وظاهر أنّ ما نسب للفريقين ـ من الغلوّ والابتداع ـ مسلّم. بيد أن الأقرب

٢٢٠