تفسير القاسمي - ج ٤

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٤

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

ثم أخبر تعالى عن تحريض موسى عليه‌السلام لقومه على الجهاد والدخول إلى بيت المقدس الذي استحوذ عليه الجبابرة ، وأنهم نكلوا وعصوا أمره ، فعوقبوا بالتّيه لتفريطهم ، فقال سبحانه مخبرا عن موسى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) (٢١)

(يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) يعني : أرض بيت المقدس التي كانت مقدسة بمساكنة من مضى من الأنبياء. ثم تلوّثت بمساكنة الأعداء من جبابرة الكنعانيين. فأراد تطهيرها بإخراجهم وإسكان قومه (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي : التي وعدكموها على لسان أبيكم إبراهيم ، بأن تكون ميراثا لولده بعد أن جعلها مهاجره (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) أي : لا تنكصوا على أعقابكم مدبرين من خوف الجبابرة جبنا وهلعا (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي : فترجعوا مغبونين بالعقوبة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ)(٢٢)

(قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) أي : متغلبين ليس لنا مقاومتهم (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) أي : من غير صنع من قبلنا فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها) أي : بسبب من الأسباب التي لا تعلق لنا بها (فَإِنَّا داخِلُونَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٢٣)

(قالَ رَجُلانِ) هما يوشع بن نون وكالب بن يفنا (مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) أي : يخافون الله تعالى دون العدوّ ، ويتقونه في مخالفة أمره ونهيه.

وقال العلامة البقاعي : أي من الذين يوجد منهم الخوف من الجبارين. ومع ذلك لم يخافا. (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) أي : بالتثبيت والثقة بوعده تعالى ومعرفة مقام أوامره تعالى (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) أي : باب بلدهم ، أي : باغتوهم وامنعوهم من

١٠١

البروز إلى الصحراء ، لئلا يجدوا للحرب مجالا (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ) ـ أي : باب بلدهم ـ (فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) عليهم (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا) أي : لا على قوة أنفسكم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : بكمال قدرته ووعده النصر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ)(٢٤)

(قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا) ـ أي : الجبابرة ـ (فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)(٢٥)

(قالَ) أى : موسى عليه‌السلام لما رأى منهم ما رأى من العناد ، على طريقة البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى : (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ) أي : أحدا ألزمه قتالهم (إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) هارون. قال المهايميّ : أي : ومن يؤاخيني ويوافقني كهارون ويوشع وكالب. (فَافْرُقْ) أي : فاحكم بما يميز بين المحق والمبطل لتفرق (بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي : الخارجين عن أمرك ، وهو في معنى الدعاء عليهم. وقد استجاب الله دعاءه ، وفرق بأن أضلّهم ظاهرا كما ضلّوا باطنا. كما بينه بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)(٢٦)

(قالَ فَإِنَّها) أي الأرض المقدسة (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) أي : بسبب أقوالهم هذه وأفعالهم. لا يدخلونها ولا يملكونها. ممن قال هذه المقالة أو رضيها أحد ، فالتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد (أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) أي : يترددون في البرية متحيرين في الأرض حتى يهلكوا كلّهم ، و (التيه) المفازة التي يتيه فيها سالكها فيضلّ عن وجه مقصده (فَلا تَأْسَ) أي : تحزن (عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي : الخارجين من قيد الطاعات.

١٠٢

قال العلامة البقاعيّ : ثم بعد هلاكهم أدخلها بنيهم الذين ولدوا في التيه. وفي هذه القصة أوضح دليل على نقضهم للعهود التي بنيت السورة على طلب الوفاء بها ، وافتتحت بها ، وصرح بأخذها عليهم في قوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ..) [المائدة : ١٢] الآيات ، وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يفعلونه معه ، وتذكير له بالنعمة على قومه بالتوفيق ، وترغيب لمن أطاع منهم ، وترهيب لمن عصى. ومات في تلك الأربعين ، كل من قال ذلك القول أو رضيه حتى النقباء العشرة. وكان الغمام يظلّهم من حرّ الشمس. ويكون لهم عمود من نور بالليل يضيء عليهم. وغير هذا من النعم ، لأن المنع بالتيه كان تأديبا لهم. لا غضب. إذ أنهم تابوا. ثم ساق البقاعيّ ـ رحمه‌الله ـ شرح هذه القصة من التوراة التي بين أيديهم بالحرف. ونحن نأتي على ملخصها تأثرا له ، فنقول :

جاء في سفر (العدد) في الفصل الثالث عشر : إن شعب بني إسرائيل لمّا ارتحلوا من حصيروت ونزلوا ببرّية فاران ، كلم الرب موسى بأن يبعث رجالا يجسّون أرض كنعان. من كل سبط رجلا واحدا ، وكلهم يكونون من رؤساء بني إسرائيل ، فأرسلهم موسى وأمرهم أن ينظروا إلى الأرض. أجيدة أم رديئة؟ وإلى أهلها ، أشديدون أم ضعفاء؟ قليلون أم كثيرون؟ وأن يوافوه بشيء من ثمرها. فساروا واجتسّوا الأرض من برية صين إلى رحوب عند مدخل حماة ، ثم رجعوا بعد أربعين يوما. وكان موسى وقومه في برية فاران في قادش ، فأروهم ثمر الأرض ، وقصّوا عليهم ما شاهدوه من جودة الأرض ، وأنها تدرّ لبنا وعسلا. ومن شدة أهلها وقوتهم وتحصن مدنهم ؛ فاضطرب قوم موسى. فأخذ كالب ـ أحد النقباء ـ يسكتهم عن موسى ويقول : نصعد ونرث الأرض فإنا قادرون عليها. وخالفه بقية النقباء وقالوا : لا نقدر أن نصعد إليهم لأنهم أشدّ منّا. وهوّلوا على بني إسرائيل الأمر وقالوا : شاهدنا أناسا طوال القامات ، سيما بني عناق. فصرنا في عيوننا كالجراد. وكذلك كنا في عيونهم. فعند ذلك ضجّ قوم موسى ورفعوا أصواتهم وبكوا وقالوا : ليتنا متنا في أرض مصر أو في هذه البرية ، ولا تكون نساؤنا وأطفالنا غنيمة للجبابرة. وخير لنا أن نرجع إلى مصر. وقالوا : لنقم لنا رئيسا ونرجع إلى مصر. فلما شاهد موسى ذلك منهم وقع هو وأخوه هارون على وجوههما أمام الإسرائيليين. ومزّق ، من النقباء ، يوشع بن نون وكالب ، ثيابهما. وكلّما بني إسرائيل قائلين : إن الأرض التي مررنا فيها جيدة ، وإذا كان ربنا راضيا عنا فإنه يدخلنا إياها. فلا تتمردوا ولا تخافوا أهلها فسيكونون طعمة لنا. إذ الرب معنا فلما سمع بنو إسرائيل كلام يوشع وكالب قالوا : ليرجما بالحجارة ، وكاد

١٠٣

حينئذ أن يحيق ببني إسرائيل العذاب الإلهيّ ، لو لا تضرع موسى إلى ربّه بأن يعفو عنهم ، كيلا يكونوا أحدوثة عند أعدائهم المصريين ، فعفا تعالى عنهم. وأعلم موسى ؛ أنّ قومه لن يروا الأرض التي أقسم عليها لآبائهم ، وأنهم يموتون جميعا في التيه. إلّا كالبا. فإنه لحسن انقياده سيدخل الأرض ، وكذلك يوشع ، وأعلمه تعالى أيضا بأن أطفال قومه الذين سيهلكون في التيه يكونون رعاة فيه أربعين سنة بعدد الأيام التي تجس النقباء فيها أرض الكنعانيين. كل يوم وزره سنة ليعرفوا انتقامه ، عزّ سلطانه ثم هلك النقباء العشرة ، الذين شنّعوا لدى قومهم تلك الأرض ، بضربة عجلت لهم. ثم همّ قوم موسى بالصعود إلى الكنعانيين لما أخبرهم موسى بما أعلمه تعالى. فنهاهم موسى وقال لهم : لا فوز لكم الآن بالنصر الرباني ، وإن فعلتم فإن العدوّ يهزمكم وتسقطون تحت سيفه. فتجبّروا وصعدوا إلى رأس الجبل. فنزل العمالقة والكنعانيين عليهم فضربوهم وحطّموهم ، ثم انقضاء الأربعين سنة فتحت الأرض المقدسة على يد يوشع ، كما شرح في (سفره) ، والله أعلم.

تنبيهات :

الأول : قوله تعالى : (أَرْبَعِينَ سَنَةً) ظرف متعلق ب (يتيهون). واحتمال كونه ظرفا ل (محرمة) كما ذكره غير واحد ـ لا يصح إلا بتكلف ؛ لما شرحناه من سياق القصة.

الثاني : قال الحاكم : دلّ قوله تعالى : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) على أنّ من لحقه عذاب الله لا يجوز أن يحزن عليه لأن ذلك حكمه ، بل يحمد الله إذا أهلك عدوّا من أعدائه.

الثالث : قال ابن كثير : ذكر كثير من المفسرين هاهنا أخبارا من وضع بني إسرائيل ، في عظمة خلق هؤلاء الجبارين ، وأن منهم عوج بن عنق بنت آدم عليه‌السلام. وأن طوله ثلاثة آلاف ذراع. وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعا وثلث ذراع. تحرير الحساب. وهذا شيء يستحيى من ذكره. ثم هو مخالف لما ثبت في (الصحيحين) : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا ، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن. ثم ذكروا أنّ هذا الرجل كان كافرا ، وأنه كان ولد زنية ، وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح ، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته. وهذا كذب وافتراء ، فإن الله تعالى ذكر أنّ نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦]. وقال تعالى (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ

١٠٤

فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ) [الشعراء : ١١٩ ـ ١٢٠]. وقال تعالى : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) [هود : ٤٣] ، وإذا كان ابن نوح ، الكافر ، غرق ، فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر وولد زنية؟ هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع. ثم في وجود رجل يقال له عوج بن عنق ، نظر. والله أعلم.

الرابع : قال ابن كثير : تضمنت هذه القصة تقريع اليهود ، وبيان فضائحهم ومخالفتهم لله ولرسوله ، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمراهم به من الجهاد ، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجادلتهم ومقاتلتهم ، مع أن بين أظهرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكليمه وصفيّه من خلقه في ذلك الزمان ، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم. هذا ، مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوّهم ، فرعون ، من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليمّ وهم ينظرون ، لتقرّ به أعينهم (وما بالعهد من قدم). ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازن عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم ، وظهرت قبائح صنيعهم للخاصّ والعام ، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ولا يسترها الذيل. وقال ـ رحمه‌الله ـ قبل ذلك : وما أحسن ما أجاب به الصحابة (١) ـ رضي الله عنهم ـ يوم بدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين استشارهم في قتال النفير الذين جاءوا لمنع العير الذي كان مع أبي سفيان. فلما فات اقتناص العير ، واقترب منهم النفير ، وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف في العدة والبيض

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الجهاد ، حديث ٨٣ ونصه : عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاور ، حين بلغه إقبال أبي سفيان. قال : فتكلم أبو بكر فأعرض عنه. ثم تكلم عمر فأعرض عنه. فقام سعد بن عبادة فقال : إيانا تريد؟ يا رسول الله! والذي نفسي بيده! لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها. ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد (موضع من وراء مكة بخمس ليال بناحية الساحل) لفعلنا. قال ، فندب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس. فانطلقوا حتى نزلوا بدرا. ووردت عليهم روايا قريش (أي إبلهم التي كانوا يستقون عليها. فهي الإبل الحوامل للماء. واحدتها راوية) وفيهم غلام أسود لبني الحجاج فأخذوه. فكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه؟ فيقول : ما لي علم بأبي سفيان. ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف.

فإذا قال ذلك ضربوه. فقال : نعم. أنا أخبركم. هذا أبو سفيان.

فإذا تركوه فسألوه فقال : ما لي بأبي سفيان علم. ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف في الناس. فإذا قال هذا أيضا ضربوه. ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم يصلي. فلما رأى ذلك انصرف. قال «والذي نفسي بيده! لتضربوه إذا صدقكم ، وتتركوه إذا كذبكم».

قال ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هذا مصرع فلان» ويضع يده على الأرض ، هاهنا وهاهنا فما ماط (أي تباعد) أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٠٥

واليلب. فتكلم أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ فأحسن ، ثم تكلم ، من الصحابة ، من المهاجرين ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : أشيروا عليّ أيها المسلمون! وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار. لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ. فقال سعد بن معاذ : كأنك تعرض بنا يا رسول الله؟ فهو الذي بعثك بالحقّ! لو استعرضت بنا هذا البحر ، فخضته ، لخضناه معك. ما تخلّف منّا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا. إنّا لصبر في الحرب ، صدق في اللقاء. لعل الله أن يريك منّا ما تقرّ به عينك. فسر بنا على بركة الله. فسرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقول سعد ، ونشطه لذلك.

وروى الإمام أحمد (١) عن عبد الله بن مسعود قال : لقد شهدت من المقداد مشهدا ، لأن أكون أنا صاحبه ، أحبّ إليّ مما عدل به. أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يدعو على المشركين فقال : والله! يا رسول الله! لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ). ولكنا نقاتل عن يمينك ، وعن يسارك ، ومن بين يديك ، ومن خلفك.

فرأيت وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشرق لذلك. وسرّه ذلك. وهكذا رواه البخاري (٢) في (المغازي).

الخامس : استنبط العمرانيون من هذه الآية أنّ من عوائق الملك حصول المذلّة للقبيل ، والانقياد لسواهم.

قال الحكيم ابن خلدون في (مقدمة العبر) في الفصل ١٩ تحت العنوان المذكور : إن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدّتها. فإنّ انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها ، فما رئموا (ألفوا) للمذلّة حتى عجزوا عن المدافعة ، ومن عجز عن المدافعة ، فأولى أن يكون عاجزا عن المقاومة والمطالبة ، واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه‌السلام إلى ملك الشام ، وأخبرهم أنّ الله قد كتب لهم ملكها ، كيف عجزوا عن ذلك ، قالوا : (إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) [المائدة : ٢٢]. أي : يخرجهم الله منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا ، وتكون من معجزاتك يا موسى ، ولما عزم عليهم لجّوا وارتكبوا

__________________

(١) أخرجه في المسند ١ / ٣٨٩ والحديث رقم ٣٦٩٨.

(٢) أخرجه البخاري في : المغازي ، ٤ ـ باب قول الله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ...) الآيات [الأنفال : ٩ ـ ١٣].

١٠٦

العصيان وقالوا له : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) [المائدة : ٢٤] وما ذلك إلّا لما آنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة والمطالبة ، كما تقتضيه الآية وما يؤثر في تفسيرها ، وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد ، وما رئموا من الذلّ للقبط أحقابا حتى ذهبت العصبية منهم جملة. مع أنهم لم يؤمنوا حقّ الإيمان بما أخبرهم به موسى ، من أن الشام لهم ، وأن العمالقة الذين كانوا بأريحاء فريستهم ، بحكم من الله قدّره لهم. فأقصروا عن ذلك وعجزوا ، تعويلا على ما علموا من أنفسهم من العجز عن المطالبة ، لما حصل لهم من خلق المذلة. وطعنوا فيما أخبرهم به نبيّهم من ذلك وما أمرهم به. فعاقبهم الله بالتيه. وهو أنّهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنة. لم يأووا فيها لعمران ، ولا نزلوا مصرا ، ولا خالطوا بشرا ، كما قصّه القرآن ، لغلظة العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم ، لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه. ويظهر من مساق الآية ومفهومها : أن حكمة ذلك التيه مقصودة. وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة وتخلّقوا به. وأفسدوا من عصبيتهم ، حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ، ولا يسام بالمذلة. فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب ؛ ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقلّ ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر ، سبحان الحكيم العليم وفي هذا أوضح دليل على شأن العصبية. وأنّها هي التي تكون بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة. وأنّ من فقدها عجز عن جميع ذلك كله.

ثم بيّن تعالى وخيم عاقبة البغي والحسد ، في جزاء ابني آدم لصلبه. تعريضا باليهود. وأنهم إن أصروا على بغيهم وحسدهم فسيرجعون بالصفة الخاسرة في الدارين ، فقال تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(٢٧)

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) أي : على هؤلاء البغاة الحسدة من اليهود وأشباههم (نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ) هابيل وقابيل ، ملتبسا (بِالْحَقِ) أي : الصدق والصحة موافقا لما في كتبهم (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) أي : ما يتقرب به إلى الله تعالى من نسيكة أو صدقة. وكان هابيل راعي غنم ، وقابيل يحرث الأرض. فقدّم هابيل شيئا من أبكار غنمه ومن سمانها. وقدّم قابيل شيئا رديئا من ثمر الأرض (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما) وهو هابيل (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ

١٠٧

الْآخَرِ) وهو قابيل (قالَ) قابيل لهابيل (لَأَقْتُلَنَّكَ) على قبول قربانك (قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي : إنما أتيت من قبل نفسك ، لانسلاخها من لباس التقوى. لا من قبلي. فلم تقتلني؟ ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان ؛ وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلّا من مؤمن متّق ، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم!

وعن عامر بن عبد الله : أنه بكى حين حضرته الوفاة : فقيل له : ما يبكيك فقد كنت وكنت؟ قال : إني أسمع الله يقول : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ). كذا في (الكشاف).

وروى ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال : يحبس الناس في بقيع واحد فينادي مناد : أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت : من المتقون؟ قال : قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا العبادة. فيمرون إلى الجنة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ)(٢٨)

(لَئِنْ بَسَطْتَ) أي : مددت (إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي) أي : ظلما (ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) أي : دفعا (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) أي : من أن أصنع كما تريد أن تصنع.

وفي (الصحيحين) (١) : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قالوا : يا رسول الله! هذا القاتل. فما بال المقتول؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه».

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الإيمان ، ٢٢ ـ باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفّر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك ، حديث ٢٩ ونصه : عن الأحنف بن قيس قال : ذهبت لأنصر هذا الرجل ، فلقيني أبو بكرة فقال : أين تريد؟ قلت : أنصر هذا الرجل. قال : ارجع فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إذا التقى المسلمان بسيفيهما ، فالقاتل والمقتول في النار» فقلت : يا رسول الله! هذا القاتل ، فما بال المقتول؟ قال «إنه كان حريصا على قتل صاحبه».

وأخرجه مسلم في : الفتن وأشراط الساعة ، حديث ١٤ و ١٥.

١٠٨

وروى الإمام أحمد (١) وأبو داود والترمذيّ في حديث سعد بن أبي وقاص قال : «قلت : يا رسول الله! أرأيت إن دخل بيتي وبسط يده ليقتلني؟ قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كن كابن آدم ـ وتلا ـ : (لَئِنْ بَسَطْتَ) ...» الآية.

قال المهايميّ في تفسير هذه الآية : أي : إني ـ وإن لم أكن في الدفع ظالما ـ أخاف الله أن يكره مني هدم بنيانه الجامع ليظهر فيه من حيث كونه رب العالمين.

انتهى.

وهو منزع صوفيّ لطيف.

وقال أبو السعود : فيه من إرشاد قابيل إلى خشية الله تعالى ، على أبلغ وجه وآكده ، ما لا يخفى. كأنه قال : إني أخافه تعالى إن بسطت يدي إليك لأقتلك ، أن يعاقبني. وإن كان ذلك مني لدفع عداوتك عني. فما ظنّك بحالك وأنت البادئ العادي؟ وفي وصفه تعالى بربوبيّة العالمين تأكيد للخوف. قيل : كان هابيل أقوى منه. ولكن تحرّج عن قتله واستسلم خوفا من الله تعالى. لأن القتل للدفع لم يكن مباحا حينئذ. وقيل : تحريا لما هو الأفضل ،. حسبما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل. ويأباه التعليل بخوفه تعالى ، إلّا أن يدعي أنّ ترك الأولى عنده بمنزلة المعصية في استتباع الغائلة ، مبالغة في التنزّه. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ)(٢٩)

(إِنِّي أُرِيدُ) أي : باستسلامي لك وامتناعي عن التعرض لك (أَنْ تَبُوءَ) أي : ترجع إلى الله ملتبسا (بِإِثْمِي) أي : بإثم قتلي (وَإِثْمِكَ) أي : الذي كان منك قبل قتلي ، أو الذي من أجله لم يتقبل قربانك (فَتَكُونَ) أي : بالإثمين (مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ).

__________________

(١) أخرجه في المسند ١ / ١٨٥ وحديث ١٦٠٩ ونصه : عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال : عند فتنة عثمان بن عفان : أشهد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إنها ستكون فتنة ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي» قال : أفرأيت إن دخل عليّ بيتي فبسط يده إليّ ليقتلني؟ قال «كن كابن آدم».

وأخرجه أبو داود في : الفتن والملاحم ، في النهي عن السعي في الفتنة ، حديث ٤٢٥٧.

وأخرجه الترمذي في : الفتن ، ٢٩ ـ باب ما جاء تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم.

١٠٩

قال الناصر في (الانتصاف) : فأما إرادته لإثم أخيه وعقوبته فمعناه : إني لا أريد أن أقتلك فأعاقب. ولمّا لم يكن بدّ من إرادة أحد الأمرين ، إمّا إثمه بتقدير أن يدفع عن نفسه فيقتل أخاه ، وإمّا إثم أخيه بتقدير أن يستسلم ـ وكان غير مريد للأول ، اضطر إلى الثاني ، فلم يرد إذا إثم أخيه لعينه ، وإنما أراد أنّ الإثم هو بالمدافعة المؤدية إلى القتل ـ ولم تكن حينئذ مشروعة ـ فلزم من ذلك إرادة إثم أخيه. وهذا ، كما يتمنّى الإنسان الشهادة. ومعناها أن يبوء الكافر بقتله وبما عليه في ذلك من الإثم ، ولكن لم يقصد هو إثم الكافر لعينه ، وإنما أراد أن يبذل نفسه في سبيل الله رجاء إثم الكافر بقتله ضمنا وتبعا. والذي يدل على ذلك ؛ أنّه لا فرق في حصول درجة الشهادة وفضيلتها بين أن يموت القاتل على الكفر وبين أن يختم له بالإيمان ، فيحبط عنه إثم القتل الذي به كان الشهيد شهيدا. أعني بقي الإثم على قاتله ، أو حبط عنه ، إذ ذلك لا ينتقص من فضيلة شهادته ولا يزيدها ، ولو كان إثم الكافر بالقتل مقصودا لاختلف التمني باعتبار بقائه وإحباطه ، فدلّ على أنه أمر لازم تبع ، لا مقصود. والله أعلم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٣٠)

(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) أي : رخصت وسهلت له نفسه. والتصريح بأخوّته لكمال تقبيح ما سوّلته نفسه. أي : الذي حقه أن يحفظه من كل من قصده بالسوء بالتحمل على نفسه (فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) دينا ، إذ صار كافرا حاملا للدماء إلى يوم القيامة. ودنيا ، إذ صار مطرودا مبغضا للخلائق.

وقد أخرجه الجماعة ـ غير أبي داود ـ عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) : «لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها. لأنه كان أول من سنّ القتل». انتهى.

ولما قتله لم يدر ما يصنع به من إفراط حيرته.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الأنبياء ، ١ ـ باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته ، حديث ١٥٧٥.

١١٠

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ)(٣١)

(فَبَعَثَ) أي : أرسل (اللهُ غُراباً) فجاء (يَبْحَثُ) أي : يحفر بمنقاره ورجله متعمقا (فِي الْأَرْضِ).

قال القتيبيّ : هذا من الاختصار. ومعناه : بعث غرابا يبحث التراب على غراب ميت. وكذا رواه السدّيّ عن الصحابة ؛ أنه تعالى بعث غرابين اقتتلا. فقتل أحدهما الآخر. فحفر له. ثم حتى عليه حثيا.

(لِيُرِيَهُ) الضمير المستكن إمّا لله تعالى أو للغراب. والظاهر ، للقاتل أخاه (كَيْفَ يُوارِي) أي : يستر في التراب (سَوْأَةَ أَخِيهِ) أي : جسده الميت. وسمّي سوأة لأنه مما يسوء ناظره (قالَ يا وَيْلَتى) كلمة جزع وتحسّر ، والألف فيها بدل من ياء المتكلم. والويل والويلة الهلكة (أَعَجَزْتُ) أي : أضعفت عن الحيلة (أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ) أي : الذي هو من أخسّ الحيوانات. والاستفهام للتعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب (فَأُوارِيَ) أي : أغطي (سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ) أي : صار (مِنَ النَّادِمِينَ) أي : على حيرته في مواراته حيث لم يدفنه حين قتله. فصار أجهل من الحيوانات العجم وأضلّ منها وأدنى.

وفي (التنوير) : ولم يكن نادما على قتله.

وقال أبو الليث عن ابن عباس : لو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه.

تنبيهات :

الأول : ظاهر الآية أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول ، وأنه تعلم ذلك من الغراب. ولا مانع من ذلك. إذ مثله مما يجوز خفاؤه. لا سيما والعالم ، في أول طور النشأة ، وأنه أول قتيل ، فيكون أول ميت.

ونقل الرازي احتمال أن يكون عالما بكيفية دفنه ، قال : فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل ، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافا به ، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر ، رق قلبه ولم يرض أن يكون أقل شفقة منه. فواراه تحت الأرض ، والله أعلم.

١١١

الثاني : في الآية دلالة على أن الندم ، إذا لم يكن لقبح المعصية ، لم يكن توبة. قال الرازيّ : ندم على قساوة قلبه وكونه دون الغراب في الرحمة. فكان ندمه لذلك ، لا لأجل الخوف من الله تعالى ، فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم.

الثالث : الآية أصل في دفن الميت.

الرابع : قال ابن جرير (١) زعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل ، قال له الله : يا قابيل! أين أخوك هابيل؟ قال : ما أدري. ما كنت عليه رقيبا. فقال الله : إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض ، الآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلغت دم أخيك من يدك. فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها ، حتى تكون فزعا تائها في الأرض. انتهى.

الخامس : روى ابن جرير (٢) بسنده عن عليّ بن أبي طالب قال : لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم فقال :

تغيّرت البلاد ومن عليها

فلون الأرض مغبّر قبيح

تغيّر كل ذي لون وطعم

وقلّ بشاشة الوجه المليح

فأجيب آدم عليه الصلاة والسلام :

أبا هابيل! قد قتلا جميعا

وصار الحيّ كالميت الذّبيح

وجاء بشرّة قد كان منها

على خوف ، فجاء بها يصيح

أقول : قد اشتهر البيتان الأولان. وقد فنّد نسبتهما إلى آدم غير واحد.

قال الزمخشريّ : روي أن آدم رثاه بشعر. وهو كذب بحت. وما الشعر إلا منحول ملحون. وقد صح أن الأنبياء عليهم‌السلام معصومون من الشعر. انتهى.

قال الشرّاح : (المليح) في النظم المذكور ، إن رفع فخطأ. لأنه صفة الوجه المجرور ، وإن خفض فإقواء وهو عيب قبيح ، وإن كثر. وقول من قال (الوجه فاعل قلّ. وبشاشة منصوب على التمييز بحذف التنوين ، إجراء للوصل مجرى الوقف) ألحن ، وقيل : إن آدم عليه الصلاة والسلام رثاه بكلام منثور بالسريانيّ. فلم يزل ينقل إلى أن وصل إلى يعرب بن قحطان ـ وهو أول من خطّ بالعربية ـ فقدم وأخّر وجعله شعرا عربيا. انتهى.

__________________

(١) الأثر رقم ١١٧٦٥ من التفسير.

(٢) الأثر رقم ١١٧٢١ من التفسير.

١١٢

قال الخفاجي. لا شك أن لوائح الوضع عليه رائحة لركاكته ، لكن ما استصعبوه من الإقواء ، وترك التنوين ، ليس بصعب ، لما في أشعار الجاهلية والشعراء من أمثاله. مع أنه قد يخرج بأنه نعت جرى على المحل. لأن الوجه فاعل المصدر ، وهو بشاشة.

السادس : حكمة تخصيص الغراب كون دأبه المواراة.

قال أبو مسلم : عادة الغراب دفن الأشياء. فجاء غراب فدفن شيئا فتعلم ذلك منه. انتهى.

والغراب هو الطائر الأسود المعروف. وقسموه إلى أنواع. وفي الحديث : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم غيّر اسم غراب لما فيه من البعد. ولأنه من أخبث الطيور. والعرب تقول : أبصر من غراب ، وأحذر من غراب ، وأزهى من غراب ، وأصفى عيشا من غراب ، وأشد سوادا من غراب ، وهذا بأبيه أشبه من الغراب بالغراب. وإذا نعتوا أرضا بالخصب قالوا : وقع في أرض لا يطير غرابها. ويقولون وجد تمرة الغراب ، وذلك أنه يتبع أجود التمر فينتقيه. ويقولون : أشأم من غراب وأفسق من غراب. ويقولون : طار غراب فلان ، إذا شاب رأسه. وغراب غارب على المبالغة. كما قالوا : شعر شاعر ، وموت مائت. قال رؤية :

فازجر من الطير الغراب الغاربا

قالوا : وليس شيء في الأرض يتشاءم به إلّا والغراب أشأم منه. وللبديع الهمذانيّ فصل بديع في وصفه. ذكره في (المضاف والمنسوب) وأورد ما يضاف إليه الغراب ويضاف إلى الغراب. والأبيات في غراب البين كثيرة ، ملئت بها الدفاتر.

وحقق الإمام أبو عبد الله الشريف الغرناطيّ ـ قاضي غرناطة ـ في شرحه على (مقصورة حازم) أن غراب البين في الحقيقة هو الإبل التي تنقلهم من بلاد إلى بلاد. وأنشد في ذلك مقاطيع. منها :

غلط الذين رأيتهم بجهالة

يلحون كلّهم غرابا ينعق

ما الذنب إلا للأباعر إنها

مما يشتّت جمعهم ويفرّق

إن الغراب بيمنه تدنو النوى

وتشتت الشمل الجميع الأينق

وأنشد ابن المسناويّ لابن عبد ربّه :

زعق الغراب فقلت : أكذب طائر

إن لم يصدقه رغاء بعير

١١٣

كذا في «تاج العروس» شرح القاموس.

وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)(٣٢)

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) أي : بسبب قتل قابيل هابيل ظلما (كَتَبْنا) أي فرضنا وأوحينا (عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) وإنما خصّوا بالذكر لأنهم أول من تعبدوا بذلك. وقوله تعالى : (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي : بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص (أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) أي : أو بغير فساد يوجب إهدار دمها ـ كالكفر مع الحراب ، والارتداد ، وقطع الطريق الآتي بعد ، وزنا المحصن ـ (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) أي : من حيث إنه هتك حرمة الدماء ، وسنّ القتل ، وجرّأ الناس عليه. أو من حيث إنّ قتل الواحد وقتل الجميع سواء ، في استجلاب غضب الله سبحانه وتعالى والعذاب العظيم (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) أي : ومن تسبب لبقاء حياتها بعفو أو منع عن القتل أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة. فكأنما فعل ذلك بالناس جميعا. والمقصود منه : تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ترهيبا عن التعرض لها ، وترغيبا في المحاماة عليها. أفاده البيضاوي.

وقال أبو مسلم في معنى الآية : من قتل وجب على المؤمنين معاداته. وأن يكونوا خصومه ، كما لو قتلهم جميعا. لأن المسلمين يد واحدة على من سواهم. ومن أحيا وجب موالاته عليهم ، كما لو أحياهم. انتهى.

وقيل للحسن البصري (١) : هذه الآية لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال : إي والذي لا إله غيره كما كانت لهم. وما جعل دماءهم أكرم من دمائنا.

أقول القاعدة في ذلك ؛ أن جميع ما يحكى في القرآن من شرائع الأولين وأحكامهم ، ولم ينبّه على إفسادهم وافترائهم فيه ، فهو حقّ. وقد أوضح ذلك الإمام الشاطبيّ في (الموافقات) فانظره فإنه مهمّ.

__________________

(١) الأثر رقم ١١٨٠٠ من تفسير ابن جرير.

١١٤

وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : دخلت على عثمان يوم الدار فقلت : جئت لأنصرك. وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين! فقال : يا أبا هريرة! أيسرّك أن تقتل الناس جميعا وإياي معهم؟ قلت : لا! قال : فإنك إن قتلت رجلا واحدا فكأنما قتلت الناس جميعا ، فانصرف مأذونا لك ، مأجورا غير مأزور. قال : فانصرفت ولم أقاتل.

وروى الإمام أحمد (١) عن عبد الله بن عمرو قال : «جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! اجعلني على شيء أعيش به. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا حمزة! نفس تحييها أحبّ إليك أم نفس تميتها؟ قال : بل نفس أحييها. قال : عليك بنفسك».

(وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ) يعني : بني إسرائيل (رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ) أي : الآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم ، تأكيدا لوجوب مراعاته ، وتأييدا لتحتم المحافظة عليه ، (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) أي : من بني إسرائيل (بَعْدَ ذلِكَ) أي : بعد ما كتبنا عليهم ، وبعد مجيء الرسل بالآيات والزجر المسموع منهم (لَمُسْرِفُونَ) يعني : بالفساد والقتل. لا يبالون بعظمة ذلك.

قال ابن كثير : هذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها. كما كانت بنو قريظة والنضير وغيرهم من بني قينقاع ، ممن حول المدينة من اليهود الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج ، إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية ، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها فدوا من أسروه ، وودوا من قتلوه. وقد أنكر الله تعالى عليهم ذلك في (سورة البقرة) حيث يقول : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) [البقرة : ٨٤ ـ ٨٥] الآيات.

وقال الرازيّ : المقصود من شرح هذه المبالغة ـ يعني قوله تعالى : (فَكَأَنَّما قَتَلَ) الآية ـ أن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل ، وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى. ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الواقعة التي ذكرنا أنهم عزموا على الفتك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأكابر أصحابه ـ كان تخصيص بني إسرائيل في هذه القصة ، في هذه المبالغة العظيمة ، مناسبا للكلام ومؤكّدا للمقصود.

__________________

(١) أخرجه في المسند ٢ / ١٧٥ وحديث ٦٦٣٩.

١١٥

ولما ذكر الله تعالى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير نفس ولا فساد ـ أتبعه ببيان الفساد المبيح للقتل بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٣٣)

(إِنَّما جَزاءُ) أي مكافأة (الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي : يخالفونهما ويعصون أمرهما (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أي : يعملون في الأرض بالمعاصي وهو القتل وأخذ المال ظلما (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ). أي : أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) أي : يطردوا منها وينحّوا عنها. وهو التغريب عن المدن ، فلا يقرّون فيها (ذلِكَ) أي : الجزاء المذكور (لَهُمْ خِزْيٌ) ذل وفضيحة (فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو عذاب النار.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣٤)

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) أي من المحاربين (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وفي هذه الآية مسائل :

الأولى ـ روى ابن جرير (١) وأبو داود والنسائيّ عن ابن عباس ، أنها نزلت في المشركين. وروى ابن جرير عن أبيّ ، أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا عهدهم مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وظاهر أنها عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : الحدود ، ٣ ـ باب ما جاء في المحاربة ، حديث ٤٣٧٢ ونصه : عن ابن عباس قال : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إلى قوله غَفُورٌ رَحِيمٌ) نزلت هذه الآية في المشركين ، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه ، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحدّ الذي أصابه.

١١٦

الصفات. كما روى الشيخان (١) وأهل السنن وابن مردويه وهذا لفظه : عن أنس بن مالك ؛ أن ناسا من عرينة قدموا المدينة فاجتووها. فبعثهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من أبوالها ففعلوا فصحّوا ، فارتدّوا عن الإسلام ، وقتلوا الراعي وساقوا الإبل. فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آثارهم ، فجيء بهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمل أعينهم وألقاهم في الحرّة. قال أنس : فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا ، حتى ماتوا. ونزلت : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) .. الآية. ولمسلم (٢) عن أنس قال : إنما سمل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء. وعند البخاريّ : قال أبو قلابة (٣) : فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله.

الثانية ـ زعم بعضهم أن الآية نزلت نسخا لعقوبة العرنيين المتقدمة.

قال ابن جرير (٤) : حدثنا عليّ بن سهل ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : ذاكرت الليث بن سعد : ما كان سمل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا. فقال : سمعت محمد بن عجلان يقول : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معاتبة في ذلك. وعلّمه عقوبة مثلهم من القطع والقتل والنفي ، ولم يسمل بعدهم غيرهم. قال : وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو ـ بعني الأوزاعيّ ـ فأنكر أن تكون نزلت معاتبة ، وقال : بلى. كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم. ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممّن حارب بعدهم. فرفع عنهم السمل. وروى (٥) ابن جرير أيضا في القصة عن

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الوضوء ، ٦٦ ـ باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها ، حديث ١٧٣.

وأخرجه مسلم في : القسامة ، حديث ٩ ـ ١٤.

(٢) أخرجه مسلم في : القسامة ، حديث ١٤.

(٣) أخرجه البخاريّ في : الوضوء ، ٦٦ ـ باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها ، حديث ١٧٣.

(٤) الأثر رقم ١١٨١٨ من التفسير.

(٥) الأثر رقم ١١٨١٠ من التفسير ونصه : عن عبد الكريم وسئل عن أبوال الإبل فقال : حدثني سعيد ابن جبير عن المحاربين فقال : كان ناس أتوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : نبايعك على الإسلام. فبايعوه ، وهم كذبة ، وليس الإسلام يريدون. ثم قالوا : إنا نجتوي المدينة. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح ، فاشربوا من أبوالها وألبانها». قال ، فبينما هم كذلك ، إذ جاء الصريخ ، فصرخ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : قتلوا الراعي وساقوا النّعم. فأمر نبيّ الله فنودي في الناس : أن «يا خيل الله اركبي» قال ، فركبوا ، لا ينتظر فارس فارسا. قال : فركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أثرهم. فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم. فرجع صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أسروا منهم ، فأتوا بهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ... الآية. قال فكان نفيهم أن نفوهم ـ

١١٧

سعيد بن جبير قال : فما مثل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ولا بعد ، قال : ونهى عن المثلة ، قال (١) : لا تمثّلوا بشيء. والنهي عن المثلة مرويّ في الصحيح والسنن.

الثالثة ـ احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء ، في ذهابهم إلى أنّ المحاربة في الأمصار وفي السبلات على السواء. لقوله : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً). وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعيد والشافعيّ وأحمد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولو شهروا السلاح في البنيان لا في الصحراء لأخذ المال. فقد قيل : إنهم ليسوا محاربين بل هم بمنزلة المنتهب. لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس. وقال الأكثرون : إن حكم من في البنيان والصحراء واحد ، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء. لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة ، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم ، فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة ، ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله ، والمسافر لا يكون معه غالبا إلّا بعض ماله ؛ وهذا هو الصواب.

حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتا فيقتله ويأخذ ما معه : إن هذه محاربة. ودمه إلى السلطان لا إلى وليّ المقتول. ولا اعتبار بعفوه عنه في إنفاذ القتل.

وإنما كان ذلك محاربة ، لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة ، كلاهما لا يمكن الاحتزاز منه ، بل قد يكون ضرر هذا أشدّ ، لأنه لا يدري به.

وقيل : إنّ المحارب هو المجاهر بالقتال ، وإنّ هذا المغتال يكون أمره إلى وليّ أمر الدم. والاول أشبه بأصول الشريعة.

الرابعة ـ ظاهر الآية : أن عقوبة المحاربين المفسدين أحد هذه الأنواع. فيفعل الإمام منها ما رأى فيه صلاحا.

__________________

ـ حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم ، ونفوهم من أرض المسلمين. وقتل نبيّ الله منهم ، وصلب ، وقطع ، وسمل الأعين.

قال ، فما مثّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ولا بعد.

قال : ونهى عن المثلة وقال «لا تمثّلوا بشيء».

قال : فكان أنس بن مالك يقول ذلك ، غير أنه قال : أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم.

(١) أخرجه مسلم في : الجهاد والسير ، حديث ٣ وهو ضمن حديث طويل كان يوصي به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية.

١١٨

قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، في الآية (١) : من شهر السلاح في قبة الإسلام ، وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه ، فإمام المسلمين فيه بالخيار : إن شاء قتله ، وإن شاء صلبه ، وإن شاء قطع يده ورجله. وكذا قال سعيد بن المسيّب (٢) ومجاهد (٣) وعطاء (٤) والحسن البصري (٥) وإبراهيم النخعي (٦) والضحاك. كما رواه ابن جرير ، وحكي مثله عن أنس.

قال ابن كثير : ومستند هذا القول ظاهر. وللتخيير نظائر من القرآن. كقوله في جزاء الصيد : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) [المائدة : ٩٥] ، وقوله في كفارة الترفه : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة : ١٩٦]. وقوله في كفارة اليمين : (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [المائدة : ٨٩] ، هذه كلها على التخيير ، فكذلك فلتكن هذه الآية. وقال الجمهور : هذه الآية منزلة على أحوال. أخرج الشافعيّ عن إبراهيم بن أبي يحيي ، عن صالح مولى التوأمة ، عن ابن عباس ، في قطّاع الطريق : إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا. وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا ، قطّعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض. وقد رواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان ، عن حجاج ، عن عطية عن ابن عباس بنحوه ، وعن أبي مجلز وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعيّ والحسن وقتادة والسدّيّ وعطاء الخراساني نحو ذلك. وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة انتهى.

وفي (النهاية) من فقه الزيدية : يرجع في المحارب إلى رأي الإمام ، فإن كان له رأي قتله أو صلبه ـ لأن القطع لا يدفع المضرة ـ وإن كان لا رأي له لكنه ذو قوة قطعه من خلاف ، وإن عدم القوة والرأي ضرب ونفي ؛ وهذا معنى التخيير بين هذه الأمور ، أنه يرجع إلى اجتهاد الإمام ، على ما ذكر. انتهى.

__________________

(١) الأثر رقم ١١٨٥٠ من تفسير ابن جرير.

(٢) الأثر رقم ١١٨٥١ من التفسير.

(٣) الأثر رقم ١١٨٤٤ من التفسير.

(٤) الأثر رقم ١١٨٤٨ و ١١٨٤٩ من التفسير.

(٥) الأثر رقم ١١٨٤٦ و ١١٨٤٧ و ١١٨٥٢ و ١١٨٥٣ من التفسير.

(٦) الأثر رقم ١١٨٤٥ من التفسير.

١١٩

ورأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية فصلا مهمّا في المحاربين في كتابه (السياسة الشرعية) وقد مثّلهم بقطّاع الطريق الذين يعترضون الناس بالسلاح في الطرقات ونحوها ليغصبوهم المال مجاهرة ، من الأعراب أو التركمان أو الأكراد أو الفلاحين ، أو فسقة الجند أو مردة الحاضرة أو غيرهم. ثم ساق رواية الشافعيّ المتقدمة عن ابن عباس وقال :

هذا قول كثير من أهل العلم ـ كالشافعي وأحمد رضي الله عنهما ـ وهو قريب من قول أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ ومنهم من قال : للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله مصلحة فيهم وإن كان لم يقتل مثل أن يكون رئيسا مطاعا فيهم.

ويقطع من رأى قطعه مصلحة وإن كان لم يأخذ المال. مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال. كما أنّ منهم من يرى أنه إذا يرى أنه إذا أخذوا المال قتّلوا وقطّعوا وصلّبوا. والأول قول الأكثر. فمن كان من المحاربين قد قتل فإنه يقتله الإمام حدّا لا يجوز العفو عنه بحال ، بإجماع العلماء. ذكره ابن المنذر. ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول. بخلاف ما لو قتل رجل رجلا لعداوة بينهما ، أو لخصومة ، أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة. فإن هذا دمه لأولياء المقتول. إن أحبوا قتلوا. وإن أحبوا عفوا. وإن أحبو أخذوا الدية لأنه قتله لغرض خاص. وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس ، فضررهم عام بمنزلة السّرّاق. فكان قتلهم حدّ الله. وهذا متفق عليه بين الفقهاء. حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل. مثل أن يكون القاتل حرّا والمقتول عبدا ، أو القاتل مسلما والمقتول ذمّيّا أو مستأمنا. فقد اختلف الفقهاء : هل يقتل في المحاربة؟ والأقوى أنه يقتل للفساد العام حدّا ، كما يقطع إذا أخذ أموالهم. وكما يحبس بحقوقهم. وإذا كان المحاربون الحرامية جماعة ، فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان وردء له ، فقد قيل : إنه يقتل المباشر فقط. والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة. والردء والمباشر سواء. وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين. فإن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قتل ربيئة المحاربين. والربيئة هو الناظور الذي يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء. ولأن المباشر إنما يمكن من قتله بقوة الردء ومعونته. والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض ، حتى صاروا ممتنعين ، فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين. فإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (١) : «المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الفرائض ، ٢١ ـ باب إثم من تبرأ من مواليه ، حديث ٩٥ ونصه : قال عليّ رضي الله عنه : ما عندنا كتاب نقرؤه ، إلا كتاب الله ، غير هذه الصحيفة قال ، فأخرجها فإذا فيها ـ

١٢٠