كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

الولاة الاصطبلخاناه ، كلّ منهم خمسة عشر ألف دينار ، كلّ دينار ثمانية دراهم ، الارتفاع مائة وعشرون ألف درهم بما فيه من ثمن الغلال على ما شرح ، من ذلك الكلف عشرة آلاف درهم ، والخالص لكلّ منهم مائة ألف وعشرة آلاف درهم.

الولاة العشراوات ، لكلّ منهم خمسة آلاف دينار ، كلّ دينار سبعة دراهم ، الارتفاع خمسة وثلاثون ألف درهم ، بما فيه من ثمن المغل على ما شرح ، من ذلك الكلف ثلاثة آلاف درهم ، والخالص لكلّ منهم اثنان وثلاثون ألف درهم.

مقدّمو مماليك السلطان ، كلّ منهم ألف ومائتا دينار ، كلّ دينار عشرة دراهم ، الارتفاع اثنا عشر ألف درهم بما فيه من ثمن الغلال على ما شرح ، من ذلك الكلف ألف درهم ، والخالص لكلّ منهم أحد عشر ألف درهم.

مقدّموا الحلقة ، كلّ منهم ألف دينار ، كلّ دينار تسعة دراهم ، الارتفاع تسعة آلاف درهم بما فيه من ثمن الغلال ، من ذلك الكلف تسعمائة درهم ، والخالص لكلّ منهم ثمانية آلاف درهم ومائة درهم.

نقباء الألوف لكل منهم أربعمائة دينار ، كلّ دينار تسعة دراهم ، الارتفاع ثلاثة آلاف وستمائة درهم ، بما فيه من ثمن الغلال ، من ذلك الكلف أربعمائة درهم ، والخالص لكلّ منهم ثلاثة آلاف ومائتا درهم.

مماليك السلطان ألفان ، بابة أربعمائة مملوك ، لكلّ منهم ألف وخمسمائة دينار ، كلّ دينار عشرة دراهم ، عنها لأخمسة عشر ألف درهم ، بابة خمسمائة مملوك ، كل واحد ألف وثلثمائة دينار ، سعره عشرة دراهم ، عنها ثلاثة عشر ألف درهم ، بابة خمسمائة مملوك ، لكل منهم ألف دينار ومائتا دينار ، عنها اثنا عشر ألف درهم. بابة ستمائة مملوك ، لكل واحد ألف دينار ، عنها عشرة آلاف درهم.

اجناد الحلقة ثمانئة آلاف وتسعمائة واثنان وثلاثون فارسا ، بابه ألف وخمسمائة فارس لكلّ منهم تسعمائة دينة بتسعة آلاف درهم ، بابة ألف وثلاثمائة وخمسين جنديا لكلّ منهم ثمانمائة دينار بثمانية آلاف درهم ، بابة ألف وثلاثمائة وخمسين جنديا كل منهم سبعمائة دينار عنها سبعة آلاف درهم. بابة ألف وثلاثمائة جنديّ لكلّ منهم ستمائة دينار بستة آلاف درهم ، بابة ألف وثلاثمائة كلّ منهم بخمسمائة دينار بخمسة آلاف درهم. بابة ألف ومائة جنديّ لكلّ منهم أربعمائة دينار بأربعة آلاف درهم ، بابة ألف واثنين وثلاثين جنديا لكل منهم ثلاثمائة دينار سعر عشرة دراهم عنها ثلاثة آلاف درهم.

وأرباب الوظائف من الأمراء بعد النيابة والوزارة ، أمير سلاح والدوادار ، والحجبة ، وأمير جاندار ، والاستادار ، والمهندار ، ونقيب الجيوش ، والولاة.

٣٨١

فلما مات الملك الناصر محمد بن قلاون ، حدث بين أجناد الحلقة نزول الواحد منهم عن إقطاعه لآخر بمال ، أو مقايضة الإقطاعات بغيرها فكثر الدخيل في الأجناد بذلك ، واشترت السوقة والأراذل الإقطاعات ، حتى صار في زمننا أجناد الحلقة أكثرهم أصحاب حرف وصناعات ، وخربت منهم أراضي إقطاعاتهم. وأوّل ما حدث ذلك أن السلطان الملك الكامل شعبان بن محمد بن قلاون ، لما تسلطن في شهر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبعمائة ، تمكن منه الأمير شجاع الدين أغرلوشادّ الدواوين ، واستجدّ أشياء منها المقايضة بالإقطاعات في الحلقة ، والنزول عنها. فكان من أراد مقايضة أحد بإقطاعه ، حمل كلّ منهما مالا لبيت المال يقرّر عليهما ، ومن اختار حيزا بالحلقة ، يزن على قدر عبرته في عبرته في السنة دنانير يحملها لبيت المال ، فإن كانت عبرة الحيز الذي يريده خمسمائة دينار في السنة ، حمل خمسمائة دينار ، ومن أراد النزول عن إقطاعه حمل مالا لبيت المال بحسب ما يقرّر عليه اغرلو ، وأفرد لذلك ولما يؤخذ من طالبي الوظائف والولايات ديوانا سمّاه ديوان البدل ، وكان يعين في المنشور الذي يخرج بالمقايضة ، المبلغ الذي يقوم به كلّ من الجنديين ، وكان ابتداء هذا في جمادى الأولى من السنة المذكورة ، فقام الأمراء في ذلك مع السلطان حتى رسم بإبطاله ، فلما ولي الأمير منجك اليوسفيّ الوزارة وسيره في المال ، فتح في سنة تسع وأربعين باب النزول والمقايضات ، فكان الجنديّ يبيع إقطاعه لكلّ من بذل له فيه مالا ، فأخذ كثير من العامّة الإقطاعات ، فكان يبذل في الإقطاع مبلغ عشرين ألف درهم ، وأقل منه على قدر متحصله ، وللوزير رسم معلوم ، ثم منع من ذلك ، فلما كانت نيابة الأمير سيف الدين قيلاي في سنة ثلاث وخمسين ، مشى أحوال الأجناد في المقايضات والنزولات ، فاشترى الإقطاعات الباعة وأصحاب الصنائع ، وبيعت تقادم الحلقة ، وانتدب لذلك جماعة عرفت بالمهيسين بلغت عدّتهم نحو الثلاثمائة مهيس ، وصاروا يطوفون على الأجناد ويرغبونهم في النزول عن إقطاعاتهم أو المقايضة بها ، وجعلوا لهم على كلّ ألف درهم مائة درهم ، فلما فحش الأمر أبطل الأمير شيخون العمري النزولات والمقايضات عندما استقرّ رأس نوبة ، واستقل بتدبير أمور الدولة ، وتقدّم لمباشري ديوان الجيش أن لا يأخذوا رسم المنشور والمحاسبة سوى ثلاثة دراهم ، بعد ما كانوا يأخذون عشرين درهما.

ذكر الحجبة

وكانت رتبة الحجبة في الدولة التركية جليلة ، وكانت تلي رتبة نيابة السلطنة ، ويقال لأكبر الحجبة حاجب الحجاب. وموضوع الحجبة أن متوليها بنصف من الأمراء والجند ، تارة بنفسه وتارة بمشاورة السلطان وتارة بمشاورة النائب ، وكان إليه تقديم من يعرض ومن يردّ ، وعرض الجند ، فإن لم يكن نائب السلطنة فإنه هو المشار إليه في الباب ، والقائم مقام النوّاب في كثير من الأمور ، وكان حكم الحاجب لا يتعدّى النظر في مخاصمات الأجناد

٣٨٢

واختلافهم في أمور الإقطاعات ونحو ذلك ، ولم يكن أحد من الحجاب فيما سلف يتعرّض للحكم في شيء من الأمور الشرعية ، كتداعي الزوجين وأرباب الديون ، وإنما يرجع ذلك إلى قضاة الشرع ، ولقد عهدنا دائما أن الواحد من الكتاب أو الضمان ونحوهم ، يفرّ من باب الحاجب ويصير إلى باب أحد القضاة ويستجير بحكم الشرع فلا يطمع أحد بعد ذلك في أخذه من باب القاضي ، وكان فيهم من يقيم الأشهر والأعوام في ترسيم القاضي حماية له من أيدي الحجاب ، ثم تغير ما هنالك وصار الحاجب اليوم اسما لعدّة جماعة من الأمراء ، ينتصبون للحكم بين الناس لا لغرض إلّا لتضمين أبوابهم بمال مقرّر في كلّ يوم على رأس نوبة النقباء ، وفيهم غيروا حد ليس لهم على الأمرة إقطاع ، وإنما يرتزقون من مظالم العباد ، وصار الحاجب اليوم يحكم في كلّ جليل وحقير من الناس ، سواء كان الحكم شرعيا أو سياسيا بزعمهم ، وإن تعرّض قاض من قضاة الشرع لأخذ غريم من باب الحاجب ، لم يمكّن من ذلك ، ونقيب الحاجب اليوم مع رذالة الحاجب وسفالته ، وتظاهره من المنكر بما لم يكن يعهد مثله ، يتظاهر به أطراف السوقة ، فإنه يأخذ الغريم من باب القاضي ويتحكم فيه من الضرب وأخذ المال بما يختار ، فلا ينكر ذلك أحد البتة ، وكانت أحكام الحجاب أوّلا يقال لها حكم السياسة ، وهي لفظة شيطانية لا يعرف أكثر أهل زمننا اليوم أصلها ، ويتماهلون في التلفظ بها ويقولون : هذا الأمر مما لا يمشي في الأحكام الشرعية ، وإنما هو من حكم السياسة ، ويحسبونه هينا ، وهو عند الله عظيم ، وسأبين معنى ذلك ، وهو فصل عزيز.

ذكر أحكام السياسة

اعلم أن الناس في زمنا ، بل ومنذ عهد الدولة التركية بديار مصر والشام ، يرون أن الأحكام على قسمين : حكم الشرع ، وحكم السياسة. ولهذه الجملة شرح ، فالشريعة هي ما شرّع الله تعالى من الدين وأمر به ، كالصلاة والصيام والحج وسائر أعمال البرّ ، واشتقّ الشرع من شاطىء البحر ، وذلك أن الموضع الذي على شاطىء البحر تشرع فيه الدواب ، وتسميه العرب الشريعة ، فيقولون للإبل إذا وردت شريعة الماء وشربت : قد شرع فلان إبله ، وشرّعها ، بتشديد الراء إذا أوردها شريعة لماء ، والشريعة والشراع والشرعة ، المواضع التي ينحدر الماء فيها. ويقال : شرّع الدين يشرّعه شرعا بمعنى سنّه. قال الله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى / ١٣] ويقال : ساس الأمر سياسة ، بمعنى قام به. وهو سائس من قوم ساسة وسوس ، وسوّسه القوم. جعلوه يسوسهم ، والسوس الطبع والخلق ، فيقال : الفصاحة من سوسه والكرم من سوسه ، أي من طبعه. فهذا أصل وضع السياسة في اللغة. ثم رسمت بأنها القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال.

٣٨٣

والسياسة نوعان : سياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر ، فهي من الأحكام الشرعية ، علمها من علمها ، وجهلها من جهلها. وقد صنف الناس في السياسة الشرعية كتبا متعدّدة. والنوع الآخر سياسة ظالمة ، فالشريعة تحرّمها وليس ما يقوله أهل زماننا في شيء من هذا ، وإنما هي كلمة مغليّة ، أصلها ياسه ، فحرّفها أهل مصر وزادوا بأوّلها سينا فقالوا سياسة ، وأدخلوا عليها الألف واللام فظنّ من لا علم عنده أنها كلمة عربية ، وما الأمر فيها إلّا ما قلت لك.

واسمع الآن كيف نشأت هذه الكلمة حتى انتشرت بمصر والشام. وذلك أن جنكز خان القائم بدولة التتر في بلاد الشرق ، لما غلب الملك أونك خان وصارت له دولة ، قرّر قواعد وعقوبات أثبتها في كاتب ، سمّاه ياسه ، ومن الناس من يسميه يسق ، والأصل في اسمه ياسه ، ولما تمم وضعه كتب ذلك نقشا في صفائح الفولاذ ، وجعله شريعة لقومه فالتموه بعده حتى قطع الله دابرهم. وكان جنكز خان لا يتدين بشيء من أديان أهل الأرض ، كما تعرف هذا إن كنت أشرفت على أخباره ، فصار الياسه حكما بتّا بقي في أعقابه لا يخرجون عن شيء من حكمه.

وأخبرني العبد الصالح الداعي إلى الله تعالى ، أبو هاشم أحمد بن البرهان ، رحمه‌الله : أنه رأى نسخة من الياسة بخزانة المدرسة المستنصرية ببغداد ، ومن جملة ما شرعه جنكزخان في الياسه أن : من زنى قتل ، ولم يفرق بين المحصن وغير المحصن. ومن لاط قتل ، ومن تعمّد الكذب أو سحر أو تجسس على أحد ، أو دخل بين اثنين وهما يتخاصمان وأعان أحد هما على الآخر قتل. ومن بال في الماء أو على الرماد قتل. ومن أعطي بضاعة فخسر فيها فإنه يقتل بعد الثالثة. ومن أطعم أسير قوم أو كساه بغير إذنهم قتل ومن وجد عبدا هاربا أو أسيرا قد هرب ولم يردّه على من كان في يده قتل. وأنّ الحيوان تكتّف قوائمه ويشقّ بطنه ويمرس قلبه إلى أن يموت ثم يؤكل لحمه. وأنّ من ذبح حيوانا كذبيحة المسلمين ذبح. ومن وقع حمله أو قوسه أو شيء من متا عه وهو يكرّ أو يفرّ في حالة القتال وكان وراءه أحد ، فإنه ينزل ويناول صاحبه ما سقط منه ، فإن لم ينزل ولم يناوله قتل. وشرط أن لا يكون على أحد من ولد عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه مؤنة ولا كلفة ، وأن لا يكون على أحد من الفقراء ولا القرّاء ولا الفقهاء ولا الأطباء ولا من عداهم من أرباب العلوم وأصحاب العبادة والزهد والمؤذنين ومغسلي الأموات كلفة ولا مؤنة ، وشرط تعظيم جميع الملل من غير تعصب لملة على أخرى ، وجعل ذلك كله قربة إلى الله تعالى ، وألزم قومه أن لا يأكل أحد من يد أحد حتى يأكل المناول منه أوّلا ، ولو أنه أمير ، ومن يناوله أسير. وألزمهم أن لا يتخصص أحد بأكل شيء وغيره يراه ، بل يشركه معه في أكله. وألزمهم أن لا يتميز أحد منهم بالشبع على أصحابه ، ولا يتخطى أحد نارا ولا مائدة ولا الطبق الذي يؤكل عليه ، وأنّ

٣٨٤

من مرّ بقوم وهم يأكلون فله أن ينزل ويأكل معهم من غير إذنهم ، وليس لأحد منعه. وألزمهم أن لا يدخل أحد منهم يده في الماء ، ولكنه يتناول الماء بشيء يغترفه به ، ومنعهم من غسل ثيابهم بل يلبسونها حتى تبلى ، ومنه أن يقال لشيء أنه نجس ، وقال : جميع الأشياء طاهرة ، ولم يفرق بين طاهر ونجس. وألزمهم أن لا يتعصبوا لشيء من المذاهب ، ومنعهم من تفخيم الألفاظ ووضع الألقاب ، وإنما يخاطب السلطان ومن دونه ويدعى باسمه فقط ، وألزم القائم بعده بعرض العساكر وأسلحتها إذا أرادوا الخروج إلى القتال. وأنّه يعرض كلّ ما سافر به عسكره ، وينظر حتى الإبرة والخيط ، فمن وجده قد قصر في شيء مما يحتاج إليه عند عرضه أياه عاقبه. وألزم نساء العساكر بالقيام بما على الرجال من السخر والكلف في مدّة غيبتهم في القتال ، وجعل على العساكر إذا قدمت من القتال كلفة يقومون بها للسلطان ويؤدّونها إليه. وألزمهم عند رأس كلّ سنة بعرض سائر بناتهم الأبكار على السلطان ليختار منهنّ لنفسه وأولاده.

ورتب لعساكره أمراء وجعلهم أمراء ألوف وأمراء مئين وأمراء عشراوات ، وشرّع أن أكبر الأمراء إذا أذنب وبعث إليه الملك أخس من عنده حتى يعاقبه فإنه يلقي نفسه إلى الأرض بين يدي الرسول وهو ذليل خاضع ، حتى يمضي فيه ما أمر به الملك من العقوبة ، ولو كانت بذهاب نفسه. وألزمهم أن لا يتردّد الأمراء لغير الملك ، فمن تردّد منهم لغير الملك قتل ، ومن تغير عن موضعه الذي يرسم له بغير إذن قتل. وألزم السلطان بإقامة البريد حتى يعرف أخبار مملكته بسرعة ، وجعل حكم الياسه لولده جقتاي بن جنكز خان ، فلما مات التزم من بعده من أولاده وأتباعهم حكم الياسه ، كالتزام أوّل المسلمين حكم القرآن ، وجعلوا ذلك دينا لم يعرف عن أحد منهم خالفته بوجه.

فلما كثرت وقائع التتر في بلاد المشرق والشمال وبلاد القبجاق ، وأسروا كثيرا منهم وباعوهم ، تنقلوا في الأقطار ، واشترى الملك الصالح نجم الدين أيوب جماعة منهم سماهم البحرية ، ومنهم من ملك ديار مصر ، وأوّلهم المعز أيبك. ثم كانت لقطز معهم الواقعة المشهورة على عين جالوت ، وهزم التتار وأسر منهم خلقا كثيرا صاروا بمصر والشام ، ثم كثرت الوافدية في أيام الملك الظاهر بيبرس وملؤوا مصر والشام ، وخطب للملك بركة بن يوشي بن جنكز خان على منابر مصر والشام والحرمين ، فغصت أرض مصر والشام بطوائف المغل ، وانتشرت عاداتهم بها وطرائقهم ، هذا وملوك مصر وأمراؤها وعساكرها قد ملئت قلوبهم رعبا من جنكز خان وبنيه ، وامتزج بلحمهم ودمهم مهابتهم وتعظيمهم ، وكانوا إنما ربّوا بدار الإسلام ولقّنوا القرآن وعرفوا أحكام الملة المحمدية ، فجمعوا بين الحق والباطل ، وضموا الجيد إلى الرديء ، وفوّضوا القاضي القضاة كل ما يتعلق بالأمور الدينية من الصلاة والصوم والزكاة والحج ، وناطوبه أمر الأوقاف والأيتام ، وجعلوا إليه النظر في الأقضية الشرعية ، كتداعي الزوجين وأرباب الديون ونحو ذلك ، واحتاجوا في ذات أنفسهم إلى

٣٨٥

الرجوع لعادة جنكز خان والاقتداء بحكم الياسة ، فلذلك نصبوا الحاجب ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه من عوايدهم ، والأخذ على يد قويهم ، وانصاف الضعيف منه على مقتضى ما في الياسة ، وجعلوا إليه مع ذلك النظر في قضايا الدواوين السلطانية عند الاختلاف في أمور الإقطاعات ، لينفذ ما استقرّت عليه أوضاع الديوان وقواعد الحساب ، وكانت من أجلّ القواعد وأفضلها حتى تحكم القبط في الأموال وخراج الأراضي ، فشرّعوا في الديوان ما لم يأذن به الله تعالى ، ليصير لهم ذلك سبيلا إلى أكل مال الله تعالى بغير حقه ، وكان مع ذلك يحتاج الحاجب إلى مراجعة النائب أو السلطان في معظم الأمور.

هذا وستر الحياء يومئذ مسدول ، وظلّ العدل صاف ، وجناب الشريعة محترم ، وناموس الحشمة مهاب ، فلا يكاد أحد أن يزيغ عن الحق ، ولا يخرج عن قضية الحياء ، إن لم يكن له وازع من دين ، كان له ناه من عقل. ثم تقلص ظلّ العدل ، وسفرت أوجه الفجور ، وكشّر الجور أنيابه ، وقلت المبالاة ، وذهب الحياء والحشمة من الناس ، حتى فعل من شاء ما شاء ، وتعدّت منذ عهد المحن التي كانت في سنة ست وثمانمائة الحجاب ، وهتكوا الحرمة ، وتحكموا بالجور تحكما خفي معه نور الهدى ، وتسلطوا على الناس مقتا من الله لأهل مصر وعقوبة لهم بما كسبت أيديهم ، ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.

وكان أوّل ما حكم الحجاب في الدولة التركية بين الناس بمصر ، أن السلطان الملك الكامل شعبان بن الناصر محمد بن قلاون ، استدعى الأمير شمس الدين آق سنقر الناصريّ ، نائب طرابلس ، ليوليه نيابة السلطنة بديار مصر عوضا عن الأمير سيف الدين بيغوا ، أميرا حاجبا كبيرا ، يحكم بين الناس ، فخلع عليه في جمادى الأولى سنة ست وأربعين وسبعمائة ، فحكم بين الناس كما كان نائب السلطنة يحكم ، وجلس بين يديه موقعان من موقعي السلطان لمكاتبة الولاة بالأعمال ونحوهم ، فاستمرّ ذلك. ثم رسم في جمادى الآخرة منها أن يكون الأمير رسلان يصل حاجبا مع بيغوا يحكم بالقاهرة على عادة الحجاب ، فلما انقضت دولة الكامل بأخيه الملك المظفر حاجي بن محمد ، استقرّ الأمير سيف الدين أرقطاي نائب السلطنة ، فعاد أمر الحجاب إلى العادة القديمة ، إلى أن كانت ولاية الأمير سيف الدين جرجي الحجابة في أيام السلطان الملك الصالح صالح بن محمد بن قلاون ، فرسم له أن يتحدّث في أرباب الديون ويفصلهم من غرمائهم بأحكام السياسة ، ولم تكن عادة الحجاب فيما تقدّم أن يحكموا في الأمور الشرعية ، وكان سبب ذلك ووقوف تجار العجم للسلطان بدار العدل في أثناء سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة ، وذكروا أنهم ما خرجوا من بلادهم إلّا لكثرة ما ظلمهم التتار وجاروا عليهم ، وأن التجار بالقاهرة اشتروا منهم عدّة بضائع وأكلوا أثمانها ، ثم هم يثبتون على يد القاضي الحنفيّ أعسارهم ، وهم في سجنه ، وقد أفلس بعضهم فرسم للأمير جرجي بإخراج غرمائهم من السجن وخلاص ما في قبلهم للتجار ،

٣٨٦

وأنكر على قاضي القضاة جمال الدين عبد الله التركمانيّ الحنفيّ ما عمله ، ومنع من التحدث في أمر التجار والمدينين ، فأخرج جرجي غرماء التجار من السجن وعاقبهم ، حتى أخذ للتجار أموالهم منهم شيئا بعد شيء ، وتمكن الحجاب من حينئذ من التحكم على الناس بما شاؤوا.

أمير جاندار : موضوع أمير جاندار ، التسلم لباب السلطان ، ولرتبة البرد دارية ، وطوائف الركابية ، والحرامانية ، والجندارية. وهو الذي يقدم البريد إذا قدم مع الدوادار وكاتب السرّ ، وإذا أراد السلطان تقرير أحد من الأمراء على شيء أو قتله بذنب ، كان ذلك على يد أمير جاندار ، وهو أيضا المتسلم للزردخاناه ، وكانت أرفع السجون قدرا ، ومن اعتقل بها لا تطول مدّته بها ، بل يقتل أو يخلى سبيله ، وهو الذي يدور بالزفة حول السلطان في سفره مساء وصباحا.

الأستادار : إليه أمر البيوت السلطانية كلها من المطابخ والشراب خاناه والحاشية والغلمان ، وهو الذي كان يمشي بطلب السلطان في السرحات والأسفار ، وله الحكم في غلمان السلطان وباب داره ، وإليه أمور الجاشنكيرية. وإن كان كبيرهم نظيره في الأمرة من ذوي المئين ، وله أيضا الحديث المطلق والتصرّف التام في استدعاء ما يحتاجه كلّ من في بيت من بيوت السلطان من النفقات والكساوى ، وما يجري مجرى ذلك.

ولم تزل رتبة الأستادار على ذلك حتى كانت أيام الظاهر برقوق ، فأقام الأمير جمال الدين محمود بن عليّ بن اصفر عيّنه استادارا وناط به تدبير أموال المملكة ، فتصرّف في جميع ما يرجع إلى أمر الوزير وناظر الخاص ، وصارا يتردّدان إلى بابه ويمضيان الأمور برأيه ، فجلت من حينئذ رتبة الأستادار ، بحيث أنه صار في معنى ما كان فيه الوزير في أيام الخلفاء ، سيما إذا اعتبرت حال الأمير جمال الدين يوسف الاستادار في أيام الناصر فرج بن برقوق ، كما ذكرناه عند ذكر المدارس من هذا الكتاب ، فإنك تجده إنما كان كالوزير العظيم ، لعموم تصرّفه ونفوذ أمره في سائر أحوال المملكة ، واستقرّ ذلك لمن ولي الاستادارية من بعده ، والأمر على هذا إلى اليوم.

أمير سلاح : هذا الأمير هو مقدّم السلاحدارية ، والمتولي لحمل سلاح السلطان فى المجامع الجامعة ، وهو المتحدّث في السلاح خاناه وما يستعمل بها وما يقدم إليها ويطلق منها ، وهو أبدا من أمراء المئين.

الدوادار : ومن عادة الدولة أن يكون بها من أمرائها من يقال له الدوادار ، وموضوعه لتبليغ الرسائل عن السلطان ، وابلاغ عامّة الأمور ، وتقديم القصص إلى السلطان ، والمشاورة على من يحضر إلى الباب ، وتقديم البريد هو أمير جاندار وكاتب السرّ ، وهو الذي يقدم إلى السلطان كل ما تؤخذ عليه العلامة السلطانية من المناشير والتواقيع والكتب ، وكان يخرج عن

٣٨٧

السلطان بمرسوم مما يكتب ، فيعين رسالته في المرسوم ، واختلفت آراء ملوك الترك في الدوادار ، فتارة كان من أمراء العشراوات والطبلخاناه ، وتارة كان من أمراء الألوف. فلما كانت أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون ، ولي الأمير اقتمر الحنليّ وظيفة الدوادارية ، وكان عظيما في الدولة ، فصار يخرج المراسيم السلطانية بغير مشاورة ، كما يخرج نائب السلطنة ، ويعين في المرسوم إذ ذاك انه كتب برسالته ، ثم نقل إلى نيابة السلطنة وأقام الأشرف عوضة الأمير طاش تمر الدوادار ، وجعله من أكبر أمراء الألوف ، فاقتدى به الملك الظاهر برقوق وجعل الأمير يونس الدوادار من أكبر أمراء الألوف ، فعظمت منزلته وقويت مهابته ، ثم لما عادت الدولة الظاهرية بعد زوالها ، ولي الدوادارية الأمير بوطا ، فتحكم تحكما زائدا عن المعهود في الدوادارية ، وتصرّف كتصرّف النوّاب ، وولّى وعزل وحكم في القضايا المعضلة ، فصار ذلك من بعده عادة لمن ولي الدوادارية ، سيما لما ولي الأمير يشبك والأمير حكم الدوادارية في أيام الناصر فرج ، فإنهما تحكمت في جليل أمور الدولة وحقيرها ، من المال والبريد والأحكام والعزل والولاية ، وما برح الحال على هذا في الأيام الناصرية ، وكذلك الحال في الأيام المؤيدية يقارب ذلك.

نقابة الجيوش : هذه الرتبة كانت في الدولة التركية من الرتب الجليلة ، ويكون متوليها كأحد الحجاب الصغار ، وله تحلية الجند في عرضهم ، ومعه يمشي النقباء ، فإذا طلب السلطان أو النائب أو حاجب الحجاب أميرا أو جنديا ، كان هو المخاطب في الإرسال إليه ، وهو الملزوم بإحضاره ، وإذا أمر أحد منهم بالترسيم على أمير أو جنديّ ، كان نقيب الجيش هو الذي يرسم عليه ، وكان من رسمه أنه هو الذي يمشي بالحراسة السلطانية في الموكب حالة السرحة ، وفي مدّة السفر ، ثم انحطت اليوم هذه الرتبة ، وصار نقيب الجيش عبارة عن كبير من النقباء المعدّين لترويع خلق الله تعالى ، وأخذ أموالهم بالباطل على سبيل القهر ، عند طلب أحد إلى باب الحاجب ، ويضيفون إلى أكلهم أموال الناس بالباطل افتراءهم على الله تعالى بالكذب ، فيقولون على المال الذي يأخذونه باطلا هذا حق الطريق ، والويل لمن نازعهم في ذلك ، وهم أحد أسباب خراب الإقليم كما بين في موضعه من هذا الكتاب ، عند ذكر الأسباب التي أوجبت خراب الإقليم.

الولاية : وهي التي يسميها السلف الشرطة ، وبعضهم يقول صاحب العسس ، والعسس الطواف بالليل لتتبع أهل الريب يقال : عس يعس عسا وعسسا. وأوّل من عس بالليل عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه ، أمره أبو بكر الصدّيق رضي‌الله‌عنه بعس المدينة. خرّج أبو داود عن الأعمش عن زيد قال : أتى عبد الله بن مسعود فقيل له : هذا فلان تقطر لحيته خمرا ، فقال عبد الله رضي‌الله‌عنه : إنّا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به. وذكر الثعلبيّ عن زيد بن وهب أنه قال : قيل لابن مسعود رضي‌الله‌عنه ، هل لك في

٣٨٨

الوليد بن عتبة تقطر لحيته خمرا؟ فقال : إنّا قد نهينا عن التجسس ، فإن ظهر لنا شيء نأخذ به ، وكان عمر رضي‌الله‌عنه يتولى في خلافته العسس بنفسه ، ومعه مولاه أسلم رضي‌الله‌عنه ، وكان ربما استصحب معه عبد الرحمن بن عوف رضي‌الله‌عنه.

قاعة الصاحب : وكانت وظيفة الوزارة أجلّ رتب أرباب الأقلام ، لأنّ متوليها ثاني السلطان إذ أنصف وعرف حقه ، إلّا أن ملوك الدولة التركية قدّموا رتبة النيابة على الوزارة ، فتأخرت الوزارة حتى قعد بها مكانها ، ووليها في الدولة التركية أناس من أرباب السيوف وأناس من أرباب الأقلام ، فصار الوزير إذا كان من أرباب الأقلام يطلق عليه اسم الصاحب ، بخلاف ما إذا كان من أرباب السيوف فإنه لا يقال له الصاحب ، وأصل هذه الكلمة في إطلاقها على الوزير ، أنّ الوزير إسماعيل بن عباد كان يصحب مؤيد الدولة أبا منصور بويه بن ركن الدولة الحسن بن بويه الديلميّ ، صاحب بلاد الرّيّ ، وكان مؤيد الدولة شديد الميل إليه والمحبة له ، فسماه الصاحب ، وكان الوزير حينئذ أبو الفتح عليّ بن العميد يعاديه لشدّة تمكنه من مؤيد الدولة ، فتلقب الوزراء بعد ابن عباد بالصاحب ، ولا أعلم أحدا من وزراء خلفاء بني العباس ، ولا وزراء الخلفاء الفاطميين قيل له الصاحب ، وقد جمعت في وزراء الإسلام كتابا جليل القدر ، وأفردت وزراء مصر في تصنيف بديع ، والذي أعرف ، أنّ الوزير صفيّ الدين عبد الله بن شكر وزير العادل والكامل من ملوك مصر من بني أيوب ، كان يقال له الصاحب ، وكذلك من بعده من وزراء مصر إلى اليوم.

وكان وضع الوزير أنّه أقيم لنفاذ كلمة السلطان وتمام تصرّفه ، غير أنها انحطت عن ذلك بنيابة السلطنة ، ثم انقسم ما كان للوزير إلى ثلاثة هم : الناظر في المال ، وناظر الخاص ، وكاتب السرّ ، فإنه يوقع في دار العدل ما كان يوقع فيه الوزير بمشاورة واستقلال. ثم تلاشت الوزارة في أيام الظاهر برقوق بما أحدثه من الديوان المفرد ، وذلك أنه لما ولي السلطنة أفرد إقطاعه لما كان أميرا قبل سلطنته ، وجعل له ديوانا سمّاه الديوان المفرد ، وأقام فيه ناظرا وشاهدين وكتابا ، وجعل مرجع هذا الديوان إلى الأستادار ، وصرف ما يتحصل منه في جوامك مماليك استجدّها شيئا بعد شيء حتى بلغت خمسة آلاف مملوك ، وأضاف إلى هذا الديوان كثيرا من أعمال الديار المصرية ، وبذلك قوي جانب الاستادار ، وضعفت الوزارة حتى صار الوزير قصار نظره التحدّث في أمر المكوس ، فيستخرجها من جهاتها ويصرفها في ثمن اللحم وحوايج المطبخ وغير ذلك ، ولقد كان الوزير الصاحب سعد الدين نصر الله بن البقريّ يقول : الوزارة اليوم عبارة عن حوايج كاش عفش ، يشتري اللحم والحطب وحوايج الطعام ، وناظر الخاص غلام صلف يشتري الحرير والصوف والنصافي والسنجاب ، وأمّا ما كان للوزراء ونظار الخاص في القديم فقد بطل ، ولقد صدق فيما قال ، فإنّ الأمر على هذا. وما رأينا الوزارة من بعد انحطاط رتبتها يرتفع قدر متوليها إلّا إذا أضيفت إلى الأستادارية ، كما وقع للأمير جمال الدين يوسف الأستادار ، والأمير فخر الدين عبد الغنيّ بن أبي الفرج.

٣٨٩

وأما من ولي الوزارة بمفردها ، سيما من أرباب الأقلام ، فإنما هو كاتب كبير يتردّد ليلا ونهارا إلى باب الأستادار ، ويتصرّف بأمره ونهيه ، وحقيقة الوزارة اليوم أنها انقسمت بين أربعة وهم : كاتب السرّ ، والأستادار ، وناظر الخاص ، والوزير. فأخذ كاتب السرّ من الوزارة التوقيع على القصص بالولايات والعزل ونحو ذلك في دار العدل وفي داره. وأخذ الأستادار التصرّف في نواحي أرض مصر ، والتحدّث في الدواوين السلطانية ، وفي كشف الأقاليم ، وولاة النواحي ، وفي كثير من أمور أرباب الوظائف ، وأخذ ناظر الخاص جانبا كبيرا من الأموال الديوانية السلطانية ، ليصرفها في تعلقات الخزانة السلطانية ، وبقي للوزير شيء يسير جدّا من النواحي ، والتحدّث في المكوس ، وبعض الدواوين ، ومصارف المطبخ السلطاني والسواقي ، وأشياء أخر ، وإليه مرجع ناظر الدولة ، وشادّ الدواوين ، وناظر بيت المال ، وناظر الأهراء ومستوفي الدولة ، وناظر الجهات ، وأمّا ناظر البيوت وناظر الإصطبلات ، فإنه أمرهما يرجع إلى غيره. والله أعلم.

نظر الدولة : هذه الوظيفة يقال لمتوليها ناظر النظار ، ويقال له ناظر المال ، وهو يعرف اليوم بناظر الدولة ، وتلي رتبته رتبة الوزارة ، فإذا غاب الوزير وتعطلت الوزارة من وزير ، قام ناظر الدولة بتدبير الدولة ، وتقدّم إلى شادّ الدواوين بتحصيل الأموال وصرفها في النفقات والكلف ، واقتصر الملك الناصر محمد بن قلاون على ناظر الدولة مدّة أعوام من غير تولية وزير ، ومشّى أمور الدولة على ذلك حتى مات ، ولا بدّ أن يكون مع ناظر الدولة مستوفون يضبطون كلّيّات المملكة وجزئياتها ، ورأس المستوفين مستوفي الصحبة ، وهو يتحدّث في سائر المملكة مصرا وشاما ، ويكتب مراسيم يعلّم عليها السلطان ، فتكون تارة بما يعمل في البلاد ، وتارة بالإطلاقات ، وتارة باستخدام كتّاب في صغار الأعمال ، ومن هذا النحو وما يجري مجراه.

ديوان النظر : وهي وظيفة جليلة تلي نظر الدولة ، وبقية المستوفين كلّ منهم حديثه مقيد ، لا يتعدّى حديثه قطرا من أقطار المملكة ، وهذا الديوان ، أعني ديوان النظر ، هو أرفع دواوين المال ، وفيه تثبت التواقيع والمراسيم السلطانية ، وكلّ ديوان من دواوين المال إنما هو فرع هذا الديوان ، وإليه يرفع حسابه وتتناهى أسبابه ، وإليه يرجع أمر الاستيمار الذي يشتمل على أرزاق ذوي الأقلام وغيرهم. مياومة ومشاهرة ومسانهة من الرواتب ، وكانت أرزاق ذوي الأقلام مشاهرة من مبلغ عين وغلة ، وكان لأعيانهم الرواتب الجارية في اليوم من اللحم بتوابله أو غير توابله ، والخبز والعليق لدوابهم ، وكان لأكابرهم السكر والشمع والزيت والكسوة في كلّ سنة والأضحية ، وفي شهر رمضان السكر والحلوى ، وأكثرهم نصيبا الوزير ، وكان معلومه في الشهر مائتين وخمسين دينارا جيشية ، مع الأصناف المذكورة والغلة ، وتبلغ نظير المعلوم. ثم ما دون ذلك من المعلوم لمن عدا الوزير وما دون دونه ، وكان معلوم القضاة والعلماء أكثره خمسون دينارا في كلّ شهر ، مضافا لما بيدهم من

٣٩٠

المدارس التي يستدرون من أوقافها ، وكان أيضا يصرف على سبيل الصدقات الجارية والرواتب الدارة على جهات ، ما بين مبلغ وغلة وخبز ولحم وزيت وكسوة وشعير ، هذا سوى الأرض من النواحي التي يعرف المرتب عليها بالرزق الإحباسية ، وكانوا يتوارثون هذه المرتبات ابنا عن أب ، ويرثها الأخ عن أخيه ، وابن العم عن ابن العمّ ، بحيث أنّ كثيرا ممن مات وخرج ادراره من مرتبة لأجنبيّ ، لما جاء قريبه وقدّم قصته يذكر فيها أولويته بما كان لقريبه ، أعيد إليه ذلك المرتب ممن كان خرج باسمه.

نظر البيوت : كان من الوظائف الجليلة ، وهي وظيفة متوليها منوط بالأستادار ، فكلّ ما يتحدّث فيه أستادار السلطان فإنه يشاركه في التحدّث ، وهذا كان أيام كون الأستادار ونظره لا يتعدّى بيوت السلطان ، وما تقدّم ذكره ، فأما منذ عظم قدر الأستادار ونفذت كلمته في جمهور أموال الدولة ، فإن نظر البيوت اليوم شيء لا معنى له.

نظر بيت المال : كان وظيفة جليلة معتبرة ، وموضوع متوليها التحدّث في حمول المملكة مصرا وشاما إلى بيت المال بقلعة الجبل ، وفي صرف ما ينصرف منه ، تارة بالوزن ، وتارة بالتسبيب بالأقلام ، وكان أبدا يصعد ناظر بيت المال ومعه شهود بيت المال وصيرفيّ بيت المال وكاتب المال إلى قلعة الجبل ، ويجلس في بيت المال ، فيكون له هناك أمر ونهي وحال جليلة لكثرة الحمول الواردة ، وخروج الأموال المصروفة في الرواتب لأهل الدولة ، وكانت أمرا عظيما ، بحيث أنها بلغت في السنة نحو أربعمائة ألف دينار ، وكان لا يلي نظر بيت المال إلا من هو من ذوي العدالات المبرزة ، ثم تلاشى المال وبيت المال ، وذهب الاسم والمسمّى ، ولا يعرف اليوم بيت المال من القلعة ، ولا يدرى ناظر بيت المال من هو.

نظر الإصطبلات : هذه الوظيفة جليلة القدر إلى اليوم ، وموضوعها الحديث في أموال الإصطبلات والمناخات وعليقها وأرزاق من فيها من المستخدمين ، وما بها من الاستعمالات والإطلاق ، وكل ما يبتاع لها أو يبتاع بها ، وأوّل من استجدّها الملك الناصر محمد بن قلاون ، وهو أوّل من زاد في رتبة أمير اخور واعتنى بالأوجاقية والعرب الركابة ، وكان أبوه المنصور قلاون يرغب في خيل برقة أكثر من خيل العرب ، ولا يعرف عنه أنه اشترى فرسا بأكثر من خمسة آلاف درهم ، وكان يقول خيل برقة نافعة ، وخيل العرب زينة ، بخلاف الناصر محمد ، فإنه شغف باستدعاء الخيول من عرب آل مهنا وآل فضل وغيرهم ، وبسببها كان يبالغ في إكرام العرب ويرغبهم في أثمان خيولهم حتى خرج عن الحدّ في ذلك ، فكثرت رغبة آل مهنا وغيرهم في طلب خيول من عداهم من العربان ، وتتبعوا عتاق الخيل من مظانها ، وسمحوا بدفع الأثمان الزائدة على قيمتها حتى أتتهم طوائف العرب بكرائم خيولهم ، فتمكنت آل مهنا من السلطان وبلغوا في أيامه الرتب العلية ، وكان لا يحب خيول برقة ، وإذا أخذ منها شيئا أعدّه للتفرقة على الأمراء البرّانيين ، ولا يسمح بخيول آل مهنا إلّا

٣٩١

لأعز الأمراء وأقرب الخاصكية منه ، وكان جيد المعرفة بالخيل ، شياتها وأنسابها ، لا يزال يذكر أسماء من أحضرها إليه ومبلغ ثمنها ، فلما اشتهر عنه ذلك جلب إليه أهل البحرين والحساء والقطيف وأهل الحجاز والعراق كرائم خيولهم ، فدفع لهم في الفرس من عشرة آلاف درهم إلى عشرين إلى ثلاثين ألف درهم ، عنها ألف وخمسمائة مثقال من الذهب ، سوى ما ينعم به على مالكه من الثياب الفاخرة له ولنسائه ، ومن السكر ونحوه ، فلم تبق طائفة من العرب حتى قادت إليه عتاق خيلها ، وبلغ من رغبة السلطان فيها أنه صرف في أثمانها دفعة واحدة من جهة كريم الدين ناظر الخاص ألف ألف درهم في يوم واحد ، وتكرّر هذا منه غير مرّة ، وبلغ ثمن الفرس الواحد من خيول آل مهنا السنتين ألف درهم والسبعين ألف درهم ، واشترى كثيرا من الحجور بالثمانين ألفا والتسعين ألفا ، واشترى بنت الكرشاء بمائة ألف درهم ، عنها خمسة آلاف مثقال من الذهب ، هذا سوى الإنعامات بالضياع من بلاد الشام ، وكان من عنايته بالخيل لا يزال يتفقدها بنفسه ، فإذا أصيب منها فرس أو كبر سنه بعث به إلى الجشار (١) ، وتنزى (٢) الفحول المعروفة عنده على الحجور (٣) بين يديه ، وكتّاب الإصطبل تؤرّخ تاريخ نزوها ، واسم الحصان ، والحجرة ، فتوالدت عنده خيول كثيرة اغتنى بها عن الجلب ، ومع ذلك فلم تكن عنده في منزلة ما يجلب منها ، وبهذا ضخمت سعادة آل مهنا وكثرت أموالهم وضياعهم ، فعزّ جانبهم وكثر عددهم وهابهم من سواهم من العرب ، وبلغت عدّة خيول الجشارات في أيامه نحو ثلاثة آلاف فرس ، وكان يعرضها في كلّ سنة ويدوّغ أولادها بين يديه ويسلمها للعربان الركابة ، وينعم على الأمراء الخاصكية بأكثرها ، ويتبجح بها ويقول : هذه فلانة بنت فلان ، وهذا فلان بن فلانة ، وعمره كذا ، وشراء أم هذا كذا وكذا ، كان لا يزال يؤكد على الأمراء في تضمير الخيول ، ويلزم كلّ أمير أن يضمر أربعة أفراس ، ويتقدّم لأمير اخور أن يضمر للسلطان عدّة منها ويوصيه بكتمان خبرها ، ثم يشيع أنها لأيدغمش أمير اخور ، ويرسلها مع الخيل في حلبة السباق خشية أن يسبقها فرس أحد من الأمراء فلا يحتمل ذلك ، فإنه ممن لا يطيق شيئا ينقص ملكه ، وكان السباق في كلّ سنة بميدان القبق ، ينزل بنفسه وتحضر الأمراء بخيولها المضمرة ، فيجريها وهو على فرسه حتى تنقضي نوبها ، وكانت عدّتها مائة وخمسين فرسا فما فوقها ، فاتفق أنه كان عند الأمير قطلو بغا الفخريّ حصان أدهم سبق خيل مصر كلها في ثلاث سنين متوالية أيام السباق ، وبعث إليه الأمير مهنا فرسا شهباء على أنها إن سبقت خيل مصر فهي للسلطان ، وإن سبقها فرس ردّت إليه ولا يركبها عند السابق إلّا بدويّ قادها ، فركب السلطان للسباق في أمرائه على عادته ووقف معه سليمان وموسى ابنا مهنا ، وأرسلت الخيول من بركة الحاج على عادتها وفيها

__________________

(١) الجشار ، جشر دوابه : أخرجها للرعي دون العودة إلى أهلها.

(٢) تنزى : تثب.

(٣) الحجور : يقصد إناث الخيل.

٣٩٢

فرس مهنا ، وقد ركبها البدويّ عريا بغير سرج ، فأقبلت سائر الخيول تتبعها حتى وصلت المدى وهي عري بغير سرج ، والبدويّ عليها بقميص وطاقية ، فلما وقفت بين يدي السلطان صاح البدويّ : السعادة لك اليوم يا مهنا ، لا شقيت. فشق على السلطان أن خيله سبقت ، وأبطل التضمير من خيله ، وصارت الأمراء تضمر على عادتها ، ومات الناصر محمد عن أربعة آلاف وثمانمائة فرس ، وترك زيادة على خمسة آلاف من الهجن الأصائل والنوق المهريات والقرشيات ، سوى أتباعها. وبطل بعده السباق ، فلما كانت أيام الظاهر برقوق عني بالخيل أيضا ومات عن سبعة آلاف فرس وخمسة عشر ألف جمل.

ديوان الإنشاء : وكان بجوار قاعة الصاحب بقلعة الجبل ديوان الإنشاء ، يجلس فيه كاتب السرّ ، وعنده موقعو الدرج وموقعو الدست في أيام المواكب طول النهار ، ويحمل إليهم من المطبخ السلطانيّ المطاعم ، وكانت الكتب الواردة وتعليق ما يكتب من الباب السلطانيّ موضوعة بهذه القاعة ، وأنا جلست بها عند القاضي بدر الدين محمد بن فضل الله العمريّ أيام مباشرتي التوقيع السلطانيّ ، إلى نحو السبعين والسبعمائة ، فلما زالت دولة الظاهر برقوق ثم عادت اختلت أمور كثيرة منها أمر قاعة الإنشاء بالقلعة ، وهجرت وأخذ ما كان فيها من الأوراق ، وبيعت بالقنطار ، ونسي رسمها ، وكتابة السرّ رتبة قديمة ، ولها أصل في السنّة ، فقد خرّج أبو بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستانيّ في كتاب المصاحف من حديث الأعمش ، عن ثابت بن عبيد عن زيد بن ثابت رضي‌الله‌عنه قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنها تأتيني كتب لا أحب أن يقرأها كلّ أحد ، فهل تستطيع أن تعلّم كتاب العبرانية أو قال السريانية» فقلت نعم. قال : فتعلمتها في سبع عشرة ليلة ، ولم يزل خلفاء الإسلام يختارون لكتابة سرّهم الواحد بعد الواحد ، وكان موضوع كتابة السرّ في الدولة التركية على ما استقرّ عليه الأمر في أيام الناصر محمد بن قلاون ، أنّ لمتوليها المسمى بكاتب السرّ وبصاحب ديوان الإنشاء ، ومن الناس من يقول ناظر ديوان الإنشاء ، قراءة الكتب الواردة على السلطان وكتابة أجوبتها ، إما بخطه أو بخط كتاب الدست أو كتاب الدرج بحسب الحال ، وله تفسير الأجوبة بعد أخذ علامة السلطان عليها ، وله تصريف المراسيم ورودا وصدورا ، وله الجلوس بين يدي السلطان بدار العدل لقراءة القصص والتوقيع عليها بخطه في المجلس. فصار يوقع فيما كان يوقع عليه بقلم الوزارة ، وصار إليه التحدّث في مجلس السلطان عند عقد المشورة وعند اجتماع الحكام لفصل أمر مهم ، وله التوسط بين الأمراء والسلطان فيما يندب إليه عند الاختلاف أو التدبير ، وإليه ترجع أمور القضاة ومشايخ العلم ونحوهم في سائر المملكة مصرا وشاما ، فيمضي من أمورهم ما أحب ويشاور السلطان فيما لا بدّ من مشاورته فيه ، وكانت العادة أن يجلس تحت الوزير ، فلما عظم ، تمكن القاضي فتح الدين فتح الله كاتب السرّ من الدولة ، جلس فوق الوزير الصاحب سعد الدين إبراهيم البشيري ، فاستمرّ ذلك لمن بعده ورتبة كاتب السرّ

٣٩٣

أجلّ الرتب ، وذلك أنها منتزعة من الملك.

فإن الدولة العباسية صار خلفاؤها في أوّل أمرهم منذ عهد أبي العباس السفاح إلى أيام هارون الرشيد يستبدّون بأمورهم ، فلما صارت الخلافة إلى هارون ألقى مقاليد الأمور إلى يحيى بن جعفر البرمكيّ ، فصار يحيى يوقع على رقاع الرافعين بخطه في الولايات وإزالة الظلامات وإطلاق الأرزاق والعطيات ، فجلّت لذلك رتبته ، وعظمت من الدولة مكانته ، وكان هو أوّل من وقع من وزراء خلفاء بني العباس ، وصار من بعده من الوزراء يوقعون على القصص كما كان يوقع ، وربما انفرد رجل بديوان السرّ وديوان الترسل ، ثم أفردت في أخريات دولة بني العباس واستقلّ بها كتاب لم يبلغوا مبلغ الوزراء ، وكانوا ببغداد يقال لهم كتاب الإنشاء ، وكبيرهم يدعى رئيس ديوان الإنشاء ، ويطلق عليه تارة صاحب ديوان الإنشاء ، وتارة كاتب السرّ ، ومرجع هذا الديوان إلى الوزير ، وكان يقال له الديوان العزيز ، وهو الذي يخاطبه الملوك في مكاتبات الخلفاء. وكان في الدولة السلجوقية يسمى ديوان الإنشاء بديوان الطغرا ، وإليه ينسب مؤيد الدين الطغراءي والطغراهي طرّة المكتوب ، فيكتب أعلى من البسملة بقلم غليظ القاب الملك ، وكانت تقوم عندهم مقام خط السلطان بيده على المناشير والكتب ، ويستغني بها عن علامة السلطان ، وهي لفظة فارسية ، وفي بلاد المغرب يقال لرئيس ديوان الإنشاء صاحب القلم الأعلى ، وأما مصر فإنه كان بها في القديم لما كانت دار إمارة ديوان البريد ، ويقال لمتوليه صاحب البريد ، وإليه مرجع ما يرد من دار الخلافة على أيدي أصحاب البريد من الكتب ، وهو الذي يطالع بأخبار مصر ، وكان لأمراء مصر كتاب ينشئون عنهم الكتب والرسائل إلى الخليفة وغيره ، فلما صارت مصر دار خلافة كان القائد جوهر يوقع على قصص الرافعين إلى أن قدم المعز لدين الله ، فوقع وجعل أمر الأموال وما يتعلق بها إلى يعقوب بن كلس ، وعسلوج بن الحسن ، فوليا أموال الدولة ، ثم فوّض العزيز بالله أمر الوزارة ليعقوب بن كلس ، فاستبدّ بجميع أحوال المملكة ، وجرى مجرى يحيى بن جعفر البرمكيّ ، وكان يوقع.

ومع ذلك ففي أمراء الدولة من يلي البريد ، وجرى الأمر فيما بعد على أن الوزراء يوقعون ، وقد يوقع الخليفة بيده ، فلما كانت أيام المستنصر بالله أبي تميم معدّ بن الظاهر وصرف أبا جعفر محمد بن جعفر بن المغربيّ عن وزارته ، أفرد له ديوان الإنشاء فوليه مدّة طويلة ، وأدرك أيام أمير الجيوش بدر الجماليّ ، وصار يلي ديوان الإنشاء بعده الأكابر إلى أن انقرضت الدولة ، وهو بيد القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيساني ، فاقتدت بهم الدولة الأيوبية ، ثم الدولة التركية في ذلك ، وصار الأمر على هذا إلى اليوم ، وصار متولي رتبة كتابة السرّ أعظم أهل الدولة ، إلّا أنه في الدولة التركية يكون معه من الأمراء واحد يقال له الدوادار ، منزلته منزلة صاحب البريد في الزمن الأوّل ، ومنزلة كاتب السرّ منزلة صاحب ديوان الإنشاء ، إلّا أنّه يتميز بالتوقيع على القصص ، تارة بمراجعة السلطان وتارة بغير

٣٩٤

مراجعة ، فلذلك يحتاج إليه سائر أهل الدولة من أرباب السيوف والأقلام ، ولا يستغني عن حسن سفارته نائب الشام ، فمن دونه ، ولله الأمر كله.

وأما في الدولة الأيوبية فإن كتاب الدرج كانوا في الدولة الكاملية قليلين جدا وكانوا في غاية الصيانة والنزاهة وقلة الخلطة بالناس ، واتفق أنّ الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير كان من جملتهم ، فسمع الملك الصالح نجم الدين أيوب عنه أنه يحضر في السماعات ، فصرفه من ديون الإنشاء وقال : هذا الديوان لا يحتمل مثل هذا. وكانت العادة أن لا يحضر كتاب الإنشاء الديوان يوم الجمعة ، فعرض للملك الصالح في بعض أيام الجمع شغل مهم ، فطلب بعض الموقعين فلم يجد أحدا منهم ، فقيل له أنهم لا يحضرون يوم الجمعة ، فقال : استخدموا في الديوان كاتبا نصرانيا يقعد يوم الجمعة لمهم يطرأ ، فاستخدم الأمجد بن العسال كاتب الدرج لهذا المعنى.

نظر الجيش : قد تقدّم أنّه كان يجلس بالقلعة دواوين الجيش في أيام الموكب ، وتقدّم في ذكر الإقطاعات وذكر النيابة ما يدل على حال متولي نظر الجيش ، ولا بدّ مع ناظر الجيش أن يكون من المستوفين ، من يضبط كليّات المملكة وجزئياتها في الإقطاعات وغيرها.

نظر الخاص : هذه الوظيفة وإن كان لها ذكر قديم من عهد الخلفاء الفاطميين ، فإن متوليها لم يبلغ من جلالة القدر ما بلغ إليه في الدولة التركية ، وذلك أن الملك الناصر محمد بن قلاون لما أبطل الوزارة ، وأقام القاضي كريم الدين الكبير في وظيفة نظر الخاص ، صار متحدّثا فيما هو خاص بمال السلطان ، يتحدّث في مجموع الأمر الخاص بنفسه ، وفي القيام بأخذ رأيه فيه ، فبقي تحدّثه فيه وبسببه كأنه هو الوزير ، لقربه من السلطان وزيادة تصرّفه. وإلى ناظر الخاص التحدّث في الخزانة السلطانية ، وكانت بقلعة الجبل ، وكانت كبيرة الوضع لأنها مستودع أموال المملكة ، وكان نظر الخزانة منصبا جليلا ، إلى أن استحدثت وظيفة نظر الخاص فضعف أمر نظر الخزانة ، وأمر الخزانة أيضا ، وصارت تسمى الخزانة الكبرى ، وهو اسم أكبر من مسماه ، ولم يبق بها إلّا خلع يخلع منها أو ما يحضر إليها ويصرف أوّلا فأوّلا ، وصار نظر الخزانة مضافا إلى ناظر الخاص ، وكان الرسم أن لا يلي نظر الخزانة إلّا القضاة أو من يلحق بهم ، وما برحت الخزانة بقلعة الجبل حتى عملها الأمير منطاش سجنا لمماليك الظاهر برقوق ، في سنة تسعين وسبعمائة ، فتلاشت من حينئذ ونسي أمرها ، وصارت الخلع ونحوها عند ناظر الخاص في داره ، وكانت لأهل الدولة في الخلع عوايد وهم على ثلاثة أنواع ، أرباب السيوف والأقلام والعلماء ، فأما أرباب السيوف فكانت خلع أكابر أمراء المئين الأطلس الأحمر الروميّ ، وتحته الأطلس الأصفر الروميّ ، وعلى الفوقانيّ طرز زركش ذهب ، وتحته سنجاب ، وله سجف من ظاهره ، مع الغشاء قندس وكلوتة زركش بذهب وكلاليب ذهب وشاش لانس رفيع موصول به ، في طرفيه حرير

٣٩٥

أبيض مرقوم بألقاب السلطان مع نقوش باهرة من الحرير الملوّن ، مع منطقة ذهب ، ثم تختلف أحوال المنطقة بحسب مقاديرهم ، فأعلاها ما عمل بين عمدها بواكر وسطى ومجنبتان بالبلخس والزمرّد واللؤلؤ ، ثم ما كان ببيكارية واحدة مرصعة ، ثم ما كان ببيكارية واحدة غير مرصعة. وأما من تقلد ولاية كبيرة منهم فإنه يزاد سيفا محلى بذهب يحضر من السلاح خاناه ، ويحليه ناظر الخلوص ، ويزاد فرسا مسرجا ملجما بكنبوش ذهب ، والفرس من الإصطبل ، وقماشه من الركاب خاناه ، ومرجع العمل في سروج الذهب والكنابيش إلى ناظر الخاص.

وكان رسم صاحب حماه من أعلى هذه الخلع ، ويعطى بدل الشاش اللانس شاش من عمل الإسكندرية حرير شبيه بالطول ، وينسج بالذهب يعرف بالمثمر ، ويعطى فرسين أحد هما كما ذكر والآخر يكون عوض كنبوشه زناري أطلس أحمر ، وكانت لنائب الشام على ما استقرّ في أيام الناصر محمد بن قلاون مثل هذا ، وزيد لتنكر تركيبة زركش ذهب دائرة بالقباء الفوقانيّ.

ودون هذه الرتبة في الخلع نوع يسمّى طرزوحش ، يعمل بدار الطراز التي كانت بالإسكندرية وبمصر وبدمشق ، وهو مجوّخ جاخات كتابة بألقاب السلطان ، وجاخات طرزوحش ، وجاخات ألوان ممتزجة بقصب مذهب ، يفصل بين هذه الجاخات نقوش وطراز ، هذا يكون من القصب ، وربما كبر بعضهم فركب عليه طرازا مزركشا بالذهب ، وعليه فرو سنجاب وقندس كما تقدّم ، وتحت القباء الطرزوحش قباء من المقترح الإسكندراني الطرح ، وكلوتة زركش بكلاليب وشاش على ما تقدّم ، وحياصة ذهب ، فتارة تكون ببيكارية وتارة لا يكون بها بيكارية ، وهذه لأصاغر أمراء المئين ومن يلحق بهم.

ودون هذه الرتبة في الخلع ، كمخا عليه نقش من لون آخر غير لونه ، وقد يكون من نوع لونه بتفاوت بينهما ، وتحته سنجاب بقندس ، والبقية كما تقدّم ، إلا أن الحياصة والشاش لا يكونان بأطراف رقم ، بل تكون مجوّخة بأخضر وأصفر مذهب ، والحياصة لا تكون ببيكارية.

ودون هذه المرتبة ، كمخا تكون واحدة بسنجاب مقندس ، والبقية على ما ذكر ، وتكون الكلوتة خفيفة الذهب ، وجانباها يكاد أن يكونان خاليين بالجملة ، ولا حياصة له.

ودون هذه الرتبة ، مجوّم ، لون واحد ، والبقية على ما ذكر خلا الكوتة والكلاليب. ودون هذه الرتبة مجوم مقندس ، وهو قباء ملوّن بجاخات من أحمر وأخضر وأزرق وغير ذلك من الألوان ، بسنجاب وقندس وتحته قباء إمّا أزرق أو أخضر ، وشاش أبيض بأطراف من نسبة ما تقدّم ذكره ، ثم دون هذا من هذا النوع.

٣٩٦

وأما الوزراء والكتاب فأجلّ ما كانت خلعهم الكمخا الأبيض المطرّز برقم حرير ساذج ، وسنجاب مقندس ، وتحته كمخا أخضر وبقيار ، كان من عمل دمياط مرقوم ، وطرحه. ثم دون هذه الرتبة عدم السنجاب ، بل يكون القندس بدائر الكمين وطول الفرج ، ودونها ترك الطرحة ، ودونها أن يكون التحتانيّ مجوما ودون هذا أن يكون الفوقانيّ من الكمخا لكنه غير أبيض ، ودونه أن يكون الفوقانيّ مجوما أبيض ، ودونه أن يكون تحته عنابيّ.

وأما القضاة والعلماء فإن خلعهم من الصوف بغير طراز ، ولهم الطرحة ، وأجلّهم أن يكون أبيض وتحته أخضر ، ثم ما دون ذلك وكانت العادة أن أهبة الخطباء وهي السواد تحمل إلى الجوامع من الخزانة ، وهي دلق مدوّر وشاش أسود وطرحة سوداء وعلمان أسودان مكتوبان بأبيض أو بذهب ، وثياب المبلغ قدّام الخطيب مثل ذلك خلا الطرحة ، وكانت العادة إذا خلقت الأهبة المذكورة أعيدت إلى الخزانة وصرف عوضها ، وكانت للسلطان عادات بالخلع : تارة في ابتداء سلطنته ، وتشمل حينئذ الخلع سائر أرباب المملكة ، بحيث خلع في يوم واحد عند إقامة الأشرف كجك بن الناصر محمد بن قلاون ألف ومائتا تشريف في وقت لعبه بالكرة ، على أناس جرت عوايدهم بالخلع في ذلك الوقت ، كالجوكندارية والولاة ، ومن له خدمة في ذلك. وتارة في أوقات الصيد عند ما يسرح ، فإذا حصل أحد شيئا مما يصيده خلع عليه ، وإذا أحضر أحد إليه غزالا أو نعاما خلع عليه قباء مسجفا مما يناسب خلعة مثله على قدره ، وكذلك يخلع على البزدارية وجملة الجوارح ومن يجري مجراهم عند كلّ صيد. وكانت العادة أيضا أن ينعم على غلمان الطشت خاناه والشراب خاناه والفراش خاناه ومن يجري مجراهم في كلّ سنة عند أوان الصيد.

وكانت العادة أن من يصل إلى الباب من البلاد أو يرد عليه أو يهاجر من مملكة أخرى إليه أن ينعم عليه مع الخلع بأنواع الإدرارات والأرزاق والإنعامات ، وكذلك التجار الذين يصلون إلى السلطان ويبيعون عليه لهم مع الخلع الرواتب الدائمة من الخبز واللحم والتوابل والحلوى والعليق والمسامحات ، بنظير كلّ ما يباع من الرقيق المماليك والجواري ، مع ما يسامحون به أيضا من حقوق أخرى تطلق ، وكلّ واحد من التجار إذا باع على السلطان ولو رأسا واحدا من الرقيق ، فله خلعة مكملة بحسبه خارجا عن الثمن وعما ينعم به عليه ، أو يسفر به من مال السبيل على سبيل القرض ليتاجر به.

وأما جلّابة الخيل من عرب الحجاز والشام والبحرين وبرقة وبلاد المغرب ، فإن لهم الخلع والرواتب والعلوفات والأنزال ورسوم الإقامات ، خارجا عن مسامحات تكتب لهم بالمقرّرات عن تجارة يتجرون بها مما أخذوه من أثمان الخيول ، وكان يثمّن الفرس بأزيد من قيمته ، حتى ربما بلغ ثمنه على السلطان الذي يأخذه محضره نظير قيمته عليه عشر مرّات ،

٣٩٧

غير الخلع وسائر ما ذكر ، ولم يبق اليوم سوى ما يخلع على أرباب الدولة ، وقد استجدّ في الأيام الظاهرية ، وكثر في أيام الناصر فرج نوع من الخلع يقال له الجبة ، يلبسه الوزير ونحوه من أرباب الرتب العلية ، جعلوا ذلك ترفعا عن لبس الخلعة ، ولم تكن الملوك تلبس من الثياب إلا المتوسط ، وتجعل حوائصها بغير ذهب ، فلم تزد حياصة الناصر محمد على مائة درهم فضة ، ولم يزد أيضا سقط سرجه على مائة درهم فضة على عباءة صوف تدمري أو شامي. فلما كانت دولة أولاده بالغوا في الترف وخالفوا فيه عوايد أسلافهم ، ثم سلك الظاهر برقوق في ملابسه بعض ما كان عليه الملوك الأكابر لا كله ، وترك لبس الحرير.

الميدان بالقلعة : هذا الميدان من بقايا ميدان أحمد بن طولون الذي تقدّم ذكره عند ذكر القطائع من هذا الكتاب ، ثم بناه الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب في سنة إحدى عشرة وستمائة ، وعمر إلى جانبه بركا ثلاثا لسقيه وأجرى الماء إليها ، ثم تعطل هذا الميدان مدّة ، فلما قام من بعده ابنه الملك العادل أبو بكر محمد بن الكامل محمد اهتم به ، ثم اهتم به الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل اهتماما زائدا ، وجدّد له ساقية أخرى ، وأنشأ حوله الأشجار ، فجاء من أحسن شيء يكون إلى أن مات ، فتلاشى أمر الميدان بعده وهدمه الملك المعز أيبك سنة إحدى وخمسين وستمائة. وعفت آثاره. فلما كانت سنة اثنتي عشرة وسبعمائة ابتدأ الملك الناصر محمد بن قلاون عمارته ، فاقتطع من باب الإصطبل إلى قريب باب القرافة ، وأحضر جميع جمال الأمراء فنقلت إليه الطين حتى كساه كله ، وزرعه وحفر به الآبار وركب عليها السواقي ، وغرس فيه النخل الفاخر والأشجار المثمرة ، وأدار عليه هذا السور الحجر الموجود الآن ، وبنى حوضا للسبيل من خارجه ، فلما كمل ذلك نزل إليه ولعب فيه الكرة مع أمرائه وخلع عليهم ، واستمرّ يلعب فيه يومي الثلاثاء والسبت ، وصار القصر الأبلق يشرف على هذا الميدان ، فجاء ميدانا فسيح المدى يسافر النظر في أرجائه ، وإذا ركب السلطان إليه نزل من درج تلي قصره الجوّاني ، فينزل السلطان إلى الإصطبل الخاص ، ثم إلى هذا الميدان وهو راكب وخواص الأمراء في خدمته ، فيعرض الخيول في أوقات الإطلاقات ويلعب فيه الكرة ، وكان فيه عدّة أنواع الوحوش المستحسنة المنظر ، وكانت تربط به أيضا الخيول للتفسح ، وفي هذا الميدان يصلي السلطان أيضا صلاة العيدين ، ويكون نزوله إليه في يوم العيد ، وصعوده من باب خاص من دهليز القصر غير المعتاد النزول منه ، فإذا ركب من باب قصره ونزل إلى منفذه من الإصطبل إلى هذا الميدان ، ينزل في دهليز سلطانيّ قد ضرب له على أكمل ما يكون من الأبهة ، فيصلّي ويسمع الخطبة ، ثم يركب ويعود إلى الإيوان الكبير ويمدّ به السماط ويخلع على حامل القبة والطير وعلى حامل السلام والاستادار والجاشنكير وكثير من أرباب الوظائف ، وكانت العادة أن تعدّ للسلطان أيضا خلعة العيد ، على أنه يلبسها كما كانت العادة في أيام الخلفاء ، فينعم بها على بعض أكابر أمراء المئين ، ولم يزل الحال على هذا إلى أن كانت سنة ثمانمائة ، فصلّى الملك

٣٩٨

الظاهر برقوق صلاة عيد النجر بجامع القلعة ، لتخوّفه بعد واقعة الأمير علي باي ، فهجر الميدان واستمرّت صلاة العيد بجامع القلعة من عامئذ طول الأيام الناصرية والمؤيدية.

الحوش : ابتدئ العمل فيه على أيام الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة ، وكان قياسه أربعة فدادين ، وكان موضعه بركة عظيمة قد قطع ما فيها من الحجر لعمارة قاعات القلعة ، حتى صارت غورا كبيرا ، ولما شرع في العمل ، رتب على كلّ أمير من أمراء المئين مائة رجل ومائة بهيمة ، لنقل التراب برسم الردم ، وعلى كلّ أمير من أمراء الطبلخاناه بحسبه ، وندب الأمير أقبغا عبد الواحد شاد العمل ، فحضر من عند كلّ من الأمراء أستاداره ومعه جنده ودوا به للعمل ، وأحضر الأساري ، وسخّر والي القاهرة ووالي مصر الناس ، وأحضرت رجال النواحي ، وجلس أستاذار كلّ أمير في خيمة ووزع العمل عليهم بالأقصاب ، ووقف الأمير أقبغا يستحث الناس في سرعة العمل ، وصار الملك الناصر يحضر في كلّ يوم بنفسه ، فنال الناس من العمل ضرر زائد ، وأخرق أقبغا بجماعة من أماثل الناس ، ومات كثير من الرجال في العمل لشدّة العسف وقوّة الحرّ ، وكان الوقت صيفا ، فانتهى عمله في ستة وثلاثين يوما ، وأحضر إليه من بلاد الصعيد ومن الوجه البحريّ ألفي رأس غنم وكثيرا من الأبقار البلق لتوقف في هذا الحوض ، فصار مراح غنم ومربط بقر ، وأجرى الماء إلى هذا الحوش من القلعة ، وأقام الأغنام حوله ، وتتبع في كلّ المراحات من عيذاب وقوص إلى ما دونهما من البلاد ، حتى يؤخذ ما بهما من الأغنام المختارة ، وجلبها من بلاد النوبة ومن اليمن ، فبلغت عدّتها بعد موته ثلاثين ألف رأس سوى اتباعها ، وبلغ البقل الأخضر الذي يشترى لفراخ الإوز في كلّ يوم خمسين درهما ، عنها زيادة على مثقالين من الذهب.

فلما كانت أيام الظاهر برقوق عمل المولد النبويّ بهذا الحوض في أوّل ليلة جمعة من شهر ربيع الأوّل في كلّ عام ، فإذا كان وقت ذلك ضربت خيمة عظيمة بهذا الحوض ، وجلس السلطان وعن يمينه شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان بن نصر البلقينيّ ، ويليه الشيخ المعتقد إبراهيم برهان الدين بن محمد بن بهادر بن أحمد بن رفاعة المغربيّ ، ويليه ولد شيخ الإسلام ، ومن دونه وعن يسار السلطان الشيخ أبو عبد الله محمد بن سلامة التوزريّ المغربيّ ، ويليه قضاة القضاة الأربعة ، وشيوخ العلم ، ويجلس الأمراء على بعد من السلطان ، فإذا فرغ القرّاء من قراءة القرآن الكريم ، قام المنشدون واحدا بعد واحد ، وهم يزيدون على عشرين منشدا ، فيدفع لكلّ واحد منهم صرّة فيها أربعمائة درهم فضة ، ومن كلّ أمير من أمراء الدولة شقة حرير ، فإذا انقضت صلاة المغرب مدّت أسمطة الأطعمة الفائقة ، فأكلت وحمل ما فيها ، ثم مدّت أسمطة الحلوى السكرية من الجوارشات والعقائد ونحوها ، فتؤكل وتخطفها الفقهاء ، ثم يكون تكميل إنشاد المنشدين ووعظهم إلى نحو ثلث الليل ، فإذا فرغ المنشدون قام القضاة وانصرفوا ، وأقيم السماع بقية الليل ،

٣٩٩

واستمرّ ذلك مدّة أيامه ، ثم أيام ابنه الملك الناصر فرج.

ذكر المياه التي بقلعة الجبل

وجميع مياه القلعة من ماء النيل ، تنقل من موضع إلى موضع حتى تمرّ في جميع ما يحتاج إليه بالقلعة ، وقد اعتنى الملوك بعمل السواقي التي تنقل الماء من بحر النيل إلى القلعة عناية عظيمة ، فأنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة أربع سواق على بحر النيل ، تنقل الماء إلى السور ، ثم من السور إلى القلعة. وعمل نقالة من المصنع الذي عمله الظاهر بيبرس بجوار زاوية تقيّ الدين رجب ، التي بالرميلة تحت القلعة إلى بئر الإصطبل. فلما كانت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ، عزم الملك الناصر على حفر خليج من ناحية حلوان إلى الجبل الأحمر المطلّ على القاهرة ، ليسوق الماء إلى الميدان الذي عمله بالقلعة ، ويكون حفر الخليج في الجبل ، فنزل لكشف ذلك ومعه المهندسون ، فجاء قياس الخليج طولا اثنين وأربعين ألف قصبة ، فيمرّ الماء فيه من حلوان حتى يحاذي القلعة ، فإذا حاذاها بنى هناك خبايا تحمل الماء إلى القلعة ، ليصير الماء بها غزيرا كثيرا دائما صيفا وشتاء لا ينقطع ، ولا يتكلف لحلمه ونقله ، ثم يمرّ من محاذاة القلعة حتى ينتهي إلى الجبل الأحمر فيصبّ من أعلاه إلى تلك الأرض حتى تزرع ، وعند ما أراد الشروع في ذلك طلب الأمير سيف الدين قطاوبك بن قراسنقر الجاشنكير ، أحد أمراء الطبلخاناه بدمشق ، بعد ما فرغ من بناء القناة وساق العين إلى القدس ، فحضر ومعه الصناع الذين عملوا قناة عين بيت المقدس على خيل البريد إلى قلعة الجبل ، فأنزلوا ، ثم أقيمت لهم الجرايات والرواتب وتوجهوا إلى حلوان ، ووزنوا مجرى الماء وعادوا إلى السلطان وصوّبوا رأيه فيما قصد والتزموا بعمله ، فقال : كم تريدون؟ قالوا : ثمانين ألف دينار. فقال : ليس هذا بكثير. فقال : كم تكون مدّة العمل فيه حتى يفرغ؟ قالوا : عشر سنين. فاستكثر طول المدّة. ويقال أنّ الفخر ناظر الجيش هو الذي حسن لهم أن يقولوا هذه المدّة ، فإنه لم يكن من رأيه عمل هذا الخليج ، وما زال يخيل للسلطان من كثرة المصروف عليه ومن خراب القرافة ما حمله على صرف رأيه عن العمل ، وأعاد قطلوبك والصناع إلى دمشق ، فمات قطلوبك عقيب ذلك في سنة تسع وعشرين وسبعمائة في ربيع الأوّل.

فلما كانت سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ، اهتم الملك الناصر بسوق الماء إلى القلعة وتكثيره بها لأجل سقي الأشجار وملء الفساقي ، ولأجل مراحات الغنم والأبقار ، فطلب المهندسين والبنائين ونزل معهم وسار في طول القناطر التي تحمل الماء من النيل إلى القلعة ، حتى انتهى إلى الساحل ، فأمر بحفر بئر أخرى ليركب عليها القناطر حتى تتصل بالقناطر العتيقة ، فيجتمع الماء من بئرين ويصير ماء واحدا يجري إلى القلعة ، فيسقي الميدان وغيره ، فعمل ذلك ، ثم أحبّ الزيادة في الماء أيضا ، فركب ومعه المهندسون إلى بكرة

٤٠٠