كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

أخذ من قيمتها نصف العشر ولا يقبل قول الذميّ في قيمتها حتى يؤتى برجلين من أهل الذمّة يقوّمانها عليه ، فيؤخذ نصف العشر من الذميّ.

وحدّثنا قيس بن الربيع عن أبي فزارة عن يزيد بن الأصم عن عبد الله بن الزبير رضي‌الله‌عنهما أنه قال: إن هذه المعاصر والقناطر سحت (١) لا يحلّ أخذها. فبعث عمّالا إلى اليمن ونهاهم أن يأخذوا من عاصر أو قنطرة أو طريق شيئا. فقدموا فاستقلّ المال فقالوا : نهيتنا. فقال : خذوا كما كنتم تأخذون.

وحدّثنا محمد بن عبيد الله عن أنس بن سيرين قال : أرادوا أن يستعملوني على عشور الأبلة فأبيت ، فلقيني أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه فقال : ما يمنعك قلت العشور أخبث ما عمل عليه الناس. قال : فقال لي لم لا تفعل؟ عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه صنعه ، فجعل على أهل الإسلام ربع العشر ، وعلى أهل الذمّة نصف العشر ، وعلى أهل المنزل ممن ليس له ذمة العشر.

وقال أبو الحسن المسعوديّ أنّ كيقباذ أحد ملوك الفرس أوّل من أخذ العشر من الأرض وعمر بلاد بابل ومملكة الفرس ، ورأيت في التوراة التي في يد اليهود أنّ أوّل من أخرج العشر من مواشيه وزروعه وجميع ما له خليل الله إبراهيم عليه‌السلام ، وكان يدفع ذلك إلى ملك أورشليم التي هي أرض القدس ، واسمه ملكي صادق ، فلما مات الخليل إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه ، اقتدى به بنوه في ذلك من بعده ، وصاروا يدفعون العشر من أموالهم إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه‌السلام ، فأوجب على بني إسرائيل إخراج العشر في كل ما ملكت أيمانهم من جميع أموالهم بأنواعها ، وجعل ذلك حقا لسبط لاوي الذين هم قرابة موسى عليه‌السلام.

وقال ابن يونس في تاريخ مصر : كان ربيعة بن شرحبيل بن حسنة رضي‌الله‌عنه أحد من شهد فتح مصر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واليا لعمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه على المكس ، وكان زريق بن حيان على مكس إبلة في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي‌الله‌عنه. قال مؤلفه رحمه‌الله : ومع ذلك فقد كان أهل الورع من السلف يكرهون هذا العمل.

روى ابن قتيبة في كتاب الغريب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لعن الله سهيلا ، كان عشارا باليمن فمسخه الله شهابا».

وروى ابن لهيعة عن عبد الرحمن بن ميمون عن أبي إبراهيم المعافريّ عن خالد بن ثابت : أنّ كعبا أوصاه وتقدّم إليه حين مخرجه مع عمرو بن العاص أن لا يقرب المكس.

__________________

(١) السّحت : الحرام. مختار الصحاح.

٢٢١

فهذا أعزّك الله معنى المكس عند أهل الإسلام ، لا ما أحدثه الظالم هبة الله بن صاعد الفائزيّ ، وزير الملك المعز ايبك التركمانيّ ، أوّل من أقام من ملوك الترك بقلعة الجبل من المظالم التي سمّاها الحقوق السلطانية والمعاملات الديوانية ، وتعرف اليوم بالمكوس ، فذلك الرجس النجس الذي هو أقبح المعاصي والذنوب الموبقات ، لكثرة مطالبات الناس له وظلاماتهم عنده ، وتكرّر ذلك منه وانتهاكه للناس وأخذ أموالهم بغير حقها ، وصرفها في غير وجهها ، وذلك الذي لا يقرّ به متق. وعلى آخذه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

ولنرجع إلى الكلام في المقس فنقول : من الناس من يسميه المقسم بالميم بعد السين. قال ابن عبد الظاهر في كتاب خطط القاهرة : وسمعت من يقول أنه المقسم ، قيل لأن قسمة الغنائم عند الفتوح كانت به ، ولم أره مسطورا. وقال العماد محمد بن أبي الفرج محمد بن حامد الكاتب الأصفهانيّ في كتاب سنا البرق الشاميّ : وجلس الملك الكامل محمد بن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب في البرج الذي بجوار جامع المقس في السابع والعشرين من شوال سنة ست وتسعين وخمسمائة ، وهذا المقسم على شاطىء النيل يزار ، وهناك مسجد يتبرّك به الأبرار ، وهو المكان الذي قسمت فيه الغنائم عند استيلاء الصحابة رضي‌الله‌عنهم على مصر ، فلما أمر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بإدارة السور على مصر والقاهرة ، تولى ذلك الأمير بهاء الدين قراقوش ، وجعل نهايته التي تلي القاهرة عند المقسم ، وبنى فيه برجا مشرفا على النيل ، وبنى مسجدا جامعا ، واتصلت العمارة منه إلى البلد ، وجامعه تقام فيه الجمعة والجماعات ، وهذا البرج عرف بقلعة قراقوش ، وما برح هنالك إلى أن هدمه الصاحب الوزير شمس الدين عبد الله المقسيّ وزير الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون ، في سنة بضع وسبعين وسبعمائة ، عندما جدّد جامع المقس الذي أنشأه الخليفة الحاكم بأمر الله ، فصار يعرف بجامع المقسيّ ، هذا إلى اليوم ، وما برح جامع المقس هذا يشرف على النيل الأعظم إلى ما بعد سنة سبعمائة بعدّة أعوام.

قال جامع السيرة الطولونية : وركب أحمد بن طولون في غداة باردة إلى المقس ، فأصاب بشاطئ النيل صيادا عليه خلق لا يواريه منه شيء ، ومعه صبيّ له في مثل حاله وقد ألقى شبكته في البحر ، فلما رآه رقّ لحاله وقال : يا نسيم ادفع إلى هذا عشرين دينارا ، فدفعها إليه ولحق ابن طولون ، فسار أحمد بن طولون ولم يبعد ورجع فوجد الصياد ميتا والصبيّ يبكي ويصيح ، فظن ابن طولون أن بعض سودانه قتله وأخذ الدنانير منه ، فوقف بنفسه عليه وسأل الصبيّ عن أبيه فقال له : هذا الغلام ، وأشار إلى نسيم الخادم ، دفع إلى أبي شيئا فلم يزل يقلّبه حتى وقع ميتا. فقال : فتشه يا نسيم ، فنزل وفتشه فوجد الدنانير معه بحالها ، فحرّض الصبيّ أن يأخذها فأبى وقال : هذه قتلت أبي ، وإن أخذتها قتلتني ، فأحضر ابن طولون قاضي المقس وشيوخه وأمرهم أن يشتروا للصبيّ دارا بخمسمائة دينار

٢٢٢

تكون لها غلة ، وأن تحبس عليه ، وكتب اسمه في أصحاب الجرايات وقال : أنا قتلت أباه لأنّ الغني يحتاج إلى تدريج وإلّا قتل صاحبه ، هذا كان يجب أن يدفع إليه دينارا بعد دينار حتى تأتيه هذه الحملة على تفرقة فلا تكثر في عينه.

وقال القاضي الفاضل عبد الرحيم البيسانيّ رحمه‌الله في تعلق المتجدّدات لسنة سبع وسبعين وخمسمائة ، وفيه يعني يوم الثلاثاء لست بقين من المحرّم ، ركب السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أعز الله نصره لمشاهدة ساحل النيل ، وكان قد انحسر وتشمر عن المقس وما يليه ، وبعد عن السور والقلعة المستجدّين بالمقس ، وأحضر أرباب الخبرة واستشارهم ، فأشير عليه بإقامة الجراريف لرفع الرمال التي قد عارضت جزائرها طريق الماء وسدّته ووقفت فيه ، وكان الأفضل بن أمير الجيوش لما تربى قدّام دار الملك جزيرة رمل كما هي اليوم ، أراد أن يقرب البحر وينقل الجزيرة ، فأشير عليه بأن يبني مما يلي الجزيرة أنفا خارجا في البحر ليلقى التيار وينقل الرمل ، فعسر هذا وعظمت غرامته ، فأشار عليه ابن سيد بأن يأخذ قصاري فخار تثقب ويعمل تحتها رؤوس برابخ وتلطخ بالزفت وتكبّ القصاري عليها وتدفن في الرمل ، فإذا أراد النيل وركبها ، نزل من خروق القصاري إلى الرءوس ، فأدارها الماء ومنعتها القصاري أن تنحدر ، ودامت حركة الرمل بتحريك الماء للرؤوس ، فانتقل الرمل ، وذكر أنّ للزفت خاصية في تحويل الرمل قال : وفي هذا الوقت احترق النيل وصار البحر مخايض يقطعها الراجل ، وتوحل فيه المراكب ، وتشمر الماء عن ساحل المقس ومصر ، وربّى جزائر رملية أشفق منها على المقياس لئلا يتقلص النيل عنه ، ويحتاج إلى عمل غيره ، وخشي منها أيضا على ساحل المقس لكون بنيان السور كان اتصل بالماء ، وقد تباعد الآن عن السور ، وصار المدّقوّته من برّ الغرب ، ووقع النظر في إقامة جراريف لقطع الجزائر التي رباها البحر ، وعمر أنوف خارجة في بر الجيزة ليميل بها الماء إلى هذا الجانب ، ولم يتم شيء من ذلك.

وقال ابن المتوّج في سنة خمسين وستمائة : انتهى النيل في احتراقه إلى أربعة أذرع وسبعة عشر أصبعا ، وانتهى في زيادته إلى ثمانية عشر ذراعا ، وكان مثل ذلك في دولة الملك الأشرف خليل بن قلاون ، وكان نيلا عظيما سدّ فيه باب المقس ، يعني الباب الذي يعرف اليوم بباب البحر عند المقس ، وفي سنة اثنتين وستين وستمائة أحضر إلى الملك الظاهر بيبرس طفل وجد ميتا بساحل المقس ، له رأسان وأربعة أعين وأربعة أرجل وأربعة أيد ، وأخبرني وكيل أبي الشيخ المعمر حسام الدين حسن بن عمر السهرورديّ رحمه‌الله ، ومولده سنة اثنتين وسبعمائة بالمقس ، أنه يعرف باب البحر هذا ، إذا خرج منه الإنسان فإنه يرى برّ الجيزة ، لا يحول بينه وبينها حائل ، فإذا زاد ماء النيل صار الماء عند الوكالة التي هي الآن خارج باب البحر المعروفة بوكالة الجبن ، وإذا كان أيام احتراق النيل بقيت الرمال تجاه باب البحر ، وذلك قبل أن يحفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصريّ ، فلما حفر

٢٢٣

الخليج المذكور ، أنشأ الناس البساتين والدور كما يجيء إن شاء الله تعالى ذكره ، وأدركنا المقس خطة في غاية العمارة بها عدّة أسواق ، ويسكنها أمم من الأكراد والأجناد والكتاب وغيرهم ، وقد تلاشت من بعد سنة سبع وسبعين وسبعمائة ، عند حدوث الغلاء بمصر في أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين ، فلما كانت المحن منذ سنة ست وثمانمائة خربت الأحكار والمقس وغيره ، وفيه إلى الآن بقية صالحة ، وبه خمسة جوامع تقام بها الجمعة ، وعدّة أسواق ، ومعظمه خراب.

ذكر ميدان القمح

هذا المكان خارج باب القنطرة ، يتصل من شرقية بعدوة الخليج ، ومن غريبه بالمقس ، وبعضهم يسميه ميدان الغلة ، وكان موضعا للغلال أيام كان المقس ساحل القاهرة ، وكانت صبر القمح وغيره من الغلال توضع من جانب المقس إلى باب القنطرة عرضا ، وتقف المراكب من جامع المقس إلى منية الشيرج طولا ، ويصير عند باب القنطرة في أيام النيل من مراكب الغلة وغيرها ما يستر الساحل كله.

قال ابن عبد الظاهر : المكان المعروف بميدان الغلة وما جاوره إلى ما وراء الخليج ، لما ضعف أمر الخلافة وهجرت الرسوم القديمة من التفرّج في اللؤلؤة وغيرها ، بنت الطائفة الفرحية الساكنون بالمقس ، لأنهم ضاق بهم المقس ، قبالة اللؤلؤة حارة سميت بحارة اللصوص ، بسبب تعدّيهم فيها مع غيرهم إلى أن غيروا تلك المعالم ، وقد كان ذلك قديما بستانا سلطانيا يسمّى بالمقسي ، أمر الظاهر بن الحاكم بنقل أنشابه وحفره وجعله بركة قدّام اللؤلؤة مختلطة بالخليج ، وكان للبستان المقدّم ذكره ترعة من البحر يدخل منها الماء إليه ، وهو خليج الذكر الآن ، فأمر بإبقائها على حالها مسلطة على البركة والخليج يستنقع الماء فيها ، فلما نسي ذلك على ما ذكرناه ، عمد المذكورون وغيرهم إلى اقتطاع البركة من الخليج وجعلوا بينها وبين الخليج جسرا ، وصار الماء يصل إليها من الترعة دون الخليج ، وصارت منتزها للسودان المذكورين في أيام النيل والربيع ، ولما كانت الأيام الآمرية أحبّ إعادة النزهة ، فتقدّم وزيره المأمون بن البطائحيّ بإحضار عرفاء السودان المذكورين وأنكر عليهم ، ذلك ، فاعتذروا بكثرة الرمال ، فأمر بنقل ذلك وأعطاهم أنعاما ، فبنوا حارة بالقرب من دار كافور التي أسكنت بها الطائفة المأمونية قبالة بستان الوزير ، ومن المساجد الثلاثة المعلقة في شرقيها ، ثم أحضر الأبقار من البساتين والعدد والآلات ونقض الجسر الذي بين البركة والخليج ، وعمّق البركة إلى أن صار الخليج مسلطا عليها. قال مؤلفه رحمه‌الله تعالى ، هذه البركة عرفت ببطن البقرة ، وقد ذكر خبرها عند ذكر البرك من هذا الكتاب ، وقد صار هذا الميدان اليوم سوقا تباع فيه القشة من النحاس العتيق والحصر وغير ذلك ، وفي بعضه سوق الغزل وبه جامع يشرف على الخليج ، وسكن هناك طائفة من

٢٢٤

المشارقة الحياك ، وفيه سوق عامر بالمعايش.

ذكر أرض الطبالة

هذه الأرض على جانب الخليج الغربيّ بجوار المقس ، كانت من أحسن منتزهات القاهرة ، يمرّ النيل الأعظم من غربيها عندما يندفع من ساحل المقس ، حيث جامع المقس الآن ، إلى أن ينتهي إلى الموضع الذي يعرف بالجرف على جانب الخليج الناصريّ ، بالقرب من بركة الرطليّ ، ويمرّ من الجرف إلى غربيّ البعل ، فتصير أرض الطبالة نقطة وسط ، من غربيها النيل الأعظم ، ومن شرقيها الخليج ، ومن قبليها البركة المعروفة ببطن البقرة ، والبساتين التي آخرها حيث الآن باب مصر بجوار الكبارة ، وحيث المشهد النفيسيّ ، ومن بحريها أرض البعل ومنظرة البعل ومنظرة التاج والخمس وجوه وقبة الهواء ، فكانت رؤية هذه الأرض شيئا عجيبا في أيام الربيع ، وفيها يقول سيف الدين علي بن قزل المشدّ :

إلى طبالة يعزون أرضا

لها من سندس الريحان بسط

وقد كتب الشقيق بها سطورا

وأحسن شكلها للطل نقط

رياض كالعرائس حين تجلى

يزين وجهها تاج وقرط

وإنما قيل لها أرض الطبالة : لأنّ الأمير أبا الحارث أرسلان البساسيري ، لما غاضب الخليفة القائم بأمر الله العباسيّ وخرج من بغداد يريد ، الانتماء إلى الدولة الفاطمية بالقاهرة ، أمدّه الخليفة المستنصر بالله ووزيره الناصر لدين الله عبد الرحمن البازوريّ حتى استولى على بغداد ، وأخذ قصر الخلافة ، وأزال دولة بني العباس منها ، وأقام الدولة الفاطمية هناك ، وسيّر عمامة القائم وثيابه وشباكه الذي كان إذا جلس يستند إليه ، وغير ذلك من الأموال والتحف إلى القاهرة في سنة خمسين وأربعمائة ، فلما وصل ذلك إلى القاهرة سرّ الخليفة المستنصر سرورا عظيما ، وزينت القاهرة والقصور ومدينة مصر والجزيرة ، فوقفت نسب طبالة المستنصر ، وكانت امرأة مرجلة تقف تحت القصر في المواسم والأعياد وتسير أيام الموكب وحولها طائفتها وهي تضرب بالطبل ، وتنشد ، فأنشدت وهي واقفة تحت القصر :

يا بني العباس ردّوا

ملك الأمر معدّ

ملّككم ملك معار

والعوارى تستردّ

فأعجب المستنصر ذلك منها وقال لها تمني ، فسألت أن تقطع الأرض المجاورة للمقس ، فأقطعها هذه الأرض. وقيل لها من حينئذ أرض الطبالة ، وأنشأت هذه الطبالة تربة بالقرافة الكبرى تعرف بتربة نسب. قال ابن عبد الظاهر : أرض الطبالة منسوبة إلى امرأة مغنية تعرف بنسب ، وقيل بطرب ، مغنية المستنصر. قال : فوهبها هذه الأرض المعروفة بأرض الطبالة ، وحكرت وبنيت آدرا وبيوتا ، وكانت من ملح القاهرة وبهجتها ، انتهى. ثم أن أرض

٢٢٥

الطبالة خربت في سنة ست وتسعين وستمائة عند حدوث الغلاء والوباء في سلطنة الملك العادل كتبغا ، حتى لم يبق فيها إنسان يلوح ، وبقيت خرابا إلى ما بعد سنة إحدى عشرة وسبعمائة ، فشرع الناس في سكناها قليلا قليلا ، فلما حفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصريّ في سنة خمس وعشرين وسبعمائة ، كانت هذه الأرض بيد الأمير بكتمر الحاجب ، فما زال بالمهندسين حتى مرّوا بالخليج من عند الجرف على بركة الطوّابين التي تعرف اليوم ببركة الحاجب ، وببركة الرطليّ ، فمرّوا به من هناك حتى صبّ في الخليج الكبير من آخر أرض الطبالة ، فعمر الأمير بكتمر المذكور هناك القنطرة التي تعرف بقنطرة الحاجب على الخليج الناصريّ ، وأقام جسرا من القنطرة المذكورة إلى قريب من الجرف ، فصار هذا الجسر فاصلا بين بركة الحاجب والخليج الناصريّ ، وأذن للناس في تحكيره فبنوا عليه وعلى البركة الدور ، وعمرت بسبب ذلك أرض الطبالة ، وصار بها عدّة حارات منها : حارة العرب ، وحارة الأكراد ، وحارة البزازرة ، وحارة العياطين ، وغير ذلك. وبقي فيها عدّة أسواق وحمّام وجوامع تقام بها الجمعة ، وأقبل الناس على التنزه بها أيام النيل والربيع ، وكثرت الرغبات فيها لقربها من القاهرة ، وما برحت على غاية من العمارة إلى أن حدث الغلاء في سنة سبع وسبعين وسبعمائة أيام الأشرف شعبان بن حسين ، فخرب كثير من حارات أرض الطبالة ، وبقيت منها بقية إلى أن دثرت منذ سنة ست وثمانمائة ، وصارت كيمانا ، وبقي فيها من العامر الآن الاملاك المطلة على البركة التي ذكرت عند ذكر البرك من هذا الكاتب ، وفيها بقعة تعرف بالجنينة تصغير جنة من أخبث بقاع الأرض ، يعمل فيها بمعاصي الله عزوجل ، وتعرف ببيع الحشيشة التي يبتلعها اراذل الناس ، وقد فشت هذه الشجرة الخبيثة في وقتنا هذا فشوّا زائدا ، وولع بها أهل الخلاعة والسخف ولوعا كثيرا ، وتظاهروا بها من غير احتشام بعدما أدركناها تعدّ من أرذل الخبائث وأقبح القاذورات ، وما شيء في الحقيقة أفسد لطباع البشر منها ، ولاشتهارها في وقتنا هذا ، عند الخاص والعام بمصر والشام والعراق والروم ، تعين ذكرها ، والله تعالى أعلم.

ذكر حشيشة الفقراء

قال الحسن بن محمد في كتاب السوانح الأدبية في مدائح القنبية : سألت الشيخ جعفر بن محمد الشيرازيّ الحيدريّ ببلدة تستر في سنة ثمان وخمسين وستمائة ، عن السبب في الوقوف على هذا العقار ووصوله إلى الفقراء خاصة ، وتعدّيه إلى العوام عامّة ، فذكر لي أن شيخه شيخ الشيوخ حيدرا رحمه‌الله ، كان كثير الرياضة والمجاهدة ، قليل الاستعمال للغذاء ، قد فاق في الزهادة وبرز في العبادة ، وكان مولده بنشاور من بلاد خراسان ، ومقامه بجبل بين نشاور ومارماه وكان قد اتخذ بهذا الجبل زاوية وفي صحبته جماعة من الفقراء ، وانقطع في موضع منها ومكث بها أكثر من عشر سنين لا يخرج منها ، ولا يدخل عليه أحد غيري للقيام بخدمته. قال : ثم أن الشيخ طلع ذات يوم وقد اشتدّ الحرّ وقت القائلة منفردا

٢٢٦

بنفسه إلى الصحراء ، ثم عاد وقد علا وجهه نشاط وسرور ، بخلاف ما كنا نعهده من حاله قبل ، وأذن لأصحابه في الدخول عليه ، وأخذ يحادثهم ، فلما رأينا الشيخ على هذه الحالة من المؤانسة بعد إقامته تلك المدّة الطويلة في الخلوة والعزلة ، سألناه عن ذلك فقال : بينما أنا في خلوتي إذ خطر ببالي الخروج إلى الصحراء منفردا ، فخرجت فوجدت كل شيء من النبات ساكنا لا يتحرّك لعدم الريح وشدّة القيظ ، ومررت بنبات له ورق ، فرأيته في تلك الحال يميس بلطف ويتحرّك من غير عنف ، كالثمل النشوان ، فجعلت أقطف منه أوراقا وآكلها ، فحدث عندي من الارتياح ما شاهدتموه ، وقوموا بنا حتى أوقفكم عليه لتعرفوا شكله.

قال : فخرجنا إلى الصحراء ، فأوقفنا على النبات ، فلما رأيناه قلنا هذا نبات يعرف بالقنب ، فأمرنا أن نأخذ من ورقه ونأكله ، ففعلنا ، ثم عدنا إلى الزاوية فوجدنا في قلوبنا من السرور والفرح ما عجزنا عن كتمانه ، فلما رآنا الشيخ على الحالة التي وصفنا ، أمرنا بصيانة هذا العقار ، وأخذ علينا الأيمان أن لا نعلم به أحدا من عوامّ الناس ، وأوصانا أن لا نخفيه عن الفقراء ، وقال إن الله تعالى قد خصكم بسرّ هذا الورق ليذهب بأكله همومكم الكثيفة ، ويجلو بفعله أفكاركم الشريفة ، فراقبوه فيما أودعكم ، وراعوه فيما استرعاكم. قال الشيخ جعفر : فزرعتها بزاوية الشيخ حيدر بعد أن وقفنا على هذا السرّ في حياته ، وأمرنا بزرعها حول ضريحه بعد وفاته ، وعاش الشيخ حيدر بعد ذلك عشر سنين وأنا في خدمته لم أره يقطع أكلها في كل يوم ، وكان يأمرنا بتقليل الغذاء وأكل هذه الحشيشة ، وتوفي الشيخ حيدر سنة ثمان عشرة بزاويته في الجبل ، وعمل على ضريحه قبة عظيمة ، وأتته النذور الوافرة من أهل خراسان وعظموا قدره وزاروا قبره ، واحترموا أصحابه ، وكان قد أوصى أصحابه عند وفاته أن يوقفوا ظرفاء أهل خراسان وكبراءهم على هذا العقار وسرّه ، فاستعملوه.

قال : ولم تزل الحشيشة شائعة ذائعة في بلاد خراسان ومعاملات فارس ، ولم يكن يعرف أكلها أهل العراق حتى ورد إليها صاحب هرمز ، ومحمد بن محمد صاحب البحرين ، وهما من ملوك سيف البحر المجاور لبلاد فارس في أيام الملك الإمام المستنصر بالله ، وذلك في سنة ثمان وعشرين وستمائة ، فحملها أصحابهما معهم وأظهروا للناس أكلها ، فاشتهرت بالعراق ووصل خبرها إلى أهل الشام ومصر والروم فاستعملوها. قال : وفي هذه السنة ظهرت الدراهم ببغداد ، وكان الناس ينفقون القراضة ، وقد نسب إظهار الحشيشة إلى الشيخ حيدر الأديب محمد بن عليّ بن الأعمى الدمشقيّ في أبيات وهي :

دع الخمر واشرب من مدامة حيدر

معنبرة خضراء مثل الزبرجد

يعاطيكها ظبي من الترك أغيد

يميس على غصن من البان أملد

فنحسبها في كفه إذ يديرها

كرقم عذار فوق خدّ مورّد

٢٢٧

يرنحها أدنى نسيم تنسّمت

فتهفو إلى برد النسيم المردّد

وتشدو على أغصانها الورق (١) في الضحى

فيطربها سجع الحمام المغرّد

وفيها معان ليس في الخمر مثلها

فلا تستمع فيها مقالا مفند

هي البكر لم تنكح بماء سحابة

ولا عصرت يوما برجل ولا يد

ولا عبث القسيس يوما بكأسها

ولا قرّبوا من دنها كل مقعد

ولا نصّ في تحريمها عند مالك

ولا حدّ عند الشافعيّ وأحمد

ولا أثبت النعمان تنجيس عينها

فخذها بحدّ المشرفيّ المهند

وكف أكفّ الهمّ بالكف واسترح

ولا تطرح يوم السرور إلى غد

وكذلك نسب إظهارها إلى الشيخ حيدر الأديب أحمد بن محمد بن الرسّام الحلبيّ فقال :

ومهفهف بادي النفار عهدته

لا ألتقيه قط غير معبس

فرأيته بعض الليالي ضاحكا

سهل العريكة ريضا في المجلس

فقضيت منه مآربي وشكرته

إذ صار من بعد التنافر مؤنسي

فأجابني لا تشكرنّ خلائقي

واشكر شفيعك فهو خمر المفلس

فحشيشة الأفراح تشفع عندنا

للعاشقين ببسطها للأنفس

وإذا هممت بصيد ظبي نافر

فاجهد بأن يرعى حشيش القنبس

واشكر عصابة حيدر إذ أظهروا

لذوي الخلاعة مذهب المتخمّس

ودع المعطّل للسرور وخلني

من حسن ظنّ الناس بالمتنمّس

وقد حدّثني الشيخ محمد الشيرازيّ القلندري أنّ الشيخ حيدرا لم يأكل الحشيشة في عمره البتة ، وإنما عامّة أهل خراسان نسبوها إليه لاشتهار أصحابه بها ، وأن إظهارها كان قبل وجوده بزمان طويل ، وذلك أنه كان بالهند شيخ يسمى بيررطن ، هو أوّل من أظهر لأهل الهند أكلها ، ولم يكونوا يعرفونها قبل ذلك ، ثم شاع أمرها في بلاد الهند حتى ذاع خبرها ببلاد اليمن ، ثم فشا إلى أهل فارس ، ثم ورد خبرها إلى أهل العراق والروم والشام ومصر ، في السنة التي قدّمت ذكرها. قال : وكان بيررطن في زمن الأكاسرة ، وأدرك الإسلام وأسلم ، وأنّ الناس من ذلك الوقت يستعملونها ، وقد نسب إظهارها إلى أهل الهند عليّ بن مكيّ في أبيات أنشدنيها من لفظه وهي :

ألا فاكفف الأحزان عني مع الضرّ

بعذراء زفّت في ملاحفها الخضر

تجلت لنا لما تحلتّ بسندس

فجلّت عن التشبيه في النظم والنثر

__________________

(١) أغصان ورق : أي كثيرة الورق. مختار الصحاح.

٢٢٨

بدت تملأ الأبصار نورا بحسنها

فأخجل نور الروض والزهر بالزهر

عروس يسرّ النفس مكنون سرّها

وتصبح في كل الحواس إذا تسري

فللذوق منها مطعم الشهد رائقا

وللشم منها فائق المسك بالنشر

وفي لونها للطرف أحسن نزهة

يميل إلى رؤياه من سائر الزهر

تركّب من قان وأبيض فانثنت

تتيه على الأزهار عالية القدر

فيكسف نور الشمس حمرة لونها

وتخجل من مبيضّه طلعة البدر

علت رتبة في حسنها وكأنها

زبرجد روض جاده وابل القطر

تبدّت فأبدت ما أجنّ من الهوى

وجاءت فولت جند همي والفكر

جميلة أوصاف جليلة رتبة

تغالت فغالى في مدائحها شعري

فقم فانف جيش الهمّ واكفف يد العنا

بهندية أمضى من البيض والسمر

بهندية في أصل إظهار أكلها

إلى الناس لا هندية اللون كالسّمر

تزيل لهيب الهمّ عنّا بأكلها

وتهدي لنا الأفراح في السرّ والجهر

قال : وأنا أقول إنه قديم معروف منذ أوجد الله تعالى الدنيا ، وقد كان على عهد اليونانيين ، والدليل على ذلك ما نقله الأطباء في كتبهم عن بقراط وجالينوس من مزاج هذا العقار وخواصه ، ومنافعه ومضارّه ، قال ابن جزلة في كتاب منهاج البيان : القنب الذي هو ورق الشهدانج ، منه بستانيّ ومنه برّيّ ، والبستانيّ أجوده ، وهو حار يابس في الدرجة الثالثة ، وقيل حرارته في الدرجة الأولى ، ويقال أنه بارد يابس في الدرجة الأولى ، والبريّ منه حار يابس في الدرجة الرابعة. قال : ويسمى بالكفّ. أنشدني تقيّ الدين الموصلي :

كف كفّ الهموم بالكفّ فالك

فّ شفاء للعاشق المهموم

بابنة القنّب الكريمة لا بابن

ة كرم بعد البنت الكروم

قال : والفقراء إنما يقصدون استعماله مع ما يجدون من اللذة تجفيفا للمنيّ ، وفي إبطاله قطع لشهوة الجماع كي لا تميل نفوسهم إلى ما يوقع في الزنا. وقال بعض الأطباء : ينبغي لمن يأكل الشهدانج أو ورقه ، أن يأكله مع اللوز أو الفستق أو السكر أو العسل أو الخشخاش ، ويشرب بعده السكنجبين ليدفع ضرره ، وإذا قلي كان أقلّ لضرره ، ولذلك جرت العادة قبل أكله أن يقلى ، وإذا أكل غير مقليّ كان كثير الضرر ، وأمزجة الناس تختلف في أكله ، فمنهم من لا يقدر أن يأكله مضافا إلى غيره ، ومنهم من يضيف إليه السكر أو العسل أو غيره من الحلاوات. وقرأت في بعض الكتب أن جالينوس قال إنها تبرىء من التخمة ، وهي جيدة للهضم ، وذكر ابن جزلة في كتاب المنهاج أن بزر شجر القنب البستانيّ هو الشهدانج ، وثمره يشبه حب السمنة ، وهو حب يعصر منه الدهن. وحكي عن حنين بن إسحاق أنّ شجرة البري تخرج في القفار المنقطعة على قدر ذراع ، وورقه يغلب عليه

٢٢٩

البياض. وقال يحيى بن ماسويه في كتاب تدبير أبدان الأصحاء : أنّ من غلب على بدنه البلغم ينبغي أن تكون أغذيته مسخنة مجففة ، كالزبيب والشهدانج.

وقال صاحب كتاب إصلاح الأدوية : أنّ الشهدانج يدرّ البول ، وهو عسر الانهضام ، رديء الخلط للمعدة. قال : ولم أجد لإزالة الزفر من اليد أبلغ من غسلها بالحشيشة ، ورأيت من خواصها أن كثيرا من ذوات السموم كالحية ونحوها إذا شمت ريحها هربت ، ورأيت أن الإنسان إذا أكلها ووجد فعلها في نفسه ، وأحبّ أن يفارقه فعلها قطر في منخريه شيئا من الزيت ، وأكل من اللبن الحامض. ومما يكسر قوّة فعلها ويضعفه السباحة في الماء الجاري ، والنوم يبطله.

قال مؤلفه رحمه‌الله تعالى : دع نزاهة القوم ، فما بلي الناس بأفسد من هذه الشجرة لأخلاقهم ، ولقد حدّثني القاضي الرئيس تاج الدين إسماعيل بن عبد الوهاب بن الخطباء المخزوميّ ، قبل اختلاطه ، عن الرئيس علاء الدين بن نفيس : أنه سئل عن هذه الحشيشة فقال : اعتبرتها فوجدتها تورث السفالة والرذالة ، وكذلك جرّبنا في طول عمرنا من عاناها فإنه ينحط في سائر أخلاقه إلى ما لا يكاد أن يبقى له من الإنسانية شيء البتة.

وقد قال ابن البيطار في كتاب المفردات : ومن القنب نوع ثالث يقال له القنب الهنديّ ، ولم أره بغير مصر ، ويزرع في البساتين ويقال له الحشيشة عندهم أيضا ، وهو يسكر جدّا إذا تناول منه الإنسان قدر درهم أو درهمين ، حتى أنّ من أكثر منه يخرجه إلى حدّ الرعونة ، وقد استعمله قوم فاختلت عقولهم ، وأدّى بهم الحال إلى الجنون ، وربما قتلت. ورأيت الفقراء يستعملونها على أنحاء شتى ، فمنهم من يطبخ الورق طبخا بليغا ويدعكه باليد دعكا جيدا ، حتى يتعجن ، ويعمل منه أقراصا ، ومنهم من يجففه قليلا ثم يحمصه ويفركه باليد ، ويخلط به قليل سمسم مقشور وسكّر ويستفه ويطيل مضغه ، فإنهم يطربون عليه ويفرحون كثيرا ، وربما أسكرهم فيخرجون به إلى الجنون أو قريب منه ، وهذا ما شاهدته من فعلها ، وإذا خيف من الإكثار منه فليبادر إلى القيء بسمن وماء سخن ، حتى تنقى منه المعدة ، وشراب الحماض لهم في غاية النفع ، فانظر كلام العارف فيها واحذر من إفساد بشريّتك وتلاف أخلاقك باستعمالها ، ولقد عهدناها وما يرمى بتعاطيها إلّا أراذل الناس ، ومع ذلك فيأنفون من انتسابهم لها لما فيها من الشنعة ، وكان قد تتبع الأمير سودون الشيخونيّ رحمه‌الله الموضع الذي يعرف بالجنينة من أرض الطبالة وباب اللوق وحكر واصل ببولاق ، وأتلف ما هنالك من هذه الشجرة الملعونة ، وقبض على من كان يبتلعها من أطراف الناس ورذلائهم وعاقب على فعلها بقلع الأضراس ، فقلع أضراس كثير من العامّة في نحو سنة ثمانين وسبعمائة ، وما برحت هذه الخبيثة تعدّ من القاذورات حتى قدم سلطان بغداد أحمد بن أويس فارا من تيمورلنك إلى القاهرة في سنة خمس وتسعين وسبعمائة ، فتظاهر أصحابه بأكلها ، وشنع الناس عليهم واستقبحوا ذلك من فعلهم وعابوه عليهم ، فلما سافر من

٢٣٠

القاهرة إلى بغداد وخرج منها ثانيا وأقام بدمشق مدّة ، تعلم أهل دمشق من أصحابه التظاهر بها. وقدم إلى القاهرة شخص من ملاحدة العجم صنع الحشيشة بعسل ، خلط فيها عدّة أجزاء مجففة ، كعرف اللفاح ونحوه ، وسمّاها العقدة وباعها بخفية ، فشاع أكلها وفشا في كثير من الناس مدّة أعوام ، فلما كان في سنة خمس عشرة وثمانمائة شنع التجاهر بالشجرة الملعونة ، فظهر أمرها واشتهر أكلها وارتفع الاحتشام من الكلام بها ، حتى لقد كادت أن تكون من تحف المترفين ، وبهذا السبب غلبت السفالة على الأخلاق ، وارتفع ستر الحياء والحشمة من بين الناس ، وجهروا بالسوء من القول ، وتفاخروا بالمعايب ، وانحطوا عن كل شرف وفضيلة ، وتحلوا بكل ذميمة من الأخلاق ورذيلة ، فلولا الشكل لم تقض لهم بالإنسانية ، ولو لا الحس لما حكمت عليهم بالحيوانية ، وقد بدأ المسخ في الشمائل والأخلاق المنذر بظهوره على الصور والذوات ، عافانا الله تبارك وتعالى من بلائه ، وأرض الطبالة الآن بيد ورثة الحاجب.

ذكر أرض البعل والتاج

قال ابن سيده : البعل ، الأرض المرتفعة التي لا يصيبها المطر إلّا مرّة واحدة في السنة. وقيل : البعل ، كلّ شجر أو زرع لا يسقى. وقيل : البعل : ما سقته السماء ، وقد استبعل الموضع. والبعل : من النخل ما شرب بعروقه من غير سقي ولا ماء سماء. وقيل هو ما اكتفى بماء السماء ، والبعل ما أعطي من الأتاوة على سقي النخل ، واستبعل الموضع والنخل صار بعلا. وأرض البعل هذه بجانب الخليج ، تتصل بأرض الطبالة ، كانت بستانا يعرف بالبعل ، وفيه منظرة أنشأه الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ ، وجعل على هذا البستان سورا ، وإلى جانب بستان البعل هذا بستان التاج ، وبستان الخمس وجوه ، وقد ذكرت مناظر هذه البساتين وما كان فيها للخلفاء الفاطميين من الرسوم عند ذكر المناظر من هذا الكتاب.

وأرض البعل في هذا الوقت مزرعة تجاه قنطرة الأوز التي على الخليج. يخرج الناس للتنزه هناك أيام النيل وأيام الربيع ، وكذلك أرض التاج فإنها اليوم قد زالت منها الأشجار واستقرّت من أراضي المنية الخراجية ، وفي أيام النيل ينبت فيها نبات يعرف بالبشنين ، له ساق طويل وزهره شبه اللينوفر ، وإذا أشرقت الشمس انفتح فصار منظرا أنيقا ، وإذا غربت الشمس انضم. ويذكر أنّ من العصافير نوعا صغيرا يجلس العصفور منه في دار البشنينة ، فإذا أقبل الليل انضمت عليه وغطست في الماء فبات في جوفها آمنا إلى أن تشرق الشمس ، فتصعد البشنينة وتنفتح فيطير العصفور ، وهو شيء ما برحنا نسمعه. وهذا البشنين يصنع من زهره دهن يعالج به في البرسام وترطيب الدماغ فينجع ، وأصله يعرف بالبيارون ، يجمعه الأعراب ويأكلونه نيئا ومطبوخا ، وهو يميل إلى الحرارة يسيرا ، ويزيد في الباه ، ويسخّن المعدة ويقوّيها ، ويقطع الزحير ، ذكر ذلك ابن البيطار في كتاب المفردات ، وفي أيام الربيع

٢٣١

تزرع هذه الأراضي فتذكّر بحسنها ونضارتها جنة الخلد التي وعد المتقون. وأدركت بهذه الأرض بقايا نخل وأشجار وقد تلفت.

ذكر ضواحي القاهرة

قال ابن سيده : ضواحي كل شيء نواحيه البارزة للشمس ، والضواحي من النخيل ما كان خارج السور على صفة عالية لأنها تضحى للشمس. وفي كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل بدر : «لكم الصامتة من النخل ولنا الضاحية من البعل» يعني بالصامتة : ما أطاف به سور المدينة ، وضواحي الروم ما ظهر من بلادهم وبرز. ويقال في زماننا لما خرج عن القاهرة مما هو في جنبتي الخليج من القرى ضواحي القاهرة ، وقد عرفت أصل ذلك من اللغة ، وتعرف البلاد التي من الضواحي في غربيّ الخليج من القرى ضواحي القاهرة ، وقد عرفت أصل ذلك من اللغة ، وتعرف البلاد التي من الضواحي في غربيّ الخليج بالحبس الجيوشيّ ، وهي : بهتين ، والأميرية ، والمنية. وكان أيضا بناحية الجيزة من جملة الحبس الجيوشيّ ناحية سفط ونهيا ووسيم ، حبس هذه البلاد أمير الجيوش بدر الجماليّ على عقبه. فلما زالت الدولة الفاطمية جعل السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أمر الأسطول لأخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، وسلّمه له في سنة سبع وثمانين وخمسمائة ، وأفرد لديوان الأسطول من الأبواب الديوانية الزكاة التي كانت تجبى من الناس بمصر ، والحبس الجيوشي بالبرّين والنطرون والخراج ، وما معه من ثمن القرظ ، وساحل السنط ، والمراكب الديوانية ، وأشنأ وطنتدي وأحيل ورثة أمير الجيوش على غير الحبس الذي لهم ، ثم أفتى الفقهاء ببطلان الحبس ، وقبضت النواحي وصارت من جملة أموال الخراج ، فعرفت ببلاد الملك ، وهذه الضواحي الآن منها ما هو وقف ومنها ما هو في الديوان السلطانيّ ، وخراجها يتميز على غيرها من النواحي ، ويزرع أكثرها من الكتان والمقاثي وغيرها.

ذكر منية الأمراء

قال ياقوت في كتاب المشترك : المنية ثلاثة وأربعون موضعا ، وجميعها بمصر غير واحدة ، وبمصر من القرى المسماة بهذا الاسم ما يقارب المائتين. قال : ومنية الشيرج ، ويقال لها منية الأمير ومنية الأمراء ، بليدة فيها أسواق على فرسخ من القاهرة في طريق الإسكندرية. وذكر الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ النسابة : أن قتلى أهل الشام الذين قتلوا في وقعة الخندق ، بين مروان بن الحكم وعبد الرحمن بن جحدم أمير مصر ، في سنة خمس وستين من الهجرة ، دفنوا حيث موضع منية الشيرج هذه ، وكانوا نحوا من الثمانمائة.

وقال ابن عبد الظاهر : منية الأمراء من الحبس الجيوشيّ الشرقيّ الذي كان حبسه أمير الجيوش ، ثم ارتجع. وفي كل سنة يأكل البحر منها جانبا ، ويجدّد جامعها ودورها حتى

٢٣٢

صار جامعها القديم ودورها في برّ الجيزة ، وغلب البحر عليها ، وهذه المنية من محاسن منتزهات القاهرة ، وكانت قد كثرت العمائر بها واتخذها الناس منزل قصف ودار لعب ولهو ومغنى صبابات ، وبها كان يعمل عيد الشهيد الذي تقدّم ذكره عند ذكر النيل من هذا الكتاب ، لقربها من ناحية شبرا ، وبها سوق في كل يوم أحد يباع فيه البقر والغنم والغلال ، وهو من أسواق مصر المشهورة ، وأكثر من كان يسكن بها النصارى ، وكانت تعرف بعصر الخمر وبيعه ، حتى أنه لما عظمت زيادة ماء النيل في سنة ثمان عشرة وسبعمائة ، وكانت الغرقة المشهورة وغرقت شبرا والمنية ، تلف فيها من جرار الخمر ما ينيف على ثمانين ألف جرّة مملوءة بالخمر ، وباع نصرانيّ واحد مرّة في يوم عيد الشهيد بها خمرا باثني عشر ألف درهم فضة ، عنها يومئذ نحو الستمائة دينار ، وكسر منها الأمير بلبغا السالميّ في صفر سنة ثلاث وثمانمائة ما ينيف على أربعين ألف جرّة مملوءة بالخمر.

وما برحت تغرق في الأنيال العالية إلى أن عمل الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة الجسر من بولاق إلى المنية ، كما ذكر عند ذكر الجسور من هذا الكتاب. فأمن أهلها من الغرق ، وأدركناها عامرة بكثرة المساكن والناس والأسواق والمناظر ، وتقصد للنزهة بها أيام النيل والربيع ، لا سيما في يومي الجمعة والأحد ، فإنه كان للناس بها في هذين اليومين مجتمع ينفق فيه مال كثير ، ثم لما حدثت المحن من سنة ست وثمانمائة ، الحّ المناسر بالهجوم عليها في الليل وقتلوا من أهلها عدّة ، فارتحل الناس منها وخلت أكثر دورها ، وتعطلت حتى لم يبق بها سوى طاحون واحدة لطحن القمح ، بعد ما كان بها ما ينيف على ثمانين طاحونة ، وبها الآن بقية وهي جارية في الديوان السلطاني المعروف بالمفرد.

ذكر كوم الريش

هذا اسم لبلد فيما بين أرض البعل ومنية الشيرج. كان النيل يمرّ بغربيها بعد مروره بغربيّ أرض البعل ، وأدركت آثار الجروف باقية من غربيّ البعل ، وغربيّ كوم الريش إلى أطراف المنية ، حتى تغيرت الأحوال من بعد سنة ست وثمانمائة ، ففاض ماء النيل في أيام الزيادة ونزل في الدرب الذي كان يسلك فيه من أرض الطبالة إلى المنية ، فانقطع هذا الدرب وترك الناس سلوكه ، وكان كوم الريش من أجلّ منتزهات القاهرة ، ورغب أعيان الناس في سكناها للتنزه بها.

وأخبرني شيخنا قاضي القضاة مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم الحنفي ، وخال أبي تاج الدين إسماعيل بن أحمد بن الخطباء ، أنهما أدركا بكوم الريش عدّة أمراء يسكنون فيها دائما ، وأنه كان من جملة من يسكن فيها دائما نحو الثمانمائة من الجند السلطاني ، وأنا أدركت بها سوقا عامرا بالمعايش بأنواعها من المآكل ، لا أعرف اليوم بالقاهرة مثله في كثرة

٢٣٣

المآكل ، وأدركت بها حمّاما وجامعين تقام بهما الجمعة ، وموقف مكارية ، ومنارة لا يقدر الواصف أن يعبر عن حسنها لما اشتملت عليه من كل معنى رائق بهج ، وما برحت على ذلك إلى أن حدثت المحن من سنة ست وثمانمائة ، فطرقها أنواع الرزايا حتى صارت بلاقع (١) ، وجهلت طرقها وتغيرت معاهدها ونزل بها من الوحشة ما أبكاني ، وأنشدت في رؤيتها عندما شاهدتها خرابا :

قفرا كأنك لم تكن تلهو بها

في نعمة وأوانس أتراب

وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ، إنّ أخذه أليم شديد.

ذكر بولاق

قد تقدّم في غير موضع من هذا الكتاب أن ساحل النيل كان بالمقس ، وأن الماء انحسر بعد سنة سبعين وخمسمائة عن جزيرة عرفت بجزيرة الفيل ، وتقلص ماء النيل عن سور القاهرة الذي ينتهي إلى المقس ، وصارت هناك رمال وجزائر ، ما من سنة إلّا وهي تكثر ، حتى بقي ماء النيل لا يمرّ بها إلا أيام الزيادة فقط. وفي طول السنة ينبت هناك البوص والحلفاء ، وتنزل المماليك السلطانية لرمي النشاب في تلك التلال الرمل. فلما كان سنة ثلاث عشرة وسبعمائة رغب الناس في العمارة بديار مصر ، لشغف السلطان الملك الناصر بها ومواظبته عليها ، فكأنما نودي في القاهرة ومصر أن لا يتأخر أحد من الناس عن إنشاء عمارة ، وجدّ الأمراء والجند والكتّاب والتجّار والعامّة في البناء ، وصارت بولاق حينئذ تجاه بولاق التكرور ، يزرع فيها القصب والقلقاس على ساقية تنقل الماء من النيل ، حيث جامع الخطيري الآن ، فعمّر هناك رجل من التجار منظرة ، وأحاط جدارا على قطعة أرض غرس فيها عدّة أشجار وتردّد إليها للنزهة.

فلما مات انتقلت إلى ناصر الدين محمد بن الجوكندار ، فعمر الناس بجانبها دورا على النيل وسكنوا ورغبوا في السكنى هناك ، فامتدّت المناظر على النيل من الدار المذكورة إلى جزيرة الفيل ، وتفاخروا في إنشاء القصور العظيمة هناك ، وغرسوا من ورائها البساتين العظيمة ، وأنشأ القاضي ابن المغربيّ رئيس الأطباء بستانا ، اشتراه منه القاضي كريم الدين ناظر الخاص للأمير سيف الدين طشتمر الساقي ، بنحو مائة ألف درهم فضة. وكثر التنافس بين الناس في هذه الناحية ، وعمروها حتى انتظمت العمارة في الطول على حافة النيل ، من منية الشيرج إلى موردة الحلفاء ، بجوار الجامع الجديد خارج مصر ، وعمر في العرض على حافة النيل الغربية ، من تجاه الخندق بحريّ القاهرة ، إلى منشأة المهرانيّ. وبقيت هذه المسافة العظيمة كلها بساتين وأحكارا عامرة بالدور والأسواق والحمّامات والمساجد

__________________

(١) البلقع : الأرض القفر التي لا شيء بها. مختار الصحاح.

٢٣٤

والجوامع وغيرها ، وبلغت بساتين جزيرة الفيل خاصة ما ينيف على مائة وخمسين بستانا ، بعد ما كانت في سنة إحدى عشرة وسبعمائة نحو العشرين بستانا.

وأنشأ القاضي الفاضل جلال الدين القزوينيّ ، وولده عبد الله ، دارا عظيمة على شاطيء النيل بجزيرة الفيل ، عند بستان الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب. وأنشأ الأمير عز الدين الخطيريّ جامعة ببولاق على النيل ، وأنشأ بجواره ربعين. وأنشأ القاضي شرف الدين بن زنبور بستانا ، وأنشأ القاضي فخر الدين المعروف بالفخر ناظر الجيش بستانا ، وحكر الناس حول هذه البساتين وسكنوا هناك ، ثم حفر الملك الناصر محمد بن قلاوون الخليج الناصريّ سنة خمس وعشرين وسبعمائة ، فعمر الناس على جانبي هذا الخليج ، وكان أوّل من عمر بعد حفر الخليج الناصريّ المهاميزي ، أنشأ بستانا ومسجدا هما موجودان إلى اليوم ، وتبعه الناس في العمارة حتى لم يبق في جميع هذه المواضع مكان بغير عمارة ، وبقي من يمرّ بها يتعجب ، إذ ما بالعهد من قدم ، بينما هي تلال رمل وحلافي ، إذ صارت بساتين ومناظر وقصورا ومساجد وأسواقا وحمامات وأزقة وشوارع ، وفي ناحية بولاق هذه كان خص الكيالة الذي يؤخذ فيه مكس الغلة إلى أن أبطله الملك الناصر محمد بن قلاوون ، كما ذكر في الروك الناصريّ من هذا الكتاب. ولما كانت سنة ست وثمانمائة انحسر ماء النيل عن ساحل بولاق ، ولم يزل يبعد حتى صار على ما هو عليه الآن ، وناحية بولاق الآن عامرة ، وتزايدت العمائر بها ، وتجدّد فيها عدّة جوامع وحمّامات ورباع وغيرها.

ذكر ما بين بولاق ومنشأة المهراني

وكان فيما بين بولاق ومنشأة المهراني خط فم الخور ، وخط حكر ابن الأثير ، وخط زريبة قوصون ، وخط الميدان السلطانيّ بموردة الملح ، وخط منشأة الكتبة.

فأمّا فم الخور ، فكان فيه من المناظر الجليلة الوصف عدّة تشرف على النيل ، ومن ورائها البساتين ، ويفصل بين البساتين والدور المطلة على النيل شارع مسلوك ، وأنشئ هناك حمّام وجامع وسوق ، وقد تقدّم ذكر الخور ، وأنشأ هناك القاضي علاء الدين بن الأثير دارا على النيل ، وكان إذ ذاك كاتب السرّ ، وبنى الناس بجواره ، فعرف ذلك الخط بحكر ابن الأثير ، واتصلت العمارة من بولاق إلى فم الخور ، ومن فم الخور إلى حكر ابن الأثير ، وما برح فيه من مساكن الأكابر من الوزراء والأعيان ، ومن الدور العظيمة ما يتجاوز الوصف.

وأما الزريبة فإن الملك الناصر محمد بن قلاوون ، لما وهب البستان الذي كان بالميدان الظاهريّ للأمير قوصون أنشأ قدّامه على النيل زريبة ، ووقفها ، فعمر الناس هناك حتى انتظمت العمارة من حكر ابن الأثير إلى الزريبة ، وعمر هناك حمّام وسوق كبير ، وطواحين وعدّة مساكن اتصلت باللوق.

وأما زريبة السلطان ، فإن الملك الناصر محمد بن قلاوون لما عمر ميدان المهاري

٢٣٥

المجاور لقناطر السباع الآن ، أنشأ زريبة في قبليّ الجامع الطيبرسيّ ، وحفر لأجل بناء هذه الزريبة البركة المعروفة الآن بالبركة الناصرية ، حتى استعمل طينها في البناء ، وأنشأ فوق هذه الزريبة دار وكالة وربعين عظيمين ، جعل أحدهما وقفا على الخانقاه التي أنشأها بناحية سرياقوس ، وأنعم بالآخر على الأمير بكتمر الساقي ، فأنشأ الأمير بكتمر بجواره حمّامين ، إحداهما برسم الرجال والأخرى برسم النساء ، فكثر بناء الناس فيما هنالك حتى اتصلت العمارة من بحريّ الجامع الطيبرسيّ بزريبة قوصون ، وصار هناك أزقة وشوارع ودروب ومساكن ، من وراء المناظر المطلة على النيل ، تتصل بالخليج. وأكثر الناس من البناء في طريق الميدان السلطانيّ ، فصارت العمائر منتظمة من قناطر السباع إلى الميدان ، من جهاته كلها ، وتنافس الناس في تلك الأماكن وتغالوا في أجرها.

وعمر المكين إبراهيم بن قزوينة ناظر الجيش في قبليّ زريبة السلطان ، حيث كان بستان الخشاب ، دارا جليلة. وعمر أيضا صلاح الدين الكحال ، والصاحب أمين الدين عبد الله بن الغنام ، وعدّة من الكتاب ، فقيل لهذه الخطة منشأة الكتاب ، وأنشأ فيها الصاحب أمين الدين خانقاه بجوار داره ، وعمر أيضا كريم الدين الصغير ، حتى اتصلت العمارة بمنشأة المهراني ، فصار ساحل النيل من خط دير الطين قبليّ مدينة مصر إلى منية الشيرج بحريّ القاهرة ، مسافة لا تقصر عن أزيد من نصف بريد بكثير ، كلها منتظمة بالمناظر العظيمة ، والمساكن الجليلة ، والجوامع ، والمساجد ، والخوانك ، والحمامات ، وغيرها من البساتين ، لا تجد فيما بين ذلك خرابا البتة ، وانتظمت العمارة من وراء الدور المطلة على النيل حتى أشرفت على الخليج.

فبلغ هذا البرّ الغربيّ من وفور العمارة وكثرة الناس وتنافسهم في الإقبال على اللذات وتأنقهم في الانهماك في المسرّات ما لا يمكن وصفه ، ولا يتأتى شرحه ، حتى إذا بلغ الكتاب أجله وحدثت المحن من سنة ست وثمانمائة ، وتقلص ماء النيل عن البرّ الشرقيّ ، وكثرت حاجات الناس وضروراتهم ، وتساهل قضاة المسلمين في الاستبدال في الأوقاف وبيع نقضها ، اشترى شخص الربعين والحمامين ودار الوكالة التي ذكرت على زريبة السلطان بجوار الجامع الطيبرسيّ ، في سنة سبع وثمانمائة ، وهدم ذلك كله وباع أنقاضه ، وحفر الأساسات واستخرج ما فيها من الحجر وعمله جيرا ، فنال من ذلك ربحا كثيرا ، وتتابع الهدم في شاطىء النيل وباع الناس أنقاض الدور ، فرغب في شرائها الأمراء والأعيان وطلاب الفوائد من العامة ، حتى زال جميع ما هنالك من الدور العظيمة والمناظر الجليلة ، وصار الساحل من منشأة المهرانيّ إلى قريب من بولاق كيمانا موحشة ، وخرائب مقفرة ، كأن لم تكن مغنى صبابات ، وموطن أفراح ، وملعب أتراب ، ومرتع غزلان تفتن النساك هناك ، وتعيد الحليم سفيها سنة الله في الذين خلوا من قبل ، وإني إذا تذكرت ما صارت إليه أنشد قول عبد الله بن المعتز :

٢٣٦

سلام على تلك المعاهد والربا

سلام وداع لا سلام قدوم

وصار بهذا العهد ما بين أوّل بولاق من قبليه ، إلى أطراف جزيرة الفيل عامرا ، من غربيه المفضي إلى النيل ، ومن شرقيه الذي ينتهي إلى الخليج ، إلّا أنّ النيل قد نشأت فيه جزائر ورمال بعد بها الماء عن البرّ الشرقيّ ، وكثر العناء لبعده ، وفي كل عام تكثر الرمال ويبعد الماء عن البرّ ، ولله عاقبة الأمور. فهذا حال الجهة الغربية من ظواهر القاهرة في ابتداء وضعها ، وإلى وقتنا هذا ، وبقي من ظواهر القاهرة الجهة القبلية والجهة البحرية ، وفيهما أيضا عدّة أخطاط تحتاج إلى شرح وتبيان ، والله تعالى أعلم بالصواب.

ذكر خارج باب زويلة

اعلم أنّ خارج باب زويلة جهتان ، جهة تلي الخليج ، وجهة تلي الجبل. فأما الجهة التي تلي الخليج ، فقد كانت عند وضع القاهرة بساتين كلها ، فيما بين القاهرة إلى مصر. وعندي فيما ظهر لي ، أنّ هذه الجهة كانت في القديم غامرة بماء النيل ، وذلك أنه لا خلاف بين أهل مصر قاطبة أنّ الأراضي التي هي من طين أبليز لا تكون إلّا من أرض ماء النيل ، فإنّ أرض مصر تربة رملة سبخة ، وما فيها من الطين طرح بعلوها عند زيادة ماء النيل ، مما يحمله من البلاد الجنوبية من مسيل الأودية ، فلذلك يكون لون الماء عند الزيادة متغيرا ، فإذا مكث على الأرض قعد ما كان في الماء من الطين على الأرض ، فسماه أهل مصر إبليز ، وعليه تزرع الغلال وغيرها ، وما لا يشمله ماء النيل من الأرض لا يوجد فيه هذا الطين البتة ، وأنت إن عرفت أخبار مصر بتأمّلك ما تضمنه هذا الكتاب ، ظهر لك أن موضع جامع عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه كان كروما مشرفة على النيل ، وأن النيل انحسر بعد الفتح عما كان تجاه الحصن الذي يقال له قصر الشمع ، وعما هو الآن تجاه الجامع ، وما زال ينحسر شيئا بعد شيء حتى صار الساحل بمصر من عند سوق المعاريج الآن إلى قريب من السبع سقايات ، وجميع الأراضي التي فيها الآن المراغة خارج مصر إلى نحو السبع سقايات ، وما يقابل ذلك من برّ الخليج الغربيّ كان غامرا بالماء كما تقدّم ، وكان في الموضع الذي تجاه المشهد المعروف بزيد ، وتسميه العامة الآن مشهد زين العابدين ، بساتين ، شرقيها عند المشهد النفيسيّ ، وغربيها عند السبع سقايات ، منها بساتين عرفت بجنان بني مسكين ، وعندها بني كافور الإخشيدي داره على البركة التي تجاه الكبش ، وتعرف اليوم ببركة قارون ، ومنها بستان يعرف ببستان ابن كيسان ، ثم صار صاغة ، وهو الآن يعرف ببستان الطواشي ، ومنها بستان عرف آخرا بجنان الحارة ، وهو من حوض الدمياطي الذي بقرب قنطرة السدّ الآن إلى السبع سقايات ، وبقرب السبع سقايات بركة الفيل ، ويشرف على بركة الفيل بساتين من دائرها ، وإلى وقتنا هذا عليها بستان يعرف بالحبانية ، وهم بطن من درما بن عمرو بن عوف بن ثعلبة بن سلامان بن بعل بن عمرو بن الغوث بن طي ، فدرما فخذ من طيّ ،

٢٣٧

والحبانيون بطن من درما ، وبستان الحبانية فصل الناس بينه وبين البركة بطريق تسلك فيها المارة ، وكان من شرقيّ بركة الفيل أيضا بساتين ، منها بستان سيف الإسلام ، فيما بين البركة والجبل الذي عليه الآن قلعة الجبل ، وموضعه الآن المساكن التي من جملتها درب ابن البابا إلى زقاق حلب ، وحوض ابن هنس ، وعدّة بساتين أخر إلى باب زويلة.

وكذلك شقة القاهرة الغربية كانت أيضا بساتين ، فوضع حارة الوزيرية إلى الكافوريّ كان ميدان الإخشيد ، وبجانب الميدان بستانه الذي يقال له اليوم الكافوري ، وما خرج عن باب الفتوح إلى منية الأصبغ الذي يعرف اليوم بالخندق ، كان ذلك كله بساتين على حافة الخليج الشرقية ، وقد ذكرت هذه المواضع في هذا الكتاب مبينة ، وعند التأمل يظهر أن الخليج الكبير عند ابتداء حفره كان أوّله إمّا عند مدينة عين شمس ، أو من بحريها ، لأجل أن القطعة التي بجانب هذا الخليج من غربيه ، والقطعة التي هي بشرقيه ، فيما بين عين شمس وموردة الحلفاء خارج مدينة فسطاط مصر ، جميعهما طين إبليز ، والطين المذكور لا يكون إلا من حيث يمرّ ماء النيل ، فتعين أنّ ماء النيل كان في القديم على هذه الأرض التي بجانبي الخليج ، فينتج أن أوّل الخليج كان عند آخر النيل من من الجهة البحرية ، وينتهي الطين إلى نحو مدينة عين شمس من الجانب الشرقيّ ، ويصير ما بعد الخندق في الجهة البحرية رملا لا طين فيه ، وهذا بين لمن تأمله وتدبره ، وفي هذه الجهة التي تلي الخليج خارج باب زويلة حارات قد ذكرت عند ذكر الحارات من هذا الكتاب ، وبقيت هناك أشياء نحتاج أن نعرّف بها وهي :

حوض ابن هنس : وهو حوض ترده الدواب ، وينقل إليه الماء من بئر ، وبه صارت تلك الخطة تعرف ، وهي تلي حارة حلب ، ويسلك إليها من جانبه ، وهو وقف الأمير سعد الدين مسعود بن الأمير بدر الدين هنس بن عبد الله ، أحد الحجاب الخاص في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب في سلخ شعبان سنة سبع وأربعين وستمائة ، وعمل بأعلاه مسجدا مرتفعا وساقية ماء على بئر معين ، ومات يوم السبت عاشر شوّال سنة سبع وأربعين وستمائة ، ودفن بجوار الحوض ، وكان هذا الحوض قد تعطل في عصرنا ، فجدّده الأمير تتر أحد الأمراء الكبار في الدولة المؤيدية ، في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة ، ومات هنس أمير جندار السلطان الملك العزيز عثمان في سنة إحدى وتسعين وخمسمائة.

مناظر الكبش : هذه المناظر آثارها الآن على جبل يشكر بجوار الجامع الطولونيّ ، مشرفة على البركة التي تعرف اليوم ببركة قارون عند الجسر الأعظم ، الفاصل بين بركة الفيل وبركة قارون ، أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب في أعوام بضع وأربعين وستمائة. وكان حينئذ ليس على بركة الفيل بناء ، ولا في المواضع التي في برّ الخليج الغربيّ من قنطرة السباع إلى المقس سوى

٢٣٨

البساتين ، وكانت الأرض التي من صليبة جامع ابن طولون إلى باب زويلة بساتين ، وكذلك الأرض التي من قناطر السباع إلى باب مصر بجوار الكبارة ليس فيها إلّا البساتين ، وهذه المناظر تشرف على ذلك كله من أعلى جبل يشكر ، وترى باب زويلة والقاهرة ، وترى باب مصر ومدينة مصر ، وترى قلعة الروضة وجزيرة الروضة ، وترى بحر النيل العظيم وبرّ الجيزة. فكانت من أجلّ منتزهات مصر ، وتأنق في بنائها أو سماها الكبش ، فعرفت بذلك إلى اليوم. وما زالت بعد الملك الصالح من المنازل الملوكية ، وبها أنزل الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد العباسيّ ، لما وصل من بغداد إلى قلعة الجبل وبايعه الملك الظاهر ركن الدين بيبرس بالخلافة ، فأقام بها مدّة ثم تحوّل منها إلى قلعة الجبل ، وسكن بمناظر الكبش أيضا الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان في أوّل خلافته ، وفيها أيضا كانت ملوك حماه من بني أيوب تنزل عند قدومهم إلى الديار المصرية ، وأوّل من نزل منهم فيها الملك المنصور لما قدم على الملك الظاهر بيبرس في المحرّم سنة ثلاث وسبعين وستمائة ، ومعه ابنه الملك الأفضل نور الدين عليّ ، وابنه الملك المظفر تقيّ الدين محمود ، فعندما حلّ بالكبش أتاه الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني بالسماط فمدّه بين يديه ، ووقف كما يفعل بين يدي الملك الظاهر ، فامتنع الملك المنصور من الرضى بقيامه على السماط ، وما زال به حتى جلس. ثم وصلت الخلع والمواهب إليه وإلى ولده وخواصه.

وفي سنة ثلاث وتسعين وستمائة أنزل بهذه المناظر نحو ثلاثمائة من مماليك الأشرف خليل بن قلاوون ، عندما قبض عليهم بعد قتل الأشرف المذكور ، ثم إن الملك الناصر محمد بن قلاوون هدم هذه المناظر المذكورة ، في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ، وبناها بناء آخر ، وأجرى الماء إليها وجدّد بها عدّة مواضع ، وزاد في سعتها ، وأنشأ بها اصطبلا تربط فيه الخيول ، وعمل زفاف ابنته على ولد الأمير أرغون نائب السلطنة بديار مصر ، بعدما جهزها جهازا عظيما منه : بشخاناه ، وداير بيت ، وستارات طرّز ذلك بثمانين ألف مثقال ذهب مصريّ ، سوى ما فيه من الحرير وأجرة الصناع ، وعمل سائر الأواني من ذهب وفضة ، فبلغت زنة الأواني المذكورة ما ينيف على عشرة آلاف مثقال من الذهب ، وتناهى في هذا الجهاز وبالغ في الإنفاق عليه حتى خرج عن الحدّ في الكثرة ، فإنها كانت أوّل بناته ، ولما نصب جهازها بالكبش نزل من قلعة الجبل وصعد إلى الكبش ، وعاينه ورتبه بنفسه ، واهتم في عمل العرس اهتماما ملوكيا ، وألزم الأمراء بحضوره فلم يتأخر أحد منهم عن الحضور ، ونقط الأمراء الأغاني على مراتبهم ، من أربعمائة دينار كل أمير إلى مائتي دينار ، سوى الشقق الحرير ، واستمرّ الفرح ثلاثة أيام بلياليها ، فذكر الناس حينئذ أنه لم يعمل فيما سلف عرس أعظم منه ، حتى حصل لكل جوقة من جوق الأغاني اللاتي كنّ فيه خمسمائة دينار مصرية ، ومائة وخمسون شقة حرير ، وكان عدّة جوق الأغاني التي قسم عليهنّ ثمان جوق من أغاني القاهرة ، سوى جوق الأغاني السلطانية وأغاني الأمراء ، وعدّتهن عشرون جوقة ،

٢٣٩

لم يعرف ما حصل لهذه العشرين جوقة من كثرة ما حصل ولما انقضت أيام العرس أنعم السلطان لكل امرأة من نساء الأمراء بتعبية قماش على مقدارها ، وخلع على سائر أرباب الوظائف من الأمراء والكتاب وغيرهم ، فكان مهما عظيما تجاوز المصروف فيه حدّ الكثرة.

وسكن هذه المناظر أيضا الأمير صرغتمش في أيام السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون ، وعمر الباب الذي هو موجود الآن وبدنتي الحجر اللتين بجانبي باب الكبش بالحدرة ، ثم أن الأمير بلبغا العمري المعروف بالخاصكيّ سكنه إلى أن قتل في سنة ثمان وستين وسبعمائة ، فسكنه من بعده الأمير استدمر إلى أن قبض عليه الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون وأمر بهدم الكبش فهدم ، وأقام خرابا لا ساكن فيه إلى سنة خمس وسبعين وسبعمائة ، فحكره الناس وبنوا فيه مساكن وهو على ذلك إلى اليوم.

خط درب ابن البابا : هذا الخط يتوصل إليه من تجاه المدرسة البندقدارية بجوار حمام الفارقاني ، ويسلك فيه إلى خط واسع يشتمل على عدّة مساكن جليلة ، ويتوصل منه إلى الجامع الطولونيّ وقناطر السباع وغير ذلك ، وكان هذا الخط بستانا يعرف ببستان أبي الحسين بن مرشد الطائيّ ، ثم عرف ببستان تامش ، ثم عرف أخيرا ببستان سيف الإسلام طفتكين بن أيوب ، وكان يشرف على بركة الفيل ، وله دهاليز واسعة عليها جواسق تنظر إلى الجهات الأربع ، ويقابله حيث الدرب الآن المدرسة البندقدارية وما في صفها إلى الصليبة بستان ، يعرف ببستان الوزير ابن المغربيّ ، وفيه حمّام مليحة ، ويتصل ببستان ابن المغربيّ بستان عرف أخيرا ببستان شجر الدر ، وهو حيث الآن سكن الخلفاء بالقرب من المشهد النفيسيّ ، ويتصل ببستان شجر الدر بساتين إلى حيث الموضع المعروف اليوم بالبكارة من مصر ، ثم أن بستان سيف الإسلام حكره أمير يعرف بعلم الدين الغتمي ، فبنى الناس فيه الدور في الدولة التركية ، وصار يعرف الغتمي ، وهو الآن يعرف بدرب ابن البابا ، وهو الأمير الجليل الكبير جنكلي بن محمد بن البابا بن جنكلي بن خليل بن عبد الله بدر الدين العجليّ ، رأس الميمنة وكبير الأمراء الناصرية محمد بن قلاون بعد الأمير جمال الدين نائب الكرك ، قدم إلى مصر في أوائل سنة أربع وسبعمائة بعد ما طلبه الملك الأشرف خليل بن قلاوون ، ورغبه في الحضور إلى الديار المصرية ، وكتب له منشورا باقطاع جيد ، وجهزه إليه فلم يتفق حضوره إلا في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون ، وكان مقامه بالقرب من آمد ، فاكرمه وعظمه وأعطاه أمرة ، ولم يزل مكرّما معظما ، وفي آخر وقته بعد خروج الأمير أرغون النائب من مصر كان السلطان يبعث إليه الذهب مع الأمير بكتمر الساقي وغيره ، ويقول له لا تبس الأرض على هذا ، ولا تنزله في ديوانك ، وكان أوّلا يجلس رأس الميمنة ثاني نائب الكرك ، فلما سار نائب الكرك لنيابة طرابلس جلس الأمير جنكلي رأس الميمنة ، وزوّج السلطان ابنه إبراهيم بن محمد بن قلاوون بابنة الأمير بدر الدين ، وما زال معظما في كل دولة ، بحيث أن الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون كتب له عنه الأتابكي الوالدي

٢٤٠