كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

كان برأس الجسر وثب عليه قوم من النزارية قد كمنوا له في فرن تجاه رأس الجسر بالروضة ، وضربوه بالسكاكين حتى أثخنوه وجرحوا جماعة من خدّامه ، فحمل إلى منظرة اللؤلؤة بشاطئ الخليج وقد مات.

ذكر قلعة الروضة

اعلم أنه ما برحت جزيرة الروضة منتزها ملوكيا ومسكنا للناس كما تقدّم ذكره ، إلى أن ولي الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب سلطنة مصر ، فأنشأ القلعة بالروضة ، فعرفت بقلعة المقياس ، وبقلعة الروضة ، وبقلعة الجزيرة ، وبالقلعة الصالحية ، وشرع في حفر أساسها يوم الأربعاء خامس شعبان ، وابتدأ بنيانها في آخر الساعة الثالثة من يوم الجمعة سادس عشرة ، وفي عاشر ذي القعدة وقع الهدم في الدور والقصور والمساجد التي كانت بجزيرة الروضة ، وتحوّل الناس من مساكنهم التي كانوا بها ، وهدم كنيسة كانت لليعاقبة بجانب المقياس وأدخلها في القلعة ، وأنفق في عمارتها أموالا جمة ، وبنى فيها الدور والقصور ، وعمل لها ستين برجا ، وبنى بها جامعا ، وغرس بها جميع الأشجار ، ونقل إليها عمد الصوّان من البرابي وعمد الرخام ، وشحنها بالأسلحة وآلات الحرب ، وما يحتاج إليه من الغلال والأزواد والأقوات ، خشية من محاصرة الفرنج ، فإنهم كانوا حينئذ على عزم قصد بلاد مصر ، وبالغ في إتقانها مبالغة عظيمة ، حتى قيل أنه استقام كل حجر فيها بدينار ، وكل طوبة بدرهم ، وكان الملك الصالح يقف بنفسه ويرتب ما يعمل ، فصارت تدهش من كثرة زخرفتها ، وتحير الناظر إليها من حسن سقوفها المزينة ، وبديع رخامها.

ويقال أنه قطع من الموضع الذي أنشأ فيه هذه القلعة ألف نخلة مثمرة ، كان رطبها يهدي إلى ملوك مصر لحسن منظره وطيب طعمه ، وخرّب الهودج والبستان المختار وهدّم ثلاثة وثلاثين مسجدا عمرها خلفاء مصر وسراة المصريين لذكر الله تعالى وإقامة الصلوات ، واتفق له في عدم بعض هذه المسجد خبر غريب ، قال الحافظ جمال الدين يوسف بن أحمد بن محمود بن أحمد الأسدي ، الشهير باليغموري : سمعت الأمير الكبير الجواد جمال الدين أبا الفتح موسى بن الأمير شرف الدين يغمور بن جلدك بن عبد الله قال : ومن عجيب ما شاهدته من الملك الصالح أبي الفتوح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل رحمه‌الله تعالى أنه أمرني أن أهدم مسجدا كان في جوار داره بجزيرة مصر ، فأخرت ذلك وكرهت أن يكون هدمه على يديّ ، فأعاد الأمر وأنا أكاسر عنه ، وكأنه فهم مني ذلك ، فاستدعى بعض خدمه من نوّابي وأنا غائب وأمره أن يهدم ذلك المسجد ، وأنيبني في مكانه قاعة ، وقدّر له صفتها ، فهدم ذلك المسجد وعمر تلك القاعة مكانه ، وكملت ، وقدمت الفرنج إلى الديار المصرية ، وخرج الملك الصالح مع عساكره إليهم ، ولم يدخل تلك القاعة التي بنيت في

٣٢١

المكان الذي كان مسجدا ، فتوفي السلطان في المنصورة ، وجعل في مركب وأتى به إلى الجزيرة ، فجعل في تلك القاعة التي بنيت مكان المسجد مدّة إلى أن بنيت له التربة التي في جنب مدارسه بالقاهرة في جانب القصر ، عفا الله عنه ، وكان النيل عند ما عزم الملك الصالح على عمارة قلعة الروضة من الجانب الغربيّ ، فيما بين الروضة وبرّ الجيزة ، وقد انطرد عن برّ مصر ولا يحيط بالروضة إلا في أيام الزيادة ، فلم يزل يغرّق السفن في البرّ الغربيّ ، ويحفر فيما بين الروضة ومصر ما كان هناك من الرمال ، حتى عاد ماء النيل إلى برّ مصر ، واستمرّ هناك فأنشأ جسرا عظيما ممتدّا من برّ مصر إلى الروضة ، وجعل عرضه ثلاث قصبات ، وكان الأمراء إذا ركبوا من منازلهم يريدون الخدمة السلطانية بقلعة الروضة ، وجعل عرضه ثلاث قصبات ، وكان الأمراء إذا ركبوا من منازلهم يريدون الخدمة السلطانية بقلعة الروضة يترجلون عن خيولهم عند البرّ ، ويمشون في طول هذا الجسر إلى القلعة ، ولا يمكن أحد من العبور عليه راكبا سوى السلطان فقط ، ولما كملت تحوّل إليها بأهله وحرمه ، واتخذها دار ملك ، وأسكن فيها معه مماليكه البحرية ، وكانت عدّتهم نحو الألف مملوك.

قال العلامة عليّ بن سعيد في كتاب المغرب : وقد ذكر الروضة ، هي أمام الفسطاط ، فيما بينها وبين مناظر الجيزة ، وبها مقياس النيل ، وكانت منتزها لأهل مصر ، فاختارها الصالح بن الكامل سرير السلطنة وبنى بها قلعة مسوّرة بسور ساطع اللون محكم البناء عالي السمك ، لم ترعيني أحسن منه ، وفي هذه الجزيرة كان الهودج الذي بناه الآمر خليفة مصر لزوجته البدوية التي هام في حبها ، والمختار بستان الإخشيد. وقصره ، وله ذكر في شعر تميم بن المعز وغيره ، ولشعراء مصر في هذه الجزيرة أشعار منها قول أبي الفتح بن قادوس الدمياطيّ :

أرى سرح الجزيرة من بعيد

كأحداق تغازل في المغازل

كانّ مجرّة الجوز أحاطت

وأثبتت المنازل في المنازل

وكنت أشق في بعض الليالي بالفسطاط على ساحلها فيزدهيني ضحك البدر في وجه النيل أمام سور هذه الجزيرة الدريّ اللون ، ولم انفصل عن مصر حتى كمل سور هذه القلعة ، وفي داخله من الدور السلطانية ما ارتفعت إليه همة بانيها ، وهو من أعظم السلاطين همة في البناء ، وأبصرت في هذه الجزيرة إيوانا لجلوسه لم ترعيني مثاله ، ولا أقدّر ما أنفق عليه ، وفيه من صفائح الذهب والرخام الأبنوسيّ والكافوريّ والمجزع ما يذهل الأفكار ويستوقف الأبصار ويفضل عما أحاط به السور ، أرض طويلة ، وفي بعضها حاظر حظر به على أصناف الوحوش التي يتفرّج عليها السلطان ، وبعدها مروج ينقطع فيها مياه النيل فينظر بها أحسن منظر ، وقد تفرّجت كثيرا في طرف هذه الجزيرة مما يلي برّ القاهرة ، فقطعت فيه عشيات مذهبات لم تزل لأحزان الغربة مذهبات ، وإذا زاد النيل فصل ما بينها وبين الفسطاط

٣٢٢

بالكلية ، وفي أيام احتراق النيل يتصل برّها ببرّ الفسطاط من جهة خليج القاهرة ، ويبقى موضع الجسر فيه مراكب ، وركبت مرّة هذا النيل أيام الزيادة مع الصاحب المحسن محيي الدين بن ندا وزير الجزيرة ، وصعدنا إلى جهة الصعيد ، ثم انحدرنا واستقبلنا هذه الجزيرة ، وأبراجها تتلالأ والنيل قد انقسم عنها فقلت :

تأمّل لحسن الصالحية إذ بدت

وأبراجها مثل النجوم تلالا

وللقلعة الغرّاء كالبدر طالعا

تفرّج صدر الماء عنه هلالا

ووافى إليها النيل من بعد غاية

كما زار مشغوف يروم وصالا

وعانقها من فرط شوق لحسنها

فمدّ يمينا نحوها وشمالا

جرى قادما بالسعد فاختط حولها

من السعد أعلاما فزاد دلالا

ولم تزل هذه القلعة عامرة حتى زالت دولة بني أيوب ، فلما ملك السلطان الملك المعز عز الدين أيبك التركماني أوّل ملوك الترك بمصر أمر بهدمها ، وعمر منها مدرسته المعروفة بالمعزية في رحبة الحناء بمدينة مصر ، وطمع في القلعة من له جاه ، فأخذ جماعة منها عدّة سقوف وشبابيك كثيرة وغير ذلك ، وبيع من أخشابها ورخامها أشياء جليلة ، فلما صارت مملكة مصر إلى السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري ، اهتم بعمارة قلعة الروضة ، ورسم للأمير جمال الدين موسى بن يغمور أن يتولى إعادتها كما كانت ، فأصلح بعض ما تهدّم فيها ، ورتب فيها الجاندارية ، وأعادها إلى ما كانت عليه من الحرمة ، وأمر بأبراجها ففرّقت على الأمراء ، وأعطى برج الزاوية للأمير سيف الدين قلاون الألفيّ ، والبرج يليه للأمير عز الدين الحليّ ، والبرج الثالث من بروج الزاوية للأمير عز الدين أرغان ، وأعطى برج الزاوية الغربيّ للأمير بدر الدين الشمسي ، وفرّقت بقية الأبراج على سائر الأمراء ، ورسم أن تكن بيتوتات جميع الأمراء واصطبلاتهم فيها ، وسلم المفاتيح لهم.

فلما تسلطن الملك المنصور قلاون الألفيّ وشرع في بناء المارستان والقبلة والمدرسة المنصورية ، نقل من قلعة الروضة هذه ما يحتاج إليه من عمد الصوّان وعمد الرخام التي كانت قبل عمارة القلعة في البرابي ، وأخذ منها رخاما كثيرا وأعتابا جليلة مما كان في البرابي وغير ذلك ، ثم أخذ منها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون ما احتاج إليه من عمد الصوّان في بناء الإيوان المعروف بدار العدل من قلعة الجبل ، والجامع الجديد الناصري ظاهر مدينة مصر ، وأخذ غير ذلك حتى ذهبت كأن لم تكن ، وتأخر منها عقد جليل تسميه العامّة القوس ، كان مما يلي جانبها الغربيّ ، أدركناه باقيا إلى نحو سنة عشرين وثنمانمائة ، وبقي من أبراجها عدّة قد انقلب أكثرها ، وبنى الناس فوقها دورهم المطلة على النيل.

قال ابن المتوّج : ثم اشترى الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب جزيرة مصر المعروفة اليوم بالروضة في شعبان سنة ست وستين وخمسمائة ، وإنما سميت بالروضة

٣٢٣

لأنه لم يكن بالديار المصرية مثلها ، وبحر النيل حائز لها ودائر عليها ، وكانت حصينة ، وفيها من البساتير والعمائر والثمار ما لم يكن في غيرها ، ولما فتح عمرو بن العاص مصر تحصن الروم بها مدّة ، فلما طال حصارها وهرب الروم منها خرّب عمرو بن العاص بعض أبراجها وأسوارها ، وكانت مستديرة عليها ، واستمرّت إلى أن عمر حصنها أحمد بن طولون في سنة ثلاث وستين ومائتين ، ولم يزل هذا الحصن حتى خرّبه النيل ، ثم اشتراها الملك المظفر تقيّ الدين عمر المذكور وبقيت على ملكه إلى أن سيّر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ولده الملك العزيز عثمان إلى مصر ومعه عمه الملك العادل ، وكتب إلى الملك المظفر بأن يسلم لهما البلاد ويقدم عليه إلى الشأم ، فلما ورد عليه الكتاب ووصل ابن عمه الملك العزيز وعمه الملك العادل شق عليه خروجه من الديار المصرية ، وتحقق أنه لا عود له إليها أبدا ، فوقف هذه المدرسة التي تعرف اليوم في مصر بالمدرسة التقوية ، التي كانت تعرف بمنازل العزو ، وقف عليها الجزيرة بكمالها ، وسافر إلى عمه فملكه حماه ، ولم يزل الحال كذلك إلى أن ولى الملك الصالح نجم الدين أيوب ، فاستأجر الجزيرة من القاضي فخر الدين أبي محمد ، عبد العزيز بن قاضي القضاة عماد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد العليّ بن عبد القادر السكريّ مدرّس المدرسة المذكورة لمدّة ستين سنة في دفعتين ، كل دفعة قطعة ، فالقطعة الأولى من جامع غين إلى المناظر طولا وعرضا ، من البحر إلى البحر واستأجر القطعة الثانية وهي باقي أرض الجزيرة بما فيها من النخل والجميز والغروس ، فإنه لما عمر الملك الصالح مناظر قلعة الجزيرة قطعت النخيل ودخلت في العمائر ، وأمّا الجميز ، فإنه كان بشاطئ بحر النيل صف جميز يزيد على أربعين شجرة ، وكان أهل مصر فرجهم تحتها في زمن النيل والربيع ، قطعت جميعها في الدولة الظاهرية ، وعمر بها شواني عوض الشواني التي كان قد سيرها إلى جزيرة قبرس ، ثم سلم المدرّس التقوية القطعة المستأجرة من الجزيرة أوّلا في سنة ثمان وتسعين وستمائة ، وبقي بيد السلطان القطعة الثانية ، وقد خربت قلعة الروضة ولم يبق منها سوى أبراج قد بنى الناس عليها ، وبقي أيضا عقد باب من جهة الغرب يقال له باب الإصطبل ، وعادت الروضة بعد هدم القلعة منها منتزها يشتمل على دور كثيرة وبساتين عدّة وجوامع تقام بها الجماعات والأعياد ومساجد ، وقد خرب أكثر مساكن الروضة ، وبقي فيها إلى اليوم بقايا. وبطرف الروضة المقياس الذي يقاس فيه ماء النيل اليوم ، ويقال له المقياس الهاشميّ ، وهو آخر مقياس بني بديار مصر.

قال أبو عمر الكنديّ : وورد كتاب المتوكل على الله بابتناء المقياس الهاشميّ للنيل ، وبعزل النصارى عن قياسه ، فجعل يزيد بن عبد الله بن دينار أمير مصر ، أبا الردّاد المعلم ، وأجرى عليه سليمان بن وهب صاحب الخراج في كل شهر سبعة دنانير ، وذلك في سنة سبع وأربعين ومائتين ، وعلامة وفاء النيل ستة عشر ذراعا ، أن يسبل أبو الردّاد قاضي البحر الستر الأسود الخليفيّ على شباك المقياس ، فإذا شاهد الناس هذا الستر قد أسبل تباشروا بالوفاء

٣٢٤

واجتمعوا على العادة للفرجة من كل صوب ، وما أحسن قول شهاب الدين بن العطار في تهتك الناس يوم تخليق المقياس :

تهتك الخلق بالتخليق قلت لهم

ما أحسن الستر قالوا العفو مأمول

ستر الإله علينا لا يزال فما

أحلى تهتكنا والستر مسبول

جزيرة الصابوني : هذه الجزيرة تجاه رباط الآثار ، والرباط من جملتها ، وقفها أبو الملوك نجم الدين أيوب بن شادي وقطعة من بركة الحبش ، فجعل نصف ذلك على الشيخ الصابوني وأولاده ، والنصف الآخر على صوفية بمكان بجوار قبة الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه ، يعرف اليوم بالصابوني.

جزيرة الفيل : هذه الجزيرة هي الآن بلد كبير خارج باب البحر من القاهرة ، وتتصل بمنية الشيرج من بحريها ، ويمرّ النيل من غربيها ، وبها جامع تقام به الجمعة ، وسوق كبير وعدّة بساتين جليلة ، وموضعها كله مما كان غامرا بالماء في الدولة الفاطمية. فلما كان بعد ذلك انكسر مركب كبير كان يعرف بالفيل ، وترك في مكانه فربا عليه الرمل ، وانطرد عنه الماء ، فصارت جزيرة فيما بين المنية وأرض الطبالة سماها الناس جزيرة الفيل ، وصار الماء يمرّ من جوانبها ، فغربيها تجاه برّ مصر الغربيّ ، وشرقيها تجاه البعل ، والماء في بينها وبين البعل الذي هو الآن قبالة قناطر الأوز ، فإنّ الماء كان يمرّ بالمقس من تحت زريبة جامع المقس الموجود الآن على الخليج الناصريّ ، ومن جامع المقس على أرض الطبالة إلى غربيّ المصلى ، حتى ينتهي من تجاه التاج إلى المنية ، وصارت هذه الجزيرة في وسط النيل ، وما برحت تتسع إلى أن زرعت في أيام الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ، فوقفها على المدرسة التي أنشأها بالقرافة بجوار قبر الشافعيّ رضي‌الله‌عنه ، وكثرت أطيانها بانحسار النيل عنها في كل سنة.

فلما كان في أيام الملك المنصور قلاون الألفي تقرّب مجد الدين أبو الروح عيسى بن عمر بن خالد بن عبد المحسن بن الخشاب المتحدّث في الأحباس ، إلى الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ ، بأنّ في أطياب هذه الجزيرة زيادة على ما وقفه السلطان صلاح الدين ، فأمر بقياس ما تجدّد بها من الرمال وجعلها لجهة الوقف الصلاحيّ ، وأقطع الأطياب القديمة التي كانت في الوقف وجعلها هي التي زادت ، فلما أمر الملك المنصور قلاون بعمل المارستان المنصوري وقف بقية الجزيرة عليه ، فغرس الناس بها الغروس وصارت بساتين وسكن الناس من المزارعين هناك ، فلما كانت أيام الملك الناصر محمد بن قلاون بعد عوده إلى قلعة الجبل من الكركل ، وانحسر النيل عن جانب المقس الغربيّ وصار ما هنالك رمالا متصلة من بحريها بجزيرة الفيل المذكورة ، ومن قبليها بأراضي اللوق ، افتتح الناس باب العمارة بالقاهرة ومصر فعمروا في تلك الرمال المواضع التي تعرف اليوم ببولاق خارج

٣٢٥

المقس ، وأنشأوا بجزيرة الفيل البساتين والقصور ، واستجدّا ابن المغربيّ الطبيب بستانا اشتراه منه القاضي كريم الدين ناظر الخاص للأمير سيف الدين طشتمر الساقي ، بنحو المائة ألف درهم فضة ، عنها زهاء خمسة آلاف مثقال ذهبا ، وتتابع الناس في إنشاء البساتين حتى لم يبق بها مكان بغير عمارة وحكر ، ما كان منها وقفا على المدرسة المجاورة للشافعيّ رضي‌الله‌عنه ، وما كان فيها من وقف المارستان ، وغرس ذلك كله بساتين ، فصارت تنيف على مائة وخمسين بستانا إلى سنة وفاة الملك الناصر محمد بن قلاون ، ونصب فيها سوق كبير يباع فيه أكثر ما يطلب من المآكل ، وابتنى الناس بها عدّة دور وجامعا فبقيت قرية كبيرة وما زالت في زيادة ونموّ ، فأنشأ قاضي القضاة جلال الدين القزويني رحمه‌الله الدار المجاورة لبستان الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب على النيل ، فجاءت في غاية من الحسن ، فلما عزل عن قضاء القضاة وسار إلى دمشق اشتراها الأمير بشتاك بثلاثين ألف درهم ، وخربها وأخذ منها رخاما وشبابيك وأبوابا ، ثم باع باقي نقضها بمائة ألف درهم ، فربح الباعة في ذلك شيئا كثيرا ، ونودي على زر بيتها فحكرت وعمر عليها الناس عدّة أملاك ، واتصلت العمارة بالأملاك من هذه الزريبة إلى منية الشيرج ، ثم خربت شيئا بعد شيء ، وبقي ما على هذه الزريبة من الأملاك ، وهي تعرف اليوم بدار الطنبديّ التاجر. وأما بساتين الجزيرة فلم تزل عجبا من عجائب الدنيا من حسن المنظر وكثرة المتحصل ، إلى أن حدثت المحن من سنة ست وثمانمائة ، فتلاشت وخرب كثير منها لغلوّ العلوفات من الفول والتبن وشدّة ظلم الدولة وتعطل معظم سوقها ، وفيها إلى الآن بقية صالحة.

جزيرة أروى : هذه الجزيرة تعرف بالجزيرة الوسطى ، لأنها فيما بين الروضة وبولاق ، وفيما بين برّ القاهرة وبرّ الجيزة ، لم ينحسر عنها الماء إلا بعد سنة سبعمائة ، وأخبرني القاضي الرئيس تاج الدين أبو الفداء إسماعيل بن أحمد بن عبد الوهاب بن الخطباء المخزوميّ ، عن الطبيب الفاضل شمس الدين محمد بن الأكفاني ، أنه كان يمرّ بهذه الجزيرة أوّل ما انكشفت ، ويقول هذه الجزيرة تصير مدينة ، أو قال تصير بلدة ، على الشك مني ، فاتفق ذلك وبنى الناس فيها الدور الجليلة ، والأسواق والجامع والطاحون والفرن ، وغرسوا فيها البساتين وحفروا الآبار ، وصارت من أحسن منتزهات مصر ، يحف بها الماء ، ثم صار ينكشف ما بينها وبين برّ القاهرة ، فإذا كانت أيام زيادة ماء النيل أحاط الماء بها ، وفي بعض السنين يركبها الماء فتمرّ المراكب بين دورها وفي أزقتها. ثم لما كثر الرمل فيما بينها وبين البرّ الشرقيّ ، حيث كان خط الزريبة. وفم الخور ، قلّ الماء هناك وتلاشت مساكن هذه الجزيرة ، منذ كانت الحوادث في سنة ست وثمانمائة ، وفيها إلى اليوم بقايا حسنة.

الجزيرة التي عرفت بحليمة : هذه الجزيرة خرجت في ستة سبع وأربعين وسبعمائة ، ما بين بولاق والجزيرة الوسطى ، سمتها العامّة بحليمة ، ونصبوا فيها عدّة أخصاص ، بلغ مصروف الخص الواحد منها ثلاثة آلاف درهم نقرة ، في ثمن رخام ودهان ، فكان فيها من

٣٢٦

هذه الأخصاص عدّة وافرة ، وزرع حول كل خص من المقائي وغيرها ما يستحسن ، وأقام أهل الخلاعة والمجون هناك ، وتهتكوا بأنواع المحرّمات ، وتردّد إلى هذه الجزيرة أكثر الناس حتى كادت القاهرة أن لا يثبت بها أحد ، وبلغ أجرة كل قصبة بالقياس في هذه الجزيرة ، وفي الجزيرة التي عرفت بالطمية فيما بين مصر والجيزة ، مبلغ عشرين درهما نقرة ، فوقف الفدّان هناك بمبلغ ثمانية آلاف درهم نقرة ، ونصبت في هذه الأفدنة الأخصاص المذكورة ، وكان الانتفاع بها فيما ذكر نحو ستة أشهر من السنة ، فعلى ذلك يكون الفدّان فيها بمبلغ ستة عشر ألف درهم نقرة ، وأتلف الناس هناك من الأموال ما يجل وصفه ، فلما كثر تجاهرهم بالقبيح ، قام الأمير أرغون العلائيّ مع الملك الكامل شعبان بن محمد بن قلاون في هدم هذه الأخصاص التي بهذه الجزيرة قياما زائدا ، حتى أذن له في ذلك ، فأمر والي مصر والقاهرة فنزلا على حين غفلة ، وكبسا الناس وأراقا الخمور وحرّقا الأخصاص ، فتلف للناس في النهب والحريق ، وغير ذلك شيء كثير إلى الغاية والنهاية. وفي هذه الجزيرة يقول الأديب إبراهيم المعمار :

جزيرة البحر جنّت

بها عقول سليمة

لما حوت حسن مغنى

ببسطة مستقيمة

وكم يخوضون فيها

وكم مشوا بنميمة

ولم تزل ذا احتمال

ما تلك إلّا حليمة

ذكر السجون

قال ابن سيده : السجن ، الحبس ، والسجان صاحب السجن ، ورجل سجين مسجون.

قال : وحبسه يحبسه حبسا فهو محبوس وحبيس ، واحتبسه وحبسه أمسكه عن وجهه. وقال سيبويه : حبسه ، ضبطه ، واحتبسه ، اتخذه حبسا ، والمحبس والمحبسة والمحتبس ، اسم الموضع. وقال بعضهم : المحبس يكون مصدرا كالحبس ، ونظيره إلى الله مرجعكم ، أي رجوعكم. ويسألونك عن المحيض أي الحيض. وروى الإمام أحمد وأبو داود من حديث بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جدّه رضي‌الله‌عنهم قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حبس في تهمة يوما وليلة» فالحبس الشرعيّ ليس هو السجن في مكان ضيق ، وإنما هو تعويض الشخص ومنعه من التصرّف بنفسه ، سواء كان في بيت أو مسجد ، أو كان يتولى نفس الخصم أو وكيله عليه ، وملازمته له ، ولهذا سماه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسيرا ، كما روى أبو داود وابن ماجه عن الهرماس بن حبيب عن أبيه رضي‌الله‌عنهما. قال : «أتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغريم لي فقال لي : الزمه ، ثم قال لي يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك» وفي رواية ابن ماجه ثمّ مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بي آخر النهار فقال : «ما فعل أسيرك يا أخا بني تميم» وهذا كان هو الحبس على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبي بكر الصدّيق رضي‌الله‌عنه ، ولم يكن له محبس معدّ لحبس

٣٢٧

الخصوم ، ولكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، ابتاع من صفوان بن أمية رضي‌الله‌عنه دارا بمكة بأربعة آلاف درهم ، وجعلها سجنا يحبس فيها. ولهذا تنازع العلماء ، هل يتخذ الإمام حبسا على قولين؟ فمن قال لا يتخذ حبسا ، احتج بأنه لم يكن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا لخليفته من بعده حبس ، ولكن يعوقه بمكان من الأمكنة ، أو يقيم عليه حافظا ، وهو الذي يسمى الترسيم ، أو يأمر غريمه بملازمته. ومن قال له أن يتخذ حبسا ، احتج بفعل عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، ومضت السنة في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ ، رضي‌الله‌عنهم ، أنه لا يحبس على الديون ، ولكن يتلازم الخصمان.

وأوّل من حبس على الدين ، شريح القاضي ، وأمّا الحبس الذي هو الآن ، فإنه لا يجوز عند أحد من المسلمين ، وذلك أنه يجمع الجمع الكثير في موضع يضيق عنهم ، غير متمكنين من الوضوء والصلاة ، وقد يرى بعضهم عورة بعض ، ويؤذيهم الحرّ في الصيف ، والبرد في الشتاء ، وربما يحبس أحدهم السنة وأكثر ولا جدة له ، وأنّ أصل حبسه على ضمان ، وأمّا سجون الولاة فلا يوصف ما يحلّ بأهلها من البلاء ، واشتهر أمرهم أنهم يخرجون مع الأعوان في الحديد حتى يشحذوا وهم يصرخون في الطرقات الجوع ، فما تصدّق به عليهم لا ينالهم منه إلّا ما يدخل بطونهم ، وجميع ما يجتمع لهم من صدقات الناس يأخذه السجان وأعوان الوالي ، ومن لم يرضهم بالغوا في عقوبته ، وهم مع ذلك يستعملون في الحفر وفي العمائر ونحو ذلك من الأعمال الشاقة ، والأعوان تستحثهم ، فإذا انقضى عملهم ردّوا إلى السجن في حديدهم من غير أن يطعموا شيئا. إلى غير ذلك مما لا يسع حكايته هنا. وقد قيل أن أوّل من وضع السجن والحرس معاوية. وقد كان في مدينة مصر وفي القاهرة عدّة سجون ، وهي حبس المعونة بمصر ، وحبس الصيار بمصر ، وخزانة البنود بالقاهرة ، وحبس المعونة بالقاهرة ، وخزانة شمائل ، وحبس الديلم ، وحبس الرحبة ، والجب بقلعة الجبل.

حبس المعونة بمصر : ويقال أيضا : دار المعونة ، كانت أوّلا تعرف بالشرطة ، وكانت قبليّ جامع عمرو بن العاص ، وأصله خطّه قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ رضي‌الله‌عنهم ، اختطها في أول الإسلام ، وقد كان موضعها فضاء. وأوصى فقال : إن كنت بنيت بمصر دارا واستعنت فيها بمعونة المسلمين فهي للمسلمين ، ينزلها ولاتهم. وقيل بل كانت هي ودار إلى جانبها لنافع بن عبد قيس الفهريّ ، وأخذها منه قيس بن سعد وعوّضه دارا بزقاق القناديل. ثم عرفت بدار الفلفل لأنّ أسامة بن زيد التنوخيّ صاحب خراج مصر ، ابتاع من موسى بن وردان فلفلا بعشرين ألف دينار ، كان كتب فيه الوليد بن عبد الملك ليهديه إلى صاحب الروم ، فخزّنه فيها ، فشكا ذلك إلى عمر بن عبد العزيز رضي‌الله‌عنه حين تولى الخلافة ، فكتب أن تدفع إليه. ثم صارت شرطة ودار الصرف ، فلما فرغ عيسى بن يزيد الجلوديّ من زيادة عبد الله بن طاهر في الجامع بنى شرطة في سنة ثلاث عشرة ومائتين ، في

٣٢٨

خلافة المأمون ، ونقش في لوح كبير نصبه على باب الجامع الذي يدخل منه إلى الشرطة ما نصه: بركة من الله لعبده عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين ، أمر بإقامة هذه الدار الهاشمية المباركة على يد عيسى بن يزيد الجلوديّ ، مولى أمير المؤمنين ، سنة ثلاث عشرة ومائتين ، ولم يزل هذا اللوح على باب الشرطة إلى صفر سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة ، فقلعه يانس العزيزي وصارت حبسا يعرف بالمعونة ، إلى أن ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فجعله مدرسة ، وهي التي تعرف اليوم بالشريفية.

حبس الصيّار : هذا الحبس كان بمصر يحبس فيه الولاة بعد ما عمل حبس المعونة مدرسة ، وكان بأوّل الزقاق الذي فيه هذا الحبس حانوت يسكنه شخص يقال له منصور الطويل ، ويبيع فيه أصناف السوقة ، ويعرف هذا الرجل بالصيار من أجل أنه كانت له في هذا الزقاق قاعة يخزن فيها أنواع الصير المعروف بالملوحة ، فقيل لهذا الحبس حبس الصيار ، ونشأ لمنصور الصيار هذا ولد عرف بين الشهود بمصر بشرف الدين بن منصور الطويل ، فلما أحدث الوزير شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزيّ المظالم في سلطنة الملك المعز أيبك التركمانيّ ، خدم شرف الدين هذا على المظالم في جباية التسقيع والتقويم ، ثم خدم بعد إبطال ذلك في مكس القصب والرمّان ، فلما تولى قضاء القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز ، تأذى عنده بما باشره من هذه المظالم ، وما زال هذا الحبس موجودا إلى أن خربت مصر في الزمان الذي ذكرناه ، فخرب وبقي موضعه وما حوله كيمانا.

خزانة البنود : هذه الخزانة بالقاهرة هي الآن زقاق يعرف بخط خزانة البنود ، على يمنة من سلك من رحبة باب العيد يريد درب ملوخيا وغيره ، وكانت أوّلا في الدولة الفاطمية خزانة من جملة خزائن القصر يعمل فيها السلاح ، يقال أن الخليفة الظاهر بن الحاكم أمر بها ، ثم أنها احترقت في سنة إحدى وستين وأربعمائة ، فعملت بعد حريقها سجنا يسجن فيه الأمراء والأعيان ، إلى أن انقرضت الدولة فأقرّها ملوك بني أيوب سجنا ، ثم عملت منزلا للأمراء من الفرنج يسكنون فيها بأهاليهم وأولادهم في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون بعد حضوره من الكرك ، فلم يزالوا بها إلى أن هدمها الأمير الحاج آل ملك الجوكندار نائب السلطنة بديار مصر ، في سنة أربع وأربعين وسبعمائة ، فاختط الناس موضعها دورا ، وقد ذكرت في هذا الكتاب عند ذكر خزائن القصر.

حبس المعونة من القاهرة : هذا المكان بالقاهرة ، موضعه الآن قيسارية العنبر برأس الحريريين ، كان يسجن فيه أرباب الجرائم من السرّاق وقطاع الطريق ونحوهم في الدولة الفاطمية ، وكان حبسا حرجا ضيقا شنيعا يشم من قربه رائحة كريهة ، فلما ولي الملك الناصر محمد بن قلاون مملكة مصر هدمه وبناه قيسارية للعنبر ، وقد ذكر عند ذكر الأسواق من هذا الكتاب.

٣٢٩

خزانة شمائل : هذه الخزانة كانت بجوار باب زويلة ، على يسرة من دخل منه بجوار السور ، عرفت بالأمير علم الدين شمائل والي القاهرة في أيام الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب ، وكانت من أشنع السجون وأقبحها منظرا ، يحبس فيها من وجب عليه القتل أو القطع من السرّاق وقطاع الطريق ، ومن يريد السلطان إهلاكه من المماليك وأصحاب الجرائم العظيمة ، وكان السجان بها يوظف عليه والي القاهرة شيئا يحمله من المال له في كل يوم ، وبلغ ذلك في أيام الناصر فرج مبلغا كبيرا ، وما زالت هذه الخزانة على ذلك إلى أن هدمها الملك المؤيد شيخ المحموديّ في يوم الأحد العاشر من شهر ربيع الأول ، سنة ثمان عشرة وثمانمائة ، وأدخلها في جملة ما هدمه من الدور التي عزم على عمارة أماكنها مدرسة.

وشمائل هذا : هو الأمير علم الدين ، قدم إلى القاهرة وهو من فلاحي بعض قرى مدينة حماه في أيام الملك الكامل محمد بن العادل ، فخدم جاندار في الركاب السلطاني إلى أن نزل الفرنج على مدينة دمياط في سنة خمس عشرة وستمائة ، وملكوا البرّ وحصروا أهلها وحالوا بينهم وبين من يصل إليهم ، فكان شمائل هذا يخاطر بنفسه ويسبح في الماء بين المراكب ويردّ على السلطان الخبر ، فتقدّم عند السلطان وحظي لديه حتى أقامه أمير جاندار ، وجعله من أكبر أمرائه ، ونصه سيف نقمته ، وولاه ولاية القاهرة ، فباشر ذلك إلى أن مات السلطان وقام من بعده ابنه الملك العادل أبو بكر ، فلما خلع بأخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب نقم على شمائل.

المقشرة : هذا السجن بجوار باب الفتوح ، فيما بينه وبين الجامع الحاكمي ، كان يقشر فيه القمح ، ومن جملته برج من أبراج السور على يمنة الخارج من باب الفتوح ، استجدّ بأعلاه دور لم تزل إلى أن هدمت خزانة شمائل ، فعين هذا البرج والمقشرة لسجن أرباب الجرائم ، وهدمت الدور التي كانت هناك في شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وعشرين وثمانمائة ، وعمل البرج والمقشرة سجنا ونقل إليه أرباب الجرائم ، وهو من أشنع السجون وأضيقها ، يقاسي فيه المسجونون من الغمّ والكرب ما لا يوصف ، عافانا الله من جميع بلائه.

الجب بقلعة الجبل : هذا الجب كان بقلعة الجبل يسجن فيه الأمراء ، وابتدئ عمله في سنة إحدى وثمانين وستمائة ، والسلطان حينئذ الملك المنصور قلاون ، ولم يزل إلى أن هدمه الملك الناصر محمد بن قلاون في يوم الاثنين سابع عشر جمادى الأولى ، سنة تسع وعشرين وسبعمائة ، وذلك أنّ شادّ العمائر نزل إليه ليصلح عمارته فشاهد أمرا مهولا من الظلام وكثرة الوطاويط والروائح الكريهة ، واتفق مع ذلك أن الأمير بكتمر الساقي كان عنده شخص يسخر به ويمازحه ، فبعث به إلى الجب ودلي فيه ، ثم أطلعه من بعد ما بات به ليلة ، فلما حضر إلى بكتمر أخبره بما عاينه من شناعة الجب ، وذكر ما فيه من القبائح المهولة ،

٣٣٠

وكان شادّ العمائر في المجلس فوصف ما فيه الأمراء الذين بالجب من الشدائد ، فتحدّث بكتمر مع السلطان في ذلك فأمر بإخراج الأمراء منه ، وردم وعمّر فوقه أطباق المماليك ، وكان الذي ردم به هذا الجب ، النقض الذي هدم من الإيوان الكبير المجاور للخزانة الكبرى ، والله أعلم بالصواب.

ذكر المواضع المعروفة بالصناعة

لفظ الصناعة بكسر الصاد مأخوذ من قولك صنعه يصنعه صنعا ، فهو مصنوع ، وصنيع عمله واصطنعه اتخذه. والصناعة ما يستصنع من أمر ، هذا أصل الكلمة من حيث اللغة ، وأمّا في العرف فالصناعة اسم لمكان قد أعدّ لإنشاء المراكب البحرية التي يقال لها السفن ، واحدتها سفينة ، وهي بمصر على قسمين : نيلية وحربية.

فالحربية هي التي تنشأ لغزو العدوّ وتشحن بالسلاح وآلات الحرب والمقاتلة ، فتمرّ من ثغر الإسكندرية وثغر دمياط وتنيس والفرما إلى جهاد أعداء الله من الروم والفرنج ، وكانت هذه المراكب الحربية يقال لها الأسطول ، ولا أحسب هذا اللفظ عربيا.

وأمّا المراكب النيلية فإنها تنشأ لتمرّ في النيل ، صاعدة إلى أعلى الصعيد ومنحدرة إلى أسفل الأرض ، لحمل الغلال وغيرها ، ولما جاء الله تعالى بالإسلام لم يكن البحر يركب للغزو في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلافة أبي بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما ، وأوّل من ركب البحر في الإسلام للغزو ، العلاء بن الحضرميّ رضي‌الله‌عنه ، وكان على البحرين من قبل أبي بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما ، فأحب أن يؤثر في الأعاجم أثرا يعز الله به الإسلام على يديه ، فندب أهل البحرين إلى فارس فبادروا إلى ذلك ، وفرّقهم أجنادا ، على أحدها الجارود بن المعلي رضي‌الله‌عنه ، وعلى الثاني سوار بن همام رضي‌الله‌عنه ، وعلى الثالث خليد بن المنذر بن ساوي رضي‌الله‌عنه ، وجعل خليدا على عامة الناس ، فحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، وكان عمر رضي‌الله‌عنه لا يأذن لأحد في ركوب البحر غازيا ، كراهة للتغرير بجنده ، اقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخليفته أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس ، فخرجوا في اصطخر وبإزائهم أهل فارس عليهم الهربذ ، فحالوا بين المسلمين وبين سفنهم ، فقام خليد في الناس فقال : أما بعد ، فإنّ الله تعالى إذا قضى أمرا جرت المقادير على مطيته ، وأنّ هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم إلى حربهم ، وإنما جئتم لمحاربتهم ، والسفن والأرض بعد الآن لمن غلب ، فاستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلّا على الخاشعين. فأجابوه إلى القتال وصلوا الظهر ، ثم ناهزوهم فاقتتلوا قتالا شديدا في موضع يدعى طاوس ، فقتل من أهل فارس مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها قبلها ، وخرج المسلمون يريدون البصرة إذ غرقت سفنهم ولم يجدوا في الرجوع إلى البحر سبيلا ، فإذا بهم وقد أخذت عليهم الطرق ، فعسكروا وامتنعوا ، وبلغ ذلك

٣٣١

عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه فاشتدّ غضبه على العلاء رضي‌الله‌عنه ، وكتب إليه بعزله وتوعده وأمره بأثقل الأشياء عليه وأبغض الوجوه إليه ، بتأمير سعد بن أبي وقاص عليه وقال : الحق بسعد بن أبي وقاص بمن معك ، فخرج رضي‌الله‌عنه من البحرين بمن معه نحو سعد رضي‌الله‌عنه ، وهو يومئذ على الكوفة ، وكان بينهما تباين وتباعد ، وكتب عمر رضي‌الله‌عنه إلى عتبة بن غزوان بأنّ العلاء بن الحضرميّ حمل جندا من المسلمين في البحر فأقطعهم إلى فارس وعصاني ، وأظنه لم يرد الله عزوجل بذلك ، فخشيت عليهم أن لا ينصروا وأن يغلبوا ، فاندب لهم الناس وضمهم إليك من قبل أن يجتاحوا ، فندب عتبة رضي‌الله‌عنه الناس وأخبرهم بكتاب عمر رضي‌الله‌عنه ، فانتدب عاصم بن عمرو ، وعرفجة بن هرثمة ، وحذيفة بن محصن ، ومجراة بن ثور ، ونهار بن الحارث ، والترجمان بن فلان ، والحصين بن أبي الحرّ ، والأحنف بن قيس ، وسعد بن أبي العرجاء ، وعبد الرحمن بن سهل ، وصعصعة بن معاوية رضي الله تعالى عنهم. فساروا من البصرة في اثني عشر ألفا على البغال يجنبون الخيل ، وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم رضي‌الله‌عنهم ، فساحل بهم حتى التقى أبو سبرة وخليد حيث أخذت عليهم الطرق ، وقد استصرخ أهل اصطخر أهل فارس كلهم فأتوهم من كل وجه وكورة ، فالتقوا هم وأبو سبرة فاقتتلوا ، ففتح الله على المسلمين وقتل المشركون ، وعاد المسلمون بالغنائم إلى البصرة ، ورجع أهل البحرين إلى منازلهم.

فلما فتح الله تعالى الشأم ألح معاوية بن أبي سفيان وهو يومئذ على جند دمشق والأردن ، على عمر رضي‌الله‌عنه في غزو البحر وقرب الروم من حمص. وقال : إنّ قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم ، حتى إذا كاد ذلك يأخذ بقلب عمر رضي‌الله‌عنه اتهم معاوية لأنه المشير ، وأحب عمر رضي‌الله‌عنه أن يردعه فكتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر ، أن صف لي البحر وراكبه ، فإنّ نفسي تنازعني إليه وأنا أشتهي خلافها. فكتب إليه : يا أمير المؤمنين ، إني رأيت البحر خلقا كبيرا يركبه خلق صغير ، ليس إلّا السماء والماء ، إن ركد حزّن القلوب ، وإن زلّ أزاغ العقول ، يزداد فيه اليقين قلة ، والشك كثرة ، هم فيه كدود على عود ، إن مال غرق وإن نجا برق.

فلما جاءه كتاب عمرو ، كتب رضي‌الله‌عنه إلى معاوية : لا والذي بعث محمدا بالحق لا أحمل فيه مسلما أبدا ، إنّا قد سمعنا أنّ بحر الشأم يشرف على أطول شيء في الأرض ، يستأذن الله تعالى في كل يوم وليلة أن يفيض على الأرض فيغرقها ، فكيف أحمل الجنود في هذا البحر الكافر المستصعب ، وتالله لمسلم واحد أحب إليّ مما حوته الروم ، فإياك أن تعرض لي وقد تقدّمت إليك ، وقد علمت ما لقي العلاء مني ولم أتقدّم إليه في مثل ذلك. وعن عمر رضي‌الله‌عنه أنه قال : لا يسألني الله عزوجل عن ركوب المسلمين البحر أبدا. وروي عنه ابنه عبد الله رضي‌الله‌عنهما أنه قال : لولا آية في كتاب الله تعالى لعلوت راكب البحر بالدرة.

٣٣٢

ثم لما كانت خلافة عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، غزا المسلمون في البحر ، وكان أوّل من غزا فيه معاوية بن أبي سفيان ، وذلك أنه لم يزل بعثمان رضي‌الله‌عنه حتى عزم على ذلك ، فأخره وقال : تنتخب الناس ولا تقرع بينهم ، خيّرهم ، فمن اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه. ففعل واستعمل على البحر عبد الله بن قيس الحاسي خليفة بني فزارة ، فغزا خمسين غزوة من بين شاتية وصائفة في البرّ والبحر ، ولم يغرق فيه أحد ولم ينكب ، وكان يدعو الله تعالى أن يرزقه العافية في جنده ولا يبتليه بمصاب أحد منهم ، حتى إذا أراد الله عزوجل أن يصيبه في جنده خرج في قارب طليعته فانتهى إلى المرفأ من أرض الروم ، فثار به الروم وهجموا عليه فقاتلهم فأصيب وحده ، ثم قاتل الروم أصحابه فأصيبوا.

وغزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح في البحر لما أتاه قسطنطين بن هرقل سنة أربع وثلاثين في ألف مركب يريد الإسكندرية ، فسار عبد الله في مائتي مركب أو تزيد شيئا وحاربه ، فكانت وقعة ذات الصواري التي نصر الله تعالى فيها جنده وهزم قسطنطين وقتل جنده ، وأغزى معاوية أيضا عقبة بن عامر الجهنيّ رضي‌الله‌عنه في البحر ، وأمره أن يتوجه إلى رودس ، فسار إليها.

ونزل الروم على البرلس في سنة ثلاث وخمسين في إمارة مسلمة بن مخلد الأنصاريّ رضي‌الله‌عنه على مصر ، فخرج إليهم المسلمون في البرّ والبحر ، فاستشهد وردان مولى عمرو بن العاص في جمع كثير من المسلمين ، وبعث عبد الملك بن مروان لما ولي الخلافة إلى عامله على إفريقية حسان بن النعمان يأمره باتخاذ صناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية.

ومنها كانت غزوة صقلية في أيام زيادة الله الأوّل بن إبراهيم بن الأغلب على شيخ الفتيا أسد بن الفرات ، ونزل الروم تنيس في سنة إحدى ومائة في إمارة بشر بن صفوان الكلبيّ على مصر من قبل يزيد بن عبد الملك ، فاستشهد جماعة من المسلمين ، وقد ذكر في أخبار الإسكندرية ودمياط وتنيس والفرما من هذا الكتاب جملة من نزلات الروم والفرنج عليها ، وما كان في زمن الإنشاء ، فانظره تجده إن شاء الله تعالى. وقد ذكر شيخنا العالم العلامة الأستاذ قاضي القضاة وليّ الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرميّ الإشبيلي ، تعليل امتناع المسلمين من ركوب البحر للغزو في أوّل الأمر فقال : والسبب في ذلك أن العرب لبداوتهم لم يكونوا أوّل الأمر مهرة في ثقافته وركوبه ، والروم والفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التقلب على أعواده مرنوا عليه ، وأحكموا الدربة بثقافته ، فلما استقرّ الملك للعرب وشمخ سلطانهم ، وصارت أمم العجم خولا لهم وتحت أيديهم ، وتقرّب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته ، واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمما ، وتكرّرت ممارستهم البحر وثقافته ، استحدثوا بصرا بها ، فتاقت أنفسهم إلى

٣٣٣

الجهاد فيه ، وأنشأوا السفن والشواني وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح ، وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر ، واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب إلى هذا البحر وعلى ضفته ، مثل الشام وإفريقية والمغرب والأندلس.

وأوّل ما أنشئ الأسطول بمصر في خلافة أمير المؤمنين المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن المعتصم ، عند ما نزل الروم دمياط في يوم عرفة سنة ثمان وثلاثين ومائتين ، وأمير مصر يومئذ عنبسة بن إسحاق ، فملكوها وقتلوا بها جمعا كثيرا من المسلمين ، وسبوا النساء والأطفال ، ومضوا إلى تنيس فأقاموا باشتومها. فوقع الاهتمام من ذلك الوقت بأمر الأسطول وصار من أهمّ ما يعمل بمصر ، وأنشئت الشواني برسم الأسطول ، وجعلت الأرزاق لغزاة البحر كما هي لغزاة البرّ ، وانتدب الأمراء له الرماة ، فاجتهد الناس بمصر في تعليم أولادهم الرماية وجميع أنواع المحاربة ، وانتخب له القوّاد العارفون بمحاربة العدوّ ، وكان لا ينزل في رجال الأسطول غشيم ولا جاهل بأمور الحرب ، هذا وللناس إذ ذاك رغبة في جهاد أعداء الله وإقامة دينه ، لا جرم أنه كان لخدّام الأسطول حرمة ومكانة ، ولكل أحد من الناس رغبة في أنه يعدّ من جملتهم فيسعى بالوسائل حتى يستقرّ فيه ، وكان من غزو الأسطول بلاد العدوّ ما قد شحنت به كتب التواريخ.

فكانت الحرب بين المسلمين والروم سجالا ، ينال المسلمون من العدوّ وينال العدوّ منهم ، ويأسر بعضهم بعضا لكثرة هجوم أساطيل الإسلام بلاد العدوّ ، فإنها كانت تسير من مصر ومن الشام ومن أفريقية ، فلذلك احتاج خلفاء الإسلام إلى الفداء ، وكان أوّل فداء وقع بمال في الإسلام أيام بني العباس ، ولم يقع في أيام بني أمية فداء مشهور ، وإنما كان يفادي بالنفر بعد النفر في سواحل الشأم ومصر والإسكندرية وبلاد ملطية وبقية الثغور الخزرية ، إلى أن كانت خلافة أمير المؤمنين هارون الرشيد.

الفداء الأوّل : باللامش من سواحل البحر الروميّ قريبا من طرسوس في سنة تسع وثمانين ومائة ، وملك الروم يومئذ تقفور بن اشبراق ، وكان ذلك على يد القاسم بن الرشيد وهو معسكر بمرج دابق من بلاد قنسرين في أعمال حلب ، ففودي بكل أسير كان ببلاد الروم من ذكر أو أنثى ، وحضر هذا الفداء من أهل الثغور وغيرهم من أهل الأمصار نحو من خمسمائة ألف إنسان ، بأحسن ما يكون من العدد والخيل والسلاح والقوّة ، قد أخذوا السهل والجبل وضاق بهم الفضاء ، وحضرت مراكب الروم الحربية بأحسن ما يكون من الزيّ ، معهم أسارى المسلمين ، فكان عدّة من فودي به من المسلمين في اثني عشر يوما ثلاثة آلاف وسبعمائة أسير ، وأقام ابن الرشيد باللامش أربعين يوما قبل الأيام التي وقع فيها الفداء وبعدها ، وقال مروان بن أبي حفصة في هذا الفداء يخاطب الرشيد من أبيات :

وفكّت بك الأسرى التي شيدت بها

محابس ما فيها حميم يزورها

٣٣٤

على حين أعيى المسلمين فكاكها

وقالوا سجون المشركين قبورها

الفداء الثاني : كان في خلافة الرشيد أيضا باللامش في سنة اثنتين وتسعين ومائة ، وملك الروم تقفور ، وكان القائم به ثابت بن نصر بن مالك الخزاعيّ أمير الثغور الشامية ، حضره ألوف من الناس ، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين في سبعة أيام ألفين وخمسمائة من ذكر وأنثى.

الفداء الثالث : وقع في خلافة الواثق باللامش ، في المحرّم سنة إحدى وثلاثين ومائتين ، وملك الروم ميخائيل بن نوفيل ، وكان القائم به خاقان التركي ، وعدّة من فودي به من المسلمين في عشرة أيام أربعة آلاف وثلاثمائة واثنان وستون من ذكر وأنثى ، وحضر مع خاقان أبو رملة ، من قبل قاضي القضاة أحمد بن أبي داود يمتحن الأسرى وقت المفاداة ، فمن قال منهم بخلق القرآن فودي به وأحسن إليه ، ومن أبى ترك بأرض الروم ، فاختار جماعة من الأسرى الرجوع إلى أرض النصرانية على القول بذلك ، وخرج من الأسرى مسلم بن أبي مسلم الحرمي ، وكان له محل في الثغور ، وكتب مصنفه في أخبار الروم وملوكهم وبلادهم ، فنالته محن على القول بخلق القرآن ثم تخلص.

الفداء الرابع : في خلافة المتوكل على الله باللامش أيضا ، في شوّال سنة إحدى وأربعين ومائتين ، والملك ميخائيل ، وكان القائم به سيف خادم المتوكل ، وحضر معه جعفر بن عبد الواحد الهاشميّ القاضي ، وعليّ بن يحيى الأرمنيّ أمير الثغور الشامية ، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين في سبعة أيام ألفي رجل ومائة امرأة ، وكان مع الروم من النصارى المأسورين من أرض الإسلام مائة رجل ونيف ، فعوّضوا مكانهم عدّة أعلاج ، إذ كان الفداء لا يقع على نصرانيّ ولا ينعقد.

الفداء الخامس : في خلافة المتوكل ، وملك الروم ميخائيل أيضا باللامش ، مستهل صفر سنة ست وأربعين ومائتين ، وكان القائم به عليّ بن يحيى الأرمنيّ أمير الثغور ، ومعه نصر بن الأزهر الشيعيّ من شيعة بني العباس ، المرسل إلى الملك في أمر الفداء من قبل المتوكل ، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين في سبعة أيام ألفين وثلاثمائة وسبعة وستين من ذكر وأنثى.

الفداء السادس : كان في أيام المعتز ، والملك على الروم بسيل ، على يد شفيع الخادم في سنة ثلاث وخمسين ومائتين.

الفداء السابع : في خلافة المعتضد باللامش ، في شوّال سنة ثلاث وثمانين ومائتين ، وملك الروم اليون بن بسيل ، وكان القائم به أحمد بن طغان أمير الثغور الشامية وانطاكية ، من قبل الأمير أبي الجيش خماوريه بن أحمد بن طولون ، وكانت الهدنة لهذا الفداء وقعت

٣٣٥

في سنة اثنتين وثمانين ومائتين ، فقتل أبو الجيش بدمشق في ذي القعدة من هذه السنة ، وتم الفداء في إمارة ولده جيش بن خمارويه ، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين في عشرة أيام ألفين وأربعمائة وخمسة وتسعين من ذكر وأنثى ، وقيل ثلاثة آلاف.

الفداء الثامن : في خلافة المكتفي باللامش ، في ذي القعدة سنة اثنتين وتسعين ومائتين ، وملك الروم اليون أيضا ، وكان القائم به رستم بن نزدوي أمير الثغور الشامية ، وكانت عدة من فودي به من المسلمين في أربعة أيام ألفا ومائة وخمسة وخمسين من ذكر وأنثى ، وعرف بفداء الغدر ، وذلك أن الروم غدروا وانصرفوا ببقية الأساري.

الفداء التاسع : في خلافة المكتفي ، وملك الروم أليون باللامش أيضا ، في شوّال سنة خمس وتسعين ومائتين ، والقائم به رستم ، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين ألفين وثمانمائة واثنين وأربعين من ذكر وأنثى.

الفداء العاشر : في خلافة المقتدر باللامش ، في شهر ربيع الآخر سنة خمس وثلاثمائة ، وملك الروم قسطنطين بن اليون بن بسيل ، وهو صغير في حجر أرمانوس ، وكان القائم بهذا الفداء مونس الخادم ، وبشير الخادم الأفشيني أمير الثغور الشامية وانطاكية والمتوسط له ، والمعاون عليه أبو عمير عديّ بن أحمد بن عبد الباقي التميميّ الأدنيّ من أهل أدنة ، وعدّة من فودي به من المسلمين في ثمانية أيام ثلاثة آلاف وثلاثمائة وستة وثلاثون من ذكر وأنثى.

الفداء الحادي عشر : في خلافة المقتدر ، وملك أرمانوس وقسنطيطين على الروم ، وكان باللامش في شهر رجب سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة ، والقائم به مفلح الخادم الأسود المقتدري ، وبشير خليفة شمل الخادم على الثغور الشامية ، وعدّة من فودي به من المسلمين في تسعة عشر يوما ، ثلاثة آلاف وتسعمائة وثلاثة وثلاثون من ذكر وأنثى.

الفداء الثاني عشر : في خلافة الراضي باللامش ، في سلخ ذي القعدة ، وأيام من ذي الحجة ، سنة ست وعشرين وثلاثمائة والملكان على الروم قسطنطين وأرمانوس ، والقائم به ابن ورقاء الشيبانيّ ، من قبل الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات ، وبشير الشمليّ أمير الثغور الشامية ، وعدّة من فودي به من المسلمين في ستة عشر يوما ، ستة آلاف وثلاثمائة ونيف من ذكر وأنثى ، وبقي في أيدي الروم من المسلمين الأسرى ثمانمائة رجل ردّوا ، ففودي بهم في عدّة مرار ، وزيدوا في الهدنة بعد انقضاء الفداء مدّة ستة أشهر لأجل من تخلف في أيدي الروم من المسلمين ، حتى جمع الأسارى منهم.

الفداء الثالث عشر : في خلافة المطيع باللامش ، في شهر ربيع الأوّل سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة والملك على الروم قسطنطين ، والقائم به نصر الشملي من قبل سيف

٣٣٦

الدولة أبي الحسن عليّ بن حمدان ، صاحب جند حمس وجند قنسرين وديار بكر وديار مصر والثغور الشامية والخزرية ، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين ألفين وأربعمائة واثنين وثمانين من ذكر وأنثى ، وفضل للروم على المسلمين قرضا مائتان وثلاثون لكثرة من كان في أيديهم ، فوفاهم سيف الدولة ذلك وحمله إليهم ، وكان الذي شرع في هذا الفداء الأمير أبو بكر محمد بن طفج الإخشيد أمير مصر والشام والثغور الشامية ، وكان أبو عمير عديّ بن أحمد بن عبد الباقي الأدنيّ شيخ الثغور ، قدم إليه وهو بدمشق في ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ، ومعه رسول ملك الروم في إتمام هذا الفداء ، والإخشيد شديد العلة ، فتوفي يوم الجمعة لثمان خلون من ذي الحجة منها ، وسار أبو المسك كافور الإخشيديّ بالجيش راجعا إلى مصر ، وحمل معه أبا عمير ورسول ملك الروم إلى فلسطين ، فدفع إليهما ثلاثين ألف دينار من مال الفداء ، فسارا إلى مدينة صور وركبا البحر إلى طرسوس ، فلما وصلا كاتب نصر الشملي أمير الثغور سيف الدولة بن حمدان ، ودعا له على منابر الثغور ، فجدّ في إتمام هذا الفداء ، فنسب إليه. ووقعت أفدية أخرى ليس لها شهرة. فمنها : فداء في خلافة المهدي محمد ، على يد النقاش الأنطاكي ، وفداء في أيام الرشيد في شوّال سنة إحدى وثمانين ومائة ، على يد عياض بن سنان أمير الثغور الشامية ، وفداء في أيام الأمين ، على يد ثابت بن نصر ، في ذي القعدة سنة أربع وتسعين ومائة ، وفداء في أيام الأمين ، على يد ثابت بن نصر أيضا ، في ذي القعدة سنة إحدى ومائتين ، وفداء في أيام المتوكل سنة سبع وأربعين ومائتين ، على يد محمد بن علي ، وفداء في أيام المعتمد ، على يد شفيع ، في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين ومائتين ، وفداء كان في الإسكندرية في شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة ، خرج فيه أبو بكر محمد بن عليّ الماردانيّ من مصر ، ومعه الشريف أبو القاسم الرئيس ، والقاضي أبو حفص عمر بن الحسين العباسي ، وحمزة بن محمد الكتاني في جمع كبير ، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين ستين نفسا بين ذكر وأنثى.

فلما سار الروم إلى البلاد الشامية بعد سنة خمسين وثلاثمائة ، اشتدّ أمرهم بأخذهم البلاد ، وقويت العناية بالأسطول في مصر منذ قدم المعزل لدين الله ، وأنشأ المراكب الحربية ، واقتدى به بنوه وكان لهم اهتمام بأمور الجهاد واعتناء بالأسطول ، وواصلوا إنشاء المراكب بمدينة مصر واسكندرية ودمياط من الشواني الحربية والشلنديات والمسطحات ، وتسييرها إلى بلاد الساحل مثل صور وعكا وعسقلان ، وكانت جريدة قوّاد الأسطول في آخر أمرهم تزيد على خمسة آلاف مدوّنة ، منهم عشرة أعيان يقال لهم القوّاد ، واحدهم قائد ، وتصل جامكية كلّ واحد منهم إلى عشرين دينارا ، ثم إلى خمسة عشر دينارا ، ثم إلى عشرة دنانير ، ثم إلى ثمانية ، ثم إلى دنارين ، وهي أقلها. ولهم إقطاعات تعرف بأبواب الغزاة بما فيها من النطرون ، فيصل دينارهم بالمناسبة إلى نصف دينار ، وكان يعين من القوّاد العشرة

٣٣٧

واحد فيصير رئيس الأسطول ، ويكون معه المقدم والقاوش ، فإذا ساروا إلى الغزو كان هو الذي يقلع بهم ، وبه يقتضي الجميع ، فيرسون بإرسائه ويقلعون بإقلاعه ، ولا بدّ أن يقدم على الأسطول أمير كبير من أعيان أمراء الدولة وأقواهم نفسا ، ويتولى النفقة في غزاة الأسطول الخليفة بنفسه بحضور الوزير ، فإذا أراد أراد النفقة فيما تعين من عدّة المراكب السائرة ، وكانت في أيام المعز لدين الله تزيد على ستمائة قطعة ، وآخر ما صارت إليه في آخر الدولة نحو الثمانين شونة ، وعشر مسطحات ، وعشر حمالة ، فما تقصر عن مائة قطعة ، فيتقدّم إلى النقباء بإحضار الرجال ، وفيهم من كان يتمعش بمصر والقاهرة ، وفيهم من هو خارج عنهما ، فيجتمعون. وكانت لهم المشاهرة والجرايات في مدّة أيام سفرهم ، وهم معروفون عند عشرين عريفا يقال لهم النقباء ، واحدهم نقيب ، ولا يكره أحد على السفر ، فإذا اجتمعوا أعلم النقباء المقدّم ، فأعلم بذلك الوزير ، فطالع الوزير الخليفة بالحال ، فقرّر يوما للنفقة ، فحضر الوزير بالاستدعاء من ديوان الإنشاء على العادة ، فيجلس الخليفة على هيئته في مجلسه ، ويجلس الوزير في مكانه ، ويحضر صاحبا ديوان الجيش ، وهما المستوفي والكاتب ، والمستوفي هو أمير هما ، فيجلس من داخل عتبة المجلس ، وهذه رتبة له يتميز بها ، ويجلس بجانبه من وراء العتبة كاتب الجيش في قاعة الدار على حصر مفروشة ، وشرط هذا المستوفي أن يكون عدلا ومن أعيان الكتّاب ، ويسمى اليوم في زمننا ناظر الجيش ، وأما كاتب الجيش فإنه كان في غالب الأمر يهوديا ، وللمجلس الذي فيه الخليفة والوزير انطاع (١) تصب عليها الدراهم ، ويحضر الوزانون ببيت المال لذلك ، فإذا تهيأ الإنفاق أدخل الغزاة مائة مائة ، فيقفون في أخريات من هو واقف في الخدمة من جانب واحد ، نقابة نقابة ، وتكون أسماؤهم قد رتبت في أوراق لاستدعائهم بين يدي الخليفة ، فيستدعي مستوفي الجيش من تلك الأوراق المنفق عليهم واحدا واحدا ، فإذا خرج اسمه عبر من الجانب الذي هو فيه إلى الجانب الآخر ، فإذا تكملت عشرة ، وزن الوزانون لهم النفقة ، وكانت مقرّرة لكلّ واحد خمسة دنانير صرف ستة وثلاثين درهما بدينار ، فيسلمها لهم النقيب وتكتب باسمه وبيده ، وتمضي النفقة هكذا إلى آخرها.

فإذا تم ذلك ركب الوزير من بين يدي الخليفة وانفضّ ذلك الجمع ، فيحمل إلى الوزير من القصر مائدة يقال لها غداء الوزير ، وهي سبع مجنقات أوساط ، إحداها بلحم الدجاج وفستق ، معمولة بصناعة محكمة ، والبقية شواء ، وهي مكمورة بالأزهار. فتكون النفقة على ذلك مدّة أيام متوالية مرّة ومتفرّقة مرّة ، فإذا تكاملت النفقة وتجهزت المراكب وتهيأت للسفر ، ركب الخليفة والوزير إلى ساحل النيل بالمقس خارج القاهرة ، وكان هناك على شاطيء النيل بالجامع منظرة يجلس فيها الخليفة برسم وداع الأسطول ولقائه إذا عاد ، فإذا

__________________

(١) انطاع : جمع نطع : وهو بساط من جلد ، كثيرا ما كان يقتل فوقه المحكوم بالقتل.

٣٣٨

جلس للوداع جاءت القوّاد بالمراكب من مصر إلى هناك للحركات في البحر بين يديه ، وهي مزينة بأسلحتها ولبودها وما فيها من المنجنيقات ، فيرمى بها وتنحدر المراكب وتقلع ، وتفعل سائر ما تفعله عند لقاء العدوّ ، ثم يحضر المقدّم والرئيس إلى بين يدي الخليفة فيودّعهما ويدعو للجماعة بالنصرة والسلامة ، ويعطى للمقدم مائة دينار ، وللرئيس عشرين دينارا ، وينحدر الأسطول إلى دمياط ومن هناك يخرج إلى بحر الملح ، فيكون له ببلاد العدوّ صيت عظيم ومهابة قوية ، والعادة أنه إذا غنم الأسطول ما عسى أن يغنم ، لا يتعرّض السلطان منه إلى شيء البتة إلّا ما كان من الأسرى والسلاح ، فإنه للسلطان ، وما عداهما من المال والثياب ونحو هما فإنه لغزاة الأسطول ، لا يشاركهم فيه أحد ، فإذا قدم الأسطول خرج الخليفة أيضا إلى منظرة المقس وجلس فيها للقائه ، وقدم الأسطول مرّة بألف وخمسمائة أسير ، وكانت العادة أن الأسرى ينزل بهم في المناخ ، وتضاف الرجال إلى من فيه من الأسرى ، ويمضى بالنساء والأطفال إلى القصر بعد ما يعطى منهم الوزير طائفة ، ويفرّق ما بقي من النساء على الجهات والأقارب ، فيستخدمونهنّ ويربونهنّ حتى يتقنّ الصنائع ، ويدفع الصغار من الأسرى إلى الاستادين فيربونهم ويتعلمون الكتابة والرماية ، ويقال لهم الترابي ، وفيهم من صار أميرا من صبيان خاص الخليفة ، من الأسرى من كان يستراب به فيقتل ، ومن كان منهم شيخا لا ينتفع به ضربت عنقه وألقي في بئر كانت في خرائب مصر ، تعرف ببئر المنامة ، ولم يعرف قط عن الدولة الفاطمية أنها فادت أسيرا من الفرنج بمال ولا بأسير مثله ، وكان المنفق في الأسطول كلّ سنة خارجا عن العدد والآلات.

ولم يزل الأسطول على ذلك إلى أن كانت وزارة شاور ، ونزل مري ملك الفرنج على بركة الحبش ، فأمر شاور بتحريق مصر وتحريق مراكب الأسطول ، فحرّقت ونهبها العبيد فيما نهبوا ، فلما كان زوال الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، اعتنى أيضا بأمر الأسطول وأفرد له ديوانا عرف بديوان الأسطول ، وعين لهذا الديوان الفيوم بأعمالها ، والحبس الجيوشي في البرّين الشرقيّ والغربيّ ، وهو من البرّ الشرقيّ بهتين والأميريّة والمنية ، ومن البرّ الغربيّ ناحية سفط ونهيا ووسيم والبساتين خارج القاهرة ، وعين له أيضا الخراج ، وهو أشجار من سنط لا تحصى كثرة ، في البهنساوية وسفط ريشين والأشمونين والأسيوطية والأخميمية والقوصية ، لم تزل بهذه النواحي لا يقطع منها إلا ما تدعو الحاجة إليه ، وكان فيها ما تبلغ قيمة العود الواحد منه مائة دينار ، وقد ذكر خبر هذا الخراج في ذكر أقسام مال مصر من هذا الكتاب ، وعين له أيضا النطرون ، وكان قد بلغ ضمانه ثمانية آلاف دينار ، ثم أفرد لديوان الأسطول مع ما ذكر الزكاة التي كانت تجبى بمصر ، وبلغت في سنة زيادة على خمسين ألف دينار ، وأفرد له المراكب الديوانية وناحية أشناي وطنبدي ، وسلّم هذا الديوان لأخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، فأقام في مباشرته وعمالته صفيّ الدين عبد الله بن عليّ بن شكر ، وتقرّر ديوان الأسطول الذي ينفق في

٣٣٩

رجاله نصف وربع دينار ، بعد ما كان نصف وثمن دينار.

فلما مات السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، استمرّ الحال في الأسطول قليلا ثم قلّ الاهتمام به ، وصار لا يفكر في أمره إلا عند الحاجة إليه ، فإذا دعت الضرورة إلى تجهيزه طلب له الرجا لو قبض عليهم من الطرقات وقيدوا في السلاسل نهارا وسجنوا في الليل حتى لا يهربوا ، ولا يصرف لهم إلّا شيء قليل من الخبز ونحوه ، وربما أقاموا الأيام بغير شيء كما يفعل بالأسرى من العدوّ فصارت خدمة الأسطول عارا يسبّ به الرجال ، وإذا قيل لرجل في مصر يا أسطوليّ ، غضب غضبا شديدا ، بعد ما كان خدّام الأسطول يقال لهم المجاهدون في سبيل الله ، والغزاة في أعداء الله ، ويتبرّك بدعائهم الناس.

ثم لما انقرضت دولة بني أيوب وتملك الأتراك المماليك مصر ، أهملوا أمر الأسطول إلى أن كانت أيام السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ ، فنظر في أمر الشواني الحربية ، واستدعى برجال الأسطول ، وكان الأمراء قد استعملوهم في الحراريق وغيرها ، وندبهم للسفر وأمر بمدّ الشواني وقطع الأخشاب لعمارتها وإقامتها على ما كانت عليه في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب ، واحترز على الخراج ومنع الناس من التصرّف في أعواد العمل ، وتقدّم بعمارة الشواني في ثغري الإسكندرية ودمياط ، وصار ينزل بنفسه إلى الصناعة بمصر ويرتب ما يجب ترتيبه من عمل الشواني ومصالحها ، واستدعى بشواني الثغور إلى مصر فبلغت زيادة على أربعين قطعة سوى الحراريق والطرائد ، فإنها كانت عدّة كثيرة ، وذلك في شوال سنة تسع وستين وستمائة ، ثم سارت تريد قبرس ، وقد عمل ابن حسون رئيس الشواني في أعلامها الصلبان ، يريد بذلك أنها تفى إذا عبرت البحر على الفرنج حتى تطرقهم على غفلة ، فكره الناس منه ذلك ، فلما قاربت قبرس تقدّم ابن حسون في الليل ليهجهم المينا فصدم الشونة المقدّمة شعبا فانكسرت ، وتبعتها بقية الشواني فتكسرت الشواني كلها ، وعلم بذلك متملك قبرس فأسر كلّ من فيها ، وأحاط بما معهم وكتب إلى السلطان يقرّعه ويوبخه ، وأن شوانيه قد تكسرت ، وأخذ ما فيها وعدّتها إحدى عشرة شونة ، وأسر رجالها.

فحمد السلطان الله تعالى وقال : الحمد لله ، منذ ملكني الله تعالى ما خذل لي عكسر ، ولا ذلّت لي راية ، وما زلت أخشى العين ، فالحمد لله تعالى ، بهذا ولا بغيره ، وأمر بإنشاء عشرين شونة ، وأحضر خمس شواني كانت على مدينة قوص من صعيد مصر ، ولازم الركوب إلى صناعة العمارة بمصر كلّ يوم في مدّة شهر المحرّم سنة سبعين وستمائة إلى أن تنجزت ، فلما كان في نصف المحرّم سنة إحدى وسبعين وستمائة ، زاد النيل حتى لعبت الشواني بين يديه ، فكان يوما مشهودا ، في سنة اثنتين وتسعين وستمائة تقدّم السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاون إلى الوزير الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس

٣٤٠