كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

وكانت نزهة المصريين ، فلما استأجرها الأمير عز الدين أيبك الأفرم من الناظر عليها من جهة الحكم العزيزي ، حازها بالجسور عن الماء وغرس فيها الأشجار والكروم وحفر الآبار ، وهذه البركة مساحتها أربعة وخمسون فدّانا ، ولها حدود أربعة ، الحدّ القبليّ ، ينتهي بعضه إلى بعض أرض المعشوق الجاري في وقف ابن الصابوني ، وإلى الجسر الفاصل بينها وبين بركة الحبش ، وفي هذا الجسر الآن قنطرة يدخل إليها الماء من خليج بركة الأشراف ، والحدّ البحريّ : كان ينتهي بعضه إلى منظرة قاضي القضاة بدر الدين السنجاريّ ، وإلى جسره. والحدّ الشرقيّ : ينتهي إلى الآدر التي كانت مطلة عليها ، وقد خرب أكثرها ، وكانت مسكن أعيان المصريين من القضاة والكتاب. والحدّ الغربيّ : ينتهي إلى جرف النيل ، ولما استأجرها الأفرم شرط له خمسة أفدنة يعمر عليها ويؤجرها لمن يعمر عليها ، منها فدّان واحد من بحريها ، وفدّانان من غربيها ملاصقان لجدار البساتين ، وفدّانان بالجرف الذي من حقوقها.

فلما مات الأفرم طمع الأمير علم الدين الشجاعي في ورثته وفي الوقف وأربابه ، فغضب أرض الجرف وجملتها فدّانان ، ثم تركها ، فلما كان في أثناء دولة الناصر محمد بن قلاون ووزارة الأعسر بيعت أرضها لأرباب الأبنية التي عليها ، وهذه البركة وقفها الخطير بن مماتي ، ودخل معهم بنو الشعيبية لاختلاط أنسابهم بالتناسل. وقال في موضع آخر : ومن جملة الأوقاف بركة الخطير بن مماتي المشهورة ببركة الشعيبية ، ومساحة أرضها أربعون وخمسون فدّانا وربع ، ولها حدود أربعة ، القبليّ : من البركة الصغرى منها إلى الجسر الفاصل بينها وبين بركة الحبش ، وفيه قنطرة يمرّ منها الماء إلى هذه البركة ، وباقي هذا الحدّ إلى بعض أبنية مناظر المعشوق ، ومن جملة حقوق هذا الوقف المجاز المستطيل المسلوك فيه إلى المنظرة المذكورة ، ومنه دهليزها الإيوان البحري ، وهذا جميعه رأيته ترعة من تراع هذه البركة المذكورة ، يمرّ الماء فيها في زمن النيل إليها ، وكان باقي هذه المنظرة دارا مطلة على بحر النيل من شرقيها ، وعلى هذه الترعة من بحريها ، ثم ملكها الصاحب تاج الدين بن حنا وهدمها وردم الخليج وعمر المنظرة والحمام والبيوت الموجودة الآن ، وباقي ذلك كله في أرض ابن الصابونيّ. وحدّ هذه البركة من الجهة البحرية : إلى الطريق الآن ، وكان فيه جسر يعرف بجسر الحيات ، كان يفصل بين هذه البركة وبين بركة شطا ، وكان فيه قنطرة يجري الماء فيها من هذه البركة إلى بركة شطا ، وكان في هذا الحدّ ترعة أخرى يجري الماء فيها في زمن النيل من البحر إلى هذه البركة ، ورأيته يجري فيها ، ورأيت الشخاتير تدخل فيها إلى هذه البركة ، وأما حدّها الشرقيّ : فإنه كان إلى أبنية الآدر المطلة على هذه البركة ، وأمّا حدّها الغربي فإنه كان إلى بحر النيل ، ولم تزل كذلك إلى أن استأجرها الأمير عز الدين أيبك الأفرم ، فردم هذه الترعة وبنى حيطان هذا البستان وجسر عليه وزرع فيه الشتول والخضراوات ، وأقام على ذلك عدّة سنين ، ثم استأجره إجارة ثانية ، واشترط البناء على

٢٨١

ثلاثة أفدنة في جانبه الغربيّ ، وفدّان في جانبه البحريّ ، فعمر الناس واستغنى عن الجسور ورخص على الناس حتى رغبوا في العمارة ، وآجر كل مائة ذراع من ذلك بعشرة دراهم نقرة ، وعمر البئر المشهورة ببئر السواقي ، فعمرت أحسن عمارة ، فلما توفي توفي الأفرم طمع الشجاعيّ في أرباب الوقف وفي ورثته ، ونزع منهم الفدادين المطلة على بحر النيل ، وابتاع ذلك من وكيل بيت المال ، وأعانه عليه قوم آخرون يجتمعون عند الله تعالى.

ذكر المعشوق

اعلم أنّ المعشوق اسم لمكان فيه أشجار بظاهر مصر ، من جملة خطة راشدة ، عرف أوّلا بجنان كهمس بن معمر ، ثم عرف بجنان المارداني ، ثم عرف بجنان الأمير تميم بن المعز لدين الله ، ثم جدّده الأفضل بن أمير الجيوش فعرف به ، وأجرا صار من وقف ابن الصابونيّ ، فأخذه الصاحب تاج الدين محمد بن حنا ، وعمر به مناظر وأوصى بعمارة رباط للآثار النبوية ، وأن توقف عليه. فلما أنشئ الرباط المذكور أرصد لمصالحه. وهو الآن وقف عليه ، وأرض هذا البستان مما وقفه ابن الصابونيّ على بنيه وعلى رباطه المجاور ، لقيه الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه بالقرافة ، وبنو الصابونيّ يستأدون من المتحدّث على رباط الآثار شيئا في كل سنة عن حكر أرض بستان المعشوق. قال القضاعيّ في ذكر خطة راشدة : ومنها المقبرة المعروفة بمقبرة راشدة ، والجنان المعروفة كانت تعرف بكهمس بن معمر ، ثم عرفت بالماردانيّ ، وهو المعروف الآن بالأمير تميم بن المعز.

هذا وقد بنى المعتمد على الله أحمد بن المتوكل في الجانب الشرقيّ من سرّ من رأى قصر أسماه المعشوق ، وأقام به ، وبين بغداد وتكريت منزلة فيها آثار بناء وقصور تسمى العاشق والمعشوق ، وفيه أنشد الشريف زهرة بن عليّ بن زهرة بن الحسن الحسينيّ ، وقد اجتاز به يريد الحج :

قد رأيت المعشوق وهو من الهج

ر بحال تنبو النواظر عنه

أثّر الدهر فيه آثار سوء

قد أدالت يد الحوادث منه

وقال ابن يونس : كهمس بن معمر بن محمد بن معمر بن حبيب ، يكنّى أبا القاسم ، كان أبوه بصريا ، وولد هو بمصر ، وكان عاقلا ، وكانت القضاة تقبله ، حدّث عن محمد بن رمح ، وعيسى بن حماد زغبة ، وسلمة بن شبيب ونحوهم ، توفي في يوم الاثنين لأربع خلون من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة وثلاثمائة.

وقال ابن خلكان : تميم بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهديّ ، كان أبوه صاحب الديار المصرية والمغرب ، وهو الذي بنى القاهرة المعزية ، وكان تميم فاضلا شاعرا ماهرا لطيفا ظريفا ، ولم يل المملكة ، لأنّ ولاية العهد كانت لأخيه العزيز ، فوليها بعد أبيه ،

٢٨٢

وأشعاره كلها حسنة ، وكانت وفاته في ذي القعدة سنة أربع وسبعين وثلاثمائة ، وقد ذكر كلا من الماردانيّ وابن حنا والأفضل. وأما ابن مماتي فإنه أسعد بن مهذب بن زكريا بن قدامة بن نينا شرف الدين مماتي أبي المكارم بن سعيد بن أبي المليح الكاتب المصري ، فأصله من نصارى أسيوط من صعيد مصر ، واتصل جدّه أبو المليح بأمير الجيوش بدر الجماليّ وزير مصر في أيام الخليفة المستنصر بالله ، وكتب في ديوان مصر ، وولي استيفاء الديوان ، وكان جوادا ممدوحا انقطع إليه أبو الطاهر إسماعيل بن محمد المعروف بابن مكيسة الشاعر ، فمن قوله فيه لما مات :

طويت سماء المكرما

ت وكوّرت شمس المديح

وتناثرت شهب العلا

من بعد موت أبي المليح

ما كان بالنكس الدن

يء من الرجال ولا الشحيح

كفر النصارى بعد ما

عذروا به دون المسيح

ورثاه جماعة من الشعراء ، ولما مات ولي ابنه المهذب بن أبي المليح زكريا ديوان الجيش بمصر في آخر الدولة الفاطمية ، فلما قدم الأمير أسد الدين شيركوه وتقلد وزارة الخليفة العاضد شدّد على النصارى وأمرهم بشدّ الزنانير على أوساطهم ، ومنعهم من إرخاء الذؤابة التي تسمى اليوم بالعذبة ، فكتب لأسد الدين :

يا أسد الدين ومن عدله

يحفظ فينا سنّة المصطفى

كفى غيارا شدّ أوساطنا

فما الذي أوجب كشف القفا

فلم يسعفه بطلبته ، ولا مكنه من إرخاء الذؤابة ، وعند ما آيس من ذلك أسلم ، فقدّم على الدواوين حتى مات ، فخلفه ابنه أبو المكارم أسعد بن مهذب الملقب بالخطير على ديوان الجيش ، واستمرّ في ذلك مدّة أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، وأيام ابنه الملك العزيز عثمان ، وولي نظر الدواوين أيضا ، واختص بالقاضي الفاضل ، وحظي عنده ، وكان يسميه بلبل المجلس لما يرى من حسن خطابه ، وصنف عدّة مصنفات منها : تلقين اليقين فيه الكلام على حديث بني الإسلام على خمس. وكتاب حجة الحق على الخلق في التحذير من سوء عاقبة الظلم. وهو كبير ، وكان السلطان صلاح الدين يكثر النظر فيه ، وقال فيه القاضي الفاضل : وقفت من الكتب على ما لا تحصى عدّته ، فما رأيت والله كتابا يكون قبالة باب منه ، وإنه والله من أهمّ ما طالعه الملوك وكتاب قوانين الدواوين ، صنفه للملك العزيز فيما يتعلق بدواوين مصر ورسومها وأصولها وأحوالها وما يجري فيها ، وهو أربعة أجزاء ضخمة ، والذي يقع في أيدي الناس جزء واحد اختصره منه غير المصنف ، فإنّ ابن مماتي ذكر فيه أربعة آلاف ضيعة من أعمال مصر ، ومساحة كل ضيعة ، وقانون ريها ومتحصلها من عين وغلة ، ونظّم سيرة السلطان صلاح الدين يوسف ، ونظم كليلة ودمنة ،

٢٨٣

وله ديوان شعر ، ولم يزل بمصر حتى ملك السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب ، ووزر له صفيّ الدين عليّ بن عبد الله بن شكر ، فخافه الأسعد لما كان يصدر منه في حقه من الإهانة ، وشرع الوزير ابن شكر في العمل عليه ، ورتب له مؤامرات ونكبه وأحال عليه الأجناد ، ففرّ من القاهرة وسقط في حلب ، فخدم بها حتى مات في يوم الأحد سلخ جمادى الأولى سنة ست وستمائة ، عن اثنتين وستين سنة.

وكان سبب تلقيب أبي مليح بمماتي ، أنه كان عنده في غلاء مصر في أيام المستنصر قمح كثير ، وكان يتصدّق على صغار المسلمين وهو إذ ذاك نصرانيّ ، وكان الصغار إذا رأوه قالوا مماتي فلقب بها ومن شعره :

تعاتبني وتنهي عن أمور

سبيل الناس أن ينهوك عنها

أتقدر أن تكون كمثل عيني

وحقك ما عليّ أضرّ منها

وقال في اترجة كانت بين يدي القاضي الفاضل وهو معنى بديع :

لله بل للحسن أترجة (١)

تذكر الناس بأمر النعيم

كأنها قد جمعت نفسها

من هيبة الفاضل عبد الرحيم

بركة شطا : هذه البركة موضعها الآن كيمان ، على يسرة من يخرج من باب القنطرة بمدينة مصر طالبا جسر الأفرم ورباط الآثار ، كان الماء يعبر إليها من خليج بني وائل ، وموضعه على يمنة من يخرج من باب القنطرة المذكورة ، وكان عليه قنطرة بناها العزيز بالله بن المعز ، وبها سمي باب القنطرة هذا.

قال ابن المتوج : بركة شطا بظاهر مصر على يسرة من مرّ من باب القنطرة ، وكان الماء يدخل إليها من خليج بني وائل من برابخ بالسور المستجدّ ، ومن بركة الشعيبية من قنطرة في وسط الجسر المعروف بجسر الحيات ، الذي كان يفصل بين البركتين المذكورتين ، وكان بوسطها مسجد يعرف بمسجد الجلالة ، بقناطر بوسطها ، كان يسلك عليها إليه ، وكان يطلّ على بركة شطا آدر خربت بانقطاع الماء عنها ، وكان إلى جانبها بستان فيه منظرة ودرابة وطاحون وحمّام ، وبظاهر بابه حوض سبيل ، وقف ذلك المخلص الموقع وقد خرب.

بركة قارون : هذه البركة موضعها الآن فيما بين حدرة ابن قميحة خلف جامع ابن طولون ، وبين الجسر الأعظم الفاصل بين هذه البركة وبركة الفيل ، وعليها الآن عدّة آدر ، وتعرف ببركة قراجا ، وكان عليها عدّة عمائر جليلة في قديم الزمان عند ما عمّر العسكر والقطائع ، فلما خرب العسكر والقطائع كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب ، خرب ما كان

__________________

(١) أترجة : التّرنج : شجر من الحمضيات كبير الثمر ، ذهبي اللون ، ذكي الرائحة ، عصيره حامض.

٢٨٤

من الدور على هذه البركة أيضا ، حتى أنه كان من خرج من مصلى مصر القديم ، وموضعه الآن الكوم الذي يطلّ على قبر القاضي بكار بالقرافة الكبرى ، يرى بركة الفيل وقارون والنيل ، ولم يزل ما حول هذه البركة خرابا إلى أن حفر الملك الناصر محمد بن قلاون البركة الناصرية في أراضي الزهري ، وكانت واقعة الكنائس في سنة إحدى وعشرين وسبعمائة ، فصار جانب هذه البركة الذي يلي خط السبع سقايات مقطع طريق ، فيه مركز يقيم فيه من جهة متولى مصر من يحرس المارة من القاهرة إلى مصر ، ولم يكن هناك شيء من الدور ، وإنما كان هناك بستان بجوار حوض الدمياطيّ الموجود الآن تجاه كوم الأساري على يمنة من خرج وسلك من السبع سقايات إلى قنطرة السدّ ، ويشرف هذا البستان على هذه البركة ، فحكر أقبغا عبد الواحد مكانه ، وصارت فيه الدور الموجودة الآن كما ذكر عند حكر أقبغا في ذكر الأحكار.

قال القضاعيّ : دار الفيل هي الدار التي على بركة قارون ، ذكر بنو مسكين أنها من حبس جدّهم ، وكان كافور أمير مصر اشتراها وبنى فيها دارا ذكر أنه أنفق عليها مائة ألف دينار ، ثم سكنها في رجب سنة ست وأربعين وثلاثمائة ، وذكر اليمنيّ أنه انتقل إليها في جمادى الآخرة من السنة المذكورة ، وأنه كان أدخل فيها عدّة مساجد ومواضع اغتصبها من أربابها ، ولم يقم فيها غير أيام قلائل ، ثم أرسل إلى أبي جعفر مسلم الحسينيّ ليلا فقال له : امض بي إلى دارك ، فمضى به ، فمرّ على دار فقال : لمن هذه؟ فقال : لغلامك نحرير التربية ، فدخلها وأقام فيها شهورا إلى أن عمروا له دار خمارويه المعروفة بدار الحرم ، وسكنها ، وقيل أن سبب انتقاله من جنان بني مسكين بخار البركة. وقيل وباء وقع في غلمانه ، وقيل ظهر له بهاجان. وكانت دار الفيل هذه ينظر منها جزيرة مصر التي تعرف اليوم بالروضة.

قال أبو عمر الكنديّ في كتاب الموالي : ومنهم أبو غنيم مولى مسلمة بن مخلد الأنصاريّ ، كان شريفا في الموالي ، وولاه عبد العزيز بن مروان الجزيرة ، ثم عزله عنها ، وكان يجلس في داره التي يقال لها دار الفيل فينظر إلى الجزيرة فيقول لإخوانه : أخبروني بأعجب شيء في الدنيا. قالوا : منارة الإسكندرية. قال : ما أصبتم شيئا. قال : فيقولون له فقناة قرطاجنة. فيقول : ما صنعتم شيئا. قالوا : فما تقول أنت؟ قال : العجب أني أنظر إلى الجزيرة ولا أقدر أدخلها ، وعلى هذه البركة الآن عدّة آدر جليلة وجامع وحمام وغير ذلك ، والله تعالى أعلم بالصواب.

بركة الفيل : هذه البركة فيما بين مصر والقاهرة ، وهي كبيرة جدّا ، ولم يكن في القديم عليها بنيان ، ولما وضع جوهر القائد مدينة القاهرة كانت تجاه القاهرة ، ثم حدثت حارة السودان وغيرها خارج باب زويلة ، وكان ما بين حارة السودان وحارة اليانسية وبين بركة

٢٨٥

الفيل فضاء ، ثم عمر الناس حول بركة الفيل بعد الستمائة حتى صارت مساكنها أجلّ مساكن مصر كلها.

قال ابن سعيد وقد ذكر القاهرة : وأعجبني في ظاهرها بركة الفيل لأنها دائرة كالبدر ، والمناظر فوقها كالنجوم ، وعادة السلطان أن يركب فيها بالليل ، وتسرج أصحاب المناظر على قدر هممهم وقدرتهم ، فيكون بذلك لها منظر عجيب. وفيها أقول :

انظر إلى بركة الفيل التي اكتنفت

بها المناظر كالأهداب للبصر

كأنما هي والأبصار ترمقها

كواكب قد أداروها على القمر

ونظرت إليها وقد قابلتها الشمس بالغدوّ فقلت :

انظر إلى بركة الفيل التي نحرت

لها الغزالة نحرا من مطالعها

وخلّ طرفك محفوفا ببهجتها

تهيم وجدا وحبا في بدائعها

وماء النيل يدخل إلى بركة الفيل من الموضع الذي يعرف اليوم بالجسر الأعظم تجاه الكبش ، وبلغني أنه كان هناك قنطرة كبيرة فهدمت وعمل مكانها هذه المجاديل الحجر التي يمرّ عليها الناس ، ويعبر ماء النيل إلى هذه البركة أيضا من الخليج الكبير من تحت قنطرة تعرف قديما وحديثا بالمجنونة ، وهي الآن لا تشبه القناطر ، وكأنها سرب يعبر منه الماء ، وفوقه بقية عقد من ناحية الخليج ، كان قد عقده الأمير الطيبرس وبنى فوقها منتزها ، فقال فيه علم الدين بن الصاحب :

ولقد عجبت من الطبرس وصحبه

وعقولهم بعقوده مفتونه

عقدوا عقودا لا تصحّ لأنهم

عقدوا لمجنون على مجنونه

وكان الطيبرس هذا يعتريه الجنون ، واتفق أنّ هذا العقد لم يصح وهدم ، وآثاره باقية إلى اليوم.

بركة الشقاف : هذه البركة في برّ الخليج الغربيّ بجوار اللوق ، وعليها الجامع المعروف بجامع الطباخ ، في خط باب اللوق ، وكانت هذه البركة من جملة أراضي الزهريّ ، كما ذكر في حكر الزهريّ عند ذكر الأحكار ، وكان عليها في القديم عدّة مناظر منها : منظرة الأمير جمال الدين موسى بن يغمور ، وذلك أيام كانت أراضي اللوق مواضع نزهة قبل أن تحتكر وتبنى دورا ، وذلك بعد سنة ستمائة. والله تعالى أعلم.

بركة السباعين : عرفت بذلك لأنه اتخذ عليها دار للسباع ، وهي موجودة هناك إلى يومنا هذا ، وهي من جملة حكر الزهريّ ، وعليها الآن دور. ولم تحدث بها العمارة إلا بعد سنة سبعمائة ، وإنما كان جميع ذلك الخط وما حوله من منشأة

٢٨٦

المهرانيّ إلى المقس بساتين ثم حكرت.

بركة الرطلي : هذه البركة من جملة أرض الطبالة ، عرفت ببركة الطوّابين ، من أجل أنه كان يعمل فيها الطوب ، فلما حفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصريّ ، التمس الأمير بكتمر الحاجب من المهندسين أن يجعلوا حفر الخليج على الجرف إلى أن يمرّ بجانب بركة الطوّابين هذه ، ويصب من بحريّ أرض الطبالة في الخليج الكبير ، فوافقوه على ذلك ، ومرّ الخليج من ظاهر هذه البركة كما هو اليوم ، فلما جرى ماء النيل فيه روى أرض البركة ، فعرفت ببركة الحاجب.

فإنها كانت بيد الأمير بكتمر الحاجب المذكور ، وكان في شرقيّ هذه البركة زاوية بها نخل كثير وفيها شخص يصنع الأرطال الحديد التي تزن بها الباعة ، فسماها الناس بركة الرطليّ نسبة لصانع الأرطال ، وبقيت نخيل الزاوية قائمة بالبركة إلى ما بعد سنة تسعين وسبعمائة ، فلما جرى الماء في الخليج الناصريّ ودخل منه إلى هذه البركة ، عمل الجسر بين البركة والخليج ، فحكره الناس وبنوا فوقه الدور ، ثم تتابعوا في البناء حول البركة حتى لم يبق بدائرها خلو ، وصارت المراكب تعبر إليها من الخليج الناصريّ فتدورها تحت البيوت وهي مشحونة بالناس ، فتمرّ هنالك للناس أحوال من اللهو يقصر عنها الوصف ، وتظاهر الناس في المراكب بأنواع المنكرات من شرب المسكرات وتبرّج النساء الفاجرات واختلاطهنّ بالرجال من غير إنكار ، فإذا نضب ماء النيل زرعت هذه البركة بالقرط وغيره ، فيجتمع فيها من الناس في يومي الأحد والجمعة عالم لا يحصى لهم عدد ، وأدركت بهذه البركة من بعد سنة سبعين وسبعمائة إلى سنة ثمانمائة أوقاتا انكفت فيها عمن كان بها أيدي الغير ، ورقدت عن أهاليها أعين الحوادث ، وساعدهم الوقت إذ الناس ناس والزمان زمان ، ثم لما تكدّر جوّ المسرّات وتقلص ظل الرفاهة ، وانهلت سحائب المحن من سنة ست وثمانمائة ، تلاشى أمرها ، وفيها إلى الآن بقية صبابة ومعالم أنس وآثار تنبىء عن حسن عهد ، ولله در القائل:

في أرض طبالتنا بركة

مدهشة للعين والعقل

ترجح في ميزان عقلي على

كلّ بحار الأرض بالرطل

البركة المعروفة ببطن البقرة : هذه البركة كانت فيما بين أرض الطبالة وأراضي اللوق ، يصل إليها ماء النيل من الخور فيعبر في خليج الذكر إليها ، وكانت تجاه قصر اللؤلؤة ودار الذهب في برّ الخليج الغربيّ ، وأوّل ما عرفت من خبر هذه البركة أنها كانت بستانا كبيرا فيما بين المقس وجنان الزهريّ ، عرف بالبستان المقسيّ نسبة إلى المقس ، ويشرف على بحر النيل من غربيه ، وعلى الخليج الكبير من شرقيه ، فلما كان في أيام الخليفة الظاهر لاعزاز دين الله أبي هاشم عليّ بن الحاكم بأمر الله ، أمر بعد سنة عشر وأربعمائة بإزالة إنشاب هذا

٢٨٧

البستان ، وأن يعمل بركة قدّام المنظرة التي تعرف باللؤلؤة ، فلما كانت الشدّة العظمى في زمن الخليفة المستنصر بالله ، هجرت البركة وبني في موضعها عدّة أماكن عرفت بحارة اللصوص إذ ذاك ، فلما كان في أيام الخليفة الآمر بأحكام الله ووزارة الأجل المأمون محمد بن فاتك البطائحيّ ، د أزيلت الأبنية وعمق حفر الأرض وسلط عليها ماء النيل من خليج الذكر ، فصارت بركة عرفت ببطن البقرة ، وما برحت إلى ما بعد سنة سبعمائة ، وكان قد تلاشى أمرها منذ كانت الغلوة في زمن الملك العادل كتبغا ، سنة سبع وتسعين وستمائة ، فكان من خرج من باب القنطرة يجد عن يمينه أرض الطبالة من جانب الخليج الغربيّ إلى حدّ المقس ، ويجد بطن البقرة عن يساره من جانب الخليج الغربيّ إلى حدّ المقس ، وبحر النيل الأعظم يجري في غربيّ بطن البقرة على حافة المقس إلى غربيّ أرض الطبالة ، ويمرّ من حيث الموضع المعروف اليوم بالجرف إلى غربيّ البعل ، ويجري إلى منية الشيرج ، فكان خارج القاهرة أحسن منتزه في مصر من الأمصار ، وموضع بطن البقرة يعرف اليوم بكوم الجاكي ، المجاور لميدان القمح ، وما جاور تلك الكيمان والخراب إلى نحو باب اللوق ، وحدّثني غير واحد ممن لقيت من شيوخ المقس عن مشاهدة آثار هذه البركة ، وأخبرني عمن شاهد فيها الماء ، وإلى زمننا هذا موضع من غربيّ الخليج فيما يلي ميدان القمح يعرف ببطن البقرة ، بقية من تلك البركة يجتمع فيه الناس للنزهة.

بركة جناق : هذه البركة خارج باب الفتوح ، كانت بالقرب من منظرة باب الفتوح التي تقدّم ذكرها في المناظر ، وكان ما حولها بساتين ، ولم يكن خارج باب الفتوح شيء من هذه الأبنية ، وإنما كان هناك بساتين ، فكانت هذه البركة فيما بين الخليج الكبير وبستان ابن صيرم ، فلما حكر بستان ابن صيرم وعمر في مكانه الآدر وغيرها ، وعمر الناس خارج ابن الفتوح ، عمر ما حول هذه البركة بالدور ، وسكنها الناس وهي إلى الآن عامرة ، وتعرف ببركة جناق.

بركة الحجاج : هذه البركة في الجهة البحرية من القاهرة ، على نحو بريد منها ، عرفت أوّلا بجب عميرة ، ثم قيل لها أرض الجب ، وعرفت إلى اليوم ببركة الحجاج من أجل نزول حجاج البرّ بها عند مسيرهم من القاهرة ، وعند عودهم ، وبعض من لا معرفة له بأحوال أرض مصر يقول : جب يوسف عليه‌السلام ، وهو خطأ لا أصل له ، وما برحت هذه البركة منتزها لملوك القاهرة.

قال ابن يونس عميرة ابن تميم بن جزيء التجيبيّ : من بنى القرناء صاحب الجب المعروف بجب عميرة في الموضع الذي يبرز إليه الحاج من مصر لخروجهم إلى مكة ، وقال أبو عمر الكنديّ في كتاب الخندق : أن فرسان الخندق من جب عميرة بن تميم بن جزء ، وصاحب جب عميرة من بني القرناء طعن في تلك الأيام فارتث فمات بعد ذلك.

٢٨٨

وقال في كتاب الأمراء : ثم أن أهل الحوف خرجوا على ليث بن الفضل أمير مصر ، وكان السبب في ذلك أن ليثا بعث بمساح يمسحون عليهم أراضي زرعهم ، فانتقصوا من القصب أصابع ، فتظلم الناس إلى ليث فلم يسمع منهم ، فعسكروا وساروا إلى الفسطاط ، فخرج إليهم ليث في أربعة آلاف من جند مصر ، ليومين بقيا من شعبان ، سنة ست وثمانين ومائة ، فالتقى مع أهل الحوف لاثنتي عشرة خلت من شهر رمضان ، فانهزم الجيش عن ليث وبقي في مائتين أو نحوها ، فحمل عليهم بمن معه فهزمهم حتى بلغ بهم غيفة ، وكان التقاؤهم في أرض جب عميرة ، وبعث ليث إلى الفسطاط بثمانين رأسا ، ورجع إلى الفسطاط. وقال : المسبحيّ ولاثنتي عشرة خلت من ذي القعدة سنة أربع وثمانين وثلاثمائة ، عرض أمير المؤمنين العزيز بالله عساكره بظاهر القاهرة عند سطح الجب ، فنصب له مضرب ديباج روميّ فيه ألف ثوب مفوّفة فضة ، ونصبت له فازة مستقلة وقبة مثقلة بالجوهر ، وضرب لابنه المنصور مضرب آخر ، وعرضت العساكر فكانت عدّتها مائة عسكر ، وأقبلت أسارى الروم وعدّتها مائتان وخمسون ، فطيف بهم ، وكان يوما عظيما حسنا لم تزل العساكر تسير بين يديه من ضحوة النهار إلى صلاة المغرب.

وقال ابن ميسر : كان من عادة أمير المؤمنين المستنصر بالله أن يركب في كل سنة على النجب مع النساء والحشم إلى جب عميرة ، وهو موضع نزهة بهيئة ، أنه خارج للحج على سبيل الهزء والمجانة ومعه الخمر في الروايا عوضا عن الماء ، ويسقيه الناس. وقال أبو الخطاب بن دحية ، وخطب لبني عبيد ببغداد أربعين جمعة ، وذلك للمستنصر ، بل للبطال المستهتر ، أنشده العقيليّ صبيحة يوم عرفة :

قم فانحر الراح يوم النحر بالماء

ولا تضحّي ضحى إلّا بصهباء

وأدرك حجيج الندامى قبل نفرهم

إلى منى قصفهم مع كلّ هيفاء

ووصل ألف القطع للضرورة ، وهو جائز ، فخرج في ساعته بروايا الخمر تزجى بنغمات حداة الملاهي وتساق ، حتى أناخ بعين شمس في كبكبة من الفساق ، فأقام بها سوق الفسوق على ساق ، وفي ذلك العام أخذ الله وأخذ أهل مصر بالسنين ، حتى بيع القرص في أيا من بالثمن الثمين.

وقال القاضي الفاضل في حوادث المحرّم سنة سبع وسبعين وخمسمائة ، وفيه خرج السلطان يعني صلاح الدين يوسف بن أيوب ، إلى بركة لجب للصيد ولعب الأكرة ، وعاد إلى القاهرة في سادس يوم من خروجه ، وذكر من ذلك كثيرا عن السلطان صلاح الدين وابنه الملك العزيز عثمان.

وقال جامع سيرة الناصر محمد بن قلاون : وفي حوادث صفر سنة اثنتين وعشرين

٢٨٩

وسبعمائة ، وفهي ركب السلطان إلى بركة الحجاج للرمي على الكراكي ، وطلب كريم الدين ناظر الخاص ، ورسم أن يعمل فيها أحواشا للخيل والجمال ، وميدانا ، وللأمير بكتمر الساقي مثله ، فأقام كريم الدين بنفسه في هذا العمل ، ولم يدع أحدا من جميع الصناع المحتاج إليهم يعمل في القاهرة عملا ، فكان فيها نحو الألفي رجل ، ومائة زوج بقر ، حتى تمت المواضع في مدّة قريبة ، وركب السلطان إليها وأمر بعمل ميدان لنتاج الخيل ، فعمل ، وما برح الملوك يركبون إلى هذه البركة لرمي الكراكي ، وهم على ذلك إلى هذا الوقت ، وقد خربت المباني التي أنشأها الملك الناصر وأدركنا بهذه البركة مراحا عظيما للأغنام التي يعلفها التركمانيّ حب القطن وغيره من العلف ، فتبلغ الغاية في السمن ، حتى أنه يدخل بها إلى القاهرة محمولة على العجل لعظم جنتها وثقلها وعجزها عن المشي ، وكان يقال كبش بركاويّ نسبة إلى هذه البركة ، وشاهدت مرّة كبشا من كباش هذه البركة ، وزنت شقته اليمنى فبلغت زنتها خمسة وسبعين رطلا سوى الألية ، وبلغني عن كبش أنه وزن ما في بطنه من الشحم خاصة ، فبلغ أربعين رطلا ، وكانت ألايا تلك الكباش تبلغ الغاية في الكبر ، وقد بطل هذا من القاهرة منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة ، حتى لا يكاد يعرفه اليوم إلا أفراد من الناس.

وبركة الحجاج اليوم أرباب دركها قوم من العرب يعرفون ببني صبرة ، وقال الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ في كتاب الجوهر المكنون في معرفة القبائل والبطون : بنو بطيخ بطن من لخم ، وهم ولد بطيخ بن مغالة بن دعجمان بن عميث بن كليب بن أبي الحارث بن عمرو بن رميمة بن جدس بن أريش بن أراش بن جديلة بن لخم ، وفخذها بنو صبرة بن بطيخ ، ولهم حارة مجاورة للخطمة المعروفة اليوم بكوم دينار السايس ، وصبرة في خندف وفي قيس ونزار ويمن ، فالتي في خندف في بني جعفر الطيار ، بنو صبرة بن جعفر بن داود بن محمد بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فخذ ، والتي في قيس ، بنو صبرة بن بكر بن أشجع بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان فخذ ، وأما التي في نزار ففي شيبان ، بنو صبرة بن عوف بن محكم بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار فخذ ، وما التي في يمن ففي لخم وجذام ، فأما التي في لخم : فبنو صبرة بن بطيخ بن مغالة بن دعجان بن عميث بن كليب بن أبي الحارث بن عمرو بن رميمة بن جدس بن أريش بن أراش بن جديلة بن لخم ، وأما التي في جذام فبنو صبرة بن نصيرة بن عطفان بن سعد بن إياس بن حرام بن جذام ، وإليه يرجع الصبريون ، وهم بالشام والله تعالى أعلم.

بركة قرموط : هذه البركة فيما بين اللوق والمقس ، كانت من جملة بستان ابن ثعلب ، فلما حفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصري من موردة البلاط ، رمى ما خرج من الطين في هذه البركة ، وبنى الناس الدور على الخليج ، فصارت البركة من ورائها ،

٢٩٠

وعرفت تلك الخطة كلها ببركة قرموط ، وأدركنا بها ديارا جليلة تناهى أربابها في أحكام بنائها وتحسين سقوفها ، وبالغوا في زخرفتها بالرخام والدهان ، وغرسوا بها الأشجار وأجروا إليها المياه من الآبار ، فكانت تعدّ من المساكن البديعة النزهة ، وأكثر من كان يسكنها الكتاب مسلموهم ونصاراهم ، وهم في الحقيقة المترفون أولو النعمة ، فكم حوت تلك الديار من حسن ومستحسن ، وأني لأذكرها وما مررت بها قد إلّا وتبين لي من كل دار هناك آثار النعم ، أما روائح تقالي المطابخ أو عبير بخور العود والندّ ، أو نفحات الخمر ، أو صوت غناء ، أو دقّ هاون ونحو ذلك مما يبين عن ترف سكان تلك الديار ورفاهة عيشهم وغضارة نعمهم ، ثم هي الآن موحشة خراب ، قد هدمت تلك المنازل وبيعت أنقاضها منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة ، فزالت الطرق وجهلت الأزقة وانكشفت البركة ، وبقي حولها بساتين خراب ، وبلغني أن المراكب كانت تعبر إلى هذه البركة للتنزه ، وما أحسب ذلك كان ، فإنها كانت من جملة البستان ، ولم ينقل إنه كان يقربها خليج سوى الخور ، ويبعد أن يصل إليها ، والله أعلم.

وقرموط هذا هو أمين الدين قرموط مستوفي الخزانة السلطانية.

بركة قراجا : هذه البركة خارج الحسينية ، قريبا من الخندق ، عرفت بالأمير زين الدين قراجا التركماني ، أحد أمراء مصر ، أنعم عليه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون بالإمرة في سنة سبع عشرة وسبعمائة.

البركة الناصرية : هذه البركة من جملة جنان الزهريّ ، فلما خربت جنان الزهريّ صار موضعها كوم تراب إلى أن أنشأ السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون ميدان المهاري ، في سنة عشرين وسبعمائة ، وأراد بناء الزريبة بجانب الجامع الطبرسيّ ، احتاج في بنائها إلى طين ، فركب وعين مكان هذه البركة ، وأمر الفخر ناظر الجيش فكتب أوراقا بأسماء الأمراء ، وانتدب الأمير بيبرس الحاجب فنزل بالمهندسين فقاسوا دور البركة ووزع على الأمراء بالأقصاب ، فنزل كل أمير وضرب خيمة لعمل ما يخصه ، فابتدؤا العمل في يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وسبعمائة ، فتمادى الحفر إلى جانب كنيسة الزهريّ ، وكان إذ ذاك في تلك الأرض عدّة كنائس ، ولم يكن هناك شيء من العمائر التي هي اليوم حول البركة الناصرية ، ولا من العمائر التي في خط قناطر السباع ولا في خط السبع سقايات إلى قنطرة السدّ ، وإنما كانت بساتين وكنائس وديورة للنصارى ، فاستولى الحفر على ما حول كنيسة الزهريّ وصارت في وسط الحفر ، حتى تعلقت ، وكان القصد أن تسقط من غير تعمد هدمها ، فأراد الله تعالى هدمها على يد العامّة كما ذكر في خبرها عند ذكر كنائس النصارى من هذا الكتاب ، فلما تمّ حفر البركة نقل ما خرج منها من الطين إلى الزريبة ، وأجرى إليها الماء من جوار الميدان السلطانيّ الكائن بأراضي بستان الخشاب عند

٢٩١

موردة البلاط ، فلما امتلأتا بالماء صارت مساحتها سبعة أفدنة ، فحكر الناس ما حولها وبنوا عليها الدور العظيمة ، وما برح خط البركة الناصرية عامرا إلى أن كانت الحوادث من سنة ست وثمانمائة ، فشرع الناس في هدم ما عليها من الدور ، فهدم كثيرا مما كان هناك ، والهدم مستمرّ إلى يومنا هذا.

ذكر الجسور

الجسر بفتح الجيم ، الذي تسميه العامّة جسرا ، عن ابن دريد ، وقال الخليل : الجسر والجسر لغتان ، وهو القنطرة ونحوها مما يعبر عليه. وقال ابن سيده : والجسر الذي يعبر عليه ، والجمع القليل أجسر. قال :

إنّ فراخا كفراخ الأوكر

بأرض بغداد وراء الأجسر

والكثير جسور.

جسر الأفرم : هذا الجسر بظاهر مدينة مصر ، فيما بين المدرسة المعزية برحبة الحناء قبليّ مصر ، وبين رباط الآثار النبوية ، كان موضعه في أوّل الإسلام غامرا بماء النيل ، ثم انحسر عنه الماء فصار فضاء إلى بحريّ خليج بني وائل ، ثم ابتنى الناس فيه مواضع ، وكان هناك الهري قريبا من الخليج ، ثم صار موضع جسر الأفرم هذا ترعة يدخل منها ماء النيل إلى البركة الشعيبية ، فلما استأجر الأمير عز الدين أيبك الأفرم بركة الشعيبية وجعلها بستانا ، كما تقدّم ذكره في البرك ، ردم هذه الترعة وبنى حيطان البستان وجسر عليه ، فأقام على ذلك سنين ، ثم لما استأجر أرض البركة بعد ما غرسها بالأشجار إجارة ثانية ، اشترط البناء على ثلاثة أفدنة في جانب البستان الغربيّ ، وفدّان في جانبه البحريّ ، ونادى في الناس بتحكيره ، وأرخص سعر الحكر ، وجعل حكر كلّ مائة ذراع عشرة دراهم ، فهرع الناس إليه واحتكروا منه المواضع ، وبنوا فيها الدور المطلة على النيل ، فاستغنى بالعمائر عن عمر الجسر في كلّ سنة بين البحر والبستان الذي أنشأه ، وبقى اسم الجسر عليه إلى يومنا هذا ، إلا أن الآدر التي كانت هناك خربت منذ انطرد النيل عن البرّ الغربيّ ، بعد ما بلغ ذلك الخط الغاية في العمارة ، وكان سكن الوزراء والأعيان من الكتاب وغيرهم.

الجسر الأعظم : هذا الجسر في زماننا هذا قد صار شارعا مسلوكا يمشى فيه من الكبش إلى قناطر السباع ، وأصله جسر يفصل بين بركة قارون وبركة الفيل ، وبينهما سرب يدخل منه الماء ، وعليه أحجار يراها من يمرّ هناك ، وبلغني أنه كان من قنطرة مرتفعة ، فلما أنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون الميدان السلطانيّ عند موردة البلاط ، أمر بهدم القنطرة فهدمت ، ولم يكن إذ ذاك على بركة الفيل من جهة الجسر الأعظم مبان ، وإنما كانت ظاهرة يراها المارّ ، ثم أمر السلطان بعمل حائط قصير بطولها ، فأقيم الحائط وصفر بالطين الأصفر ،

٢٩٢

ثم حدثت الدور هناك.

الجسر بأرض الطبالة : هذا الجسر يفصل بين بركة الرطليّ وبين الخليج الناصريّ ، أقامه الأمير الوزير سيف الدين بكتمر الحاجب في سنة خمس وعشرين وسبعمائة ، لما انتهى حفر الخليج الناصريّ ، وأذن للناس في البناء عليه ، فحكر وبنيت فوقه الدور ، فصارت تشرف على بركة الرطليّ وعلى الخليج ، وتجتمع العامّة تحت مناظر الجسر وتمرّ بحافة الخليج للنزهة ، فكثر اغتياظ غوغاء الناس وفساقهم بهذا الجسر إلى اليوم ، وهو من أنزه فرج القاهرة لولا ما عرف به من القاذورات الفاحشة.

الجسر من بولاق إلى منية الشيرج : كان السبب في عمل هذا الجسر أن ماء النيل قويت زيادته في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ، حتى أخرق من ناحية بستان الخشاب ، ودخل الماء إلى جهة بولاق ، وفاض إلى باب اللوق حتى اتصل بباب البحر وبساتين الخور ، فهدمت عدّة دور كانت مطلة على البحر ، وكثير من بيوت الحكورة ، وامتدّ الماء إلى ناحية منية الشيرج ، فقام الفخر ناظر الجيش بهذا الأمر ، وعرّف السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون أن متى غفل دخل الماء إلى القاهرة وغرق أهلها ومساكنها ، فركب السلطان إلى البحر ومعه الأمراء ، فرأى ما هاله ، وفكر فيما يدفع ضرر النيل عن القاهرة ، فاقتضى رأيه عمل جسر عند نزول الماء ، وانصرف ، فقويت الزيادة وفاض الماء على منشأة المهرانيّ ومنشأة الكتبة ، وغرّق بساتين بولاق والجزيرة حتى صار ما بين ذلك ملقة واحدة ، وركب الناس المراكب للفرجة ، ومرّوا بها تحت الأشجار وصاروا يتناولون الثمار بأيديهم وهم في المراكب ، فتقدّم السلطان المتولى القاهرة ومتولى مصر يبث الأعوان في القاهرة ومصر لردّ الحمير والجمال التي تنقل التراب إلى الكيمان ، وألزمهم بإلقاء التراب بناحية بولاق ، ونودي في القاهرة ومصر ، من كان عنده تراب فليرمه بناحية بولاق وفي الأماكن التي قد علا عليها الماء ، فاهتمّ الناس من جهة زيادة الماء اهتماما كبيرا خوفا أن يخرق الماء ويدخل إلى القاهرة ، وألزم أرباب الأملاك التي ببولاق والخور والمناشئ أن يقف كلّ واحد على إصلاح مكانه ، ويحترس من عبور الماء على غفلة ، فتطلب كلّ أحد من الناس الفعلة من غوغاء الناس لنقل التراب ، حتى عدمت الحرافيش ، ولم تكن توجد لكثرة ما أخذهم الناس لنقل التراب ورميه ، وتضرّرت الآدر القريبة من البحر بنززها ، وغرقت الأقصاب والقلقاس والنيلة وسائر الدواليب التي بأعمال مصر ، فلما انقضت أيام الزيادة ثبت الماء ولم ينزل في أيام نزوله ، ففسدت مطامير الغلات ومخازنها وشونها ، وتحسن سعر السكّر والعسل ، وتأخر الزرع عن أوانه لكثرة ما مكث الماء ، فكتب لولاة الأعمال بكسر الترع والجسور كي ينصرف الماء عن أراضي الزرع إلى البحر الملح ، واحتاج الناس إلى وضع الخراج عن بساتين بولاق والجزيرة ، ومسامحتهم بنظير ما فسد من الغرق ، وفسدت عدّة بساتين إلى أن أذن الله تعالى بنزول الماء ، فسقط كثير من الدور ، وأخذ السلطان في عمل الجسور ، واستدعى المهندسين

٢٩٣

وأمرهم بإقامة جسر يصدج الماء عن القاهرة خشية أن يكون نيل مثل هذا ، وكتب بإحضار خولة البلاد ، فلما تكاملوا أمرهم فساروا إلى النيل وكشفوا الساحل كله ، فوجدوا ناحية الجزيرة مما يلي المنية قد صارت أرضها وطيئة ، ومن هناك يخاف على البلد من الماء ، فلما عرّفوا السلطان بذلك أمر بإلزام من له دار على النيل بمصر أو منشأة المهرانيّ أو منشأة الكتاب أو بولاق أن يعمر قدّامها على البحر زريبة ، وأنه لا يطلب منهم عليها حكر ، ونودي بذلك ، وكتب مرسوم بمسامحتهم من الحكر عن ذلك ، فشرع الناس في عمل الزرابي ، وتقدّم إلى الأمراء بطلب فلاحي بلادهم وإحضارهم بالبقر والجراريف لعمل الجسر من بولاق إلى منية الشيرج ، ونزل المهندسون فقاسوا الأرض وفرضوا لكل أمير أقصابا معينة ، وضرب كلّ أمير خيمته وخرج لمباشرة ما عليه من العمل ، فأقاموا في عمله عشرين يوما حتى فرغ ، ونصبت عندهم الأسواق ، فجاء ارتفاعه من الأرض أربع قصبات في عرض ثماني قصبات ، فانتفع الناس به انتفاعا كبيرا ، وقدّر الله سبحانه وتعالى أن الزرع في تلك السنة حسن إلى الغاية ، وأفلح فلاحا عجيبا ، وانحط السعر لكثرة ما زرع من الأراضي ، وخصب السنة ، وكان قد اتفق في سنة سبع عشرة وسبعمائة غرق ظاهر القاهرة أيضا ، وذلك أن النيل وفي ستة عشر ذراعا في ثالث عشر جمادى الأولى وهو التاسع والعشرون من شهر أبيب أحد شهور القبط ، ولم يعهد مثل ذلك ، فإن الأنيال البدرية يكون وفاؤها في العشر الأول من مسرى ، فلما كسر سدّ الخليج توقفت الزيادة مدّة أيام ، ثم زاد وتوقف إلى أن دخل تاسع توت ، والماء على سبعة عشر ذراعا وستة أصابع ، ثم زاد في يوم تسعة أصابع ، واستمرّت الزيادة حتى صار على ثانية عشر ذراعا وستة أصابع ، ففاض الماء وانقطع طريق الناس فيما بين القاهرة ومصر ، وفيما بين كوم الريش والمنية ، وخرج من جانب المنية وغرّقها ، فكتب بفتح جميع الترع والجسور بسائر الوجه القبليّ والبحريّ ، وكسر بحر أبي المنجا وفتح سدّ بلبيس وغيره قبل عيد الصليب ، وغرقت الأقصاب والزراعات الصيفية ، وعمّ الماء ناحية منية الشيرج ، وناحية شبر ، فخربت الدور التي هناك ، وتلف للناس مال كثير ، من جملته زيادة على ثمانين ألف جرّة خمر فارغة تكسرت في نايحة المنية وشبرا عند هجوم الماء ، وتلفت مطامير الغلة من الماء ، حتى بيع قدح القمح بفلس ، والفلس يومئذ جزء من ثمانية وأربعين جزأ من درهم ، وصار من بولاق إلى شبرا بحرا واحدا تمرّ فيه المراكب للنزهة في بساتين الجزيرة إلى شبرا ، وتلفت الفواكه والمشمومات ، وقلت الخضر التي يحتاج إليها في الطعام ، وغرقت منشأة المهرانيّ ، وفاض الماء من عند خانقاه رسلان ، وأفسد بستان الخشاب واتصل الماء بالجزيرة التي تعرف بجزيرة الفيل إلى شبرا ، وغرقت الأقصاب التي في الصعيد ، فإن الماء أقام عليها ستة وخمسين يوما ، فعصرت كلها عسلا فقط ، وخربت سائر الجسور وعلاها الماء ، وتأخر هبوطه عن الوقت المعتاد ، فسقطت عدّة دور بالقاهرة ومصر ، وفسدت منشأة الكتاب المجاورة لمنشأة المهرانيّ ، فلذلك عمل السلطان الجسر

٢٩٤

المذكور خوفا على القاهرة من الغرق.

الجسر بوسط النيل : وكان سبب عمل هذا الجسر ، أن ماء النيل قوي رميه على ناحية بولاق ، وهدم جامع الخطيري ، ثم جدّد وقوّيت عمارته وتيار البحر لا يزداد من ناحية البرّ الشرقيّ إلّا قوة ، فأهمّ الملك الناصر أمره وكتب في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة بطلب المهندسين من دمشق وحلب والبلاد الفراتية ، وجمع المهندسين من أعمال مصر كلها قبليها وبحريها ، فلما تكاملوا عنده ركب بعساكره من قلعة الجبل إلى شاطيء النيل ، ونزل في الحراقة وبين يديه الأمراء وسائر أرباب الخبرة من المهندسين ، وجولة الجسور ، وكشف أمر شطوط النيل ، فاقتضى الحال أن يعمل جسرا فيما بين بولاق وناحية أنبوبه من البرّ الغربي ، ليردّ قوّة التيار عن البرّ الشرقيّ إلى البرّ الغربيّ ، وعاد إلى القلعة فكتبت مراسيم إلى ولاة الأعمال بإحضار الرجال صحبة المشدّين ، واستدعى شادّ العمائر السلطانية وأمره بطلب الحجارين ، وقطع الحجر من الجبل ، وطلب رئيس البحر وشادّ الصناعة لإحضار المراكب ، فلم يمض سوى عشرة أيام حتى تكامل حضور الرجال مع الشادّين من الأقاليم ، وندب السلطان لهذا العمل الأمير أقبغا عبد الواحد ، والأمير برصبغا الحاجب ، فبرز لذلك وأحضر والي القاهرة ووالي مصر ، وأمرا بجمع الناس وتسخير كل أحد للعمل ، فركبا وأخذا الحرافيش من الأماكن المعروفة بهم ، وقبضا على من وجد في الطرقات وفي المساجد والجوامع ، وتتبّعاهم في الأسحار ، ووقع الاهتمام الكبير في العمل من يوم الأحد عاشر ذي القعدة ، وكانت أيام القيظ ، فهلك فيه عدّة من الناس ، والأمير أقبغا في الحراقة يستحث الناس على إنجاز العمل ، والمراكب تحمل الحجر من الفص الكبير إلى موضع الجسر ، وفي كل قليل يركب السلطان من القلعة ويقف على العمل ، ويهين أقبغا ويسبه ويستحثه حتى تمّ العمل للنصف من ذي الحجة ، وكانت عدّة المراكب التي غرقت فيه وهي مشحونة بالحجارة اثني عشر مركبا ، كل مركب منها تحمل ألف أردب غلة ، وعدّة المراكب التي ملئت بالحجر حتى ردم وصار جسرا ، ثلاثة وعشرون ألف مركب ، سوى ما عمل فيه من آلات الخشب والسرياقات ، وحفر في الجزيرة خليج وطئ ، فلما جرى النيل في أيام الزيادة مرّ في ذلك الخليج ولم يتأثر الجسر من قوّة التيار ، وصارت قوّة جري النيل من ناحية أنبوبة بالبرّ الغربيّ ومن ناحية التكروريّ أيضا ، فسرّ السلطان بذلك وأعجبه إعجابا كثيرا ، وكان هذا الجسر سبب انطراد الماء عن برج القاهرة حتى صار إلى ما صار إليه الآن.

الجسر فيما بين الجيزة والروضة : كان السبب المقتضى لعمل هذا الجسر ، أن الملك الناصر لما عمل الجسر فيما بين بولاق وناحية أنبوبة وناحية التكروريّ ، انطرد ماء النيل عن برّ القاهرة ، وانكشفت أراض كثيرة ، وصار الماء يحاض من برّ مصر إلى المقياس ، وانكشف من قبالة منشأة المهرانيّ إلى جزيرة الفيل وإلى منية الشيرج ، وصار الناس يجدون مشقّة لبعد الماء عن القاهرة ، وغلت روايا الماء حتى بيعت كلّ راوية بدر همين بعد ما كانت بنصف وربع

٢٩٥

درهم ، فشكا الناس ذلك إلى الأمير أرغون العلائيّ والي السلطان الملك الكامل شعبان بن الملك الناصر محمد بن قلاون ، فطلب المهندسين ورئيس البحر ، وركب السلطان بأمرائه من القلعة إلى شاطيء النيل ، فلم يتهيأ عمل لما كان من ابتداء زيادة النيل ، إلّا أنّ الرأي اقتضى نقل التراب والشقاف من مطابخ السكّر التي كانت بمصر وإلقاء ذلك بالروضة. لعمل الجسر ، فنقل شيء عظيم من التراب في المراكب إلى الروضة ، وعمل جسر من الجزيرة إلى نحو المقياس ، في طول نحو ثلثي ما بينهما من المسافة ، فعاد الماء إلى جهة مصر عودا يسيرا وعجزوا عن إيصال الجسر إلى المقياس لقلة التراب ، وقويت الزيادة حتى علا الماء الجسر بأسره ، واتفق قتل الملك الكامل بعد ذلك ، وسلطنة أخيه الملك المظفر حاجي بن محمد بن قلاون أول جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وسبعمائة.

فلما دخلت سنة ثمان وأربعين ، وقف جماعة من الناس للسلطان في أمر البحر واستغاثوا من بعد الماء وانكشاف الأراضي من تحت البيوت ، وغلاء الماء في المدينة ، فأمر بالكشف عن ذلك ، فنزل المهندسون واتفقوا على إقامة جسر ليرجع الماء عن برّ الجيزة إلى برّ مصر والقاهرة ، وكتبوا تقدير ما يصرف فيه مائة وعشرين ألف درهم فضة ، فأمر بجبايتها من أرباب الأملاك التي على شط النيل ، وأن يتولى القاضي ضياء الدين يوسف بن أبي بكر المحتسب جبايتها واستخراجها ، فقيست الدور وأخذ عن كل ذراع من أراضيها خمسة عشر درهما ، وتولى قياسها أيضا المحتسب ووالي الصناعة ، فبلغ قياسها سبعة آلاف وستمائة ذراع ، وجبي نحو السبعين ألف درهم ، فاتفق عزل الضيّاء عن الحسبة ، ونظر المارستان المنصوريّ ، ونظر الجوالي ، وولاية ابن الأطروش مكانه ، ثم قتل الملك المظفر وولاية أخيه الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون سلطنة مصر بعده ، في شهر رمضان منها ، فلما كانت في سنة تسع وأربعين وسبعمائة وقع الاهتمام بعمل الجسر ، فنزل الأمير بلبغا أروس نائب السلطنة ، والأمير منجك الاستادار ، وكان قد عزل من الوزارة ، والأمير قيلاي الحاجب ، وجماعة من الأمراء ومعهم عدّة من المهندسين إلى البحر في الحراريق ، والمراكب إلى برّ الجيزة ، وقاسوا ما بين برّ الجيزة والمقياس ، وكتب تقدير المصروف نحو المائة والخمسين ألف درهم ، وألف خشبة من الخشب ، وخمسمائة صار ، وألف حجر في طول ذراعين وعرض ذراعين ، وخمسة آلاف شنفة ، وغير ذلك من أشياء كثيرة.

فركب النائب والوزير والأمير شيخو والأمراء إلى الجيزة ، وأعادوا النظر في أمر الجسر ومعهم أرباب الخبرة ، فالتزم الأمير منجك بعمل الجسر ، وأن يتولى جباية المصروف عليه من سائر الأمراء والأجناد والكتاب وأرباب الأملاك ، بحيث أنه لا يبقى أحد حتى يؤخذ منه ، فرسم لكتاب الجيش بكتابة أسماء الجند ، وقرّر على كلّ مائة دينار من الإقطاعات درهم واحد ، وعلى كلّ أمير من خمسة آلاف درهم إلى أربعة آلاف درهم ، وعلى كلّ كاتب أمير ألف ، مائتا درهم ، وكاتب أمير الطبلخانات مائة درهم ، وعلى كلّ حانوت من حوانيت

٢٩٦

التجار درهم ، وعلى كلّ دار در همان ، وعلى كلّ بستان الفدّان من عشرين درهما إلى عشرة دراهم ، وعلى كلّ طاحون خمسة دراهم. عن الحجر ، وعلى كلّ صهريج في تربة بالقرافة أو في ظاهر القاهرة أو في مدرسة من عشرة دراهم إلى خمسة دراهم ، وعلى كل تربة من ثلاثة دراهم إلى در همين ، وعلى أصحاب المقاعد والمتعيشين في الطرقات شيء ، وكشفت البساتين والدور التي استجدّت من بولاق إلى منية الشيرج ، والتي استجدّت في الحكورة ، والتي استجدّت على الخليج الناصريّ ، وعلى بركة الحاجب ، وفي حكر أخي صاروجا ، وقيست أراضيها كلها ، وأخذ عن كلّ ذراع منها خمسة عشر درهما ، وأخذ عن كلّ قمين من أقمنة الطوب شيء ، وعن كلّ فاخورة من الفواخير شيء ، وفرض على كلّ وقف بالقاهرة ومصر والقرافتين من الجوامع والمساجد والخوانك والزوايا والربط شيء ، وكتب إلى ولاة الأعمال بالجباية من ديورة النصارى وكنائسهم من مائتي درهم إلى مائة درهم ، وقرّر على الفنادق والخانات التي بالقاهرة ومصر شيء ، وقرّر على ضامنة الأغاني مبلغ خمسين ألف درهم ، وأقيم لكل جهة شادّ وصيرفي وكتّاب وغير ذلك من المستحثين من الأعوان ، فنزل من ذلك بالناس بلاء كبير وشدّة عظيمة ، فإنه أخذ حتى من الشيخ والعجوز والأرملة ، وجبى المال منهم بالعسف ، وأبطل كثير منهم سببه لسعيه في الغرامة ودهي الناس مع الغرامة ، يتسلط الظلمة من العرفاء والضمان والرسل ، فكان يغرم كلّ أحد للقابض والشادّ والصيرفيّ والشهود سوى ما قرّر عليه جملة دراهم ، فكثر كلام الناس في الوزير حتى صاروا يلهجون بقولهم هذه سخطة مرصص نزلت من السماء على أهل مصر ، وقاسوا شدّة أخرى في تحصيل الأصناف التي يحتاج إليها ، ونزل الوزير منجك وضرب له خيمة على جانب الروضة ، ونادى في الحرافيش والفعلة ، من أراد العمل يحضر ويأخذ أجرته درهما ونصفا وثلاثة أرغفة ، فاجتمع إليه عالم كثير ، وجعل لهم شيئا يستظلون به من حرّ الشمس ، وأحسن إليهم ، ورتب عدّة مراكب لنقل الحجر ، وأقام عدة من الحجارين في لجبل لقطع الحجر ، وجمالا وحميرا تنقلها من الجبل إلى البحر ، ثم تحمل من البرّ في المراكب إلى برّ الجيزة ، وابتدأ بعمل الجسر من الروضة إلى ساقية علم الدين بن زنبور ، وعارضه بجسر آخر من بستان التاج إسحاق إلى ساقية ابن زنبور ، وأقام أخشابا من الجهتين ، وردم بينهما بالتراب والحجر والحلفاء ، ورتب الجمال السلطانية لقطع الطين من برّ الروضة وحمله إلى وسط الجسر ، وأمر أن لا يبقى بالقاهرة ومصر صانع إلا حضر العمل ، وألزم من كان بالقرب من داره كوم تراب أن ينقله إلى الجسر ، فغرم كل واحد من الناس في نقل التراب من ألف درهم درهم إلى خمسمائة درهم ، وكان كلّ ما ينقل في المراكب من الحجر وغيره يرمى في وسط جسر المقياس ، وتحمله الجمال إلى الجسر ، ثم اقتضى الرأي حفر خليج يجري الماء فيه عند زيادة النيل لتضعف قوّة التيار عن الجسر ، فأحضرت الأبقار والجراريف والرجال لأجل ذلك ، وابتدؤوا حفره من رأس موردة الحلفاء تحت الدور إلى بولاق ، وكانت الزيادة

٢٩٧

قد قرب أوانها فما انتهى الحفر حتى زاد ماء النيل وجرى فيه ، فسرّ الناس به سرورا كبيرا ، وانتهى عمل الجسر في أربعة أشهر.

إلا أنّ الشناعة قويت على الوزير ، وبلّغ الأمراء النائب ما يقال عن منجك من كثرة جباية الأموال ، فحدّثه في ذلك ومنعه ، فاعتذر بأنه لم يسخر أحدا ولا استعمل الناس إلّا بالأجرة ، وأن في هذا العمل للناس عدّة منافع ، وما عليّ من قول أصحاب الأغراض الفاسدة ، ونحو ذلك ، وتمادى على ما هو عليه ، فلما جرى الماء في الخليج الذي حفر تحت البيوت من موردة الحلفاء إلى بولاق ، مرّت فيه المراكب بالناس للفرجة ، واحتاج منجك إلى نقل خيمته من برّ الروضة إلى برّ الجيزة ، وأحضر المراكب الكبار وملأها بالحجارة ، وغرّق منها عشرة مراكب في البحر ، وردم التراب عليها إلى أن كمل نحو ثلثي العمل ، فقويت زيادة الماء وبطل العمل.

فلما كثرت الزيادة جمع منجك الحرافيش والأسرى ، وردم على الجسر التراب وقوّاه ، فتحامل الماء عن البرّ الغربيّ إلى البرّ الشرقيّ ومرّ من تحت الميدان السلطانيّ وزريبة قوصون إلى بولاق ، فصار معظمه من هذه المواضع ، وحصل الغرض بكون الماء بالقرب من القاهرة ، وانتهى طول جسر منجك إلى مائتين وتسعين قصبة في عرض ثمان قصبات ، وارتفاع أربع قصبات ، والجسر الذي من الروضة إلى المقياس طوله مائتان وثلاثون قصبة ، وعدّة ما رمي في هذا العمل من المراكب المشحونة بالحجر اثنا عشر ألف مركب سوى التراب. وغير ذلك ، وكان ابتداء العمل في مستهل المحرّم وانتهاؤه في سلخ ربيع الآخر ، ولم تنحصر الأموال التي جبيت بسببه ، فإنه لم يبق بالقاهرة ومصر دار ولا فندق ولا حمّام ولا طاحون ولا وقف جامع أو مدرسة أو مسجد أو زاوية ولا رزقة ولا كنيسة إلّا وجبي منه ، فكان الرجل الواحد يغرم العشرة دراهم ، ومن خصه درهمان يحتاج إلى غرامة أمثالهما وأضعافهما ، وناهيك بمال يجبى من الديار المصرية على هذا الحكم كثرة ، وقد بقيت من جسر منجك هذا بقية هي معروفة اليوم في طرف الجزيرة الوسطى.

جسر الخليلي : هذا الجسر فيما بين الروضة من طرفها البحريّ وبين جزيرة أروى المعروفة بالجزيرة الوسطى ، تجاه الخور ، وكان سبب عمله أن النيل لما قوي رمى تياره على برّ القاهرة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون ، وقام في عمل الجسر ليصير رمي التيار من جهة البرّ الغربيّ كما تقدّم ذكره ، انطرد الماء عن برّ القاهرة وانكشف ما تحت الدور من منشأة المهرانيّ إلى منية الشيرج ، وعمل منجك الجسر الذي مرّ ذكره ليعود الماء في طول السنة إلى برّ القاهرة ، فلم يتهيأ كما كان أوّلا ، وجرى في الخليج الذي احتفره تحت الدور من موردة الحلفاء بمصر إلى بولاق ، وصار تجاه هذا الخليج جزيرة ، والماء لا يزال ينطرد في كلّ سنة عن برّ القاهرة إلى أن استبدّ بتدبير مصر الأمير الكبير برقوق.

٢٩٨

فلما دخلت سنة أربع وثمانين وسبعمائة ، قصد الأمير جهاركس الخليليّ عمل جسر ليعود الماء إلى برّ القاهرة ويصير في طول السنة هناك ، ويكثر النفع به فيرخص الماء المحمول في الروايا ويقرب مرسى المراكب من البلد وغير ذلك من وجوه النفع ، فشرع في العمل أوّل شهر ربيع الأوّل ، وأقام الخوازيق من خشب السنط ، طول كلّ خازوق منها ثمانية أذرع ، وجعلها صفين في طول ثلاثمائة قصبة وعرض عشر قصبات ، وسمر فيها أفلاق النخل الممتدّة ، وألقى بين الخوازيق ترابا كثيرا ، وانتصب هناك بنفسه ومماليكه ، ولم يجب من أحد مالا البتة ، فانتهى عمله في أخريات شهر ربيع الآخر ، وحفر في وسط البحر خليجا من الجسر إلى زريبة قوصون ، وقال شعراء العصر في ذلك شعرا كثيرا ، منهم عيسى بن حجاج :

جسر الخليليّ المقرّ لقد رسا

كالطود وسط النيل كيف يريد

فإذا سألتم عنهما قلنا لكم

ذا ثابت دهرا وذاك يزيد

وقال الأديب شهاب الدين أحمد بن العطار :

شكت النيل أرضه

للخليلي فأحصره

ورأى الماء خائفا

أن يطاها فجسره

وقال :

رأى الخليليّ قلب الماء حين طغى

بنى على قلبه جسرا وحيّره

رأى ترمّل أرضيه ووحدتها

والنيل قد خاف يغشاها فجسّره

ومع ذلك ما ازداد الماء إلّا انطرادا عن برّ القاهرة ومصر ، حتى لقد انكشف بعد عمل هذا الجسر شيء كثير من الأراضي التي كانت عامرة بماء النيل ، وبعد النيل عن القاهرة بعدا لم يعهد في الإسلام مثله قط.

جسر شيبين : أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة ، بسبب أنّ أقليم الشرقية كانت له سدود كلها موقوفة على فتح بحر أبي المنجا ، وفي بعض السنين تشرّق ناحية شيبين وناحية مرصفا وغير ذلك من النواحي التي أراضيها عالية ، فشكا الأمير بشتاك من تشريق بعض بلاده التي في تلك النواحي ، فركب السلطان من قلعة الجبل ومعه المهندسون وخولة البلاد ، وكانت له معرفة بأمور العمائر ، وحدس جيد ، ونظر سعيد ورأي مصيب ، فسار لكشف تلك النواحي حتى اتفق الرأي على عمل الجسر من عند شيبين القصر إلى بنها العسل ، فوقع الشروع في عمله وجمع له من رجال البلاد اثني عشر ألف رجل ، ومائتي قطعة جرّافة ، وأقام فيه القناطر فصار محبسا لتلك البلاد ، وإذا فتح بحر أبي المنجا امتلأت الاملاق بالماء ، وأسند على هذا الجسر ، وفي أوّل سنة عمل هذا الجسر أبطل فتح بحر أبي المنجا تلك السنة ، فتح من جسر شيبين هذا ، وحصل هذا الجسر نفع كبير

٢٩٩

لبلاد العلو ، واستبحر منه عدّة بلاد وطيئة ، والعمل على هذا الجسر إلى يومنا هذا. والله أعلم.

جسرا مصر والجيزة : اعلم أن الماء في القديم كان محيطا بجزيرة مصر التي تعرف اليوم بالروضة طول السنة ، وكان فيما بين ساحل مصر وبين الروضة جسر من خشب ، وكذلك فيما بين الروضة وبرّ الجيزة جسر من خشب يمرّ عليهما الناس والدواب ، من مصر إلى الروضة ، ومن الروضة إلى الجيزة ، وكان هذان الجسران من مراكب مصطفة بعضها بحذاء بعض وهي موثقة ، ومن فوق المراكب أخشاب ممتدّة فوقها تراب ، وكان عرض الجسر ثلاث قصبات.

قال القضاعيّ : وأما الجسر فقال بعضهم رأيت في كتاب ، ذكر أنه خط أبي عبد الله بن فضالة ، صفة الجسر وتعطيلة وإزالته ، وأنه لم يزل قائما إلى أن قدم المأمون مصر ، وكان غريبا ، ثم أحدث المأمون هذا الجسر الموجود اليوم الذي تمرّ عليه المارّة وترجع من الجسر القديم ، فبعد أن خرج المأمون عن البلد أتت ريح عاصفة فقطعت الجسر الغربيّ ، فصدمت سفنه الجسر المحدث ، فذهبا جميعا ، فبطل الجسر القديم وأثبت الجديد ، ومعالم الجسر القديم معروفة إلى هذه الغاية.

وقال ابن زولاق في كتاب إتمام أمراء مصر : ولعشر خلون من شعبان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة سارت العساكر لقتال القائد جوهر ، ونزلوا الجزيرة بالرجال والسلاح والعدّة ، وضبطوا الجسرين ، وذكر ما كان منهم إلى أن قال في عبور جوهر : أقبلت العساكر فعبرت الجسر أفواجا أفواجا ، وأقبل جوهر في فرسانه إلى المناخ موضع القاهرة. وقال في كتاب سيرة المعز لدين الله : وفي مستهلّ رجب سنة أربع وستين وثلاثمائة صلح جسر الفسطاط ، ومنع الناس من ركوبه ، وكان قد أقام سنين معطلا. وقال ابن سعيد في كتاب المغرب : وذكر ابن حوقل الجسر الذي يكون ممتدّا من الفسطاط إلى الجزيرة ، وهو غير طويل ، ومن الجانب الآخر إلى البرّ الغربيّ ، المعروف ببرّ الجيزة ، جسر آخر من الجزيرة إليه ، وأكثر جواز الناس بأنفسهم ودوابهم في المراكب ، لأنّ هذين الجسرين قد احترما بحصولهما في حيز قلعة السلطان ، ولا يجوز أحد على الجسر الذي بين الفسطاط والجزيرة راكبا احتراما لموضع السلطان ، يعني الملك الصالح نجم الدين أيوب ، وكان رأس هذا الجسر الذي ذكره ابن سعيد حيث المدرسة الخرّوبية ، من إنشاء البدر أحمد بن محمد الخرّوبيّ التاجر ، على ساحل مصر قبليّ خط دار النحاس ، وما برح هذا الجسر إلى أن خرّب الملك المعز ايبك التركمانيّ قلعة الروضة ، بعد سنة ثمان وأربعين وستمائة ، فأهمل. ثم عمره الملك الظاهر ركن الدين بيبرس على المراكب ، وعمله من ساحل مصر إلى الروضة ، ومن الروضة إلى الجيزة ، لأجل عبور العسكر عليه لما بلغه حركة الفرنج ، فعمل ذلك.

٣٠٠