الكشف والبيان - ج ٢

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٢

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١١

وقال بعضهم : محل هدي المحصر لا يحل له غيره فإن كان حاجا فمحله يوم النحر وإن كان معتمرا يوم مبلغ هديه الحرم.

روى إبراهيم الجعفي عن عبد الرحمن بن زيد قال : خرجنا مهلين بعمرة وفينا الأسود بن يزيد حتّى نزلنا ذات السقوف فلدغ صاحب لنا فشق ذلك عليه ولم يدر كيف يصنع ، فخرج بعضنا إلى الطريق يتشوّف فإذا بركب فيهم عبد الله بن مسعود فسألوه عن ذلك فقال : ليبعث بهدي إلى مكّة ، واجعلوا بينكم وبينه إمارة فإذا ذبح الهدي فليحل وعليه قضاء عمرته.

(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) معنى الآية (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ) حال الإحرام إلّا أن يضطر الرجل حلقه إما لمرض يحتاج إلى مداواته.

(أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) من هوام وصداع فحلق أو فدي (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) نزلت هذه الآية في كعب بن حجر

قال : مرّ بي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زمن الحديبية ولي وفرة من شعر فيها القمل والصئبان وهو يتناثر على وجهي (وانا أقبح (١)) فدبر اليّ.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيؤذيك هوام رأسك؟ قلت : نعم يا رسول الله.

قال : «فاحلق رأسك» [٨٧] (٢) فأنزل الله (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) ثلاثة أيام.

(أَوْ صَدَقَةٍ) على ست مساكين لكل مسكين نصف صاع (أَوْ نُسُكٍ) أو ذبيحة واحدها نسكة.

وقرأ الحسن : أَوْ نُسْكٍ تخفيفا وهي لغة تميم.

قال العلماء : أعلاها بدنه وأوسطها بقرة وأدناها شاة وهو مخير بين هذه الثلاثة إن شاء فعل.

وقال أنس وعكرمة : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) عشرة أيام (أَوْ صَدَقَةٍ) على عشرة مساكين لكل مسكين مد من بر أو مد من تمر (أَوْ نُسُكٍ) وهي الشاة والقول الأول هو الصحيح وهو المشهور وهذه (الفريضة (٣)) أن يأتي بها أجمعوا على أنه يصوم حيث شاء من البلاد.

واما النسك والطعام ، فقال بعضهم : يجب أن تكون مكّة.

وقال بعضهم : أي موضع شاء وهو الصواب لأنه أبهم في الآية ولم يخصّ مكانا دون مكان.

__________________

(١) هكذا في الأصل.

(٢) صحيح البخاري : ٢ / ٢٠٨ ، وصحيح مسلم : ٤ / ٢١.

(٣) هكذا في الأصل.

١٠١

(فَإِذا أَمِنْتُمْ) من خوفكم وبرأتم من مرضكم.

(فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) اختلفوا في هذه المتعة.

فقال بعضهم : معناه فمن أحصر حتّى [عام] الحجّ ثمّ قدّم مكّة فخرج من إحرامه بعمل عمرة واستمتع بإحلاله ذلك ، فيكمل العمرة إلى السنة المستقبلة ثمّ يحج ويهدي فيكون جميعا بذلك الإحلال من [الذي] حلّ إلى إحرامه الثاني من القابل. وهذا قول عبد الله بن الزبير.

وقال بعضهم : معناه (فَإِذا أَمِنْتُمْ) وقد حللتم من إحرامكم بعد الإحصار ولم يقولوا عمرة يخرجون بها من إحرامكم لحجتكم ولئن حللتم حين أخبرتم بالهدي وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة فاعتمرتم في أشهر الحج حللتم فاستمتعتم باحلالكم إلى حجكم فعليكم ما (اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ، وهذا قول علقمة وإبراهيم وسعيد بن جبير.

وكذلك روى عبد الله بن سلمة عن علي رضي‌الله‌عنه (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ) الآية فإن أخّر العمرة حتّى يجمعها مع الحجّ فعليه الهدي.

وقال السّدي : معناه فمن فسخ حجة بعمرة فجعله عمرة واستمتع بعمرته إلى حجة فعليه ما (اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).

وقال ابن عبّاس وعطاء وجماعة : هو الرجل يقدم معتمرا من أفق من الآفاق في أشهر الحج فإذا قضى عمرته أقام حلالا بمكّة حتّى حان وقت الحج فيحج من عامّة ذلك فيكون مستمتعا بالإحلال إلى إحرامه بالحج فمعنى التمتع الإحلال بالعمرة فيقيم حلالا فيفعل ما يفعل الحلال ثمّ يحج بعد إحلاله من العمرة من غير رجوع إلى الميقات ومعنى التمتع التلذذ وأصله من التزود ، والمتاع الزاد ثمّ جعل كلّ تلذذ تمتعا.

قال الفقهاء : فالتمتع الذي يجب عليه الهدي هو أن يجتمع فيه أربع شرائط وهي : أن يحرم في أشهر الحجّ ، ويحل من العمرة في أشهر الحج ، وان يحرم بالحج من عامه ذلك من مكّة ولا يرجع إلى الميقات ، وزاد بعض أصحابنا : أن يكون من غير الحرم ، فمن يحرم بشيء من هذه الشرائط سقط عنه الدم ولا يكون متمتعا.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) إلى أهلكم.

قال المفسرون : يصوم يوما قبل التروية ويوم عرفة ولا تجاوز بآخرهنّ يوم عرفة.

وقال طاوس ومجاهد : إذا صامهنّ في أشهر الحج أجزينّ.

(تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) ذكر الكمال على التأكيد.

كقول الأعشى :

١٠٢

ثلاث بالغداة فذاك حسبي

وست حين يدركني العشاء

فذلك تسعة في اليوم ربي

وشرب المرء فوق الري داء (١)

وقال الفرزدق :

ثلاث واثنان وهن خمس

وسادسة تميل إلى سهامي (٢)

وقال بعضهم : كاملة بالهدي ، وقيل بالثواب ، وقيل كاملة بشروطها وحدودها ، وقيل : لفظه خبر وحكمه أمر ، أي : فأكلوها ولا تنقصوها.

(ذلِكَ) التمتع (لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي كمن لم يكن من أهل الحرم.

عكرمة : هو ما دون المواقيت إلى مكّة.

وقال ابن جريح : (حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أهل عرفة والرجيع يضحيان ويهديان.

(وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) قال الفراء :

تقديرها وقسط الحج أشهر معلومات ، فهذا كما يقال : البرد شهران والحرّ شهران ، أيّ [وفيهما] (٣) شهران ، وسمعت الكسائي يقول : إنما الصيد شهران [والطيلسان] (٤) شهران وقت الصيد ووقت ليس [الطيلسان] (٥).

وقال الزجاج : معناه أشهر الحجّ أشهر معلومات وهو شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة.

قال ابن عبّاس : جعلهن الله للحجّ ، وسائر الشهور للعمرة فلا يصلح لأحد أن يحرم بالحج إلّا في أشهر الحج وأما العمرة فإنّه يحرم بها في كلّ شهر. فآخر هذه الأشهر يوم عرفة وقد جاء في بعض الأخبار في تفسير أشهر الحج وعشر من ذي الحجّة وفي بعضها تسع من ذي الحجّة فمن قال تسع فإنّما عبّر به عن الأيام لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الحجّ عرفة» [٨٨] (٦) فمن وقف بعرفة في يوم عرفة من ليل أو نهار فقدتم حجّه. ومن قال عشرة عبّر به عن الليالي فمن لم يدركه إلى طلوع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحجّ والشهور إنّما يؤرخ بالليالي.

وحكى الفراء : إن العرب تقول صمنا عشرا يذهبون بها إلى الليالي والصوم لا يكون إلّا بالنهار فلا تضاد في هذه الأخبار وإنّما قال أشهر وهي شهران وبعض الثالث ، لأنها وقت

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢ / ٤٠٣.

(٢) تفسير القرطبي : ٢ / ٤٠٣ ، وفتح القدير : ١ / ١٩٧.

(٣) هكذا في الأصل.

(٤) هكذا في الأصل.

(٥) هكذا في الأصل.

(٦) بدائع الصنائع : ٢ / ١٧٦ ، ونصب الراية : ٣ / ١٨٧.

١٠٣

والعرب تسمي الوقت بقليله وكثيره فيقولون : أتيتك يوم الخميس ، وإنّما أتاه في ساعة منه ، ويقولون : اليوم يومان منذ لم أره ، وإنّما هو يوم وبعض أخر ويقولون : زرتك العام.

وقال بعض أصحابنا : الاثنان فما فوقهما جماعة لأن الجمع ضم شيء إلى شيء ، قلنا :

جاز ان يسمي الاثنان بانفرادهما جماعة وجاز ان يسمي الاثنان وبعض الثالث جماعة ، وقد سمى الله الاثنين جمعا في قوله (صَغَتْ قُلُوبُكُما) (١) ولم يقل قلبكما.

وقال عروة بن الزبير وغيره : أراد بالأشهر شوالا وذا القعدة وذا الحجة [كاملا] لأنه يبقى على الحاج أمور بعد عرفة يجب عليه فعلها مثل الرمي والحلق والنحر والبيتوتة بمنى ، فكأنها في حكم الحجّ.

حكم الآية

فمن أحرم بالحجّ قبل أشهر الحج لم يجزه ذلك عن حجه ويكون ذلك عمرة ، كمن دخل في صلاة قبل وقتها فتكون نافلة ، وهو قول عطاء وطاوس ومجاهد ومذهب الأوزاعي والشافعي.

وقال مالك والثوري وأبو حنيفة ومحمّد : يكره له ذلك وإن فعل أجزأه ، ودليل الشافعي وأصحابه قوله (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) فخصّ هذه الأشهر بفرض الحج فيها فلو كان الإحرام بالحج في غير هذه الأشهر منعقدا جائزا لما كان بهذا التخصيص فائدة مثل الصلوات علقها بمواقيت لم يجز تقديمها عليها.

(فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) أي فمن أوجب على نفسه فيهن الحجّ والإحرام والتلبية (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب : الرفث والفسوق بالرفع والتنوين ، و (جِدالَ) بالنصب.

كقول أمية :

فلا لغو ولا تأثيم فيها

[وما قاموا] (٢) به لهم مقيم

وقرأ أبو رجاء العطاردي ، (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) نصبا ولا جدالٌ يرفع بالتنوين.

كقول الأخفش :

هذا وجدكم [الصّغار] بعينه

لا أم لي إن كان ذاك ولا أب

وقرأ أبو جعفر : كلها بالرفع والتنوين. وقرأ الباقون : كلها بالنصب من غير تنوين.

والعرب تقول في البرّية هذان الوجهان ومن رفع بعضا ونصب بعضا كان جامعا للوجهين.

__________________

(١) سورة التحريم : ٤.

(٢) هكذا في الأصل.

١٠٤

وقرأ الأعمش : فلا رفوث على الجميع.

واختلف أهل التأويل في تفسير الرفث.

فقال ابن مسعود وابن عبّاس وابن عمر والحسن وعمرو بن دينار وقتادة وإبراهيم والربيع والزهري والسّدي وعطاء بن أبي رباح وعكرمة والضحاك : الرفث الجماع.

وقال طاوس وأبو العالية : الرفث التعريض بالنساء بالجماع ويذكره بين [......] (١).

عطاء : الرفث قول الرجل للمرأة في حال الإحرام إذا حللت أصبتك.

قال أبو حصين بن قيس : أصعدت ابن عبّاس في الحاج وكنت له خليلا فلما كان بعد ما أحرمنا قال ابن عبّاس بذنب بعيره فجعل يلويه وهو يرتجز ويقول :

وهن يمشين بنا هميا

ان تصدق الطير ننك لميسا (٢)

فقلت له : أترفث وأنت محرم؟

فقال : إنّما الرفث ما قيل عند النساء.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس : الرفث غشيان النساء ، القبل ، والغمز ، وأن يعرض لها بالفحشاء من الكلام هو كذلك.

وقال بعضهم : الرفث الفحش وقول القبيح.

وأما الفسوق : فقال ابن عبّاس وطاوس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع والزهري والقرظي : الفسوق معاصي الله كلها.

الضحاك : هو التنابز بالألقاب ، دليله قول (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ) (٣).

ابن زيد : هو [......] (٤) بالأصنام ، منع ذلك بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين حجّ فعلّم أمته المناسك. دليله قوله (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) (٥) وقوله (ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) (٦).

إبراهيم ومجاهد وعطاء : هو السباب. يدلّ عليه قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» [٨٩] (٧).

__________________

(١) كلمة غير مقروءة.

(٢) المبسوط للسرخسي : ٤ / ٦.

(٣) سورة الحجرات : ١١.

(٤) كلمة غير مقروءة.

(٥) سورة الأنعام : ١٢١.

(٦) سورة المائدة : ٣ ، وسورة النحل : ١١٥.

(٧) المعجم الأوسط : ١ / ٢٢٣.

١٠٥

ابن عمر : هو ما نهى الله عنه المحرم في حال الإحرام من قبيل الصيد وتقليم الأظفار وحلق الشعر وما أشبهه.

وأما الجدال : فقال ابن مسعود وابن عبّاس وعمرو بن محمّد وسعيد بن جبير وعكرمة والزهري وعطاء بن يسار ومعاذ بن أبي رباح وقتادة : الجدال ان تماري صاحبك وتخاصمه حتّى تقضيه.

ابن عمر : هو السبابة والمنازعة.

القرظي : كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء : حجّنا أتم من حجكم ، فقال هؤلاء : حجّنا أتم من حجكم.

القاسم بن محمّد : هو أن يقول بعضهم الحج اليوم ، ويقول بعضهم الحجّ غدا.

ابن زيد : كانوا يقفون مواقف مختلفة يتجادلون ، كلّهم يدّعى إنه موقف إبراهيم عليه‌السلام ، فقطعه الله حين علم نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمناسكه.

قال مقاتل : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع : «من لم يكن معه هدي فليحل من إحرامه وليجعلها عمرة» [٩٠] (١).

فقالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : انا أهلنا بالحجّ ، فذلك جدالهم.

مجاهد : معناه : ولا شك في الحجّ إنه في ذي الحجّة فأبطل النسيء واستقام الحج كما هو اليوم.

قال [أهل المعاني] : لفظه نفي ومعناه نهي أيّ لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا ، لقوله تعالى (لا رَيْبَ فِيهِ) (٢) أيّ لا ترتابوا فيه.

عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» [٩١] (٣).

وعن وهيب بن الورد قال : كنت أطوف أنا وسفيان الثوري فانقلب سفيان وبقيت في الطواف فدخلت الحجر فصليت عند الميزاب فبينما أنا ساجد إذ سمعت كلاما بين [أستار] البيت والحجارة وهو يقول و [أشكو] (٤) إلى الله ثمّ إليك ما يفعل ، ولا الطوافون من حولي من تفكههم

__________________

(١) صحيح مسلم : ٤ / ٤٠ ، ومسند أبي الجعد : ٣٨٤.

(٢) سورة البقرة : ٢.

(٣) المجموع لمحيي الدين النووي : ٧ / ٣٥١ ـ ٣ ، وكنز العمال : ٥ / ٧.

(٤) كلمة غير مقروءة والظاهر ما أثبتناه.

١٠٦

في الحديث [ولغطهم وشوقهم] (١). قال وهيب : فأولت أن البيت يشكوا إلى جبرئيل.

(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) فيجازكم به.

(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى).

قال المفسّرون : كان ناس من أهل اليمن يحجون بغير زاد ويقولون : نحن متوكّلون ، ويقولون : نحن نحج بيت الله أفلا يطعمنا [...] (٢) بدء بما ظلموا الناس وغصبوهم الله ، فأمرهم الله أن يتزودوا ولا يظلموا وأن لا يكونوا وبالا على الناس فقال (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) ويكفون به وجوههم.

قال المفسرون : الكعك والزيت والسويق والتمر ونحوها.

وروى نافع عن ابن عمر قال : كانوا إذا أحرموا ومعهم أزودة رموها واستبقوا زاد الآخرة ، فأنزل الله (وَتَزَوَّدُوا) نهاهم عن ذلك وأمر بالتحفظ للزاد ، والزود لمن لم يتزود فأمرهم بالتقوى بكف الظلم قال (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى).

قال أهل الإشارة : ذكرهم الله سفر الآخرة وحثهم على التزود بالدارين فإن التقوى زاد الآخرة.

قال الشاعر :

الموت بحر طامح موجه

تذهب فيه حيلة المسابح

قال آخر :

لا يصحب الإنسان في قبره

إلا التقى والعمل الصالح

قال الأعشى :

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى

ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على ألّا تكون كمثله

وأنك لم ترصد كما كان أرصدا (٣)

قال مالك بن دينار : مات بعض قراء البصرة فمزحنا في جنازة وانصرفنا ، فصعد سعدون المجنون وتلا في المقبرة ونادى المتصوفين فأنشأ يقول :

لا يا عسكر الأحياء هذا عسكر الموتى

أجابوا الدعوة الصغرى وهم منتظرو الكبرى

يحنون على الزاد وما الزاد سوى القرى

يقولون لكم جهزوا فهذا غاية الدنيا

__________________

(١) هكذا في الأصل.

(٢) كلمة غير مقروءة.

(٣) راجع تفسير القرطبي : ٢ / ٤١٢.

١٠٧

قال الله عزوجل (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) ذوي العقول.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣))

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) الآية قال المفسرون : كان ناس من العرب لا يتّجرون في أيام الحج فإذا دخل العشر كفّوا عن الشراء والبيع فلم يقم لهم سوق وكانوا يسمون من يخرج إلى الحجّ ومعه تجارة : الداج ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأباح التجارة في الحج.

فقال ابن عبّاس : كانت عكاظ ومجنة وذو الحجاز أسواقا في الجاهلية كانوا يتجرون فيها في الموسم وكان أكثر معايشهم منها فلما جاء الإسلام كأنهم تأثموا منها فسألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله هذه الآية (١).

وقال أبو أمامة التيمي : قلت لابن عمر : إنّا قوم نكري فيدعمون المؤمنين في الحج.

فقال : ألستم تحرمون كما يحرمون وتطوفون كما يطوفون وترمون الحجارة كما يرومون؟

قلت : بلى. قال : أنتم حاج ، جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يدر ما يقول له حتّى نزل جبرئيل بهذه الآية (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) يعني التجارة وكان ابن عبّاس يقرأها (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) في مواسم الحج.

الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج به الخاص فإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للجار ، وإذا كان يوم منى غفر الله للجمالين ، وإذا كان عند جمرة العقبة [غفر الله للسؤال] ولا شهد ذلك الموقف خلق ممن قال لا إله إلّا الله إلّا غفر له» [٩٢] (٢).

__________________

(١) راجع تفسير الطبري : ٢ / ٣٨٩.

(٢) تاريخ دمشق : ٦٢ / ١٢ ، وتفسير القرطبي : ٢ / ٤٢٠.

١٠٨

(فَإِذا أَفَضْتُمْ) رجعتم ودعيتم بكرة.

يقال : أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه وأكثروا التصرف (١).

قال الشاعر :

فلما أفضنا في الحديث وأسمحت

أتتنا عيون بالنميمة تضرب

وأصلها من قول العرب أفاض الرجل ماءه إذا صبّه ، وأفاض البعير [تجرعه] إذا رمى ودفع بها من كرشه.

قال الراعي :

فأفضن بعد كظومهن بجرة

من ذي الابارق إذا رعين حقيلا

ويقال : أفاض الرجل بالقداح إذا ضرب بها لأنها موضع بقع متفرقة.

قال أبو ذهيب :

يصف الحمار والأنف وأتته ربابة وكأنه

يسر يفيض على القداح ويصدع (٢)

ولا تكون الافاضة في اللغة إلّا عن تفرق وكثرة قال عمر بن الخطاب : الافاضة الانصداع.

(مِنْ عَرَفاتٍ) القراءة بالكسر والتنوين لأنه جمع عرفة مثل مسلمات ومؤمنات ، فسميت بها بقعة واحدة مثل قولهم : أرض سباسب وثوب اخلاق يجمع بها حولها ، فلما سميت بها البقعة الواحدة صرفت إذا كانت مصروفة قبل ان يسمى بها البقعة تركا منهم لها على أصلها فإذا كانت في الأصل بقعة واحدة ولم يكن جمعا تركوا إجزاءها ونصبوا تاءها في حال الخفض مثل عانات وأذرعات فرقا بين الاسم وبين الجمع ، واختلف العلماء في المعنى الذي لأجله قيل للموقف عرفات وليوم الوقوف بها عرفة.

فقال الضحاك : إن آدم لما أهبط وقع في الهند وحواء بجدة فجعل آدم يطلب حواء وهي تطلبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة وتعارفا فسمي اليوم عرفة والموضع عرفات.

أبو حمزة الثمالي عن السّدي قال : إنّها سميت عرفات لأن هاجر حملت إسماعيل عليه‌السلام فأخرجته من عند سارة وكان إبراهيم غائبا فلما قدم لم ير إسماعيل فحدثته سارة بالذي صنعت هاجر فانطلق في طلب إسماعيل فوجده مع هاجر بعرفات فعرفه فسميت عرفات (٣).

__________________

(١) زاد المسير لابن الجوزي : ١ / ١٩٣.

(٢) لسان العرب : ١ / ٤٠٦ ، وتفسير الطبري : ١٤ / ٩١.

(٣) راجع تفسير أبي حمزة الثمالي : ١١٥.

١٠٩

وعن علي بن الأشدق عن عبد الله بن [حراد] (١) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ان إبراهيم غدا من فلسطين فحلفت سارة إن لا ينزل عن ظهر دابته حتّى يرجع إليها من الغيرة فأتى إسماعيل ثمّ رجع فحبسته سارة سنة ثمّ استأذنها فأذنت له فخرج حتّى بلغ مكّة وجبالها فبات ليلة يسير ويسعى حتّى أذن الله عزوجل له في ثلث الليل الأخير عند سند جبل عرفة ، فلما أصبح عرف البلاد والطريق فجعل الله عزوجل عرفة حيث عرف فقال : اجعل بيتك أحبّ بلادك إليك حتّى يهوي الله قلوب المسلمين (مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)» [٩٣].

عبد الملك عن عطاء قال : إنّما سميت عرفات لأن جبرئيل عليه‌السلام كان يري إبراهيم المناسك ويقول : عرفت ثمّ يريه فيقول : عرفت فسميت عرفات.

وروى سعيد بن المسيب عن علي رضي‌الله‌عنه قال : بعث الله عزوجل جبرئيل إلى إبراهيم فحج به حتّى إذا [جاء] عرفات قال : قد عرفت ، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك فسميت عرفات.

وروى أبو الطفيل عن ابن عبّاس قال : إنّما سمي عرفة لأن جبرئيل عليه‌السلام أرى إبراهيم فيه بقاع مكّة ومشاهدها وكان يقول يا إبراهيم هذا موضع كذا وهذا موضع كذا ويقول قد عرفت ، قد عرفت.

وروى أسباط عن السّدي قال : لما أذن إبراهيم بالناس فأجابوه بالتلبية وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلى عرفات فنعتها له فلمّا خرج وبلغ الشجرة المستقبلة للشيطان فرماه بسبع حصيات يكبّر مع كلّ حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية فرماه وكبّر فطار فوقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبّر فلما رأى إنه لا يطيقه ذهب ، فانطلق إبراهيم حتّى وقف بعرفات ، فلما نظر إليها عرفها بالنعت فقال : عرفت ، فسمي عرفات بذلك وسمي ذلك اليوم عرفة لأن إبراهيم رأى ليلة التروية في منامه أن يؤمر بذبح ابنه فلما أصبح يومه أجمع أيّ فكر أمن الله هذا الحكم أمن الشيطان وسمي اليوم من فكرته تروية ثمّ رأى ليلة عرفة ذلك ثانيا فلما أصبح عرف أن ذلك من الله فسمي اليوم يوم عرفة.

وقال بعضهم : سميت بذلك لأن الناس يعترفون في هذا اليوم على ذلك [الموقف] بالذنوب والأصل نسيان آدم عليه‌السلام لما أمر بالحجّ وقف بعرفات يوم عرفة قال : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢).

وقيل : هي مأخوذة من العرف ، قال الله تعالى (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) (٣) أي طيّبها ،

__________________

(١) هكذا في الأصل.

(٢) سورة الأعراف : ٢٣.

(٣) سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ٦.

١١٠

قالوا : فمنى موضع بمنى وفيه الدم أي يصب فلذلك سمّي منى ففيه يكون الفروث والإنذار والدماء وليست بطيبة ، وعرفات ليس فيها وهي طيبة فلذلك سميت عرفات ويوم الوقوف بها عرفة. وقيل : لأن الناس يتعارفون بها.

وقال بعضهم : أصل هذين الأسمين من الصبر ، يقال : رجل عارف إذا كان صابرا خاضعا خاشعا ويقال في المثل : النفس عروف وما حمّلتها تتحمل (١).

قال الشاعر :

فصبرت عارفة لذلك حرّة

ترسوا إذا نفس الجنان تطلع

أي نفسا صابرة.

وقال ذو الرمّة :

عروف لما خطت عليه المقادر

أي صبور على قضاء الله ، فسميا بهذا الاسم لخضوع الحاج وتذللهم وصرفهم على الدعاء وأنواع البلاء واحتمالهم الشدائد والميقات لإقامة هذه العبادة.

(فَاذْكُرُوا اللهَ) بالتلبية والدعاء (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) وهو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى محسّر ، وليس مأزما عرفة من المشعر ، وإنّما سمي مشعرا من الشعار وهو العلامة ، لأنه معلم للحج ، والصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده من [معالم] الحج ، والمبيت بالمشعر الحرام فرض واجب ومن تركه كان عليه شاة ، والدليل عليه أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بات بها وقال [انحروا] عنى بمناسككم.

وقال المفضل : سمي مشعرا لأنها شعر المؤمنون أنه حرم كالبيت ومكّة ، أيّ اعلموا ذلك ، وأصل الحرام المنع ، قال الله تعالى [...] (٢) أي الممنوع من المكاسب والشيء المنهي عنه حرام لأنه منع من إتيانه.

وقال زهير :

وإن أتاه [خليل] يوم مسألة يقول

لا غائب مالي ولا حرام

أي ولا ممنوع ، والمشعر الحرام من أن يفعل فيه ما حرم ولم يرض في إتيانه ، ويقال له المشعر الحرام والمزدلفة وقدم [...] بغيرهما (٣) والجميع ، سمي بذلك لأنه يجمع فيها بين صلاتي العشاء ، والافاضة من عرفات بعد غروب الشمس وكان أهل الجاهليّة

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢ / ٤١٥.

(٢) كلام غير مقروء.

(٣) كلام غير مقروء.

١١١

يفيضون منهما قبل غروب الشمس ومن جمع بعد طلوعها ، وكانوا يقولون : أشرق ثبير كيما نغير فأمر الله مخالفتهم في الدفعتين جميعا.

وروى أبو صالح عن ابن عبّاس أنه نظر إلى الناس ليلا جمع فقال : لقد أدركت الناس هذه الليلة ما ينامون تأولون قول الله تعالى (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ).

(وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) لدينه ومناسك حجّه (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) يعني وما كنتم من قبله إلّا من الضالين كقوله (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) يعني وان نظنك إلّا من الكاذبين.

قال الشاعر :

ثكلتك أمّك إن قتلت لمسلما

حلت عليك عقوبة الرحمن

أي ما قتلت إلّا مسلما.

والهاء في قوله (من قبله) عائدة إلى الهدي (١) ، وإن شئت على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كناية عن غير مذكور.

(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) الآية.

قال عامّة المفسّرين : كانت قريش وحلفاؤها ومن دان [بدينها] وهم الحمس لا يخرجون من الحرم إلى عرفات وكانوا يقفون بالمزدلفة ويقولون نحن أهل الله وقطان حرمه فلا يخلو الحرم ولا نخرج منها ، فلسنا كسائر الناس وكانوا يتعاظمون ان يقفوا مع سائر العرب بعرفات ، ويقول بعضهم لبعض ألا تعظموا إلّا الحرم فإنكم إن عظمتم غير الحرم تهاون الناس بحرمتكم فوقفوا الجميع فإذا أفاض الناس من عرفات أفاضوا من المشعر وهو المزدلفة وأمرهم الله أن يقفوا بعرفات ويفيضوا منها إلى جمع مع سائر الناس وأخبرهم أنها سنّة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليه‌السلام.

وقال بعضهم : المخاطبون بهذه الآية المسلمون كلهم والمعنى بقوله (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) جمع أي أفيضوا من جمع إلى منى ، وهذا القول أشبه بظاهر القرآن ، لأن الافاضة من عرفات قبل الافاضة من جمع بلا شك فكيف يسوغ أن يقول : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) وأما الناس في هذه الآية فهم العرب كلهم غير الحمس.

الكلبي بإسناده : هم أهل اليمن [وربيعة].

الضحاك : الناس هاهنا إبراهيم وحده ، يدلّ عليه قوله (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) (٢) يعني

__________________

(١) وقيل إلى القرآن ، راجع تفسير القرطبي : ٢ / ٤٢٧.

(٢) سورة النساء : ٥٤.

١١٢

محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده وقوله (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) يعني نعيم بن مسعود الأشجعي (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) يعني أبا سفيان وإنّما يقال هذا للذي يقتدي به ويكون لسان قومه وإمامهم كقوله (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) (١) فذكر الواحد بلفظ الجمع ومثله كثير [وقيل :] الناس هاهنا آدم عليه‌السلام ، دليله قول سعيد بن جبير : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) ، وقيل : هو آدم نسي ما عهد إليه والله أعلم.

الحكم بن عيينة عن مقسم عن ابن عبّاس قال : أفاض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عرفه وعليه السكينة والوقار رديفه أمامة وقال : «أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل ، قال : فما رأيتها رافعة يديها عادية ـ الخيل فالإبل ـ حتّى أتى جمعا» [٩٤] (٢).

وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر الصديق رضي‌الله‌عنه على الحجّ وأمره أن يخرج بالناس جميعا إلى عرفات فيقف بها فإذا غربت الشمس أفاض بالناس منها حتّى يأتي بهم جمعا فيبيت بها حتّى إذا أصبح بها وصلّى الفجر ووقف الناس بالمشعر الحرام ثمّ يفيض منها إلى منى قال : فتوجه أبو بكر نحو عرفات فمرّ بالحمس وهم وقوف بجمع فلمّا ذهب يتجاوزهم قالت له الحمس : يا أبا بكر أين تجاوزنا إلى غيرنا هذا مفيض آبائك فلا تذهب حتّى تفيض أهل اليمن وربيعة من عرفات فمضى أبو بكر لأمر الله وأمر رسوله حتّى أتى عرفات وبها أهل اليمن وربيعة وهم الناس في هذه الآية فوقف بها حتّى غربت الشمس ، ثمّ أفاض بالناس إلى المشعر الحرام حتّى وقف بها حتّى إذا كان عند طلوع الشمس أفاض منها.

(وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

أبي رباح عن أبي طالح السمان عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الحجاج والعمار وفد الله عزوجل إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم» [٩٥] (٣).

عن مجاهد أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اللهمّ اغفر للحاجّ ولمن استغفر له الحاجّ» [٩٦] (٤).

وعن علي بن عبد العزيز يقول : كنت عديلا لأبي عبيد بن سلام لسنة من السنين فلما صرت إلى الموقف تصدق إلى [نفسي] حب النخل فتطهرت ونسيت نفقتي عنده ، فلما صرت إلى [المارقين] (٥) قال لي أبو عبيدة : لو اشتريت لنا زبدا وتمرا ، فخرجت لأبتاعه فذكرت النفقة

__________________

(١) سورة النحل : ١٢٠.

(٢) سنن ابن داود : ١ / ٤٣١ ، والسنن الكبرى : ٥ / ١١٩.

(٣) سنن ابن ماجة : ٢ / ٩٦٦ ح ٢٨٩٢ ، ومجمع الزوائد : ٣ / ٢١١.

(٤) المستدرك على الصحيحين : ١ / ٤٤١ ، والسنن الكبرى : ٥ / ٢٦١.

(٥) هكذا في الأصل.

١١٣

فرجعت عودي على بدئي إلى أن وافيت الموضع فإذا [نفقتي] بحالها فأخذتها ورجعت وكنت قد صادفت الوادي مملوءة قردة وخنازير وغير ذلك فجزعت عنه ، ثمّ إنّي رجعت فإذا هم على حالهم حتّى دخلت على أبي عبيدة قبيل الصبح فسألني عن أمري فخبرته وذكرت القردة ، قال :

تلك ذنوب بني آدم تركوها وانصرفوا.

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) [فرغتم] من حجكم وذبحتم مناسككم يقال منه نسك الرجل ينسك نسكا ونسكا ونسيكة ومنسكا إذا ذبح نسكه ، والمنسك المذبح مثل المشرق والمغرب ، ويقال من [العهد] (١) نسك ومنسك ومونسكا ونسكا ونساكه إذا ... نظر (٢) ، وأبو عمرو يدغم الكاف في الكاف فيه وفي أخواته في كل القرآن مثل قوله (ما سَلَكَكُمْ) لأنهما مثلان (٣).

قال الشاعر :

ولا [نشار] (٤) لك عندي بعد واحدة

لا والذي أصبحت عندي له نعم

(فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ).

قال أكثر المفسرين في هذه الآية : كانت العرب إذا فرغوا من حجهم وقفوا عند البيت وذكروا مآثر آبائهم ومفاخرهم فكان الرجل يقول إن أبي كان يقرى الضيف ويضرب بالسيف ويطعم الطعام وينحر الجزور ويفك العاني ويجز النواصي ويفعل كذا وكذا فيتفاخرون بذلك فأمرهم الله بذكره فقال : فاذكروني فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم وأحسنت إليكم وإليهم.

قال السّدي : كانت العرب إذا قضيت مناسكها وأقاموا بمنى يقوم الرجل فيسأل الله ويقول اللهمّ إن أبي كان عظيم [الحجة] عظيم القبة كثير المال فأعطني كلّ ما أعطيت أبي ليس يذكر الله إنّما يذكر ويسأل أن يعطى في دنياه فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال ابن عبّاس وعطاء والربيع والضحاك : معناه فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الآباء وهو قول الصبي أول ما يفصح ويفقه الكلام (أبه أمه) ثمّ يلهج بأبيه وأمه.

عن أبي الجوزاء قال : قلت لابن عبّاس أخبرنا عن قوله (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) وقد يأتي على الرجل اليوم لا يذكر أباه فيه. فقال ابن عبّاس : ليس كذلك ولكن من يغضب الله إذا عصى بأشد من غضبك لوالديك إذا أهنتهما.

القرظي : في قوله (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) قال كذكركم آباءكم إياكم.

__________________

(١) هكذا في الأصل.

(٢) كلمة غير مقروءة.

(٣) راجع تفسير القرطبي : ٢ / ٤٣١.

(٤) هكذا في الأصل.

١١٤

(أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) يعني أشد وبل أشد كقوله (أَوْ يَزِيدُونَ) (١) مقاتل : (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) أي أكثر ذكرا كقوله (أَشَدُّ قَسْوَةً) (٢) (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) (٣) وأما وجه انتصاب (أَشَدَّ) ، فقال الأخفش :

اذكروه أشد.

وقال الزجاج : في محل الخفض لكنه لا ينصرف لأنه صفة على مفعال أفعل وصفته ذكرا على التمييز.

(فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) أي أعطنا إبلا وغنما وبقرا وعبيدا وإماء فحذف المفعول.

قال أنس : كانوا يطوفون بالبيت عراة فيدعون ويقولون اللهمّ اسقنا المطر وأعطنا على عدونا الظفر وردّنا صالحين إلى صالحين.

قتادة : هذا عبد نوى الدنيا لها أنفق ولها عمل ولها [قضت] (٤) فهي همه وأمنيته وطلبته.

(وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) حظ ونصيب (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) وهم النبيّ والمؤمنون.

واختلفوا في معنى الحسنتين.

فقال علي رضي‌الله‌عنه : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) امرأة صالحة (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) الحور العين.

(وَقِنا عَذابَ النَّارِ) المرأة السوء.

قال الحسن : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) : العلم والعبادة (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) : الجنّة والرضوان.

السّدي و [ابن حيان] (٥) : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) رزقا حلالا واسعا وعملا صالحا (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) الثواب والمغفرة.

عطية : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) العلم والعمل (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) تيسير الحساب ودخول الجنّة.

وقيل : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) التوفيق والعصمة (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) النجاة والرحمة. وقيل : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أولادا أبرارا (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) موافقة الأنبياء.

وقيل : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) المال والنعمة (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) تمام النعمة وهو الفوز والخلاص من النّار ودخول الجنّة.

وقيل : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) الدين واليقين (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) اللقاء والرضا.

__________________

(١) سورة الصافات : ١٤٧.

(٢) سورة البقرة : ٧٤.

(٣) سورة النساء : ٧٧.

(٤) هكذا في الأصل.

(٥) هكذا في الأصل.

١١٥

وقيل : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) الثبات على الإيمان (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) السلامة والرضوان.

وقيل : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) الإخلاص (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) الخلاص.

وقيل : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) حلاوة الطاعة (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) لذة الروية.

قتادة : (فِي الدُّنْيا) عافية (وَفِي الْآخِرَةِ) عافية.

دليل هذا التأويل ما روى حميد عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاد رجلا قد صار مثل الفرخ المنتوف فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل كنت تدعوا له بشيء أو تسأله شيئا؟ قال : كنت أقول اللهمّ [ما كنت معاتبي] به في الآخرة فعجّله لي في الدنيا. فقال : «سبحان الله إذا لا تستطيعه ولا تطيقه فهلّا قلت : اللهمّ (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ)» [٩٧] (١).

فدعا الله بها فشفاه الله.

سهل بن عبد الله : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) السنّة (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) الجنّة.

المسيب عن عوف في هذه الآية قال : من آتاه الله الإسلام والقرآن وأهلا ومالا وولدا فقد أولى (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً).

حماد عن ثابت إنّهم قالوا لأنس بن مالك : ادع الله لنا ، فقال : اللهمّ (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ).

قالوا : زدنا ، فأعادها ، قالوا : زدنا ، قال : ما تريدون قد سألت الله تعالى لكم خير الدنيا والآخرة.

قال أنس : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر أن يدعو بها اللهمّ (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ).

سفيان الثوري في هذه الآية : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) الرزق الطيب والعلم ، (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) الجنّة.

مجاهد عن ابن عبّاس قال : عند الركن اليماني ملك قائم منذ خلق الله السماوات والأرض يقول آمين ، فقولوا : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ).

وقال ابن جريح : بلغني إنه كان يؤمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الوقف : اللهمّ (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ).

(أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) يعني من حجّ عن ميت كان الأجر بينه وبين الميت.

__________________

(١) السنن الكبرى للنسائي : ٦ / ٢٦١ ح ١٠٨٩٢ ، وصحيح ابن حبان : ٣ / ٢٢١.

١١٦

عن الفضل بن عبّاس إنه كان ردف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه رجل فقال : إن أمي عجوز كبيرة لا تستمسك على الرحل وان ربطتها [خشيت] أن أقتلها.

فقال له : أرأيت لو كان على أمك دين كنت قاضيه؟ قال : نعم قال : «فحجّ عنها» (١) [٩٨] (٢).

أبو سلمة عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في رجل أوصى بحجّة : «كتب له أربع حجات : حجّة الذي كتبها ، وحجّة الذي نفدها (٣) ، وحجّة الذي أخذها ، وحجة الذي أمر بها» [٩٩] (٤).

وقال سعيد بن جبير : جاء رجل إلى ابن عبّاس فقال : إني آجرت نفسي واشترطت عليهم الحجّ [معهم] فهل يجزيني ذلك؟

قال : أنت من الذين قال الله (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) (٥).

(وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) يعني إذا حاسب فحسابه سريع لأنه لا يحتاج إلى تمديد ولا وعي منه ولا روية ولا فكرة.

وقال الحسن : أسرع من لمح البصر.

وفي الحديث ان الله تعالى يحسب في قدر حلب شاة وقيل هو إنه إذا حاسب ... واحدا واحدا (٦) حاسب جميع الخلق فمعنى الحساب تعريف الله عباده مقادير الجزاء على أعمالهم وتذكيره إياهم ما نسوه من ذلك ، يدلّ عليه قوله (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٧).

(وَاذْكُرُوا اللهَ) يعني التكبير في الصلوات وعند الجمرات يكبّر مع كلّ حصاة وغيرها من الأوقات.

(فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) وهي أيام التشريق وأيام منى ورمي الجمار والأيام المعلومات عشر ذي الحجّة ، نافع ابن عمر : الأيام المعدودات ثلاثة أيام يوم النحر ويومان بعده.

أبو حنيفة عن حماد بن إبراهيم في قوله (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) قال : المعدودات أيام العشر والمعلومات أيام النحر ، والصحيح أن المعدودات أيام التشريق ، وعليه أكثر العلماء يدلّ عليه قوله (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) أي منها وإنّما يكون الصدر في أيّام التشريق.

__________________

(١) في المصدر : فدين الله أحق.

(٢) في المصدر : أنفقها.

(٣) مسند أحمد : ١ / ٢٢٤ ، وسنن أبي داود : ٢ / ١٠٣.

(٤) كنز العمال : ٥ / ١٢٦ ح ١٢٣٤٤ ، ذكر أخبار أصفهان : ٢ / ٣٥٤.

(٥) المستدرك : ٢ / ٢٧٨.

(٦) كلمة غير مقروءة.

(٧) سورة المجادلة : ٦.

١١٧

قال الزجاج : ويستعمل المعدودات في اللغة الشيء القليل فسميت بذلك لأنها ثلاثة أيام والأيام المعدودات : أيام التشريق والذكر المأمور فيها التكبير.

قال نافع : كان عمرو وابنه عبد الله يكبران بمنى تلك الأيام جميعا وخلف الصلوات وفي المجلس وعلى الفراش والقسطاط وفي الطريق ويكبر النّاس [بتكبيرهم] ويناولان هذه الآية قلت : واجمعوا على أن التكبير في هذه الأيام سنّة إلّا إنّهم اختلفوا في قدرها ووقتها ... فكان عبد الله بن مسعود يكبّر من صلاة الغداة من يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق وإليه ذهب أبو يوسف ومحمّد بن الحسن وهو أجمع الأقاويل.

كان ابن عبّاس وزيد بن ثابت يكبران من صلاة الظهر من يوم النحر إلى [مدة] العصر من آخر أيام التشريق وهو قول عطاء وهو الأظهر والأشهر من مذهب الشافعي إنه يبتدأ التكبير من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق هذا بالحاج آخر صلاة يصليها الحاج بمنى والناس لهم تبع.

وأما لفظ التكبير فكان سعيد بن جبير يقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر نسقا وهو مذهب الشافعي وأهل المدينة وكان ابن مسعود يكبر [إثنتين] وهو مذهب أبي حنيفة وأهل العراق.

وروى عن مالك إنه كان يقول الله أكبر الله أكبر ثمّ يقطع فيقول الله أكبر لا إله الّا الله.

وروى عن قتادة إنّه كان يقول الله أكبر كبيرا الله أكبر على ما هدانا الله أكبر ولله الحمد.

وروى عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أيام منى أيام أكل وشرب وذكر الله» [١٠٠] (١).

عن جعفر بن محمّد : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث مناديا فنادى في أيام التشريق : إنّها أيام أكل وشرب ، قال الله تعالى (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) يعني من أيام التشريق فنفر في اليوم الثاني من أيام التشريق.

(فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) في تعجله (وَمَنْ تَأَخَّرَ) عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث حتّى ينفر في اليوم الثالث (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) في تأخره فإن لم ينفر في اليوم الثاني وأقام حتّى تغرب الشمس فليقم إلى الغد من اليوم الثالث فيرمي الجمار ثمّ ينفر مع الناس ، هذا قول ابن عمر وابن عبّاس والحسن وعطاء وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك والنخعي والسّدي قال بعضهم : معناه (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) فهو [مغفور له] لا إثم ولا ذنب عليه (وَمَنْ تَأَخَّرَ) فكذلك ، وهكذا قول علي وأبي ذر وابن مسعود والشعبي ومطرف بن الشخير.

__________________

(١) المصنف لابن أبي شيبة : ٤ / ٤٨٧.

١١٨

قال معاوية بن [مرة] : خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.

قال إسحاق بن يحيى بن طلحة : سألت مجاهد عن ذلك قال : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) إلى قابل (وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أيضا إلى قابل.

وقال سعيد بن المسيب : توفي رجل بمنى في آخر أيام التشريق فقيل لعمر : توفي ابن الخنساء أفلا نشهر دفنه ، فقال عمر : وما يمنعني أن أدفن رجلا لم يذنب منذ غفر له.

(لِمَنِ اتَّقى) اختلفوا في معناه.

فقال ابن عبّاس في رواية العوفي والكلبي : (لِمَنِ اتَّقى) قتل الصيد لا يحل له أن يقتل صيدا حتّى ينقضي أيام التشريق.

قتادة : (لِمَنِ اتَّقى) أن يصيب في حجر شيئا نهاه الله عزوجل عنه فيه.

أبو العالية : ذهب إثمه كلّه إن اتقى فيما بقي من عمره ، وكان ابن مسعود يقول إنّما حطت مغفرة الذنوب (لِمَنِ اتَّقى) الله في حجّة.

ابن جريح : وهو في مصحف عبد الله لمن اتقى الله ، جويبر عن الضحاك عن ابن عبّاس (لِمَنِ اتَّقى) عبادة الأوثان.

وروى عن ابن عبّاس أيضا : (لِمَنِ اتَّقى) معاصي الله قال : ووددت أني من هؤلاء الذين يصيبهم اسم التقوى.

(وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) يجمعون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨)) (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠))

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية.

الكلبي والسّدي ومقاتل وعطاء : قالوا نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق (١) الثقفي

__________________

(١) راجع تفسير الطبري : ٢ / ٤٢٥.

١١٩

حليف بني أبي زهرة واسمه أبي ، وسمي بالأخنس لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد تولوا [الجحفة] وقال لهم : يا بني زهرة إن محمّدا ابن أخيكم ، فإن يكن صادقا فلن تغلبوه وكنتم أسعد الناس بصدقه ، وإن يك كاذبا فإنكم أحق من كف عنه لقرابتكم وكفتكم إياه أوباش العرب.

قالوا : نعم الرأي رأيت فسر لما شئت فنتبعك. فقال : إذا نودي الناس [في الرحيل فإني] أخنس بكم فاتبعوني ، ففعل وفعلوا وسمي لذلك الأخنس ، وكان رجلا حلو الكلام حلو المنظر وكان يأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [يواله ويظهر] الإسلام ويخبره بأنه يحبّه ويحلف بالله عزوجل على ذلك ، وكان منافقا فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدني مجلسه ويقبل عليه ولا يعلم إنه يضمر خلاف ما يظهر ثمّ إنه كان بينه وبين ثقيف خصومة فبيّتهم ليلا وأهلك مواشيهم واحرق زرعهم وكان حسن العلانية سيء السريرة.

قال السّدي : مرّ بزرع للمسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر.

مقاتل : خرج إلى [الطائف] مقتضيا حلاله على غريم فأحرق له ... أرضا (١) وعقر له ...

أتانا (٢) فأنزل الله فيه هذه الآيات.

ابن عبّاس والضحاك : نزلت هذه الآيات إلى قوله (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) في سرية [الرجيع] وذلك أن كفّار قريش بعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بالمدينة ، إنّا أسلمنا فابعث إلينا نفرا من علماء أصحابك يعلموننا دينك ، وكان ذلك مكرا منهم فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حبيب بن عدي الأنصاري ومرثد بن أبي مرثد الغنوي وخالد بن بكير وعبد الله بن طارق ابن شهاب البادي وزيد ابن الدثنة وأمّر عليهم عاصم بن ثابت بن الاقلح الأنصاري فساروا يريدون مكّة فنزلوا [بطن الرجيع] بين مكّة والمدينة ومعهم تمر عجرة فأكلوا فمرت عجوزة وأبصرت النوى فرجعت إلى قومها بمكّة وقالت : قد سلك الطريق أهل يثرب من أصحاب محمّد ، فركب سبعون رجلا ومعهم الرماح حتّى أحاطوا بهم فحاربوهم فقتلوا مرثدا وخالدا وعبد الله بن طارق ونثر عاصم بن ثابت كتابته وفيها سبعة أسهم فقتل منهم رجلا من عظماء المشركين ثمّ قال اللهمّ إني حميت دينك صدر النهار فاحم لحمي آخر اللّيل ، ثمّ أحاط به المشركون فقتلوه ، فلمّا قتلوه أرادوا جزّ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن عهيد وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن فيه قحفه الخمر ، فأرسل الله رجلا من الدّبر وهي الزنابير فحمت عاصما ولم يقدروا عليه فسمي حمي الدبر فلما حالت بينهم وبينه قال : دعوه حتّى يمسي تذهب عنه فنأخذه فجاءت سحابة سوداء ومطرت مطرا [كالعزالي] فبعث الله الوادي فاحتمل عاصما

__________________

(١) كلمة غير مقروءة.

(٢) كلمة غير مقروءة.

١٢٠