كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

شيخ ، قلّ ذلك ، ووجد في تركة الوزير الصاحب علم الدين عبد الله بن زنبور لما قبض عليه ستة آلاف حياصة ، وستة آلاف كلوتة جهاركس ، وما برح تجار هذا السوق من بياض العامة ، وقد قلّ تجار هذا السوق في زمننا وصار أكثر حوانيته يباع فيها الطواقي التي يلبسها الصبيان ، وصارت الآن من ملابس الأجناد.

سوق الحلاويين : هذا السوق معدّ لبيع ما يتخذ من السكر حلوى ، وإنما يعرف اليوم بحلاوة منوّعة ، وكان من أبهج الأسواق لما يشاهد في الحوانيت التي بها من الأواني وآلات النحاس الثقيلة الوزن البديعة الصنعة ذات القيم الكبيرة ، ومن الحلاوات المصنعة عدّة ألوان ، وتسمى المجمعة ، وشاهدت بهذا السوق السكّر ينادي عليه كل قنطار بمائة وسبعين درهما ، فلما حدثت المحن وغلا السكر لخراب الدواليب التي كانت بالوجه القبليّ ، وخراب مطابخ السكر التي كانت بمدينة مصر ، قلّ عمل الحلوى ، ومات أكثر صناعها ، ولقد رأيت مرّة طبقا فيه نقل وعدّة شقاف من خزف أحمر في بعضها لبن وفي بعضها أنواع الأجبان ، وفيما بين الشقاف الخيار والموز وكل ذلك من السكر المعمول بالصناعة ، وكانت أيضا لهم عدّة أعمال من هذا النوع يحير الناظر حسنها ، وكان هذا السوق في موسم شهر رجب من أحسن الأشياء منظرا ، فإنه كان يصنع فيه من السكر أمثال خيول وسباع وقطاط وغيرها ، تسمى العلاليق ، واحدها علاقة ترفع بخيوط على الحوانيت ، فمنها ما يزن عشرة أرطال إلى ربع رطل ، تشترى للأطفال ، فلا يبقى جليل ولا حقير حتى يبتاع منها لأهله وأولاده ، وتمتلىء أسواق البلدين مصر والقاهرة وأريافهما من هذا الصنف ، وكذلك يعمل في موسم نصف شعبان ، وقد بقي من ذلك إلى اليوم بقية غير طائلة ، وكذلك كانت تروق رؤية هذا السوق في موسم عيد الفطر لكثرة ما يوضع فيه من حب الخشكنانج. وقطع البسندود والمشاش ، ويشرع في عمل ذلك من نصف شهر رمضان فتملأ منه أسواق القاهرة ومصر والأرياف ، ولم ير في موسم سنة سبع عشرة وثمانمائة من ذلك شيء بالأسواق البتة ، فسبحان محيل الأحوال لا إله إلا هو.

سوق الشوّايين : هذا السوق أوّل سوق وضع بالقاهرة ، وكان يعرف بسوق الشرايحيين ، وهو من باب حارة الروم إلى سوق الحلاويين ، وما زال يعرف بسوق الشرايحيين إلى أن سكن فيه عدّة من بياعي الشواء ، في حدود السبعمائة من سني الهجرة ، فزالت عنه النسبة إلى الشرايحيين وعرف بالشوّايين ، وهو الآن سكن المتعيشين ، وانتقل سوق الشرايحيين في زماننا إلى خارج باب زويلة وعرف بالبسطيين ، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. قال ابن زولاق في كتاب سيرة المعز ، وفي شهر صفر من سنة خمس وستين وثلاثمائة أنشئ سوق الشرايحيين بالقاهرة ، وذكر ذلك ابن عبد الظاهر في كتاب خطط القاهرة. وكان في القديم باب زويلة الذي وضعه القائد جوهر عند رأس حارة الروم ، حيث العقد المجاور الآن للمسجد الذي عرف اليوم بسام بن نوح ، وكان بجواره باب آخر موضعه

١٨١

الآن سوق الماطيين ، فلما نقل أمير الجيوش باب زويلة إلى حيث هو الآن ، اتسع ما بين سوق الشرايحيين المذكور وبين باب زويلة الكبير ، وصار الآن فيه سوق الغرابليين ، وفيه عدّة حوانيت تعمل مناخل الدقيق والغرابيل ، ويقابلهم عدّة حوانيت يصنع فيها الأغلاق المعروفة بالضبب ، وما بعد ذلك إلى باب زويلة ، فيه كثير من الحوانيت يجلس ببعضها عدّة من الجبانين لبيع أنواع الجبن المجلوب من البلاد الشامية ، وأدركنا هناك إلى أن حدثت المحن من ذلك شيئا كثيرا يتجاوز الحد في الكثرة ، وفي بعض تلك الحوانيت قوم يجلسون لعلاج من عساه ينصدع له عظم أو ينكسر أو يصيبه جرح يعرفون بالمجبرين ، وهناك منهم بقية إلى يومنا هذا ، وبقية الحوانيت ما بين صيارفة وبياعي طرف ومتعيشين في المآكل وغيرها.

فهذه قصبة القاهرة ، وما في ظاهر باب زويلة فإنه خارج القاهرة والله تعالى أعلم.

الشارع خارج باب زويلة

هذا الشارع هو تجاه من خرج من باب زويلة ، ويمتدّ فيما بين الطريق السالك ذات اليمين إلى الخليج (١) ، وبين الطريق المسلوك فيه ذات اليسار إلى قلعة الجبل. ولم يكن هذا الشارع موجودا على ما هو عليه الآن عند وضع القاهرة ، وإنما حدث بعد وضعها بعدّة أعوم على غير هذه الهيئة ، فلما كثرت العمائر خارج باب زويلة بعد سنة سبعمائة من سني الهجرة صار على ما هو عليه الآن ، فأما أوّل أمره : فإن الخليفة الحاكم بأمر الله أنشأ الباب الجديد على يسرة الخارج من باب زويلة ، على شاطىء بركة الفيل ، وهذا الباب أدركت عقده عند رأس المنجبية بجوار سوق الطيور ، ثم لما اختطت حارة اليانسية وحارة الهلالية صار ساحل بركة الفيل قبالتها ، واتصلت العمائر من الباب الجديد إلى الفضاء الذي هو الآن خارج المشهد النفيسيّ ، فلما كانت الشدّة العظمى في خلافة المستنصر وخربت القطائع والعسكر ، صارت مواضعها خرابا إلى خلافة الآمر بأحكام الله ، فعمر الناس حتى صارت مصر والقاهرة لا يتخللهما خراب ، وبنى الناس في الشارع من الباب الجديد إلى الجبل عرضا حيث قلعة الجبل الآن ، وبنى حائط يستر خراب القطائع والعسكر ، فعمر من الباب الجديد طولا إلى باب الصفا بمدينة مصر ، حتى صار المتعيشون بالقاهرة والمستخدمون يصلون العشاء الآخرة بالقاهرة ويتوجهون إلى سكنهم في مصر ولا يزالون في ضوء وسرج وسوق موقود من الباب الجديد خارج باب زويلة إلى باب الصفا ، حيث الآن كوم الجارح ، والمعاش مستمرّ في الليل والنهار.

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ٤ / ٤٥ : هو خليج قديم يسمى خليج مصر ، جدد حفره عمرو بن العاص بأمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وكان حفره عام الرّمادة وهي سنة ست عشرة من الهجرة ، انظر النجوم ٤ / ٤٥.

١٨٢

ووقف القاضي الرئيس المختار العدل زكيّ الدين أبو العباس أحمد بن مرتضى بن سيد الأهل بن يوسف ، حصة من البستان الكبير المعروف يومئذ بالمخاريق الكبرى ، الكائن فيما بين القاهرة ومصر بعدوة الخليج على الفربات ، وشرط أنّ الناظر يشتري في كل فصل من فصول الشتاء من قماش الكتان الخام أو القطن ما يراه ، ويعمل ذلك جبابا وبغالطيقا محشوّة قطنا ، وتفرّق على الأيتام الذكور والإناث الفقراء غير البالغين بالشارع الأعظم ، خارج باب زويلة ، فيدفع لكل واحد جبة واحدة أو بغلطاقا ، فإن تعذر ذلك كان على الأيتام المتصفين بالصفات المذكورة بالقاهرة ومصر وقرافتيهما ، وكان هذا الوقف في سنة ستين وستمائة.

فلما كثرت العمائر خارج باب زويلة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون بعد سنة سبعمائة ، صار هذا الشارع أوّله تجاه باب زويلة وآخره في الطول الصليبة التي تنتهي إلى جامع ابن طولون وغيره ، لكنهم لا يريدون بالشارع سوى إلى باب القوس الذي بسوق الطيوريين ، وهو الباب الجديد ، وبعد باب القوس سوق الطيوريين ، ثم سوق جامع قوصون وسوق حوض ابن هنس وسوق ربع طفجي ، وهذه أسواق بها عدّة حوانيت ، لكنها لا تنتهي إلى عظم أسواق القاهرة ، بل تكون أبدا دونها بكثير ، فهذا حال القصبة والشارع خارج باب زويلة ، وقد بقيت عدّة أسواق في جانبي القصبة ، ولها أبواب شارعة وفيها أسواق أخر في نواحي القاهرة ، ومسالكها سيأتي ذكرها بحسب القدرة إن شاء الله تعالى.

سويقة أمير الجيوش : هذه السويقة الآن فيما بين حارة برجوان وحارة بهاء الدين ، كانت تعرف بسوق الخروقيين فيما بعد زوال الدولة الفاطمية ، وفي هذا السوق عمر الأمير مازكوج الأسدي مدرسته المعروفة الآن بالأكجية ، وأدركت الناس إلى هذا الزمن الذي نحن فيه لا يعرفون هذا السوق إلّا بسوق أمير الجيوش ، ويعبّرون عنه بصيغة التصغير ، ولا أعرف لهم مستندا في ذلك ، والذي تشهد به الأخبار أن سوق أمير الجيوش هو السوق الذي برأس حارة برجوان ، ويمتدّ إلى رأس سويقة أمير الجيوش الآن ، وهذه السويقة من أكبر أسواق القاهرة ، بها عدّة حوانيت ، فيها الرفاءون والحباكون ، وعدّة حوانيت للرسامين ، وعدّة حوانيت للفرّايين ، وعدّة حوانيت للخياطين ، ومعظمها لسكن البزازين والخلعيين ، وفيها عدّة من بياعي الأقباع ، ويباع في هذا السوق سائر الثياب المخيطة والأمتعة من الفرش ونحوها. وهو شارع من شوارع القاهرة ، يسلك فيه من باب الفتوح وبين القصرين وباب النصر إلى باب القنطرة وشاطيء النيل وغيره ، وكان ما بعد هذا السوق إلى باب القنطرة معمور الجانبين بالحوانيت المعدّة لبيع الظرائف والمغازل والكتان والأنواع من المأكل والعطر وغيره ، وقد خرب أكثر هذه الحوانيت في سني المحنة وما بعدها ، ولسويقة أمير الجيوش عدّة قياسر وفنادق والله أعلم.

سوق الجملون الصغير : هذا السوق يسلك فيه من رأس سويقة أمير الجيوش إلى باب

١٨٣

الجوانية وباب النصر ورحبة باب العيد ، وهو مجاور لدرب الفرحية ، وفيه المدرسة الصيرمية ، وباب زيادة الجامع الحاكمي ، وكان أوّلا يعرف بالأمراء القرشيين بني النوري ، ثم عرف بالجملون الصغير ، وبجملون ابن صيرم ، وهو الأمير جمال الدين شويخ بن صيرم ، أحد الأمراء في أيام الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب ، وإليه تنسب المدرسة الصيرمية ، والخط المعروف خارج باب الفتوح ببستان ابن صيرم ، وأدركت هذا الجملون معمور الجانبين من أوّله إلى آخره بالحوانيت ، ففي أوّله كثير من البزازين الذين يبيعون ثياب الكتان من الخام والأزرق وأنواع الطرح وأصناف ثياب القطن ، وينادي فيه على الثياب بحراج حراج ، وفيه عدّة من الخياطين ، وعدّة من البابية المعدّين لغسل الثياب وصقالها ، وبآخره كثير من الضبيين بحيث لو أراد أحد أن يشتري منه ألف ضبة في يوم لما عسر عليه ذلك ، فلما حدثت المحن خرب هذا السوق بخلوّ حوانيته ، وصار مقفرا من ساكنيه ، ثم إنه عمر بعد سنة عشر وثمانمائة ، وفيه الآن نفر من البزازين وقليل ممن سواهم.

سوق المحايريين : هذا السوق فيما بين الجامع الأقمر وبين جملون ابن صيرم ، يسلك فيه من سوق حارة برجوان ومن سوق الشماعين إلى الركن المخلق ورحبة باب العيد ، وهو من شوارع القاهرة المسلوكة ، وفيه عدّة حوانيت لعمل المحاير التي يسافر فيها إلى الحجاز وغيره ، وكان فيه تاجران قد تراضيا على ما يشتريانه من المحاير المعرّضة للبيع ، ولهذا السوق موسم عظيم عند سفر الحاج وعند سفر الناس إلى القدس.

وبلغني عن شيخ كان بهذا السوق أنه أوصى بعض صبيانه فقال له : يا بنيّ لا تراع أحدا في بيع ، فإنه لا يحتاج إليك إلّا مرّة في عمره ، فخذ عدلك في ثمن المحارة ، فإنك لا تخشى من عوده مرّة أخرى إليك ، وسوف إذا عاد من سفره إما إلى الحجاز أو القدس فإنه يحتاج إلى بيعها ، فتراقد عليه في ثمنها واشترها بالرخيص.

وكذلك يفعل أهل هذا السوق إلى اليوم ، فإنهم لا يراعون بائعا ولا مشتريا ، إلا أن سوقهم لم يبق كما أدركناه ، فإنه حدث سوق آخر يباع فيه المحاير بسوق الجامع الطولوني ، وصار بسوق الخيميين أيضا صناع للمحاير ، وبلغني أنّ بالمحايريين هذا أوقف أهل مصر امرأة من جريد مؤتزرة ، بيدها ورقة فيها سب الخليفة الحاكم بأمر الله ولعنه ، عندما منع النساء من الخروج في الطرقات ، فعندما مرّ من هناك حسبها امرأة تسأله حاجة. فأمر بأخذ الورقة منها ، فإذا فيها من السب ما أغضبه ، فأمر بها أن تؤخذ ، فإذا هي من جريد قد ألبس ثيابا وعمل كهيئة امرأة ، فاشتدّ عند ذلك غضبه وأمر العبيد بإحراق مدينة مصر فأضرموا فيها النار. ولم أقف على هذا الخبر مسطورا ، وقد ذكر المسبحيّ حريق الحاكم بأمر الله لمصر ولم يذكر قصة المرأة.

الصاغة : هذا المكان تجاه المدارس الصالحية بخط بين القصرين. قال ابن عبد

١٨٤

الظاهر : الصاغة بالقاهرة كانت مطبخا للقصر ، يخرج إليه من باب الزهومة ، وهو الباب الذي هدم وبني مكانه قاعة شيخ الحنابلة من المدارس الصالحية ، وكان يخرج من المطبخ المذكور مدّة شهر رمضان ألف ومائتا قدر من جميع الألوان في كل يوم ، تفرّق على أرباب الرسوم والضعفاء ، وسمّي باب الزهومة ، أي باب الزفر ، لأنه لا يدخل باللحم وغيره إلا منه ، فاختص بذلك. انتهى.

والصاغة الآن وقف على المدارس الصالحية ، وقفها الملك السعيد بركة خان المسمى بناصر الدين محمد ولد الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري على الفقهاء المقرّرين بالمدارس الصالحية.

سوق الكتبيين : هذا السوق فيما بين الصاغة والمدرسة الصالحية ، أحدث فيما أظن بعد سنة سبعمائة ، وهو جار في أوقاف المارستان المنصوري ، وكان سوق الكتب قبل ذلك بمدينة مصر تجاه الجانب الشرقي من جامع عمرو بن العاص في أوّل زقاق القناديل ، بجوار دار عمرو ، وأدركته وفيه بقية بعد سنة ثمانين وسبعمائة ، وقد دثر الآن فلا يعرف موضعه ، وكان قد نقل سوق الكتبيين من موضعه الآن بالقاهرة إلى قيسارية كانت فيما بين سوق الدجاجين المجاور للجامع الأقمر ، وبين سوق الحصريين المجاور للركن المخلق ، وكان يعلو هذه القيسارية ربع فيه عدّة مساكن ، فتضرّرت الكتب من نداوة أقبية البيوت وفسد بعضها ، فعادوا إلى سوق الكتب الأوّل حيث هو الآن ، وما برح هذا السوق مجمعا لأهل العلم يتردّدون إليه. وقد أنشدت قديما لبعضهم:

مجالسة السوق مذمومة

ومنها مجالس قد تحتسب

فلا تقربنّ غير سوق الجياد

وسوق السلاح وسوق الكتب

فهاتيك آلة أهل الوغى

وهاتيك آلة أهل الأدب

سوق الصنادقيين : هذا السوق تجاه المدرسة السيوفية ، كان موضعه في القديم من جملة المارستان ، ثم عرف بفندق الدبابليين ، وقيل له الآن سوق الصنادقيين ، وفيه تباع الصناديق والخزائن والأسرّة مما يعمل من الخشب ، وكان ما بظاهرها قديما يعرف بسكن الدجاجين ، وأدركناه يعرف بسوق السيوفيين ، وكان فيه عدّة طباخين لا يزال دخان كوانينهم منعقدا لكثرته. حتى قال لي شيخنا قاضي القضاة مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم الحنفي :أن قاضي القضاة جلال الدين جاد الله قال له : هذا السوق قطب دائرة الدخان ، وفي سوق الصنادقيين إلى الآن بقية.

سوق الحريريين : هذا السوق من باب قيسارية العنبر إلى خط البندقانيين ، كان يعرف قديما بسقيفة العداس ، ثم عمل صاغة القاهرة ، ثم سكن هناك الأساكفة.

١٨٥

قال ابن عبد الظاهر : وكانت الصاغة قديما فيما تقدّم مكان الأساكفة الآن ، وهو إلى الآن معروف بالصاغة القديمة ، وكان يعرف بسقيفة العداس ، كذا رأيت في كتب الأملاك ، وعرف هذا السوق في زماننا بالحريريين الشراربيين ، وعرف بعضه بسوق الزجاجين ، وكان يسكن فيه أيضا الأساكفة ، فلما أنشأ الأمير يونس الدوادار القيسارية على بئر زويلة بخط البندقانيين في أعوام بضع وثمانين وسبعمائة ، نقل الأساكفة من هذا الخط ، ونقل منه أيضا بياعي أخفاف النساء إلى قيساريته وحوانيته المذكورة.

سوق العنبريين : هذا السوق فيما بين سوق الحريريين الشراربيين وبين قيسارية العصفر ، وهو تجاه الخرّاطين ، كان في الدولة الفاطمية مكانه سجنا لأرباب الجرائم يعرف بحبس المعونة ، وكان شنيع المنظر ضيقا لا يزال من يجتاز عليه يجد منه رائحة منكرة ، فلما كان في الدولة التركية وصار قلاوون من جملة الأمراء الظاهرية بيبرس ، صار يمرّ من داره إلى قلعة الجبل على حبس المعونة هذا فيشمّ منه رائحة رديئة ويسمع منه صراخ المسجونين وشكواهم الجوع والعري والقمل ، فجعل على نفسه أنّ الله تعالى جعل له من الأمر شيئا أن يبني هذا الحبس مكانا حسنا ، فلما صار إليه ملك ديار مصر والشام هدم حبس المعونة وبناه سوقا ليسكنه بياعي العنبر ، وكان للعنبر إذ ذاك بديار مصر نفاق ، وللناس فيه رغبة زائدة ، لا يكاد يوجد بأرض مصر امرأة وإن سفلت إلّا ولها قلادة من عنبر ، وكان يتّخذ منه المخادّ والكلل والستور وغيرها ، وتجار العنبر يعدّون من بياض الناس ، ولهم أموال جزيلة ، وفيه رؤساء وأجلّاء ، فلما صار الملك إلى الملك الناصر محمد بن قلاون جعل هذا السوق وما فوقه من المساكن وقفا على الجامع الذي أنشأه بظاهر مصر جوار موردة الخلفاء المعروف بالجامع الجديد الناصري ، وهو جار في أوقافه إلى يومنا هذا ، إلّا أن العنبر من بعد سنة سبعين وسبعمائة كثر فيه الغش حتى صار اسما لا معنى له ، وقلّت رغبة الناس في استعماله ، فتلاشى أمر هذا السوق بالسنة لما كان ، ثم لما حدثت المحن بعد سنة ست وثمانمائة قلّ ترفّه أهل مصر عن استعمال الكثير من العنبر ، فطرق هذا السوق ما طرق غيره من أسواق البلد ، وبقيت فيه بقية يسيرة إلى أن خلع الخليفة المستعين بالله العباسي بن محمد في سنة خمس عشرة وثمانمائة ، وكان نظر الجامع الجديد بيده وبيد أبيه الخليفة المتوكل على الله محمد ، فقصد بعض سفهاء العامّة يكاتبه بتعطيل هذا السوق ، فاستأجر قيسارية العصفر ونقل سوق العنبر إليها ، وصار معطلا نحو سنتين ، ثم عاد أهل العنبر إلى هذا السوق على عادتهم في سنة ثمان عشرة وثمانمائة.

سوق الخرّاطين : هذا السوق يسلك فيه من سوق المهامزيين إلى الجامع الأزهر وغيره ، وكان قديما يعرف بعقبة الصباغين ، ثم عرف بسوق القشاشين ، وكان فيما بين دار الضرب والوكالة الآمرية وبين المارستان ، ثم عرف الآن بسوق الخرّاطين ، وكان سوقا كبيرا

١٨٦

معمورا لجانبين بالحوانيت المعدّة لبيع المهد الذي يربى فيه الأطفال ، وحوانيت الخرّاطين ، وحوانيت صناع السكاكين ، وصناع الدوى ، يشتمل على نحو الخمسين حانوتا ، فلما حدثت المحن تلاشى هذا السوق ، واغتصب الأمير جمال الدين يوسف الاستادار منه عدّة حوانيت ، من أوّله إلى الحمام التي تعرف بحمام الخرّاطين ، وشرع في عمارتها ، فعوجل بالقتل قبل إتمامها ، وقبض عليها الملك الناصر فرج فيما أحاط به من أمواله وأدخلها في الديوان.

فقام بعمارة الحوانيت التي تجاه قيسارية العصفر من درب الشمسي إلى أوّل الخرّاطين القاضي الرئيس تقيّ الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر ، فلما كملت جعلها الملك الناصر فيما هو موقوف على ترتبته التي أنشأها على قبر أبيه الملك الظاهر برقوق خارج باب النصر ، وأفرد الحمّام وبعض الحوانيت القديمة للمدرسة التي أنشأها الأمير جمال الدين يوسف الأستادار برحبة باب العيد ، وما يقابل هذه الحوانيت هو وما فوقه وقف على المدرسة القراسنقرية وغيرها ، وهو متخرّب متهدّم.

سوق الجملون الكبير : هذا السوق بوسط سوق الشرابشيين ، يتوصل منه إلى البندقانيين وإلى حارة الجودرية وغيرها ، أنشئ فيه حوانيت سكنها البزازون ، وقفه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون على تربة مملوكه بلبغا التركمانيّ عند ما مات في سنة سبع وسبعمائة ، ثم عمل عليه بابان بطرفيه بعد سنة تسعين وسبعمائة ، فصارت تغلق في الليل ، وكان فيما أدركناه شارعا مسلوكا طول الليل ، يجلس تجاه صاحب العسس ، الذي عرفته العامة في زماننا بوالي الطوف ، من بعد صلاة العشاء في كل ليلة ، وينصب قدّامه مشعل يشعل بالنار طول الليل ، وحوله عدّة من الأعوان وكثير من السقائين والنجارين والقصارين والهدّادين بنوب مقرّرة لهم ، خوفا من أن يحدث بالقاهرة في الليل حريق فيتداركون إطفاءه ، ومن حدث منه في الليل خصومة ، أو وجد سكران ، أو قبض عليه من السرّاق ، تولى أمره والي الطوف وحكم فيه بما يقتضيه الحال. فلما كانت الحوادث بطل هذا الرسم في جملة ما بطل ، وهذا السوق الآن جار في وقف ... (١).

سوق الفرّايين : هذا السوق يسلك فيه من سوق الشرابشيين إلى الأكفانيين والجامع الأزهر وغير ذلك. كان قديما يعرف بسوق الخروقيين ، ثم سكن فيه صناع الفراء وتجّاره ، فعرف بهم ، وصار بهذا السوق في أيام الملك الظاهر برقوق من أنواع الفراء ما يجلّ أثمانها وتتضاعف قيمها ، لكثرة استعمال رجال الدولة من الأمراء والمماليك لبس السمور والوشق والقماقم والسنجاب ، بعد ما كان ذلك في الدولة التركية من أعز الأشياء التي لا يستطيع أحد أن يلبسها ، ولقد أخبرني الطواشي الفقيه الكاتب الحاسب الصوفيّ زين الدين مقبل الروميّ الجنس المعروف بالشامي ، عتيق السلطان الملك الناصر الحسين بن محمد بن قلاون : أنه

__________________

(١) بياض في الأصل.

١٨٧

وجب في تركة بعض أمراء السلطان حسن قباء بفرو قاقم ، فاستكثر ذلك عليه وتعجب منه ، وصار يحكى ذلك مدّة لعزّة هذا الصنف واحترامه ، لكونه من ملابس السلطان وملابس نسائه ، ثم تبذلت الأصناف المذكورة حتى صار يلبس السمور آحاد الأجناد وآحاد الكتاب ، وكثير من العوام ، ولا تكاد امرأة من نساء بياض الناس تخلو من لبس السمور ونحوه ، وإلى الآن عند الناس من هذا الصنف وغيره من الفرو شيء كثير.

سوق البخانقيين : هذا السوق فيما بين سوق الجملون الكبير وبين قيسارية الشرب الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى عند ذكر القياسر. وباب هذا السوق شارع من القصبة ، ويعرف بسوق الخشيبة تصغير خشبة ، فإنه عمل على بابه المذكور خشبة تمنع الراكب من التوصل إليه ، ويسلك من هذا السوك إلى قيسارية الشرب وغيرها. وهو معمور الجانبين بالحوانيت المعدّة لبيع الكوافي والطواقي التي تلبسها الصبيان والبنات ، وبظاهر هذا السوق أيضا في القصة عدّة حوانيت لبيع الطواقي وعملها ، وقد كثر لبس رجال الدولة من الأمراء والمماليك والأجناد ومن يتشبه بهم للطواقي في الدولة الجركسية ، وصاروا يلبسون الطاقية على رؤوسهم بغير عمامة ، ويمرّون كذلك في الشوارع والأسواق والجوامع والمواكب لا يرون بذلك بأسا بعد ما كان نزع العمامة عن الرأس عارا وفضيحة ، ونوّعوا هذه الطواقي ما بين أخضر وأحمر وأزرق وغيره من الألفوان ، وكانت أوّلا ترتفع نحو سدس ذراع ، ويعمل أعلاها مدوّرا مسطحا ، فحدث في أيام الملك الناصر فرج منها شيء عرف بالطواقي الجركسية ، يكون ارتفاع عصابة الطاقية منها نحو ثلثي ذراع ، وأعلاها مدوّر مقبب ، وبالغوا في تبطين الطاقية بالورق والكتيرة ، فيما بين البطانة المباشرة للرأس والوجه الظاهر للناس ، وجعلوا من أسفل العصابة المذكورة زيقا من فرو القرض الأسود يقال له القندس ، في عرض نحو ثمن ذراع ، يصير دائرا بجبهة الرجل وأعلى عنقه ، وهم على استعمال هذا الزيّ إلى اليوم ، وهو من أسمج ما عانوه ، ويشبه الرجال في لبس ذلك بالنساب لمعنيين ، أحدهما أنه فشا في أهل الدولة محبة الذكران ، ليستملن قلوب رجالهنّ ، فاقتدى بفعلهنّ في ذلك عامة نساء البلد. وثانيهما ما حدث بالناس من الفقر ونزل بهم من الفاقة ، فاضطرّ حال نساء أهل مصر إلى ترك ما أدركنا فيه النساء من لبس الذهب والفضة والجواهر ولبس الحرير ، حتى لبسن هذه الطواقي وبالغن في عملها من الذهب والحرير وغيره ، وتواصين على لبسها ، ومن تأمل أحوال الوجود عرف كيف تنشأ أمور الناس في عاداتهم وأخلاقهم ومذاهبهم.

سوق الخلعيين : هذا السوق فيما بين قيسارية الفاضل الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى ، وبين باب زويلة الكبير ، وكان يعرف قديما بالخشابين ، وعرف اليوم بالزقيق تصغير زقاق ، وعرف أيضا بسوق الخلعيين ، كأنه جمع خلعيّ ، والخلعيّ في زماننا هو الذي يتعاطى بيع الثياب الخليع ، وهي التي قد لبست ، وهذا السوق اليوم من أعمر أسواق القاهرة لكثرة ما يباع فيه من ملابس أهل الدولة وغيرهم ، وأكثر ما يباع فيه الثياب المخيطة ، وهو معمور

١٨٨

الجوانب بالحوانيت ، ويسلك فيه من القصبة ليلا ونهارا إلى حارة الباطلية. وخوخة أيدغمش وغير ذلك ، وفي داخل القاهرة أيضا عدّة أسواق وقد خرب الآن أكثرها.

سويقة الصاحب : هذه السويقة يسلك إليها من خط البندقانيين ومن باب الخوخة وغير ذلك ، وهي من الأسواق القديمة كانت في الدولة الفاطمية تعرف بسويقة الوزير ، يعني أبا الفرج يعقوب بن كلس وزير

الخليفة العزيز بالله نزار بن المعز الذي تنسب إليه حارة الوزيرية ، فإنها كانت على باب داره التي عرفت بعده في الدولة الفاطمية بدار الديباج ، وصار موضعها الآن المدرسة الصاحبية ، ثم صارت تعرف بسويقة دار الديباج يعني دار الطراز ، ينسج فيها الديباج الذي هو الحرير ، وقيل لذلك الموضع كله خط دار الديباج ، ثم عرف هذا السوق بالسوق الكبير في أخريات الدولة الفاطمية ، فلما ولي صفيّ الدين عبد الله بن شكر الدميري وزارة الملك العادل أبي بكر بن أيوب سكن في هذا الخط ، وأنشأ به مدرسته التي تعرف إلى اليوم بالمدرسة الصاحبية ، وأنشأ به أيضا رباطه وحمامه المجاورين للمدرسة المذكورة ، عرفت من حينئذ هذه السويقة بسويقة الصاحب المذكور ، واستمرّت تعرف بذلك إلى يومنا هذا ، ولم تزل من الأسواق المعتبرة ، يوجد فيها أكثر ما يحتاج إليه من المآكل ، لوفور نعم من يسكن هنالك من الوزراء وأعيان الكتاب ، فلما حدثت المحن طرقها ما طرق غيرها من أسواق القاهرة فاختلت عما كانت وفيها بقية.

سوق البندقانيين : هذا السوق يسلك إليه من سوق الزجاجين ومن سويقة الصاحب ومن سوق الأبزاريين وغيره ، وكان يعرف قديما بسوق بئر زويلة ، وكان هناك بئر قديمة تعرف ببئر زويلة برسم اصطبل الجميزة الذي كان فيه خيول الخلفاء الفاطميين ، وصار موضعه خط البندقانيين بعد ذلك كما ذكر عند اصطبلات الخلفاء الفاطميين من هذا الكتاب ، وموضع هذه البئر اليوم قيسارية يونس والربع الذي يعلوها ، وبقي منها موضع ركب عليه حجر وأعدّت لملء السقائين منها ، فلما زالت الدولة واختط موضع اصطبل الجميزة الدور وغيرها ، وعرف موضع الاصطبل بالبندقانيين ، قيل لهذا السوق سوق البندقانيين ، وأدركته سوقا كبيرا معمور الجانبين بالحوانيت التي قد تهدّم أعلاها منذ كان الحريق بالبندقانيين في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة ، كما ذكر في خط البندقانيين عند ذكر الأخطاط من هذا الكتاب ، وفي هذا السوق كثير من أرباب المعاش المعدّين لبيع المأكولات من الشواء والطعام المطبوخ وأنواع الأجبان والألبان والبوارد والخبز والفواكه ، وعدّة كثيرة من صناع قسيّ البندق ، وكثير من الرسامين ، وكثير من بياعي الفقاع. فلما حدثت المحن بعد سنة ست وثمانمائة اختلّ هذا السوق خللا كبيرا وتلاشى أمره.

سوق الأخفافيين : هذا السوق بجوار سوق البندقانيين ، يباع فيه الآن خفاف النسوان ونعالهنّ ، وهو سوق مستجدّ أنشأه الأمير يونس النوروزيّ دوادار الملك الظاهر برقوق في

١٨٩

سنة بضع وثمانين وسبعمائة ، ونقل إليه الأخفافيين بياعي أخفاف النساء من خط الحريريين والزجاجين ، وكان مكانه مما خرب في حريق البندقانيين ، فركب بعض القيسارية على بئر زويلة وجعل بابها تجاه درب الأنجب ، وبنى بأعلاها ربعا كبيرا فيه عدّة مساكن ، وجعل الحوانيت بظاهرها وبظاهر درب الأنجب ، وبنى فوقها أيضا عدّة مساكن ، فعمر ذلك الخط بعمارة هذه الأماكن ، وبه إلى الآن سكن بياعي أخفاف النساء ونعالهنّ ، التي يقال للنعل منها سر موزه ، وهو لفظ فارسيّ معناه رأس الخف ، فإن سر رأس وموزه خف.

سوق الكفتيين : هذا السوق يسلك إليه من البندقانيين ومن حارة الجودرية ومن الجملون الكبير وغيره ، ويشتمل على عدّة حوانيت لعمل الكفت ، وهو ما تطعّم به أواني النحاس من الذهب والفضة ، وكان لهذا الصنف من الأعمال بديار مصر رواج عظيم ، وللناس في النحاس المكفت رغبة عظيمة ، أدركنا من ذلك شيئا لا يبلغ وصفه واصف لكثرته ، فلا تكاد دار تخلو بالقاهرة ومصر من عدّة قطع نحاس مكفت ، ولا بدّ أن يكون في شورة العروس دكة نحاس مكفت.

والدكة : عبارة عن شيء شبه السرير يعمل من خشب مطعم بالعاج والأبنوس ، أو من خشب مدهون ، وفوق الدكة دست طاسات من نحاس أصفر مكفت بالفضة ، وعدّة الدست سبع قطع بعضها أصغر من بعض ، تبلغ كبراها ما يسع نحو الأردب من القمح ، وطول الأكفات التي نقشت بظاهرها من الفضة نحو الثلث ذراع في عرض إصبعين ، ومثل ذلك دست أطباق عدّتها سبعة بعضها في جوف بعض ، ويفتح أكبرها نحو الذراعين وأكثر ، وغير ذلك من المناير والسرج وأحقاق الأشنان والطشت والإبريق والمبخرة ، فتبلغ قيمة الدكة من النحاس المكفت زيادة على مائتي دينار ذهبا ، وكانت العروس من بنات الأمراء أو الوزراء أو أعيان الكتاب أو أماثل التجار تجهز في شورتها عند بناء الزوج عليها سبع دكك ، دكة من فضة ، ودكة من كفت ، ودكة من نحاس أبيض ، ودكة من خشب مدهون ، ودكة من صيني ، ودكة من بلور ، ودكة كداهي : وهي آلات من ورق مدهون تحمل من الصين ، أدركنا منها في الدور شيئا كثيرا ، وقد عدم هذا الصنف من مصر إلّا شيئا يسيرا. حدثني القاضي الفاضل الرئيس تاج الدين أبو الفداء إسماعيل أحمد بن عبد الوهاب ابن الخطباء المخزوميّ رحمه‌الله قال : تزوّج القاضي علاء الدين بن عرب محتسب القاهرة بامرأة من بنات التجار ، تعرف بست العمائم ، فلما قارب البناء عليها والدخول بها ، حضر إليه في يوم وكيلها وأنا عنده ، فبلّغه سلامها عليه وأخبره أنها بعثت إليه بمائة ألف درهم فضة خالصة ليصلح بها لها ما عساه اختلّ من الدكة الفضة ، فأجابه إلى ما سأل وأمره باحضار الفضة ، فاستدعى الخدم من الباب فدخلوا بالفضة في الحال ، وبالوقت أمر المحتسب بصناع الفضة وطلائها ، فاحضروا وشرعوا في إصلاح ما أرسلته ست العمائم من أواني الفضة وإعادة طلائها بالذهب ، فشاهدنا من ذلك منظرا بديعا.

١٩٠

وأخبرني من شاهد جهاز بعض بنات السلطان حسن بن محمد بن قلاوون وقد حمل في القاهرة عند ما زفت على بعض الأمراء في دولة الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون ، فكان شيئا عظيما ، من جملته دكة من بلور تشتمل على عجائب ، منها زير من بلور قد نقش بظاهره صور ثابتة على شبه الوحوش والطيور ، وقدر هذا الزير ما يسع قربة ماء ، وقد قلّ استعمال الناس في زمننا هذا للنحاس المكفت ، وعزّ وجوده ، فإن قوما لهم عدّة سنين قد تصدّوا لشراء ما يباع منه وتنحية الكفت عنه طلبا للفائدة ، وبقي بهذا السوق إلى يومنا هذا بقية من صناع الكفت قليلة.

سوق الأقباعيين : بخط تحت الربع خارج باب زويلة ، مما يلي الشارع المسلوك فيه إلى قنطرة الخرق ، ما كان منه على يمنة السالك إلى قنطرة الخرق ، فإنه جار في وقف الملك الظاهر بيبرس ، هو وما فوقه على المدرسة الظاهرية بخط بين القصرين ، وعلى أولاده. ولم يزل إلى يوم السبت خامس شهر رمضان سنة عشرين وثمانمائة ، فوقع الهدم فيه ليضاف إلى عمارة الملك المؤيد شيخ المجاورة لباب زويلة ، وما كان من هذا السوق على يسرة من سلك إلى القنطرة ، فإنه جار في وقف اقبغا عبد الواحد على مدرسته المجاورة للجامع الأزهر ، وبعضه وقف امرأة تعرف بدنيا.

سويقة السقطيين : هذا السوق خارج باب زويلة بجوار دار التفاح ، أنشأه الأمير اقبغا عبد الواحد وهو جار في وقفه.

سويق خزانة البنود : هذه السويقة على باب درب راشد ، وتمتدّ إلى خزانة البنود ، وكانت تعرف أوّلا بسويقة ريدان الصقلبي المنسوب إليه الريدانية خارج باب النصر.

سويقة المسعودي : هذه السويقة من حقوق حارة زويلة بالقاهرة ، تنسب إلى الأمير صارم الدين قايماز المسعوديّ ، مملوك الملك المسعود أقسيس بن الملك الكامل. وولي المسعودي هذا ولاية القاهرة ، وكان ظالما غاشما جبارا ، من أجل أنه كان في دار ابن فرقة التي من جملتها جامع ابن المغربي ، وبيت الوزير ابن أبي شاكر ، ثم إن فتح الدين بن معتصم الداودي التبريزي كاتب السر جدّدها في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة ، لأنه كان يسكن هناك.

ومات المسعوديّ في يوم الاثنين النصف من ذي الحجة سنة أربع وستين وستمائة ، ضربه شخص في دار العدل بسكين ، كان يريد أن يقتل بها الأمير عز الدين الحلي نائب السلطنة ، فوقعت في فؤاد المسعوديّ فمات لوقته.

سويقة طغلق : هذه السويقة على رأس الحارة الصالحية مما يلي الجامع الأزهر ، عرفت بالأمير سيف الدين طغلق السلاح دار ، صاحب حمام طغلق التي بالقرب من الجامع

١٩١

الأزهر على باب درب المنصوري ، وصاحب دار طغلق التي عرفت اليوم بدار المنصوري في الدرب المذكور ، وأوّل ما عمرت هذه السويقة لم يكن فيها غير أربع حوانيت ، ثم عمرت عمارة كبيرة لمّا خربت سويقة الصالحية التي كانت مما يلي باب البرقية في حدود سنة ثمانين وسبعمائة ، ثم تلاشت من سنة ست وثمانمائة كما تلاشى غيرها من الأسواق ، وبقي فيها يسير جدّا.

سويقة الصوّاني : هذه السويقة خارج باب النصر وباب الفتوح ، بخط بستان ابن صيرم ، عرفت بالأمير علاء الدين أبي الحسن عليّ بن مسعود الصوّانيّ ، مشدّ الدواوين في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري ، وقيل بل قراجا الصوّاني ، أحد مقدّمي الحلقة في أيام الملك المنصور قلاوون ، وكان في حدود سنة إحدى وثمانين وستمائة موجودا ، وكانت داره هناك ، وكان أيضا في أيام الملك المنصور قلاون ، الأمير زين الدين أبو المعالي أحمد بن شرف الدين أبي المفاخر محمد الصوّاني شادّ الدواوين ، وكان يسكن بمدينة مصر ، والأمير علم الدين سنجر الصوّاني أحد الأمراء المقدّمين الألوف في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون ، والملك المظفر بيبرس ، وهو صاحب البئر التي بالباطلية المعروفة ببئر الدرابزين ، وعز الدين أيبك الصوّاني.

سويقة البلشون : هذه السويقة خارج باب الفتوح ، عرفت بسابق الدين سنقر البلشون ، أحد مماليك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وسلاح درايته ، وكان له أيضا بستان بالمقس خارج القاهرة من جوار الدكة يعرف ببستان البلشون.

سويقة اللفت : هذه السويقة كانت خارج باب النصر من ظاهر القاهرة ، حيث البئر التي في شمال مصلى الأموات ، المعروف ببئر اللفت. تجاه دار ابن الحاجب ، كانت تشتمل على عدّة حوانيت يباع فيها اللفت والكرنب ، ويحمل منها إلى سائر أسواق القاهرة ، ويباع اليوم في بعض هذه الحوانيت الدريس لعلف الدواب.

سويقة زاوية الخدّام : هذه السويقة خارج باب النصر بحريّ سويقة اللفت ، كان فيها عدّة حوانيت يباع فيها أنواع المآكل ، فلما كانت سن ست وثمانمائة خربت ، ولم يبق فيها سوى حوانيت لا طائل بها.

سويقة الرملة : هذه السويقة كانت فيما بين سويقة زاوية الخدّام وجامع آل ملك حيث مصلى الأموات ، التي هناك كان فيها عدّة حوانيت مملوءة بأصناف المآكل ، قد خرب سائرها ولم يبق لها أثر البتة.

سويقة جامع آل ملك : أدركتها إلى سنة ست وثمانمائة ، وهي من الأسواق الكبار ، فيها غالب ما يحتاج إليه من الإدام ، وقد خربت لخراب ما يجاورها.

١٩٢

سويقة أبي ظهير : كانت تلي سويقة جامع آل ملك أدركتها عامرة.

سويقة السنابطة : كانت هناك ، عرفت بقوم من أهل سنباط سكنوا بها ، أدركتها أيضا عامرة.

سويقة العرب : هذه السويقة كانت تتصل بالريدانية ، خربت في الغلاء الكائن في سنة ست وسبعين وسبعمائة ، وأدركت حوانيت هذه السويقة ، وهي خالية من السكان إلّا يسيرا ، وعقودها من اللبن ، ويقال له وما وراءه خراب الحسينية ، وكانت في غاية العمارة ، وكان بأوّلها مما يلي الحسينية فرن ، أدركته عامر إلى ما بعد سنة تسعين وسبعمائة ، بلغني أنه كان قبل ذلك في أعوام ستين وسبعمائة يخبز فيه كل يوم نحو سبعة آلاف رغيف ، لكثرة من حوله من السكان ، وتلك الأماكن اليوم لا ساكن فيها إلّا اليوم ، ولا يسمع بها إلّا الصدى.

سويقة العزي : هذه السويقة خارج باب زويلة قريبا من قلعة الجبل ، كانت من جملة المقابر التي خارج القاهرة ، فيما بين الباب الحديد والحارات وبركة الفيل ، وبين الجبل الذي عليه الآن قلعة الجبل ، فلما اختطت هذه الجهة كما تقدّم ذكره عند ذكر ظواهر القاهرة ، عرفت هذه السويقة بالأمير عز الدين أيبك العزي نقيب الجيوش ، واستشهد على عكا عند ما فتحها الأشرف خليل بن قلاوون في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة سنة تسعين وستمائة ، وهذه السويقة عامرة بعمارة ما حولها.

سويقة العياطين : هذه السويقة بخط المقس بالقرب من باب البحر ، عرفت بالفقير المعتقد مسعود بن محمد بن سالم العياط لسكنه بالقرب منها ، وله هناك مسجد بناه في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ، وأخبرني الشيخ المعمر حسام الدين حسن بن عمر الشهرزوريّ وكيل أبي رحمه‌الله : أن النشو ناظر الخاص في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون ، طرح على أهل هذه السويقة عدّة أمطار عسل قصب ، وألزمهم في ثمن كل قنطار بعشرين درهما ، فوقفوا إلى السلطان وعيطوا حتى أعفاهم من ذلك ، فقيل لها من حينئذ سويقة العياطين ، ولفظة عياط عند أهل مصر بمعنى صيّاح ، والعياط الصيّاح ، وأصل ذلك في اللغة أن العطعطة تتابع الأصوات واختلافها في الحرب ، وهي أيضا حكاية أصوات المجان إذا قالوا عيط محيط ، وذلك إذا غلبوا قوما ، وقد عطعطوا أو عطعط بالذئب إذا قال له عاط عاط ، فحرّف عامّة مصر ذلك وجعلوا العياط الصيّاح ، واشتقوا منه الفعل فأعرف ذلك.

سويقة العراقيين : هذه السويقة بمدينة مصر الفسطاط ، وإنما عرفت بذلك لأن قريبا الأزديّ وزحافا الطائيّ ، وكانا من الخوارج ، خرجا على زياد ابن أمية بالبصرة ، فاتهم زياد بهما جماعة من الأزد ، وكتب إلى معاوية بن أبي سفيان يستأذنه في قتلهم ، فأمر بتغربهم عن أوطانهم ، فسيّرهم إلى مصر وأميرها مسلمة بن مخلد ، وذلك في سنة ثلاث وخمسين ،

١٩٣

وكان عددهم نحوا من مائتين وثلاثين ، فأنزلوا بالظاهر أحد خطط مصر ، وكان إذ ذاك طرقا ، أراد أن يسدّ بهم ذلك الموضع ، فنزلوا في الموضع المعروف بكوم سراج ، وكان فضاء ، فبنوا لهم مسجدا واتخذوا سوقا لأنفسهم ، فسمى سويقة العراقيين.

ذكر العوائد التي كانت بقصبة القاهرة

إعلم أن قصبة القاهرة ما برحت محترمة ، بحيث أنه كان في الدولة الفاطمية إذا قدم رسول متملّك الروم ، ينزل من باب الفتوح ويقبل الأرض وهو ماش إلى أن يصل إلى القصر ، وكذلك كان يفعل كل من غضب عليه الخليفة ، فإنه يخرج إلى باب الفتوح ويكشف رأسه ويستغيث بعفو أمير المؤمنين حتى يؤذن له بالمصير إلى القصر ، وكان لها عوايد منها :

أن السلطان من ملوك بني أيوب ومن قام بعدهم من ملوك الترك ، لا بدّ إذا استقرّ في سلطنة ديار مصر أن يلبس خلعة السلطان بظاهر القاهرة ، ويدخل إليها راكبا والوزير بين يديه على فرس ، وهو حامل عهد السلطان الذي كتبه له الخليفة بسلطنة مصر على رأسهم ، وقد أمسكه بيديه ، وجميع الأمراء ورجال العساكر مشاة بين يديه منذ يدخل إلى القاهرة من باب الفتوح ، أو من باب النصر ، إلى أن يخرج من باب زويلة. فإذا خرج السلطان من باب زويلة ركب حينئذ الأمراء وبقية العسكر.

ومنها أنه لا يمرّ بقصبة القاهرة حمل تبن ، ولا حمل حطب ، ولا يسوق أحد فرسا بها ، ولا يمرّ بها سقّاء إلّا وراويته (١) مغطاة.

ومن رسم أرباب الحوانيت أن يعدّوا عند كل حانوت زيرا مملوءا بالماء مخافة أن يحدث الحريق في مكان فيطفأ بسرعة ، ويلزم صاحب كل حانوت أن يعلق على حانوته قنديلا طول الليل يسرج إلى الصباح ، ويقام في القصبة قوم يكنسون الأزبال والأتربة ونحوها ، ويرشون كل يوم ، ويجعل في القصبة طول الليل عدّة من الخفراء يطوفون بها لحراسة الحوانيت وغيرها ، ويتعاهد كل قليل بقطع ما عساه تربى من الأوساخ في الطرقات حتى لا تعلو الشوارع.

وأوّل من ركب بخلع الخليفة في القاهرة السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب. قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وستين وخمسمائة ، تاسع شهر رجب وصلت الخلع التي كانت نفذت إلى السلطان الملك العادل نور الدين محمد بن زنكي من الخليفة ببغداد ، وهي جبة سوداء وطوق ذهب ، فلبسها نور الدين بدمشق إظهارا لشعارها ، وسيّرها إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ليلبسها ، وكانت أنفذت

__________________

(١) الرّاوية : البعير أو البغل أو الحمار الذي يستقى عليه. مختار الصحاح.

١٩٤

له خلعة ذكر أنه استقصرها واستزراها واستصغرها دون قدره ، واستقرّ السلطان صلاح الدين بداره ، وباتت الخلع مع الواصل بها شاه ملك برأس الطابية ، فلما كان العاشر منه خرج قاضي القضاة والشهود والمقرئون والخطباء إلى خيمته ، واستقرّ المسير بالخلعة ، وهو من الأصحاب النجمية ، وزينت البلد ابتهاجا بها ، وفيه ضربت النوب الثلاث بالباب الناصري على الرسم النوري في كل يوم ، فأما دمشق فالنوب المضروبة بها خمس على رسم قديم ، لأن الأتابكية لها قواعد ورسوم مستقرّة بينهم في بلادهم. وفي حادي عشرة ركب السلطان بالخلع وشق بين القصرين والقاهرة ، ولما بلغ باب زويلة نزع الخلع وأعادها إلى داره ، ثم شمّر للعب الأكرة ، ولم يزل الرسم كذلك في ملوك بني أيوب حتى انقضت أيامهم وقام من بعدهم مماليكهم الأتراك ، فجروا في ذلك على عادة ملوك بني أيوب إلى أن قام في مملكة مصر السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ وقتل هولاكو الخليفة المستعصم بالله ، وهو آخر خلفاء بني العباس ببغداد ، وقدم على الملك الظاهر أبو العباس ، أحمد بن الخليفة الظاهر بالله بن الخليفة الناصر ، في شهر رجب سنة تسع وخمسين وستمائة ، فتلقاه وأكرمه وبايعه ولقبه بالخليفة المستنصر بالله ، وخطب باسمه على المنابر ، ونقش السكة باسمه ، فلما كان في يوم الاثنين الرابع من شعبان ، ركب السلطان إلى خيمة ضربت له بالبستان الكبير من ظاهر القاهرة ، ولبس خلعة الخليفة ، وهي جبة سوداء وعمامة بنفسجية وطوق من ذهب وسيف بدّاويّ ، وجلس مجلسا عاما حضر فيه الخليفة والوزير القضاة والأمراء والشهود ، وصعد القاضي فخر الدين إبراهيم بن لقمان كاتب السرّ منبرا نصب له وقرأ تقليد السلطان الذي عهد به إليه الخليفة ، وكان بخط ابن لقمان ومن إنشائه ، ثم ركب السلطان بالخلعة والطوق ودخل من باب النصر وشق القاهرة ، وقد زينت له ، وحمل الوزير الصاحب بهاء الدين محمد بن عليّ بن حنا التقليد على رأسه قدّام السلطان ، والأمراء ومن دونهم مشاة بين يديه حتى خرج من باب زويلة إلى قلعة الجبل ، فكان يوما مشهودا.

وفي ثالث شوّال سنة اثنتين وستين وستمائة ، سلطن الملك الظاهر بيبرس ابنه الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة خان ، وأركبه بشعار السلطنة ومشى قدّامه وشق القاهرة كما تقدّم وسائر الأمراء مشاة من باب النصر إلى قلعة الجبل ، وقد زينت القاهرة ، وآخر من ركب بشعار السلطنة وخلعة الخلافة والتقليد ، السلطان الناصر محمد بن قلاوون ، عند دخوله إلى القاهرة من البلاد الشامية بعد قتل السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين ، واستيلائه على المملكة ، في ثامن جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وستمائة.

وقال المسبّحي في حوادث سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة نودي في السقائين أن يغطوا روايا الجمال والبغال لئلا تصيب ثياب الناس. وقال : في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة أمر العزيز بالله أمير المؤمنين بنصب أزيار الماء مملوءة ماء على الحوانيت ، ووقود المصابيح على الدور وفي الأسواق. وفي ثالث ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة أمر أمير

١٩٥

المؤمنين الحاكم بأمر الله الناس بأن يقدوا القناديل في سائر البلد على جميع الحوانيت ، وأبواب الدور ، والمحال والسكك الشارعة. وغير الشارعة ، ففعل ذلك ، ولازم الحاكم بأمر الله الركوب في الليل ، وكان ينزل كل ليلة إلى موضع موضع ، وإلى شارع شارع ، وإلى زقاق زقاق ، وكان قد ألزم الناس بالوقيد ، فتناظر وافية واستكثروا منه في الشوارع والأزقة وزينت القياسر والأسواق بأنواع الزينة ، وصار الناس في القاهرة ومصر طول الليل في بيع وشراء ، وأكثروا أيضا من وقود الشموع العظيمة ، وأنفقوا في ذلك أموالا عظيمة جللة لأجل التلاهي ، وتبسطوا في المآكل والمشارب وسماع الأغاني ، ومنع الحاكم الرجال المشاة بين يديه من المشي بقربة ، وزجرهم وانتهرهم وقال : لا تمنعوا أحدا مني ، فأحدق الناس به وأكثروا من الدعاء له ، وزينت الصاغة وخرج سائر الناس بالليل للتفرّج ، وغلب النساء الرجال على الخروج بالليل ، وعظم الازدحام في الشوارع والطرقات ، وأظهر الناس اللهو والغناء وشرب المسكرات في الحوانيت وبالشوارع من أوّل المحرّم سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة ، وكان معظم ذلك من ليلة الأربعاء تاسع عشرة إلى ليلة الاثنين رابع عشرية ، فلما تزايد الأمر وشنع أمر الحاكم بأمر الله أن لا تخرج امرأة من العشاء ، ومتى ظهرت امرأة بعد العشاء نكّل بها ، ثم منع الناس من الجلوس في الحوانيت فامتنعوا ، ولم يزل الحاكم على الركوب في الليل إلى آخر شهر رجب ، ثم نودي في شهر رجب سنة خمس وتسعين وثلاثمائة أن لا يخرج أحد بعد عشاء الآخرة ، ولا يظهر لبيع ولا شراء ، فامتنع الناس.

وفي سنة خمس وأربعمائة تزايد في المحرّم منها وقوع النار في البلد وكثر الحريق في عدّة أماكن ، فأمر الحاكم بأمر الله الناس باتخاذ القناديل على الحوانيت وأزيار الماء مملوءة ماء ، وبطرح السقائف التي على أبواب الحوانيت ، والرواشن التي تظلّ الباعة ، فأزيل جميع ذلك من مصر والقاهرة.

ذكر ظواهر القاهرة المعزية

اعلم أن القاهرة المعزية يحصرها أربع جهات وهي : الجهة الشرقية ، والجهة الغربية ، والجهة الشمالية التي تسميها أهل مصر البحرية ، والجهة الجنوبية التي تعرف في أرض مصر بالقبلية.

فأما الجهة الشرقية فإنها من سور القاهرة الذي فيه الآن باب البرقية والباب الجديد والباب المحروق ، وتنتهي هذه الجهة إلى الجبل المقطم. وأما الجهة الغربية فإنها من سور القاهرة الذي فيه باب القنطرة وباب الخوخة وباب سعادة ، وتنتهي هذه الجهة إلى شاطيء النيل. وأما الجهة القبلية فإنها من سور القاهرة الذي فيه باب زويلة ، وتنتهي هذه الجهة إلى حدّ مدينة مصر. وأما الجهة البحرية فإنها من سور القاهرة الذي فيه باب النصر وباب الفتوح ، وتنتهي هذه الجهة إلى بركة الجب التي تعرف اليوم ببركة الحاج ، وقد كانت هذه

١٩٦

الجهة الشرقية عند ما وضعت القاهرة فضاء فيما بين السوروبين الجبل لا بنيان فيه البتة ، وما زال على هذا إلى أن كانت الدولة التركية ، فقيل لهذا الفضاء الميدان الأسود ، وميدان القبق ، وسيرد ذكر هذا الميدان إن شاء الله تعالى.

فلما كانت سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون ، عمل هذا الميدان مقبرة لأموات المسلمين ، وبنيت فيه الترب الموجودة الآن كما ذكر عند ذكر المقابر من هذا الكتاب ، وكانت الجهة الغربية تنقسم قسمين ، أحدهما برّ الخليج الشرقيّ ، والآخر برّ الخليج الغربيّ ، فأما برّ الخليج الشرقي ، فكان عليه بستان الأمير أبي بكر محمد بن طفج الإخشيد وميدانه ، وعرف هذا البستان بالكافوري ، فلما اختط القائد جوهر القاهرة أدخل هذا البستان في سور القاهرة ، وجعل بجانبه الميدان الذي يعرف اليوم بالخرشتف ، فصارت القاهرة تشرف من غربيها على الخليج ، وبنيت على هذا الخليج مناظر وهي : منظرة اللؤلؤة ، ومنظرة دار الذهب ، ومنظرة غزالة ، كما ذكر عند ذكر المناظر من هذا الكتاب. وكان فيما بين البستان الكافوري والمناظر المذكورة وبين الخليج ، شارع تجلس فيه عامة الناس للتفرّج على الخليج وما وراءه من البساتين والبرك ، ويقال لهذا الشارع اليوم بين السورين ، ويتصل بالبستان الكافوري وميدان الإخشيد بركة الفيل ، وبركة قارون ، ويشرف على بركة قارون الدور التي كانت متصلة بالعسكر ظاهر مدينة فسطاط مصر ، كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب ، عند ذكر البرك وعند ذكر العسكر. وأما برّ الخليج الغربيّ ، فإن أوّله الآن من موردة الخلفاء فيما بين خط الجامع الجديد خارج مصر وبين منشأة المهرانيّ ، وآخره أرض التاج والخمس وجوه وما بعدها من بحريّ القاهرة ، وكان أوّل هذا الخليج عند وضع القاهرة بجانب خط السبع سقايات ، وكان ما بين خط السبع سقايات وبين المعاريج بمدينة مصر غامرا بماء النيل ، كما ذكر في ساحل مصر من هذا الكتاب ، وكانت القنطرة التي يفتح سدّها عند وفاء النيل ست عشرة ذراعا خلف السبع سقايات ، كما ذكر عند ذكر القناطر من هذا الكتاب ، وكان هناك منظرة السكرة التي يجلس فيها الخليفة يوم فتح الخليج ، ولها بستان عظيم ، ويعرف موضعه اليوم بالمريس ، ويتصل ببستان منظرة السكرة جنان الزهري ، وهي من خط قناطر السباع الموجودة الآن بحذاء خط السبع سقايات إلى أراضي اللوق ، ويتصل بالزهري عدّة بساتين إلى المقس ، وقد صار موضع الزهري وما كان بجواره على برّ الخليج من البساتين يعرف بالحكورة ، من أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى وقتنا هذا ، كما ذكر عند ذكر الأحكار من هذا الكتاب.

وكان الزهريّ وما بجواره من البساتين التي على برّ الخليج الغربي والمقس ، كل ذلك مطلّ على النيل ، وليس لبرّ الخليج الغربيّ كبير عرض ، وإنما يمرّ النيل في غربيّ البساتين على الموضع الذي يعرف اليوم باللوق إلى المقس ، فيصير المقس هو ساحل القاهرة ، وتنتهي المراكب إلى موضع جامع المقس الذي يعرف اليوم بجامع المقسي ، فكان ما بين

١٩٧

الجامع المذكور ومنية عقبة التي ببرّ الجيزة بحر النيل ، ولم يزل الأمر على ذلك إلى ما بعد سنة سبعمائة. إلّا أنه كان قد انحسر ماء النيل بعد الخمسمائة من سني الهجرة عن أرض بالقرب من الزهريّ ، وانحسر أيضا عن أرض تجاه البعل الذي في بحري القاهرة ، عرفت هذه الأرض بجزيرة الفيل ، وما برح ماء النيل ينحسر عن شيء بعد شيء إلى ما بعد سنة سبعمائة ، فبقيت عدّة رمال فيما بين منشأة المهرانيّ وبين جزيرة الفيل ، وفيما بين المقس وساحل النيل ، عمر الناس فيها الأملاك والمناظر والبساتين من بعد سنة اثنتي عشرة وسبعمائة ، وحفر الملك الناصر محمد بن قلاوون فيها الخليج المعروف اليوم بالخليج الناصريّ ، فصار برّ الخليج الغربيّ بعد ذلك أضعاف ما كان أوّلا من أجل انطراد ماء النيل عن برّ مصر الشرقيّ ، وعرف هذا البرّ اليوم بعدّة مواضع ، وهي في الجملة خط منشأة المهرانيّ ، وخط المريس ، وخط منشأة الكتبة ، وخط قناطر السباع ، وخط ميدان السلطان ، وخط البركة الناصرية ، وخط الحكورة ، وخط الجامع الطبرسي ، وربع بكتمر ، وزريبة السلطان ، وخط باب اللوق ، وقنطرة الخرق ، وخط بستان العدّة ، وخط زريبة قوصون ، وخط حكر ابن الأثير ، وفم الخور ، وخط الخليج الناصري ، وخط بولاق ، وخط جزيرة الفيل ، وخط الدكة ، وخط المقس ، وخط بركة قرموط ، وخط أرض الطبالة ، وخط الجرف ، وأرض البعل ، وكوم الريش ، وميدان القمح ، وخط باب القنطرة ، وخط باب الشعرية ، وخط باب البحر ، وغير ذلك. وسيأتي من ذكر هذه المواضع ما يكفي ويشفي إن شاء الله تعالى.

وكانت جهة القاهرة القبلية من ظاهرها ليس فيها سوى بركة الفيل وبركة قارون ، وهي فضاء يرى من خرج من باب زويلة عن يمينه الخليج وموردة السقائين ، وكانت تجاه باب الفتوح ، ويرى عن يساره الجبل ، ويرى تجاهه قطائع ابن طولون التي تتصل بالعسكر ، ويرى جامع ابن طولون وساحل الحمراء الذي يشرف عليه جنان الزهريّ ، ويرى بركة الفيل التي كان يشرف عليها الشرف الذي فوقه قبة الهواء ، ويعرف اليوم هذا الشرف بقلعة الجبل ، وكان من خرج من مصلى العيد بظاهر مصر يرى بركتي الفيل وقارون والنيل.

فلما كانت أيام الخليفة الحاكم بأمر الله أبي علي منصور بن العزيز بالله أبي منصور نزار بن الإمام المعز لدين الله أبي تميم معدّ ، عمل خارج باب زويلة بابا عرف بالباب الجديد ، واختط خارج باب زويلة عدّة من أصحاب السلطان ، فاختطت المصامدة حارة المصامدة ، واختطت اليانسية والمنجبية وغيرهما كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب ، فلما كانت الشدّة العظمى في خلافة المستنصر بالله ، اختلت أحوال مصر وخربت خرابا شنيعا ، ثم عمر خارج باب زويلة في أيام الخليفة الآمر بأحكام الله ، ووزارة المأمون محمد بن فاتك بن البطائحيّ بعد سنة خمسمائة ، فلما زالت الدولة الفاطمية ، هدم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب حارة المنصورة التي كانت سكن العبيد خارج باب زويلة ، وعملها بستانا ،

١٩٨

فصار ما خرج عن باب زويلة بساتين إلى المشهد النفيسيّ ، وبجانب البساتين طريق يسلك منها إلى قلعة الجبل التي أنشأها السلطان صلاح الدين المذكور على يد الأمير بهاء الدين قراقوش الأسديّ ، وصار من يقف على باب جامع ابن طولون يرى باب زويلة ، ثم حدثت العمائر التي هي الآن خارج باب زويلة بعد سنة سبعمائة ، وصار خارج باب زويلة الآن ثلاثة شوارع ، أحدها ذات اليمين ، والآخر ذات الشمال ، والشارع الثالث تجاه من خرج من باب زويلة ، وهذه الشوارع الثلاثة تشتمل على عدّة أخطاط.

فأما ذات اليمين فإن من خرج من باب زويلة الآن يجد عن يمينه شارعا سالكا ينتهي به في العرض إلى الخليج ، حيث القنطرة التي تعرف بقنطرة الخرق ، وينتهي به في الطول من باب زويلة إلى خط الجامع الطولوني ، وجميع ما في هذا الطول والعرض من الأماكن كان بساتين إلى ما بعد السبعمائة. وفي هذه الجهة اليمنى ، خط دار التفاح ، وسوق السقطيين ، وخط تحت الربع ، وخط القشاشين ، وخط قنطرة الخرق ، وخط شق الثعبان ، وخط قنطرة آقسنقر ، وخط الحبانية ، وبركة الفيل ، وخط قبو الكرمانيّ ، وخط قنطرة طقزدمر ، والمسجد المعلق ، وخط قنطرة عمر شاه ، وخط قناطر السباع ، وخط الجسر الأعظم ، وخط الكبش ، والجامع الطولوني ، وخط الصليبة ، وخط الشارع ، وما هناك من الحارات التي ذكرت عند ذكر الحارات من هذا الكتاب.

وأما ذات اليسار ، فإن من خرج من باب زويلة الآن يجد عن يساره شارعا ينتهي به في العرض إلى الجبل ، وينتهي به في الطول إلى القرافة ، وجميع ما في هذه الجهة اليسرى كان فضاء لا عمارة فيه البتة ، إلى ما بعد سنة خمسمائة من الهجرة ، فلما عمر الوزير الصالح طلائع بن رزيك جامع الصالح الموجود الآن خارج باب زويلة ، صار ما وراءه إلى نحو قطائع ابن طولون مقبرة لأهل القاهرة ، إلى أن زالت دولة الخلفاء الفاطميين ، وأنشأ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب قلعة الجبل على رأس الشرف المطلّ على القطائع ، وصار يسلك إلى القلعة من هذه الجهة اليسرى فيما بين المقابر والجبل ، ثم حدثت بعد المحن هذه العمائر الموجودة هناك شيئا بعد شيء ، من سنة سبعمائة ، وصار في هذه الشقة خط سوق البسطيين ، وخط الدرب الأحمر ، وخط جامع المارديني ، وخط سوق الغنم ، وخط التبانة ، وخط باب الوزير ، وقلعة الجبل ، والرميلة ، وخط القبيبات ، وخط باب القرافة.

وأما ما هو تجاه من خرج من باب زويلة فيعرف بالشارع ، وقد تقدّم ذكره عند ذكر الأسواق من هذا الكتاب ، وهو ينتهي بالسالك إلى خط الصليبة المذكورة آنفا ، وإلى خط الجامع الطولونيّ ، وخط المشهد النفيسي ، وإلى العسكر ، وكوم الجارح ، وغير ذلك من بقية خطط ظواهر القاهرة ومصر ، وكانت جهة القاهرة البحرية من ظاهرها فضاء ينتهي إلى بركة الجب ، وإلى منية الاصبغ التي عرفت بالخندق ، وإلى منية مطر التي تعرف بالمطرية ،

١٩٩

وإلى عين شمس ، وما وراء ذلك ، إلّا أنه كان تجاه القاهرة بستان ريدان ، ويعرف اليوم بالريدانية ، وعند مصلّى العيد خارج باب النصر حيث يصلي الآن على الأموات ، كان ينزل هناك من يسافر إلى الشام.

فلما كان قبل سنة خمسمائة ، ومات أمير الجيوش بدر الجمالي في سنة سبع وثمانين وأربعمائة ، بني خارج باب النصر له تربة دفن فيها وبني أيضا خارج باب الفتوح منظرة قد ذكر خبرها عند ذكر المناظر من هذا الكتاب ، وصار أيضا فيما بين باب الفتوح والمطرية بساتين قد تقدّم خبرها ، ثم عمرت الطائفة الحسينية بعد سنة خمسمائة خارج باب الفتوح عدّة منازل ، اتصلت بالخندق ، وصار خارج باب النصر مقبرة إلى ما بعد سنة سبعمائة ، فعمر الناس به حتى اتصلت العمائر من باب النصر إلى الريدانية ، وبلغت الغاية من العمارة ، ثم تناقصت من بعد سنة تسع وأربعين وسبعمائة إلى أن فحش خرابها من حين حدثت المحن في سنة ست وثمانمائة ، فهذا حال ظواهر القاهرة منذ اختطت وإلى يومنا هذا ، ويحتاج ما ذكر هنا إلى مزيد بيان والله أعلم.

ذكر ميدان القبق

هذا الموضع خارج القاهرة من شرقيها ، فيما بين النقرة التي ينزل من قلعة الجبل إليها ، وبين قبة النصر التي تحت الجبل الأحمر ، ويقال له أيضا الميدان الأسود ، وميدان العيد ، والميدان الأخضر ، وميدان السباق ، وهو ميدان السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ الصالحيّ النجميّ ، بنى به مصطبة في المحرّم من سنة ست وستين وستمائة ، عند ما احتفل برمي النشاب وأمور الحرب ، وحثّ الناس على لعب الرمح ورمي النشاب ونحو ذلك ، وصار ينزل كل يوم إلى هذه المصطبة من الظهر ، فلا يركب منها إلى العشاء الآخرة ، وهو يرمي ويحرّض الناس على الرمي والنضال والرهان ، فما بقي أمير ولا مملوك إلّا وهذا شغله ، وتوفر الناس على لعب الرمح ورمي النشاب ، وما برح من بعده من أولاده والملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفيّ الصالحيّ النجميّ ، والملك الأشرف خليل بن قلاوون يركبون في الموكب لهذا الميدان ، وتقف الأمراء والمماليك السلطانية تسابق بالخيل فيه قدّامهم ، وتنزل العساكر فيه لرمي القبق.

والقبق عبارة عن خشبة عالية جدّا ، تنصب في براح من الأرض ، ويعمل بأعلاها دائرة من خشب ، وتقف الرماة بقسيّها وترمي بالسهام جوف الدائرة لكي تمرّ من داخلها إلى غرض هناك ، تمرينا لهم على إحكام الرمي. ويعبّر عن هذا بالقبق ، في لغة الترك.

قال جامع السيرة الظاهرية : وفي سابع عشر المحرّم من سنة سبع وستين وستمائة ، حثّ السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ جميع الناس على رمي النشاب ولعب الرمح ، خصوصا خواصه ومماليكه ، ونزل إلى الفضاء بباب النصر ظاهر القاهرة ،

٢٠٠