كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

أبي عبد الله ، فقاموا بحقّ تعظيمه وإجلاله ، ورغبوا في نزوله عندهم ، واقترعوا فيمن يضيفه ، ثمّ ارتحلوا إلى أرض كتامة فوصلوا إليها منتصف الربيع الأوّل سنة ثمان (١) وثمانين ومائتين ، فما منهم إلا من سأله أن يكون منزله عنده ، فلم (٢) يوافق أحدا منهم وقال : أين يكون فجّ الأخبار؟ فعجبوا من ذلك ولم يكونوا قطّ ذكروه له منذ صحبوه (٣) فدلّوه عليه ، فقصده وقال : إذا حللنا به صرنا نأتي كلّ قوم منكم في ديارهم ونزورهم في بيوتهم ؛ فرضوا جميعا بذلك. وسار إلى جيل ايلحان (٤) وفيه فج الأخيار ، فقال هذا فج الأخيار وما سمّي إلا بكم ، ولقد جاء في الآثار (٥) للمهديّ هجرة ينبو بها عن الأوطان ينصره فيها الأخيار من أهل ذلك الزمان ، قوم اسمهم مشتقّ من الكتمان ، ولخروجكم في هذا الفجّ سمّي فجّ الأخيار ، فتسامعت به القبائل وأتته البربر من كلّ مكان ، وعظم أمره حتى أنّ كتامة اقتتلت عليه مع قبائل البربر ، وهو لا يذكر اسم المهدي ولا يعرّج عليه ، فبلغ خبره إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية ، فقال أبو عبد الله لكتامة : أنا صاحب النذر (٦) الذي قال لكم أبو سفيان والحلوانيّ ، فازدادت محبّتهم له وعظم أمره فيهم ، وأتته القبائل من كلّ مكان ، وسار إلى مدينة تاصروق (٧) ، وجمع الخيل وصيّر أمرها للحسن بن هارون كبير كتامة ، وخرج للحرب فظفر وغنم ، وعمل على تاصروق خندقا ، فرجعت إليه قبائل من البربر وحاربوه فظفر بهم ، وصارت إليه أموالهم ، ووالى الغزو فيهم حتّى استقام له أمرهم ، فسار وأخذ مدائن (٨) عدّة ، فبعث إليه ابن الأغلب بعساكر كانت له معهم حروب عظيمة وخطوب عديدة وأنباء كثيرة آلت إلى غلب أبي عبد الله وانتشار أصحابه من كتامة في البلاد ، فصار يقول : المهديّ يخرج في هذه الأيام ويملك الأرض ، فيا طوبى لمن هاجر إليّ وأطاعني. وأخذ يغري الناس بابن الأغلب (٩) ، ويذكر كرامات المهدي وما يفتح الله له ، ويعدهم بأنّهم يملكون الأرض كلّها.

وسير إلى عبيد الله بن محمد (١٠) رجالا من كتامة ليخبروه بما فتح الله له وأنه ينتظره ، فوافوا عبيد الله بسلمية من أرض حمص ، وكان قد اشتهر بها وطلبه الخليفة المكتفي ، ففرّ

__________________

(١) في الكامل لابن الأثير ٦ / ١٢٧ : سنة ثمانين ومائتين.

(٢) وفيه أيضا : حتى يقاتلوا دونه ، فقال لهم : أين ...

(٣) وفيه أيضا : فقالوا عند بني سليمان.

(٤) وفيه أيضا : أنكجان.

(٥) وفيه أيضا : أنّ.

(٦) وفيه أيضا : البدر.

(٧) وفيه أيضا ٦ / ١٢٨ : ناصرون.

(٨) وفيه أيضا : مدينة ميلة.

(٩) في الكامل لابن الأثير ٦ / ١٢٨ : بأبي مضر.

(١٠) في الكامل لابن الأثير ٦ / ١٢٩ : ابن الحسين بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

٢١

منه بابنه أبي القاسم وسار إلى مصر ، وكان لهما قصص مع النوشزيّ (١) عامل مصر حتّى خلصا منه ولحقا ببلاد المغرب. وبلغ ابن الأغلب زيادة الله خبره مسير عبيد الله ، فأزكى له العيون وأقام له الأعوان حتّى قبض عليه بسلجماسة ، وكان عليها اليسع بن مدرار ، وحبس بها هو وابنه أبو القاسم. وبلغ ذلك أبا عبد الله وقد عظم أمره ، فسار وضايق زيادة الله بن الأغلب ، وأخذ مدائنه شيئا بعد شيء ، وصار فيما ينيف على مائتي ألف ، وألحّ على القيروان حتّى فرّ زيادة الله إلى مصر ، وملكها أبو عبد الله ، ثم سار إلى رفادة فدخلها أوّل رجب سنة ست وتسعين ومائتين ، وفرّق الدور على كتامة وبعث العمال إلى البلاد ، وجمع الأموال ولم يخطب باسم أحد.

فلما دخل شهر رمضان سار من رفّادة (٢) فاهتزّ لرحيله المغرب بأسره وخافته زنانة وغيرها ، وبعثوا إليه بطاعتهم ، وسار إلى سلجماسة (٣) ، ففرّ منه اليسع بن مدرار واليها ، ودخل البلد فأخرج عبيد الله وابنه من السجن وقال : هذا المهديّ الذي كنت أدعوكم إليه.

وأركبه هو وابنه ومشى بسائر رؤساء القبائل بين أيديهما وهو يقول : هذا مولاكم ويبكي من شدّة الفرح حتى وصل إلى فسطاط (٤) ضرب له ، فأنزل فيه وبعث في طلب اليسع فأدركه ، وحمل إليه فضربه بالسياط وقتله ، ثمّ سار المهدي إلى رفادة فصار بها في آخر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين.

ولما تمكّن قتل أبا عبد الله وأخاه في يوم الاثنين للنصف من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائتين ، فكان هذا ابتداء أمر الخلفاء الفاطميين ، وما زالت كتامة هي أهل الدولة مدّة خلافة المهدي عبيد الله وخلافة ابنه القاسم القائم بأمر الله وخلافة المنصور بنصر الله إسماعيل بن القاسم وخلافة معدّ المعز لدين الله ابن المنصور ، وبهم أخذ ديار مصر لما سيّرهم إليها مع القائد جوهر (٥) في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة ، وهم أيضا كانوا أكابر من قدم معه من الغرب في سنة اثنين وستّين وثلثمائة. فلما كان في أيّام ولده العزيز (٦) بالله نزار اصطنع الدّيلم والأتراك ، وقدّمهم وجعلهم خاصّته ، فتنافسوا وصار بينهم وبين كتامة تحاسد إلى أن مات العزيز (٧) بالله ، وقام من بعده أبو عليّ المنصور الملقّب بالحاكم بأمر الله ، فقدّم

__________________

(١) في الكامل لابن الأثير ٦ / ١٢٩ : عيسى النوشري عامل مصر.

(٢) في الكامل لابن الأثير ٦ / ١٣٢ : رقّادة : بلدة بينها وبين القيروان أربعة أميال.

(٣) في الكامل لابن الأثير ٦ / ١٣٣ : سجلماسة.

(٤) فسطاط : خيمة كبيرة.

(٥) في النجوم الزاهرة ٤ / ٢٩ : هو أبو الحسن جوهر بن عبد الله القائد المعزي المعروف بالكاتب مولى المعز لدين الله.

(٦) في النجوم الزاهرة ٤ / ١١٦ : ولي سنة ٣٦٥ ه‍.

(٧) في النجوم الزاهرة ٤ / ١٧٥ : توفي سنة ٣٨٦ ه‍.

٢٢

ابن عمار (١) الكتامي وولّاه الوساطة وهي في معنى رتبة الوزارة ، فاستبدّ بأمور الدولة وقدّم كتامة وأعطاهم ، وحطّ من الغلمان الأتراك والديلم الذين اصطنعهم العزيز ، فاجتمعوا إلى برجوان (٢) وكان صقلبيا وقد تاقت نفسه إلى الولاية فأغرى المصطنعة بابن عمّار حتّى وضعوا منه ، واعتزل عن الأمر ، وتقلّد برجوان الوساطة ، فاستخدم الغلمان المصطنعين في القصر ، وزاد في عطاياهم وقوّاهم ، ثمّ قتل الحاكم ابن عمّار وكثيرا من رجال دولة أبيه وجدّه ، فضعفت كتامة وقويت الغلمان.

فلما مات الحاكم (٣) وقام من بعده ابنه الظاهر لإعزاز دين الله علي ، أكثر من اللهو ومال إلى الأتراك والمشارقة ، فانحطّ جانب كتامة ، وما زال ينقص قدرهم ويتلاشى أمرهم حتّى ملك المستنصر (٤) بعد أبيه الظاهر ، فاستكثرت أمّه من العبيد حتّى يقال إنهم بلغوا نحوا من خمسين ألف أسود ، واستكثر هو من الأتراك ، وتنافس كلّ منهما مع الآخر فكانت الحرب التي آلت إلى خراب مصر وزوال بهجتها إلى أن قدم (٥) أمير الجيوش بدر الجمالي (٦) من عكّا وقتل رجال الدولة وأقام له جندا وعسكرا من الأرمن ، فصار من حينئذ معظم الجيش الأرمن ، وذهبت كتامة وصاروا من جملة الرعيّة بعد ما كانوا وجوه الدولة وأكابر أهلها.

حارة الصالحية : عرفت بغلمان الصالح طلائع (٧) بن رزبك ، وهي موضعان : الصالحيّة الكبرى والصالحيّة الصغرى ، وموضعهما فيما بين المشهد الحسيني ورحبة الأيدمري وبين البرقيّة ، وكانت من الحارات العظيمة ، وقد خربت الآن وباقيها متداع إلى الخراب. قال ابن عبد الظاهر : الحارة الصالحية منسوبة إلى الصالح طلائع بن رزيك ، لأنّ غلمانه كانوا يسكنونها ، وهي مكانان ، وللصالح دار بحارة الديلم كانت سكنه قبل الوزارة ، وهي باقية إلى الآن وبها بعض ذرّيته ، والمكان المعروف بخوخة الصالح نسبة إليه.

حارة البرقية : هذه الحارة عرفت بطائفة من طوائف العسكر في الدولة الفاطمية ، يقال

__________________

(١) في الكامل لابن الأثر ٧ / ١٧٧ : الحسن بن عمار.

(٢) في الكامل لابن الأثير ٧ / ١٧٨ : أرجوان.

(٣) في النجوم الزاهرة ٤ / ٢٤٥ : توفي سنة ٤١١ ه‍.

(٤) في النجوم الزاهرة ٥ / ٣ : سنة ٤٢٧ ه‍.

(٥) في النجوم الزاهرة ٥ / ٢٣ : قدم سنة ٤٦٦ ه‍.

(٦) في شذرات الذهب ٣ / ٣٨٣ : بدر الأرمني أمير الجيوش ولي أمرة دمشق سنة ٤٥٥ ه‍ ثم الشام كلّه سنة ٤٥٨ ه‍ ، ثم سار إلى الدار المصرية والمستنصر في غاية الضعف ، فشيّد دولته وولي وزارة السيف والقلم. توفي سنة ٤٨٨ ه‍.

(٧) في شذرات الذهب ٤ / ١٧٧ : طلائع بن رزيك الأرمني ثم المصري وزير الديار المصرية ، غلب على الأمور سنة ٥٤٩ ه‍ ، وكان أديبا شاعرا فاضلا ... قتل سنة ٥٥٦ ه‍.

٢٣

لها الطائفة البرقية ، ذكرها المسبّحي (١). قال ابن عبد الظاهر : ولما نزل بالقاهرة ـ يعني المعزّ لدين الله ـ اختطّت كلّ طائفة خطة عرفت بها ، قال : واختطت جماعة من أهل برقة الحارة المعروفة بالبرقية ، انتهى. وإلى هذه الحارة تنسب الأمراء البرقية.

ذكر الأمراء البرقيّة ووزارة ضرغام

وذلك أنّ الصالح طلائع بن رزيك كان قد أنشأ في وزارته أمراء يقال لهم البرقيّة ، وجعل ضرغاما مقدّمهم ، فترقّى حتّى صار صاحب الباب ، وطمع في شاور السعدي لما ولي الوزارة بعد رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك ، فجمع رفقته وتخوّف شاور منه ، وصار العسكر فرقتين : فرقة مع ضرغام وفرقة مع شاور. فلمّا كان بعد تسعة أشهر من وزارة شاور ثار ضرغام في رمضان سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ، وصاح على شاور فأخرجه من القاهرة ، وقتل ولده الأكبر المسمّى بطيّئ ، وبقي شجاع المنعوت بالكامل ، وخرج شاور من القاهرة يريد الشام كما فعل الوزير رضوان بن ولخشي فإنه كان رفيقا له في تلك الكرّة ، واستقرّ ضرغام في وزارة (٢) الخليفة العاضد لدين الله بعد شاور ، وتلقّب بالملك المنصور ، فشكر الناس سيرته ، فإنه كان فارس عصره ، وكان كاتبا جميل الصورة فكه المحاضرة عاقلا كريما لا يضع كرمه إلا في سمعة ترفعه أو مداراة تنفعه إلا أنه كان أذنا مستحيلا على أصحابه ، وإذا ظنّ في أحد شرّا جعل الشكّ يقينا ، وعجّل له العقوبة. وغلب عليه مع ذلك في وزارته أخواه ناصر الدين همام وفخر الدين حسام ، وأخذ يتنكّر لرفقته البرقيّة الذين قاموا بنصرته وأعانوه على إخراج شاور وتقليده للوزارة من أجل أنه بلغه عنهم أنّهم يحسدونه ويضعون منه ، وأنّ منهم من كاتب شاور وحثّه على القدوم إلى القاهرة ووعده بالمعاونة له ، فأظلم الجوّ بينه وبينهم ، وتجرّد للإيقاع بهم على عادته في أسرع العقوبة ، وأحضرهم إليه في دار الوزارة ليلا وقتلهم بالسيف صبرا وهم : صبح بن شاهنشاه ، والطهر مرتفع المعروف بالجلواص ، وعين الزمان ، وعلي بن الزبد ، وأسد الفازي وأقاربهم وهم نحو من سبعين أميرا سوى اتباعهم ، فذهبت لذلك رجال الدولة واختلّت أحوالها وضعفت بذهاب أكابرها وفقد أصحاب الرأي والتدبير ، وقصد الفرنج ديار مصر فخرج إليهم همام أخو ضرغام ، وانهزم منهم ، وقتل منهم عدّة ، ونزلوا على حصن بلبيس (٣) ، وملكوا بعض السور ، ثمّ ساروا وعاد همام عودا رديئا ، فبعث به ضرغام إلى الإسكندرية وبها الأمير مرتفع الجلواص ، فأخذه العرب وقاده همام إلى أخيه ، فضرب عنقه وصلبه على باب زويلة ، فما هو إلا أن قدم رسل الفرنج على ضرغام في طلب مال الهدنة المقرّر في كلّ سنة ـ وهو ثلاثة

__________________

(١) المسبّحي صاحب أخبار مصر.

(٢) في الكامل لابن الأثير ٩ / ٨١ : وكان في هذه السنة ـ ٥٥٨ ه‍ ـ ثلاثة وزراء : العادل وشاور وضرغام.

(٣) في الكامل لابن الأثير ٩ / ٩٩ : ملكوها قهرا مستهل صفر ـ سنة ٥٦٤ ه‍ ـ وقتلوا من فيها.

٢٤

وثلاثون ألف دينار ـ وإذا بالخبر قد ورد بقدوم شاور من الشام ومعه أسد الدين شير كوه في كثير من الغزّ ، فأزعجه ذلك ، وأصبح الناس يوم التاسع والعشرين من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وخمسمائة خائفين على أنفسهم وأموالهم ، فجمعوا الأقوات والماء وتحوّلوا من مساكنهم ، وخرج همام بالعسكر أوّل يوم من جمادى الآخرة ، فسار إلى بلبيس وكانت له وقعة مع شاور انهزم فيها ، وصار إلى شاور وأصحابه جميع ما كان مع عسكر همام ، وأسروا عدّة ، ونزل شاور بمن معه إلى التاج ظاهر القاهرة في يوم الخميس سادس جمادى الآخرة ، فجمع ضرغام الناس ، وضمّ إليه الطائفة الريحانية والطائفة الجيوشية بداخل القاهرة ، وشاور مقيم بالتاج مدّة أيام ـ وطوالعه من العربان ـ فطارد عسكر ضرغام بأرض الطبّالة خارج القاهرة ، ثمّ سار شاور ونزل بالمقس ، فخرج إليه عسكر ضرغام ، وحاربوه فانهزم هزيمة قبيحة ، وسار إلى بركة الحبش ، ونزل بالشرف الذي يعرف اليوم بالرصد ، وملك مدينة مصر ، وأقام بها أياما ، فأخذ ضرغام مال الأيتام الذي كان بمودع الحكم ، فكرهه الناس واستعجزوه ، ومالوا مع شاور ، فتنكّر منهم ضرغام وتحدّث بإيقاع العقوبة بهم فزاد بغضهم له ، ونزل شاور في أرض اللوق خارج باب زويلة ، وطارد رجال ضرغام وقد خلت المنصورة والهلالية ، وثبت أهل اليانسية بها ، وزحف إلى باب سعادة وباب القنطرة ، وطرح النار في اللؤلؤة وما حولها من الدور ، وعظمت الحروب بينه وبين أصحاب ضرغام ، وفني كثير من الطائفة الريحانية ، فبعثوا إلى شاور ووعدوه بأنّهم عون له ، فانحلّ أمر ضرغام ، فأرسل العاضد إلى الرماة يأمرهم بالكفّ عن الرمي ، فخرج الرجال إلى شاور وصاروا من جملته وفترت همة أهل القاهرة ، وأخذ كلّ منهم يعمل الحيلة في الخروج إلى شاور ، فأمر ضرغام بضرب الأبواق لتجتمع الناس فضربت الأبواق والطبول ما شاء الله من فوق الأسوار فلم يخرج إليه أحد ، وانفكّ عنه الناس ، فسار إلى باب الذهب (١) من أبواب القصر ومعه خمسمائة فارس ، فوقف وطلب من الخليفة أن يشرف عليه من الطاق ، وتضرّع إليه وأقسم عليه بآبائه فلم يجبه أحد ، واستمرّ واقفا إلى العصر والناس تنحلّ عنه حتّى بقي في نحو ثلاثين فارسا ، فوردت عليه رقعة فيها خذ نفسك وانج بها ، وإذا بالأبواق والطبول قد دخلت من باب القنطرة (٢) ومعها عساكر شاور ، فمرّ ضرغام إلى باب زويلة ، فصاح الناس عليه ولعنوه ، وتخطّفوا من معه ، وأدركه القوم فأردوه عن فرسه قريبا من الجسر الأعظم فيما بين القاهرة ومصر (٣) ، واحتزوا رأسه في سلخ جمادى الآخرة ، وفرّ منهم أخوه إلى جهة المطريّة

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ٤ / ٣٧ : وهو من الأبواب الغربية ، ومن أعظم الأبواب وأجلّها ، كانت تدخل منه المواكب وجميع أهل الدولة ، وكان تجاه البيمارستان المنصوري.

(٢) في النجوم الزاهرة ٤ / ٤٠ : أحد أبواب القاهرة بناه القائد جوهر.

(٣) في الكامل لابن الأثير ٩ / ٨٥ : قتل عند مشهد السيدة نفيسة ، وبقي يومين ثم حمل ودفن في القرافة.

٢٥

فأدركه الطلب (١) ، وقتل عند مسجد تبر خارج القاهرة ، وقتل أخوه الآخر عند بركة الفيل ، فصار حينئذ ضرغام ملقى يومين ، ثمّ حمل إلى القرافة ودفن بها ، وكانت وزارته تسعة أشهر ، وكان من أجلّ أعيان الأمراء وأشجع فرسانهم وأجودهم لعبا بالكرة وأشدّهم رميا بالسهام ، ويكتب مع ذلك كتابة ابن مقلة وينظم الموشّحات الجيدة ، ولمّا جيء برأسه إلى شاور رفع إلى قفاه وطيف به ، فقال الفقيه عمارة :

أرى جنك (٢) الوزارة صار سيفا

يحزّ بحدّه جيد الرقاب

كأنّك رائد البلوى وإلا

بشير بالمنيّة والمصاب

فكان كما قال عمارة فإن البلايا والمنايا من حينئذ تتابعت على دولة الخلفاء الفاطميين حتّى لم يبق منهم عين تطرف ولله عاقبة الأمور.

حارة العطوفية : هذه الحارة تنسب إلى طائفة من طوائف العسكر يقال لها العطوفية ، وقال ابن عبد الظاهر : العطوفية منسوبة لعطوف أحد خدّام القصر وهو عطوف غلام الطويلة ، وكان قد خدم ستّ الملك أخت الحاكم ، قال : وسكنت ـ يعني الطائفة الجيوشية ـ بحارة العطوفية بالقاهرة ، ولله درّ الأديب إبراهيم المعمار إذ يقول مواليا يشتمل على ذكر حارات بالقاهرة وفيها تورية :

في الجودرية رأيت صورة هلالية

للباطليّة تميل لا للعطوفيّة

لها من اللؤلؤة ثغرين منشيّه

إن حرّكوا وجهها بنت الحسينيّة

وكانت العطوفية من أجلّ مساكن القاهرة ، وفيها من الدور العظيمة والحمامات والأسواق والمساجد ما لا يدخل تحت حصر ، وقد خربت كلّها وبيعت أنقاضها وبيوتها ومنازلها ، وأضحت أوحش من وتدعير في قاع. وعطوف هذا كان خادما أسود قتله الحاكم بجماعة من الأتراك وقفوا له في دهليز القصر واحتزّوا رأسه في يوم الأحد لإحدى عشرة خلت من صفر سنة إحدى وأربعمائة قاله المسبّحي.

حارة الجوّانية (٣) : كان يقال لهذه الحارة أوّلا حارة الروم (٤) الجوّانية ، ثمّ ثقل على الألسنة ذلك فقال الناس الجوانية ، وكان أيضا يقال لها حارة الروم العليا المعروفة بالجوّانية. وقال المسبّحي : وقد ذكر ما كتبه أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله من الأمانات في

__________________

(١) الطلب : الكتيبة من الجيش.

(٢) الجنك : مركب كبير متعدد القلاع. / النجوم الزاهرة ١٤ / ١٩٤ /.

(٣) في النجوم الزاهرة ٤ / ٤٤ : بشارع الجمالية ، وفي داخلها حارة الدير التي بها دير أولئك الأروام. (م.

رمزي).

(٤) في النجوم الزاهرة ٤ / ٤٤ : وهي التي بقرب باب النصر على يسار الداخل إلى القاهرة.

٢٦

سنة خمس وتسعين وثلثمائة فذكر أنه كتب أمانا للعرافة الجوّانية ، فدلّ أنّه كان من جملة الطوائف (١) قوم يعرفون بالجوّانية ، قال ابن عبد الظاهر : قال لي مؤلّفه القاضي زين الدين وفقه الله : إن الجوّانية منسوبة للأشراف الجوّانيين منهم الشريف النسابة الجوّاني. قال مؤلّفه رحمه‌الله : فعلى هذا يكون بفتح الجيم ، فإن الجوّاني بفتح الجيم وتشديد الواو وفتحها وبعد الواو ألف ساكنة ثمّ نون نسبة إلى جوّان ـ على وزن حرّان ـ وهي قرية من عمل مدينة طيبة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. وعلى القول الأوّل تكون الجوّانية بفتح الجيم أيضا مع فتح الواو وتشديدها ، فإن أهل مصر يقولون : لما خرج عن المدينة أو الدار برّا ، ولمّا دخل جوّا بضم الجيم ـ وهو خطأ ـ ولهذا كان الورّاقون يكتبون حارة الروم البرّانية لأنها من خارج القصر ، ويكتبون حارة الروم الجوّانية لأنّها من داخل القاهرة ، ولا يصار إليها إلا بعد المرور على القصر. وكان موضعها إذ ذاك من وراء القصر خلف دار الوزارة والحجر (٢) ، فكأنها في داخل البلد ، ولذلك أصل. قال ابن سيده في مادة (ج و) من كتاب المحكم : وجوّا البيت داخله ، لفظة شاميّة ، فتعيّن فتح الجيم من الجوّانية ولا عبرة بما تقوله العامّة من ضمّها. وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّاني ابن الحسن بن محمد الجواني ابن عبيد الله الجواني بن حسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وقيل لمحمد بن عبد الله الجوّانيّ بسبب ضيعة من ضياع المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام يقال لها الجوّانية ، وكانت تسمّى البصرة الصغرى لخيراتها وغلالها ، لا يطلب شيء إلا وجد بها ، وهي قريبة من صرار (٣) ضيعة الإمام أبي جعفر محمد بن علي الرضى. وكانت الجوّانية ضيعة لعبيد الله ، فتوفي عنها فورثها بعده ولده وأزواجه ، فاشترى محمد الجوّانيّ ولده بما حصل له بالميراث الباقي من الورثة ، فحصلت له كاملة ، فعرف بها فقيل : الجوّاني. قال : ولم تزل أجداد مؤلّفه ببغداد إلى حين قدوم ولده أسعد النحويّ مع أبيه من بغداد إلى مصر ، ومولده بالموصل في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة.

حارة البستان : ويقال لها حارة بستان المصموديّ وحارة الأكراد أيضا ، وهي الآن من جملة الوزيرية التي تقدّم ذكرها.

حارة المرتاحية : هذه الحارة عرفت بالطائفة المرتاحية إحدى طوائف العسكر. قال ابن عبد الظاهر : خطّ باب القنطرة يعرف في كتب الأملاك القديمة بالمرتاحية.

حارة الفرحية : بالحاء المهملة كانت سكن الطائفة الفرحية ، وهي بجوار حارة

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ٤ / ٤٤ : قال القاضي زين الدين : إن الجوّانية منسوبة للأشراف الجوانيين ، منهم الشريف النّسابة محمد بن أسعد بن علي بن معمر الجوّاني المتوفى سنة ٥٨٨ ه‍.

(٢) في النجوم الزاهرة ٤ / ٥٤ : الحجر : قريبة من باب النصر قديما على يمين الخارج من القاهرة.

(٣) في معجم البلدان : صرار.

٢٧

المرتاحية ، فإلى يومنا هذا فيما بين سويقة أمير الجيوش وباب القنطرة زقاق يعرف بدرب الفرحية ، والفرحية كانت طائفة من جملة عبيد الشراء ، وكانت عبيد الشراء عدّة طوائف وهم : الفرحية والحسينية والميمونية ينسبون إلى ميمون وهو أحد الخدّام.

حارة فرج بالجيم : كانت تعرف قديما بدرب النميري ، ثمّ عرفت بالأمير جمال الدين فرج من أمراء بني أيوب. وهي الآن داخلة في درب الطفل من خط قصر الشوك.

حارة قائد القوّاد : هذه الحارة تعرف الآن بدرب ملوخيا (١) ، وكانت أوّلا تعرف بحارة قائد القوّاد ، لأن حسين بن جوهر الملقّب قائد القوّاد كان يسكن بها فعرفت به. وهو حسين بن القائد جوهر أبو عبد الله الملقّب بقائد القوّاد. لما مات أبوه جوهر القائد خلع العزيز بالله عليه وجعله في رتبة أبيه ولقّبه بالقائد بن القائد ، ولم يتعرّض لشيء مما تركه جوهر ، فلمّا مات العزيز وقام من بعده ابنه الحاكم استدناه ثم إنه قلّده البريد والإنشاء في شوّال سنة ستّ وثمانين وثلثمائة ، وخلع عليه وحمله على فرس بموكب ، وقاد بين يديه عدّة أفراس ، وحمل معه ثيابا كثيرة. فاستخلف أبا منصور بشر بن عبيد الله بن سورين الكاتب النصرانيّ على كتابة الإنشاء ، واستخلف على أخذ رقاع الناس وتوقيعاتهم أمير الدولة الموصلي. ولما تقلّد برجوان النظر في تدبير الأمور وجلس للوساطة بعد ابن عمّار. كان الكافة يلقونه في داره ويركبون جميعا بين يديه من داره إلى القصر ما خلا القائد الحسين ومحمد بن النعمان القاضي ، فإنهما كانا يسلّمان عليه بالقصر فقط. فلما قتل الحاكم الأستاذ (٢) برجوان كما تقدّم خلع على القائد حسين لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة تسعين وثلثمائة ثوبا أحمر وعمامة زرقاء مذهّبة ، وقلّده سيفا محلّى بذهب ، وحمله على فرس بسرج ولجام من ذهب ، وقاد بين يديه ثلاثة أفراس بمراكبها ، وحمل معه خمسين ثوبا صحاحا من كلّ نوع ، وردّ إليه التوقيعات والنظر في أمور الناس وتدبير المملكة كما كان برجوان ، ولم يطلق عليه اسم وزير ، فكان يبكّر إلى القصر ومعه خليفته الرئيس أبو العلاء فهد بن إبراهيم النصراني ـ كاتب برجوان ـ فينظران في الأمور ثمّ يدخلان وينهيان الحال إلى الخليفة ، فيكون القائد جالسا وفهد من خلفه قائما. ومنع القائد الناس أن يلقوه في الطريق أو يركبوا إليه في داره وأنّ من كان له حاجة فليبلغه إياها بالقصر ، ومنع الناس من مخاطبته في الرقاع بسيدنا ، وأمر أن لا يخاطب ولا يكاتب إلا بالقائد فقط ، وتشدّد في ذلك لخوفه من غيرة الحاكم ، حتّى أنّه رأى جماعة من القوّاد الأتراك قياما على الطريق ينتظرونه ، فأمسك عنان فرسه ووقف وقال لهم : كلّنا عبيد مولانا صلوات الله عليه

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ٤ / ٥٢ : درب ملوخية منسوب لأمير اسمه ملوخية ، كان صاحب ركاب الخليفة الحاكم بأمر الله العبيدي ، وكان يعرف بملوخية الفرّاش ـ أحد فرّاشي القصر.

(٢) في النجوم الزاهرة ٢ / ١٩٣ : أستاذ من الألقاب العامة التي استعملت في العصر العباسي ، وأطلقت على الخصيان المسمّين : الطواشية.

٢٨

ومماليكه ، ولست والله أبرح من موضعي أو تنصرفوا عنّي ولا يلقاني أحد إلا في القصر ، فانصرفوا وأقام بعد ذلك خدما من الصقالبة (١) الطرّادين على الطريق بالنوبة لمنع الناس المجيء إلى داره ومن لقائه إلا في القصر ، وأمر أبا الفتوح مسعود الصقلبي صاحب الستر (٢) أن يوصل الناس بأسرهم إلى الحاكم وأن لا يمنع أحدا عنه.

فلمّا كان في سابع عشر جمادى الآخرة قرىء سجل على سائر المنابر بتلقيب القائد حسين بقائد القوّاد وخلع عليه ، وما زال إلى يوم الجمعة سابع شعبان سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة ، فاجتمع سائر أهل الدولة في القصر بعد ما طلبوا ، وخرج الأمر إليهم أن لا يقام لأحد ، وخرج خادم من عند الخليفة فأسرّ إلى صاحب الستر كلاما ، فصاح : صالح بن عليّ ، فقام صالح بن عليّ الرودباذي متقلّد ديوان الشام ، فأخذ صاحب الستر بيده وهو لا يعلم هو ولا أحد ما يراد به ، فأدخل إلى بيت المال وأخرج وعليه درّاعة مصمتة وعمامة مذهّبة ومعه مسعود ، فأجلسه بحضرة قائد القوّاد ، وأخرج سجلا قرأه ابن عبد السميع الخطيب ، فإذا فيه ردّ سائر الأمور التي ينظر فيها قائد القوّاد حسين بن جوهر إليه. فعند ما سمع من السجل ذكره قام وقبّل الأرض. فلما انتهت قراءة السجلّ قام قائد القوّاد وقبّل خدّ صالح وهنأه. وانصرف ، فكان يركب إلى القصر ويحضر الأسمطة (٣) إلى اليوم الثالث من شوّال أمره الحاكم أن يلزم داره هو وصهره قاضي القضاة عبد العزيز بن النعمان وأن لا يركباهما وسائر أولادهما ، فلبسا الصوف ، ومنع الناس من الاجتماع بهما ، وصاروا يجلسون على حصر. فلمّا كان في تاسع عشر ذي القعدة عفا عنهما الحاكم ، وأذن لهما في الركوب ، فركبا إلى القصر بزيّهما من غير حلق شعر ولا تغيير حال الحزن ، فلمّا كان في حادي عشر جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة قبض على عبد العزيز بن النعمان ، وطلب حسين بن جوهر ففرّ هو وابنه في جماعة ، وكثر الصياح بدار عبد العزيز ، وغلقت حوانيت القاهرة وأسواقها ، فأفرج عنه ونودي أن لا يغلق أحد فردّ حسين بعد ثلاثة أيام بابنيه ، وتمثلوا (٤) بحضرة الحاكم ، فعفا عنهم وأمرهم بالمسير إلى دورهم بعد أن خلع على حسين وعلى صهره عبد العزيز وعلى أولادهما ، وكتب لهما أمانان ، ثمّ أعيد عبد العزيز في شهر رمضان إلى ما كان يتقلّده من النظر في المظالم ، ثم ردّ الحاكم في شهر ربيع الأوّل سنة أربعمائة على حسين بن جوهر وأولاده وصهره عبد العزيز ما كان لهم من الإقطاعات وقرىء لهم سجل بذلك.

__________________

(١) في الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي ١٧١ : الصقالبة : السلاف ، ويسكنون بين جبال أورال والأدرياتيكي ، وتطلق على جماعة العبيد المجندين بالسلطة.

(٢) في صبح الأعشى ٥ / ٤٦٨ : البرددار : هو صاحب الستارة أو ممسك الستارة ، حيث كان يقف بباب السلطان.

(٣) الأسمطة : موائد الطعام.

(٤) لعلّ الصواب : ومثلوا.

٢٩

فلمّا كان ليلة التاسع من ذي القعدة فرّ حسين بأولاده وصهره وجميع أموالهم وسلاحهم ، فسيّر الحاكم الخيل في طلبهم نحو دجوة (١) فلم يدركهم وأوقع الحوطة على سائر دورهم ، وجعلت للديوان المفرد ، وهو ديوان أحدثه الحاكم يتعلّق بما يقبض من أموال من يسخط عليه ، وحمل سائر ما وجد لهم بعد ما ضبط ، وخرجت العساكر في طلب حسين ومن معه ، وأشيع أنّه قد صار إلى بني قرّة بالبحيرة ، فأنفدت إليه الكتب بتأمينه واستدعائه إلى الحضور ، فأعاد الجواب بأنه لا يدخل ما دام أبو نصر ابن عبدون النصرانيّ الملقّب بالكافي ينظر في الوساطة ويوقّع عن الخليفة ، فإنّي أحسنت إليه أيام نظري فسعى بي إلى أمير المؤمنين ونال منّي كلّ منال ، ولا أعود أبدا وهو وزير. فصرف ابن عبدون في رابع المحرّم سنة إحدى وأربعمائة ، وقدم حسين بن جوهر ومعه عبد العزيز بن النعمان وسائر من خرج معهما ، فخرج جميع أهل الدولة إلى لقائه وتلقّته الخلع فأفيضت عليه وعلى أولاده وصهره ، وقيّد بين أيديهم الدواب ، فلمّا وصلوا إلى باب القاهرة ترجّلوا ومشوا ومشى الناس بأسرهم إلى القصر فصاروا بحضرة الحاكم ، ثمّ خرجوا وقد عفا عنهم ، وأذن لحسين أن يكاتب بقائد القوّاد ويكون اسمه تاليا للقبه ، وأن يخاطب بذلك. وانصرف إلى داره فكان يوما عظيما ، وحمل إليه جميع ما قبض له من مال وعقار وغيره ، وأنعم عليه وواصل الركوب هو وعبد العزيز بن النعمان إلى القصر ، ثم قبض عليه وعلى عبد العزيز واعتقلا ثلاثة أيام ، ثمّ حلفا أنّهما لا يغيبان عن الحضرة ، وأشهدا على أنفسهما بذلك ، وأفرج عنهما ، وحلف لهما الحاكم في أمان كتبه لهما. فلما كان في ثاني عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعمائة ركب حسين وعبد العزيز على رسمهما إلى القصر ، فلمّا خرج للسلام على الناس قيل للحسين وعبد العزيز وأبي علي أخي الفضل : اجلسوا لأمر تريده الحضرة منكم ، فجلس الثلاثة ، وانصرف الناس فقبض عليهم وقتلوا (٢) في وقت واحد ، وأحيط بأموالهم وضياعهم ودورهم ، وأخذت الأمانات والسجلات التي كتبت لهم. واستدعي أولاد عبد العزيز (٣) بن النعمان وأولاد حسين (٤) بن جوهر ووعدوا بالجميل وخلع عليهم ، وجملوا والله يفعل ما يشاء.

__________________

(١) في معجم البلدان : دجوة (دجوى).

(٢) انظر الكامل لابن الأثير ٧ / ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

(٣) في الكامل لابن الأثير : ٧ / ٢٥٦ : عبد العزيز بن محمد بن النعمان بن محمد بن المنصور بن أحمد بن حيّون المغربي القيرواني الإسماعيلي ، ولد في ربع الأول سنة ٣٥٥ ه‍ ، وكان قاضي القضاة للعبيديين.

(٤) في الكامل لابن الأثير ٧ / ٢٥٩ : هو أبو عبد الله حسين بن القائد جوهر بن عبد الله المعروف بالكاتب الرومي فاتح مصر سنة ٣٥٨ ه‍. تولى حسين المذكور قائد القواد للجيش الفاطمي بعد أبي الفتوح برجوان مدبّر دولة الحاكم بأمر الله.

٣٠

حارة الأمراء : ويقال لها أيضا حارة الأمراء الأشراف الأقارب ، وموضعها يعرف بدرب شمس (١) الدولة ، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

حارة الطوارق : ويقال لها أيضا حارة صبيان الطوارق ، وهم من جملة طوائف العسكر ، كانوا معدّين لحمل الطوارق. وموضع هذه الحارة في طريق من سلك من الرقيق سوق الخلعيين داخل باب زويلة طالبا الباطلية بالزقاق الطويل الضيّق الذي يقال له اليوم حلق الجمل السالك إلى درب أرقطاي.

حارة الشرابية : عرفت بذلك لأنّها كانت موضع سكن الغلمان الشرابية إحدى طوائف العسكر ، وكانت فيما بين الباطلية وحارة الطوارق.

حارة الدميري وحارة الشاميين : هما من جملة العطوفية (٢).

حارة المهاجرين : وموضعها الآن من جملة المكان الذي يعرف بالرقيق المعدّ لسوق الخلعيين بجوار باب زويلة ، وكان بعد ذلك سوق الخشّابين ، ثمّ هو الآن سوق الخلعيين. وموضع هذه الحارة بجوار الخوخة (٣) التي كانت تعرف بالشيخ السعيد بن فشيرة النصرانيّ الكاتب. وهي الخوخة التي يسلك إليها من الزقاق المقابل لحمام الفاضل المعدّ لدخول النساء ، ويتوصل منها إلى درب كوز الزير بحارة الروم ، وقد صارت هذه الحارة تعرف بدرب ابن المجندار ، وسيأتي ذكره إن شاء الله.

حارة العدوية : قال ابن عبد الظاهر : العدوية هي من باب الخشيبة إلى أوّل حارة زويلة عند حمّام الحسام الجلدكي الآن منسوبة لجماعة عدويين نزلوا هناك ، وهذا المكان اليوم هو عبارة عن الموضع الذي تلقاه عند خروجك من زقاق حمّام خشيبة الذي يتوصّل إليه من سوق باب الزهومة ، فإذا انتهيت إلى آخر هذا الزقاق وأخذت على يمينك صرت في حارة العدويّة. وموضعها الآن من فندق بلال المغيثي إلى باب سر المارستان ، وتدخل في العدوية رحبة بيبرس التي فيها الآن فندق الرخام ، عن يمينك إذا خرجت في الرحبة المذكورة التي صارت الآن دربا إلى باب سرّ المارستان وما عن يسارك إلى حمّام الكريك وحمام الجوينيّ الذي تقول له العامّة الجهينيّ ، وإلى سوق الزجاجيين. وكلّ هذه المواضع هي من حقوق العدويّة وكانت العدويّة قديما واقعة فيما بين الميدان الذي يعرف اليوم بالخرشتف (٤) وحارة

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ٤ / ٥٥ : درب شمس الدولة لا يزال يعرف إلى اليوم باسم حارة شمس الدولة بين شارع السكة الحديدية وشارع الحمزاوي الصغير (م. رمزي).

(٢) في النجوم الزاهرة ٤ / ٥٣ : منسوبة إلى الخادم عطوف أحد خدّام القصر في دولة الفاطميين ، وكان أصله من خدّام أم ست الملك بنت العزيز بالله أخت الحاكم بأمر الله.

(٣) الخوخة : وهي كل باب كبير يوجد فيه باب صغير للدخول والخروج.

(٤) في النجوم الزاهرة ٤ / ٥١ : الخرنشف : كانت هذه الحارة قديما ميدانا للخلفاء.

٣١

زويلة وبين سقيفة العداس والصاغة القديمة التي صار موضعها الآن سوق الحريريين الشرابشيين برأس الوراقين وسوق الزجاجيين.

حارة العيدانية : كانت تعرف أوّلا بحارة البديعيين ، ثم قيل لها بعد ذلك الحبّانية من أجل البستان الذي يعرف بالحبانية الجاري في وقف الخانقاه الصلاحية (١) سعيد السعداء ، ويتوصّل إلى هذه الحارة من تجاه قنطرة آق سنقر ، وبعض دورها الآن يشرف على بستان الحبانية ، وبعضها يطل على بركة الفيل.

حارة الحمزيين : كانت أوّلا تعرف بالحبانية ، ثمّ قيل لها حارة الحمزيين من أجل أن جماعة من الحمزيين نزلوا بها ، منهم الحاج يوسف بن فاتن الحمزي ، والحمزيون أيضا ينسبون إلى حمزة بن أدركة (٢) الساري ، خرج بخراسان في أيام هارون بن محمد الرشيد ، فعاث وأفسد وفضّ جموع عيسى بن عليّ عامل خراسان ، وقتل منهم خلقا ، وانهزم عيسى إلى بابل ، ثمّ غرق حمزة بواد في كرمان ، فعرفت طائفته بالحمزية. وأخوه ضرغام بن فاتن بن ساعد الحمزيّ والحاج عوني الطحان ابن يونس بن فاتن الحمزي ورضوان بن يوسف بن فاتن الحمزيّ الحمامي وأخوه سالم بن يوسف بن فاتن الحمزيّ ، وكان هؤلاء بعد سنة ستّمائة ، وهذه الحارة خارج باب زويلة. ومن بلاد أفريقية قرية يقال لها حمزي ينسب إليها محمد بن حمد بن خلف القيسيّ الحمزيّ من أهل القرية وقاضيها ، توفي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ، ولا يبعد أن تكون هذه الحارة نسبت إلى أهل قرية حمزة هذه لنزولهم بها كنزول بني سوس وكتامة وغيرهم في المواضع التي نسبت إليهم.

حارة بني سوس : عرفت بطائفة من المصامدة يقال لهم بنو سوس كانوا يسكنون بها.

حارة اليانسية : تعرف بطائفة من طوائف العسكر يقال لها اليانسية منسوبة لخادم خصيّ من خدّام العزيز بالله يقال له أبو الحسن يأنس الصقليّ ، خلفه على القاهرة ، فلما مات العزيز أقرّه ابنه الحاكم بأمر الله على خلافة القصور ، وخلع عليه وحمله على فرسين ، فلمّا كان في المحرم سنة ثمان وثمانين وثلثمائة سار لولاية برقة (٣) بعد ما خلع عليه وأعطي خمسة آلاف دينار وعدّة من الخيل والثياب. قال ابن عبد الظاهر : اليانسية خارج باب زويلة أظنها منسوبة ليأنس وزير الحافظ لدين الله الملقب بأمير الجيوش سيف الإسلام ويعرف بيانس (٤) الفاصد ،

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ٤ / ٥٣ : نسبة إلى صلاح الدين بن أيوب ، وهي دار سعيد السعداء خادم الخليفة المستنصر معدّ العبيدي أحد خلفاء مصر.

(٢) في الكامل لابن الأثير ٥ / ١٠٢ : حمزة بن أترك الخارجي.

(٣) انظر ذلك في الكامل لابن الأثير ٧ / ١٩٩.

(٤) في النجوم الزاهرة ٥ / ٢٣٤ : استوزر الحافظ مملوكه أبا الفتح يانس الحافظي ولقب أمير الجيوش أيضا ، وهو صاحب حارة اليانسية.

٣٢

وكان أرمنيّ الجنس ، وسمّي الفاصد لأنه فصد الأمير حسن بن الحافظ وتركه محلولا فصاده حتّى مات. وله خبر غريب في وفاته ، كان الحافظ قد نقم عليه أشياء طلب قتله بها باطنا فقال لطبيبه : اكفني أمره بمأكل أو مشرب ، فأبى الطبيب ذلك خوفا أن يصير عند الحافظ بهذه العين وربما قتله بها ، والحافظ يحثّه على ذلك فاتّفق ليانس الوزير المذكور أنه مرض بزحير (١) ، وإن الحافظ خاطب الطبيب بذلك فقال : يا مولاي ، قد أمكنتك الفرصة وبلغت مقصودك ، ولو أنّ مولانا عادة في هذه المرضة اكتسب حسن أحدوثة ، وهذه المرضة ليس دواؤه منها إلّا الدعة والسكون ، ولا شيء أضرّ عليه من الانزعاج والحركة ، فبمجرّد ما سمع بقصد مولانا له تحرّك واهتمّ بلقاء مولانا وانزعج ، وفي ذلك تلاف نفسه. ففعل الخليفة ذلك وأطال الجلوس عنده فمات (٢). وهذا الخبر فيه أوهام منها أنه جعل اليانسية منسوبة ليانس الوزير ، وقد كانت اليانسية قبل يانس هذا بمدّة طويلة ، ومنها أنه ادّعى أن حسن بن الحافظ مات من فصادة ، وليس كذلك ، وإنما مات مسموما ، ومنها أنه زعم أن يأنس تولّى فصده وليس كذلك ، بل الذي تولى قتله بالسم أبو سعيد ابن فرقة ، ومنها أن الذي نقم عليه الحافظ من الأمراء فخانه في ابنه حسن إنما هو الأمير المعظّم جلال الدين محمد المعروف بجلب راغب ، وهذا نص الخبر فنزه بالك ، والله تعالى أعلم.

ذكر وزارة أبي الفتح ناصر الجيوش يأنس الأرمني

وكان من خبر ذلك أن الخليفة الآمر بأحكام الله أبا عليّ منصورا لما قتله النزارية (٣) في ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة أقام هزبر الملوك جوامرد (٤) العادل برغش الأمير أبا الميمون عبد المجيد في الخلافة كفيلا للحمل الذي تركه الآمر ، ولقّب بالحافظ لدين الله ، ولبس هزبر الملوك خلع الوزارة ، فثار الجند وأقاموا أبا عليّ أحمد الملقّب بكتيفات ولدا لأفضل ابن أمير الجيوش في الوزارة ، وقتل هزبر الملوك واستولى كتيفات على الآمر ، وقبض على الحافظ وسجنه بالقصر مقيّدا إلى أن قتل كتيفات في المحرّم سنة ستّ وعشرين وخمسمائة. وبادر صبيان الخاص الذين تولّوا قتله إلى القصر ، ودخلوا ومعهم الأمير يأنس متولّي الباب إلى الخزانة التي فيها الحافظ ، وأخرجوه إلى الشبّاك وأجلسوه في منصب الخلافة وقالوا له : والله ما حرّكنا على هذا إلا الأمير يأنس ، فجازاه الحافظ بأن فوّض إليه الوزارة في الحال ، وخلع عليه فباشرها مباشرة جيّدة. وكان عاقلا مهابا متمسّكا

__________________

(١) الزحير : الزحار ، الديسنطاريا. / المنجد /.

(٢) في النجوم الزاهرة ٥ / ٢٣٤ : وضع له فرّاشه في الطهارة ماء مسموما ، فاستنجى به ، فعمّل عليه سفله ودوّد ، ... إلى أن مات.

(٣) انظر ذلك في النجوم الزاهرة ٥ / ١٨٢ ـ ١٨٣.

(٤) في النجوم الزاهرة ٥ / ٢٣٥ : برغوارد.

٣٣

متحفّظا لقوانين الدولة ، فلم يحدث شيئا ولا خرج عمّا يعيّنه الخليفة له إلا أنه بلغه عن أستاذ من خواصّ الخليفة شيء يكرهه فقبض عليه من القصر من غير مشاورة الخليفة ، وضرب عنقه بخزانة (١) البنود ، فاستوحش منه الخليفة وخشي من زيادة معناه. وكانت هذه الفعلة غلطة منه ، ثمّ إنه خاف من صبيان الخاصّ أن يفتكوا به كما فتكوا بكتيفات ، فتنكّر لهم ، وتخوّفوه أيضا ، فركب في خاصّته وأركب العسكر ، وركب صبيان الخاص ، فكانت بينهما وقعة قبالة باب التبّانين بين القصرين ، قوي فيها يأنس ، وقتل من صبيان الخاصّ ما يزيد على ثلثمائة رجل من أعيانهم ، فيهم قتلة أبي عليّ كتيفات ، وكانوا نحو الخمسمائة فارس ، فانكسرت شوكتهم وضعف جانبهم ، واشتدّ بأس يأنس وعظم شأنه ، فثقل على الخليفة. وتحيّل منه فأحسّ بذلك ، فأخذ كلّ منهما في التدبير على الآخر ، فأعجل يأنس وقبض على حاشية الخليفة ، ومنهم قاضي القضاة وداعي الدعاة أبو الفخر وأبو الفتح بن قادوس وقتلهما ، فاشتدّ ذلك على الحافظ ، ودعا طبيبه وقال : اكفني أمر يأنس! فيقال أنّه سمّه في ماء المستراح فانفتح دبره واتّسع حتّى ما بقي يقدر على الجلوس ، فقال الطبيب : يا أمير المؤمنين قد أمكنتك الفرصة وبلغت مقصودك ، فلو أنّ مولانا عاده في هذه المرضة اكتسب حسن الأحدوثة ، فإنّ هذا المرض ليس له دواء إلا الدّعة والسكون ، ولا شيء عليه أضرّ من الحركة والانزعاج ، وهو إذا سمع بقصد مولانا له تحرّك واهتمّ للقاء وانزعج ، وفي ذلك تلاف نفسه. فنهض لعيادته ، وعند ما بلغ ذلك يأنس قام ليلقاه ونزل عن الفراش وجلس بين يدي الخليفة ، فأطال الخليفة جلوسه عنده وهو يحادثه ، فلم يقم حتّى سقطت أمعاء يأنس ، ومات من ليلته في سادس عشري ذي الحجة سنة ستّ وعشرين وخمسمائة ، وكانت وزارته تسعة أشهر وأياما ، وترك ولدين كفلهما الحافظ وأحسن إليهما. وكان يأنس هذا مولى أرمنيّا لباديس جدّ عبّاس الوزير ، فأهداه إلى الأفضل بن أمير الجيوش ، وترقّى في خدمته إلى أن تأمّر ، ثمّ ولي الباب وهي أعظم رتب الأمراء ، وكنّي بأبي الفتح ، ولقّب بالأمير السعيد ، ثم لمّا ولي الوزارة نعت بناصر الجيوش سيف الإسلام ، وكان عظيم الهمّة بعيد الغور كثير الشرّ شديد الهيبة (٢).

ذكر الأمير حسن بن الخليفة الحافظ

ولمّا مات الوزير يأنس تولّى الخليفة الحافظ الأمور بنفسه ، ولم يستوزر أحدا ، وأحسن السيرة. فلمّا كان في سنة ثمان وعشرين وخمسمائة عهد إلى ولده سليمان ، وكان أسنّ أولاده وأحبّهم إليه ، وأقامه مقام الوزير ، فمات بعد شهرين من ولاية العهد ، فجعل مكانه أخاه حيدرة في ولاية العهد ، ونصّبه للنظر في المظالم ، فشق ذلك على أخيه الأمير

__________________

(١) خزانة البنود : كانت هذه الخزانة خزانة السلاح في الدولة الفاطمية. النجوم الزاهرة ٤ / ٥٠.

(٢) انظر الكامل لابن الأثير : ٨ / ٣٣٤ ـ ٣٣٥.

٣٤

حسن ـ وكان كثير المال متّسع الحال له عدّة بلاد ومواشي وحاشية وديوان (١) مفرد ـ فسعى في نقض ذلك بأن أوقع الفتنة بين الطائفة الجيوشية والطائفة الريحانية ، وكانت الريحانية قويّة الشوكة مهابة مخوفة الجانب ، فاشتعلت نيران الحرب بين الفريقين ، وصاح الجند : يا حسن يا منصور ، يا للحسينية ؛ والتقى الفريقان فقتل بينهما ما يزيد على خمسة آلاف نفس ، فكانت هذه الوقعة أوّل مصائب الدولة الفاطمية من فقد رجالها ونقص عساكرها ، فلم يبق من الطائفة الريحانية إلا من نجا بنفسه من ناحية المقس (٢) ، وألقى نفسه في بحر النيل.

واستظهر الأمير حسن وقام بالأمر ، وانضمّ إليه أوباش الناس ودعّارهم ، ففرّق فيهم الزرد وسمّاهم صبيان الزرد ، وجعلهم خاصّته ، فاحتفوا به وصاروا لا يفارقونه ، فإن ركب أحاطوا به ، وإن نزل لازموا داره ، فقامت قيامة الناس منهم. وشرع في تتبّع الأكابر ، فقبض على ابن العسّاف وقتله ، وقصد أباه الخليفة الحافظ وأخاه حيدرة بالضرر حتّى خافا منه وتغيّبا ، فجدّ في طلب أخيه حيدرة ، وهتك بأوباشه الذين اختارهم حرمة القصر ، وخرق ناموسه ، وسلّطهم يفتّشون القصر في طلب الخليفة الحافظ وابنه حيدرة ، واشتدّ بأسهم ، وحسّنوا له كلّ رذيلة ، وجرّوه على الأذى ، فلم يجد الحافظ بدّا من مداراة حسن وتلافي أمره عساه ينصلح ، وكتب سجلا بولايته العهد وأرسله إليه فقرىء على الناس ، فما زاده ذلك إلا جرأة عليه وإفسادا له ، وشدّد في التضييق على أبيه وأخذ بأنفاسه. فبعث حينئذ الخليفة بالأستاذ ابن إسعاف إلى بلاد الصعيد ليجمع من يقدر عليه من الريحانيّة ، فمضى واستصرخ الناس لنصرة الخليفة على ولده حسن ، وجمع أمما لا يحصيها إلا الله ، وسار بهم ، فبلغ ذلك حسنا فزجّ عسكر اللقاء إسعاف ، فالتقيا وكانت بينهما وقعة هبّت فيها ريح سوداء على عسكر إسعاف حتّى هزمتهم ، وركبهم عسكر حسن فلم ينج منهم إلا القليل ، وغرق أكثرهم في البحر وأخذ إسعاف أسيرا ، فحمل إلى القاهرة على جمل وفي رأسه طرطور (٣) لبد أحمر. فلمّا وصل بين القصرين رشق بالنشّاب حتّى هلك ، ورمي من القصر الغربي بأستاذ آخر ، فقتل ، وقتل الأمير شرف الدين. فاشتدّ ذلك على الحافظ وخاف على نفسه ؛ فكتب ورقة ـ وكاد ابنه بأن ألقى إليه تلك الورقة ـ وفيها : يا ولدي ؛ أنت على كلّ حال ولدي ، ولو عمل كلّ منّا لصاحبه ما يكره الآخر ما أراد أن يصيبه مكروه ، ولا يحملني قلبي ، وقد انتهى الأمر إلى أمراء الدولة وهم فلان وفلان ، وقد شدّدت وطأتك عليهم وخافوك وهم معوّلون على قتلك ، فخذ حذرك يا ولدي.

فعند ما وقف حسن على الورقة غضب ولم يتأنّ ، وبعث إلى أولئك ، فلمّا صاروا إليه

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ١٤ / ٢٠٣ : ديوان المفرد موكل بالنفقة على المماليك السلطانية.

(٢) في النجوم الزاهرة ٤ / ٥٦ : المقس كانت ضيعة تعرف بأمّ دنين ، وإنما سميت المقس لأنّ العشّار وهو المكّاس كان فيها يستخرج الأموال ، فقيل له : المكس ثم المقس.

(٣) في المنجد : الطرطور : القلنسوة الدقيقة الطويلة.

٣٥

أمر صبيان الزرد بقتلهم ، فقتلوا عن آخرهم ، وكانوا عدّة من أعيان الأمراء ، وأحاط بدورهم وأخذ سائر ما فيها ، فاشتدّت المصيبة وعظمت الرزيّة ، وتخوّف من بقي من الجند ونفروا منه ، فإنّه كان جريئا مفسدا شديد الفحص عن أحوال الناس والاستقصاء لأخبارهم يريد إقلاب الدولة وتغييرها ليقدّم أوباشه ، وأكثر من مصادرة الناس ، وقتل قاضي القضاة أبا الثريّا نجم لأنه كان من خواصّ أبيه ، وقتل جماعة من الأعيان ، وردّ القضاء لابن ميسّر ، وتفاقم أمره وعظم خطبه واشتدّت الوحشة بينه وبين الأمراء والأجناد ، وهمّوا بخلع الحافظ ومحاربة ابنه حسن ، وصاروا يدا واحدة ، واجتمعوا بين القصرين وهم عشرة آلاف ما بين فارس وراجل ، وسيّروا إلى الحافظ يشكون ما هم فيه من البلاء مع ابنه حسن ويطلبون منه أن يزيله من ولاية العهد ، فعجز حسن عن مقاومتهم ، فإنه لم يبق معه سوى الراجل من الطائفة الجيوشية ومن يقول بقولهم من الغزّ الغرباء ، فتحيّر وخاف على نفسه ، فالتجأ إلى القصر وصار إلى أبيه الحافظ ، فما هو إلا أن تمكّن منه أبوه ، فقبض عليه وقيّده وبعث إلى الأمراء يخبرهم بذلك ، فأجمعوا على قتله ، فردّ عليهم أنه قد صرفه عنهم ولا يمكّنه أبدا من التصرّف ، ووعدهم بالزيادة في الأرزاق والإقطاعات وأن يكفّوا عن طلب قتله ، فألحّوا في قتله وقالوا : إمّا نحن (١) وإمّا هو.

اشتدّ طلبهم إياه حتّى أحضروا الأحطاب والنيران ليحرقوا القصر ، وبالغوا في التجرّؤ على الخليفة فلم يجد بدّا من إجابتهم إلى قتله ، وسألهم أن يمهلوه ثلاثا ، فأناخوا بين القصرين ، وأقاموا على حالهم حتّى تنقضي الثلاث ، فما وسع الحافظ إلا أن استدعى طبيبيه وهما أبو منصور اليهوديّ وابن قرقة (٢) النصرانيّ ، وبدأ بأبي منصور وفاوضه في عمله سقية قاتله ، فامتنع من ذلك وحلف بالتوراة أنه لا يعرف عمل شيء من ذلك ، فتركه وأحضر ابن قرقة وكلّمه في هذا فقال : الساعة ، ولا يتقطّع منها جسده ، بل تفيض النفس لا غير. فأحضر السقية من يومه ، فبعثها إلى حسن مع عدّة من الصقالبة ، وما زالوا يكرهونه على شربها حتّى فعل ، ومات في العشرين من جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وخمسمائة ، فبعث الحافظ إلى القوم سرّا يقول : قد كان ما أردتم ، فامضوا إلى دوركم ؛ فقالوا : لا بدّ أن يشاهده منّا من نثق به ، وندبوا منهم أميرا معروفا بالجرأة والشرّ يقال له المعظّم جلال الدين محمد ، ويعرف بجلب راغب الآمري ، فدخل إلى القصر وصار جنب حسن ، فإذا به قد سجّي بثوب ، فكشف عن وجهه وأخرج من وسطه آلة من حديد ، وغرزه بها في عدّة مواضع من بدنه إلى أن تيقّن أنه قد مات ، وعاد إلى القوم وأخبرهم ، فتفرّقوا.

__________________

(١) في الكامل لابن الأثير ٨ / ٣٤٧ : إما أنك تسلّم ابنك إلينا لنقتله أو نقتلكما جميعا.

(٢) في النجوم الزاهرة ٥ / ٢٣٧ : كان ابن قرقة يتولى الاستعمالات بدار الديباج وخزائن السلاح ، وكان ماهرا في علم الطب والهندسة.

٣٦

وعند ما سكنت الدهماء حقد الحافظ لابن قرفة وقتله بخزانة البنود ، وأنعم بجميع ما كان له على أبي منصور اليهودي ، وجعله رئيس الأطباء ، فهذا ما كان من خبر يأنس وكيفيّة موته وخبر حسن والخبر عن قتله.

حارة المنتجبية : قال ابن عبد الظاهر : بلغني أنّ رجلا كان يتحجّب لشمس الدين قاضي زادة كان يقول : إنّ هذه الخطّة (١) منسوبة لجدّة منتجب الدولة.

الحارة المنصورية : هذه الحارة كانت كبيرة متسعة جدا فيها عدّة مساكن السودان ، فلمّا كانت واقعتهم في ذي القعدة سنة أربع وستّين وخمسمائة كما تقدّم في ذكر حارة بهاء الدين ، أمر صلاح الدين يوسف بن أيّوب بتخريب المنصورة هذه ، وتعفية أثرها ، فخرّبها خطلبا بن موسى الملقّب صارم الدين ، وعملها بستانا. وكان للسودان بديار مصر شوكة وقوّة ، فتبعهم صلاح الدين ببلاد الصعيد حتّى أفناهم بعد أن كان لهم بديار مصر في كلّ قرية ومحلّة وضيعة مكان مفرد لا يدخله وال ولا غيره احتراما لهم. وقد كانوا يزيدون على خمسين ألفا ، وإذا ثاروا على وزير قتلوه ، وكان الضرر بهم عظيما لامتداد أيديهم إلى أموال الناس وأهاليهم ، فلمّا كثر بغيهم وزاد تعدّيهم أهلكهم الله بذنوبهم ، وفي واقعة السودان وتخريب المنصورة وقتل مؤتمن الخلافة الذي تقدّم ذكره يقول العماد (٢) الأصفهاني الكاتب يخاطب بهاء الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب :

بالملك الناصر استنارت

في عصرنا أوجه الفضائل

يوسف مصر الذي إليه

تشدّ آمالنا الرواحل

رأيك في الدهر عن رزايا

جلى مهماته الجلائل

أجريت نيلين في ثراها

نيل نجيع ونيل نائل

كم كرم من نداك جار

وكم دم من عداك سائل

وكم معاد بلا معاد

ومستطيل بغير طائل

وحاسد كاسد المساعي

وسائد نافق الوسائل

أقررت عين الإسلام حتّى

لم يبق فيها قذى لباطل

وكيف يزهى بملك مصر

من يستقلّ ذنبا لنائل

وما نفيت السودان حتّى

حكمت البيض في المقاتل

صيّرت رحب الفضا مضيقا

عليهم كفّة لجائل

__________________

(١) الخطة : الحارة ، الحيّ من المدينة ..

(٢) في شذرات الذهب ٤ / ٣٣٢ : وهو الوزير العلّامة أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد الأصبهاني .. ولد سنة ٥١٩ ه‍ تسلم ديوان الإنشاء في دمشق ، صنف عدة تصنيفات أدبية ومنها خريدة القصر. توفي سنة ٥٩٧ ه‍.

٣٧

وكلّ رأي منهم كرا

وأرض مصر كلام واصل

وقد خلت منهم المغاني

وأقفرت منهم المنازل

وما أصيبوا إلا بطلّ

فكيف لو أمطروا بوابل؟

وقد تجلّى بالحقّ ما بال

باطل في مصر كان عاجل

والسود بالبيض قد تنحّوا

فهي بواديهم نوازل

مؤتمن القوم خان حتّى

غالته من شرّه الغوائل

عاملكم بالخنا (١) فأضحى

ورأسه فوق رأس عامل (٢)

وحالف الذلّ بعد عزّ

والدهر أحواله حوائل

يا مخجل البحر بالأيادي

قد آن أن تفتح السواحل

نقدّس القدس من خباث

أرجاس كفر غتم أراذل (٣)

وكان موضع المنصور على يمنة من سلك في الشارع خارج باب زويلة. قال ابن عبد الظاهر : كانت للسودان حارة تعرف بهم تسمّى المنصورة خرّبها صلاح الدين ، وأخذها خطلبا ، فعمرها بستانا وحوضا ، وهي إلى جانب الباب الحديد ، يعني الذي يعرف اليوم بالقوس عند رأس المنتجبية ، فيما بينها وبين الهلالية ، وقد حكر هذا البستان في الأيام الظاهرية وبعضها يعني المنصورة من جهة بركة الفيل إلى جانب بستان سيف الإسلام ، ويسمّى الآن بحكر الغتمي ، لأن الغتمي هذا كان شرع بستان سيف الإسلام فحكر في هذه الجهة ، وهي الآن أحكار الديوان السلطاني ، وحكر الغتمي الذي كان بستان سيف الإسلام يعرف اليوم بدرب ابن البابا تجاه البندقدارية بجوار حمّام الفارقاني قريب من صليبة جامع ابن طولون.

حارة المصامدة : هذه الحارة عرفت بطائفة المصامدة أحد طوائف عساكر الخلفاء الفاطميين ، واختطّت في وزارة المأمون (٤) البطائحي وخلافة الآمر بأحكام الله بعد سنة خمس عشرة وخمسمائة. قال ابن عبد الظاهر : حارة المصامدة مقدّمهم عبد الله المصمودي. وكان المأمون البطائحي وزير الخليفة الآمر بأحكام الله قدّمه ونوّه بذكره وسلّم له أبوابه للمبيت عليها ، وأضاف إليه جماعة من أصحابه ، فلما استخلص المصامدة وقرّبهم سيّر أبا بكر المصمودي ليختار لهم حارة ، فتوجّه بالجماعة إلى اليانسية بالشارع ، فلم يجد بها مكانا ، ووجدها تضيق عنهم ، فسيّر المهندسين لاختيار حارة لهم ، فاتفقوا على بناء حارة ظاهر باب الحديد على يمنة الخارج على شاطىء بركة الفيل ، فقال : بل تكون على يسرة

__________________

(١) الخنا : الخنى : الفحش في الكلام.

(٢) لعلّ المقصود : جبل عامل في جنوب لبنان.

(٣) الغتم : الذين في منطقهم عجمة.

(٤) النجوم الزاهرة ٥ / ١٧٣.

٣٨

الخارج والفسح قدّامها إلى بركة الفيل. فبنيت الحارة على يسرة الخارج من الباب المذكور ، وبني بجانبها مسجد على زلاقة الباب المذكور ، وبنى أبو بكر المصمودي مسجدا أيضا ، وهذه فيما أعتقد هي الهلالية ، وحذّر من بناء شيء قبالتها في الفضاء الذي بينها وبين بركة الفيل لانتفاع الناس ، بها وصار ساحل بركة الفيل من المسجد قبالة هذه الحارة إلى آخر حصن دويرة مسعود إلى الباب الحديد ، ولم يزل ذلك إلى بعض أيام الخليفة الحافظ لدين الله. قال : وبنى في صفّ هذه الحارة من قبليّها عدّة دور بحوانيت تحتها إلى أن اتّصل البناء بالمساجد الثلاثة الحاكميّة المعلّقة والقنطرة المعروفة بدار ابن طولون وبعدها بستان ذكر أنه كان في جملة قاعات الدار المذكورة. قال : وأظنّ المساجد هي التي قبالة حوض الجاولي ، قال : وبنى المأمون ظاهره حوضا وأجرى الماء له وذلك قبالة مشهد محمد الأصغر ومشهد السيّدة سكينة. قال : وأظنّ هذا البستان هو الذي بنته شجر (١) الدرّ بستانا ودارا وحمّامات قريب من مشهد السيّدة نفيسة ، قال : وأمر المأمون بالنداء في القاهرة مع مصر ثلاثة أيام بأنّ من كانت له دار في الخراب أو مكان يعمر ، ومن عجز عن أن يعمره فليؤجّره من غير نقل شيء من أنقاضه ، ومن تأخّر بعد ذلك فلا حقّ له في شيء منه ولا حكر يلزمه. وأباح تعمير ذلك جميعه بغير طلب بحقّ فيه ، فطلب الناس كافة ما هو جار في الديوان السلطانيّ وغيره ، وعمروه حتّى صار البلدان لا يتخلّلهما داثر ولا دارس ، وبنى في الشارع يعني خارج باب زويلة من الباب الجديد إلى الجبل عرضا وهو القلعة الآن. قال : وكان الخراب استولى على تلك الأماكن في زمن المستنصر (٢) في أيام وزارة البازوري حتّى أنه كان بنى حائطا يستر الخراب عن نظر الخليفة إذا توجّه من القاهرة إلى مصر ، وبنى حائطا آخر عند جامع (٣) ابن طولون. قال : وعمر ذلك حتّى صار المتعيّشون بالقاهرة والمستخدمون يصلّون العشاء الأخيرة بالقاهرة ويتوجّهون إلى مساكنهم في مصر لا يزالون في ضوء وسرج وسوق موقود إلى باب الصفا وهو المعاصر الآن ، وذلك أنه يخرج من الباب الحديد الحاكمي على يمنة بركة الفيل إلى بستان سيف الإسلام وعدّة بساتين ، وقبالة جميع ذلك حوانيت مسكونة عامرة بالمتعيّشين إلى مصر والمعاش مستمر الليل والنهار.

حارة الهلالية : ذكر ابن عبد الظاهر أنّها على يسرة الخارج من الباب الحديد الحاكمي.

حارة البيازرة : هذه الحارة خارج باب القنطرة على شاطىء الخليج من شرقيه فيما بين زقاق الكحل وباب القنطرة حيث المواضع التي تعرف اليوم ببركة جنادق والكدّاشين ، وإلى

__________________

(١) انظر النجوم الزاهرة ٦ / ٣٣٢.

(٢) تسلم الخلافة في مصر بين عامي ٤٢٨ ـ ٤٨٧ ه‍. انظر النجوم الزاهرة.

(٣) في حسن المحاضرة ٢ / ٢٤٦ : وموضعه يعرف بجبل يشكر.

٣٩

قريب من حارة بهاء الدين ، واختطت هذه الحارة في الأيام الآمرية ، وذلك أن زمام (١) البيازرة شكا ضيق دار الطيور بمصر ، وسأل أن يفسح للبيازرة في عمارة حارة على شاطىء الخليج بظاهر القاهرة لحاجة الطيور والوحوش إلى الماء ، فأذن له في ذلك ، فاختطّوا هذه الحارة وجعلوا منازلهم مناظر على الخليج ، وفي كلّ دار باب سرّ ينزل منه إلى الخليج واتّصل بنا هذه الحارة بزقاق الكحل ، فعرفت بهم وسميت بحارة البيازرة ، واحدهم بازيار (٢) ، ثم إنّ المختار الصقلبي زمام القصر أنشأ بجوارها بستانا وبنى فيه منظرة عظيمة ، وهذا البستان يعرف اليوم موضعه ببستان ابن صيرم خارج باب الفتوح ، فلما كثرت العمائر في حارة البيازرة أمر الوزير المأمون بعمل الأقنة (٣) لشيّ الطوب على شاطىء الخليج الكبير إلى حيث كان البستان الكبير الجيوشيّ الذي تقدّم ذكره في ذكر مناظر الخلفاء ومنتزهاتهم.

حارة الحسينية : عرفت بطائفة من عبيد الشراء يقال لهم الحسينية. قال المسبّحي في حوادث سنة خمس وتسعين وثلثمائة : وأمر بعمل شونة (٤) ممّا يلي الجبل ملئت بالسنط والبوص والحلفاء فابتدىء بعملها في ذي الحجة سنة أربع وتسعين وثلثمائة إلى شهر ربيع الأول سنة خمس وتسعين ، فخامر قلوب الناس من ذلك جزع شديد ، وظنّ كلّ من يتعلّق بخدمة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أنّ هذه الشونة عملت لهم. ثمّ قويت الإشاعات وتحدّث العوام في الطرقات أنها للكتّاب وأصحاب الدواوين وأسبابهم ، فاجتمع سائر الكتّاب وخرجوا بأجمعهم في خامس ربيع الأوّل ومعهم سائر المتصرّفين في الدواوين من المسلمين والنصارى إلى الرماحين بالقاهرة ، ولم يزالوا يقبّلون الأرض حتّى وصلوا إلى القصر ، فوقفوا على بابه يدعون ويتضرّعون ويضجّون ويسألون العفو عنهم ، ومعهم رقعة قد كتبت عن جميعهم إلى أن دخلوا باب القصر الكبير وسألوا أن يعفى عنهم ولا يسمع فيهم قول ساع يسعى بهم ، وسلّموا رقعتهم إلى قائد القوّاد الحسين بن جوهر ، فأوصلها إلى أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ، فأجيبوا إلى ما سألوا ، وخرج إليهم قائد القوّاد ، فأمرهم بالانصراف والبكور لقراءة سجلّ بالعفو عنهم ، فانصرفوا بعد العصر ، وقرىء من الغد سجل كتب منه نسخة للمسلمين ونسخة للنصارى ونسخة لليهود بأمان لهم والعفو عنهم. وقال : في ربيع الآخر ، واشتدّ خوف الناس من أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ، فكتب ما شاء الله من الأمانات للغلمان الأتراك الخاصّة وزمامهم وأمرائهم من الحمدانية والكجورية والغلمان العرفان والمماليك وصبيان الدار وأصحاب الإقطاعات والمرتزقة والغلمان الحاكميّة القدم

__________________

(١) زمام البيازرة : كبيرهم.

(٢) في المنجد : البازيار : حامل البازي.

(٣) القمين : الأتون.

(٤) الشونة : هي المركب المعد للجهاد في البحر ، ويجهز في أيام الحرب بالسلاح والنفطية ويحشد بالمقاتلة أو الجنود البحرية. كتاب الجيش ص ١٦٨ لإحسان هندي.

٤٠