كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

المروانيّ والي القاهرة وشادّ الجهات ، وأمره بهدم قناطر السباع ، وعمارتها أوسع مما كانت بعشرة أذرع ، وأقصر من ارتفاعها الأوّل ، فنزل ابن المروانيّ وأحضر الصناع ووقف بنفسه حتى انتهى في جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وسبعمائة في أحسن قالب على ما هي عليه الآن ، ولم يضع سباع الحجر عليها ، وكان الأمير الطنبغا الماردينيّ قد مرض ونزل إلى الميدان السلطانيّ ، فأقام به ونزل إليه السلطان مرارا ، فبلغ الماردينيّ ما يتحدّث به العامّة من أن السلطان لم يخرّب قناطر السباع إلا حتى تبقى باسمه ، وأنه رسم لابن المروانيّ أن يكسر سباع الحجر ويرميها في البحر ، واتفق أنه عوفي عقيب الفراغ من بناء القنطرة ، وركب إلى القلعة ، فسرّبه السلطان ، وكان قد شغفه حبا ، فسأله عن حاله وحادثه إلى أن جرى ذكر القنطرة ، فقال له السلطان : أعجبتك عمارتها ، فقال والله يا خوند : لم يعمل مثلها ، ولكن ما كملت. فقال كيف ، قال السباع التي كانت عليها لم توضع مكانها ، والناس يتحدّثون أن السلطان له عرض في إزالتها لكونها رنك سلطان غيره ، فامتغص لذلك وأمر في الحال بإحضار ابن المروانيّ وألزمه بإعادة السباع على ما كانت عليه ، فبادر إلى تركيبها في أماكنها ، وهي باقية هناك إلى يومنا هذا إلّا أنّ الشيخ محمدا المعروف بصائم الدهر شوّه صورها كما فعل بوجه أبي الهول ، ظنا منه أن هذا الفعل من جملة القربات ولله در القائل :

وإنما غاية كلّ من وصل

صيدا بنى الدنيا بأنواع الحيل

قنطرة عمر شاه : هذه القنطرة على الخليج الكبير ، يتوصل منها إلى برّ الخليج الغربيّ.

قنطرة طقزدمر : هذه القنطرة على الخليج الكبير بخط المسجد المعلق ، يتوصل منها إلى برّ الخليج الغربيّ ، وحكر قوصون وغيره.

قنطرة اق سنقر : هذه القنطرة على الخليج الكبير ، يتوصل إليها من خط قبو الكرمانيّ ، ومن حارة البديعيين التي تعرف اليوم بالحبانية ، ويمرّ من فوقها إلى برّ الخليج الغربيّ ، وعرفت بالأميراق سنقرشادّ العمائر السلطانية في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون ، عمرها لما أنشأ الجامع بالبركة الناصرية ، ومات بدمشق سنة أربعين وسبعمائة.

قنطرة باب الخرق : يقال للأرض البعيدة التي تخرقها الريح لاستوائها ، الخرق. وهذه القنطرة على الخليج الكبير ، كان موضعها ساحلا وموردة للسقائين في أيام الخلفاء الفاطميين ، فلما أنشأ الملك الصالح نجم الدين أيوب الميدان السلطانيّ بأرض اللوق ، وعمريه المناظر في سنة تسع وثلاثين وستمائة ، أنشأ هذه القنطرة ليمرّ عليها إلى الميدان المذكور ، وقيل قنطرة باب الخرق.

قنطرة الموسكي : هذه القنطرة على الخليج الكبير ، يتوصل إليها من باب الخوخة

٢٦١

وباب القنطرة ، ويمرّ فوقها إلى برّ الخليج الغربيّ ، أنشأها الأمير عز الدين موسك ، قريب السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، وكان خيّرا يحفظ القرآن الكريم ويواظب على تلاوته ، ويحب أهل العلم والصلاح ، ويؤثرهم ، ومات بدمشق يوم الأربعاء ثامن عشرى شعبان سنة أربع وثمانين وخمسمائة.

قنطرة الأمير حسين : هذه القنطرة على الخليج الكبير ، ويتوصل منها إلى برّ الخليج الغربيّ ، فلما أنشأ الأمير سيف الدين حسين بن أبي بكر بن إسماعيل بن حيدر بك الروميّ الجامع المعروف بجامع الأمير حسين في حكر جوهر النوبيّ ، أنشأ هذه القنطرة ليصل من فوقها إلى الجامع المذكور ، وكن يتوصل إليها من باب القنطرة ، فثقل عليه ذلك واحتاج إلى أن فتح في السور الخوخة المعروفة بخوخة الأمير حسين من الوزيرية ، فصارت تجاه هذه القنطرة ، وقد ذكر خبرها عند ذكر الخوخ من هذا الكتاب ، والله تعالى أعلم.

قنطرة باب القنطرة : هذه القنطرة على الخليج الكبير ، يتوصل إليها من القاهرة ، ويمرّ فوقها إلى المقس وأرض الطبالة ، وأوّل من بناها القائد جوهر لما نزل بمناخه وأدار السور عليه وبنى القاهرة ، ثم قدم عليه القرطميّ ، فاحتاج إلى الاستعداد لمحاربته ، فحفر الخندق وبنى هذه القنطرة على الخليج عند باب جنان أبي المسك كافور الإخشيديّ ، الملاصق للميدان والبستان الذي للأمير أبي بكر محمد الإخشيد ، ليتوصل من القاهرة إلى المقس ، وذلك في سنة ثنتين وستين وثلثمائة ، وبها تسمى باب القنطرة ، وكانت مرتفعة بحيث تمرّ المراكب من تحتها وقد صارت في هذا الوقت قريبة من أرض الخليج لا يمكن المراكب العبور من تحتها ، وتسدّ بأبواب خوفا من دخول الزعار إلى القاهرة.

قنطرة باب الشعرية : هذه القنطرة على الخليج الكبير ، يسلك إليها من باب الفتوح ، ويمشي من فوقها إلى أرض الطبالة ، وتعرف اليوم بقنطرة الخرّوبيّ.

القنطرة الجديدة : هذه القنطرة على الخليج الكبير ، يتوصل إليها من زقاق الكحل وخط جامع الظاهر ، ويتوصل منها إلى أرض الطبالة وإلى منية الشيرج وغير ذلك ، أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة خمس وعشرين وسبعمائة عند ما انتهى حفر الخليج الناصريّ ، وكان ما على جانبي الخليج من القنطرة الجديدة هذه إلى قناطر الإوز عامرا بالأملاك ، ثم خربت شيئا بعد شيء من حين حدث فصل الباردة بعد سنة ستين وسبعمائة ، وفحش الخراب ، هناك منذ كانت سنة الشراقي في زمن الملك الأشرف شعبان بن حسين في سنة سبع وسبعين وسبعمائة ، فلما غرقت الحسينية بعد سنة الشراقي خربت المساكن التي كانت في شرقيّ الخليج ، ما بين القنطرة الجديدة وقناطر الإوز ، وأخذت أنقاضها وصارت هذه البرك الموجودة الآن.

قناطر الإوز : هذه القناطر على الخليج الكبير ، يتوصل إليها من الحسينية ، ويسلك من

٢٦٢

فوقها إلى أراضي البعل وغيرها ، وهي أيضا مما أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة خمس وعشرين وسبعمائة ، وأدركت هناك أملاكا مطلّة على الخليج بعد سنة ثمانين وسبعمائة ، وهذه القناطر من أحسن منتزهات أهل القاهرة أيام الخليج ، لما يصير فيه من الماء ، ولما على حافته الشرقية من البساتين الأنيقة ، إلّا أنها الآن قد خربت. وتجاه هذه القنطرة منظرة البعل التي تقدّم ذكرها عند ذكر مناظر الخلفاء ، وبقيت آثارها إلى الآن ، أدركناها يعطن فيها الكتان ، وبها عرفت الأرض التي هناك ، فسميت إلى الآن بأرض البعل ، وكان هناك صف من شجر السنط قد امتدّ من تجاه قناطر الإوز إلى منظرة البعل ، وصار فاصلا بين مزرعتين يجلس الناس تحته في يومي الأحد والجمعة للنزهة ، فيكون هناك من أصناف الناس رجالهم ونسائهم ما لا يقع عليه بصر ، ويباع هناك مآكل كثيرة ، وكان هناك حانوت من طين تجاه القنطرة يباع فيها السمك ، أدركتها وقد استؤجرت بخمس آلاف درهم في السنة ، عنها يومئذ نحو مائتين وخمسين مثقالا من الذهب ، على أنه لا يباع فيما السمك إلّا نحو ثلاثة أشهر أو دون ذلك ، ولم يزل هذا السنط إلى نحو سنة تسعين وسبعمائة ، فقطع. وإلى اليوم تجتمع الناس هناك ، ولكن شتان بين ما أدركنا وبين ما هو الآن ، وقيل لها قناطر الإوز.

قناطر بني وائل : هذه القناطر على الخليج الكبير تجاه التاج ، أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة خمس وعشرين وسبعمائة ، وعرفت بقناطر بني وائل من أجل أنه كان بجانبها عدّة منازل يسكنها عرب ضعاف بالجانب الشرقيّ ، يقال لهم بنو وائل ، ولم يزالوا هناك إلى نحو سنة تسعين وسبعمائة ، وكان بجانب هذه القناطر من الجانب الغربيّ مقعد أحدثه الوزير الصاحب سعد الدين نصر الله بن البقريّ لأخذ المكوس ، واستمرّ مدّة ثم خرب ، ولم ير أحسن منظرا من هذه القنطرة في أيام النيل وزمن الربيع.

قنطرة الأميرية : هذه القنطرة هي آخر ما على الخليج الكبير من القناطر بضواحي القاهرة ، وهي تجاه الناحية المعروفة بالأميرية ، فيما بينها وبين المطرية ، أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة خمس وعشرين وسبعمائة ، وعند هذه القنطرة ينسدّ ماء النيل إذا فتح الخليج عند وفاء زيادة النيل ست عشرة ذراعا ، فلا يزال الماء عند سدّ الأميرية هذا إلى يوم النوروز ، فيخرج والي القاهرة ، إليه ويشهد على مشايخ أهل الضواحي بتغليق أراضي نواحيهم بالريّ ، ثم يفتح هذا السدّ فيمرّ الماء إلى جسر شيبين القصر ، ويسدّ عليه حتى يروى ما على جانبي الخليج من البلاد ، فلا يزال الماء واقفا عند سدّ شيبين إلى يوم عيد الصليب ، وهو اليوم السابع عشر من النوروز ، فيفتح حينئذ بعد شمول الريّ جميع تلك الأراضي ، وليس بعد قنطرة الأميرية هذه قنطرة سوى قنطرة ناحية سرياقوس ، وهي أيضا إنشاء الملك الناصر محمد بن قلاون ، وبعد قنطرة سرياقوس جسر شيبين القصر ، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى عند ذكر الجسور من هذا الكتاب.

٢٦٣

قنطرة الفخر : هذه القنطرة بجوار موردة البلاط من أراضي بستان الخشاب برأس الميدان ، وهي أوّل قنطرة عمرت على الخليج الناصريّ على فمه ، أنشأها القاضي فخر الدين محمد بن فضل الله بن خروف القبطيّ ، المعروف بالفخر ناظر الجيش في سنة خمس وعشرين وسبعمائة ، عند انتهاء حفر الخليج الناصريّ ، ومات في رجب سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة ، وقد أناف على السبعين سنة ، وتمكن في الرياسة تمكنا كبيرا.

قنطرة قدادار : هذه القنطرة على الخليج الناصريّ ، يتوصل إليها من اللوق ، ويمشي فوقها إلى برّ الخليج الناصريّ مما يلي الفيل ، وأوّل ما وضعت كانت تجاه البستان الذي كان ميدانا في زمن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس ، إلى أن أنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون الميدان الموجود الآن بموردة البلاط من جملة أراضي بستان الخشاب ، فغرس في الميدان الظاهريّ الأشجار وصار بستانا عظيما ، كما ذكر ذلك في موضعه من هذا الكتاب ، وعرفت هذه القنطرة بالأمير سيف الدين قدادار مملوك الأمير برلغي ، وكان من خبره أنه تنقل في الخدم حتى وليّ الغربية من أراضي مصر في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ، فلقي أهل البلاد منه شرّا كثيرا ، ثم انتقل إلى ولاية البحيرة ، فلما كان في سنة أربع وعشرين كثرت الشناعة في القاهرة بسبب الفلوس ، وتعنت الناس فيها ، وامتنعوا من أخذها حتى وقف الحال وتحسن السعر ، وكان حينئذ يتقلد الوزارة الأمير علاء الدين مغلطاي الجماليّ ، ويتقلد ولاية القاهرة الأمير علم الدين سنجر الخازن ، فلما توجه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون من قلعة الجبل إلى السرحة بناحية سرياقوس ، بلغه توقف الحال وطمع السوقة في الناس ، وأن متولي القاهرة فيه لين وانه قليل الحرمة على السوقة ، وكان السلطان كثير النفور من العامّة ، شديد البغض لهم ، ويريد كل وقت من الخازن أن يبطش بالحرافيش ويؤثر فيهم آثارا قبيحة ، ويشهر منهم جماعة ، فلم يبلغ من ذلك غرضه ، فكرهه واستدعى الأمير أرغون نائب السلطنة وتقدّم إليه بالأغلاظ في القول على الخازن بسبب فساد حال الناس ، وهمّ ببروز أمره بالقبض عليه وأخذ ماله ، فما زال به النائب حتى عفا عنه. وقال السلطان يعزله ويولي من ينفع في مثل هذا الأمر ، فاختار ولاية قدادار عوضه ، لما يعرف من يقظته وشهامته وجراءته على سفك الدماء ، فاستدعاه من البحيرة وولاه ولاية القاهرة في أوّل شهر رمضان من السنة المذكورة.

فأوّل ما بدأ به أن أحضر الخبازين والباعة وضرب كثيرا منهم بالمقارع ضربا مبرّحا ، وسمر عدّة منهم في دراريب حوانيتهم ، ونادى في البلد من ردّ فلسا سمّر ، ثم عرض أهل السجن ووسط جماعة من المفسدين عند باب زويلة ، فهابته العامّة وذعروا منه ، وأخذ يتتبع من عصر خمرا ، وأحضر عريف الحمالين وألزمه بإحضار من كان يحمل العنب ، فلما حضروا عنده استملاهم أسماء من يشتري العنب ومواضع مساكنهم ، ثم أحضر خفراء

٢٦٤

الحارات والأخطاط ، ولم يزل بهم حتى دلوه على سائر من عصر الخمر ، فاشتهر ذلك بين الناس وخافوه ، فحوّل أهل حارة زويلة وأهل حارتي الروم والديلم وغير ذلك من الأماكن ما عندهم من الخمر وصبوها في البلاليع والأقنية ، وألقوها في الأزقة ، وبذلوا المال لمن يأخذها منهم ، فحصل لكثير من العامّة والأطراف منها شيء كثير ، حتى صارت تباع كل جرّة خمر بدرهم ، ويمرّ الناس بأبواب الدور والأزقة فترى من جرار الخمر شيئا كثيرا ، ولا يقدر أحد أن يتعرّض لشيء منها ، ثم ركب وكبس خط باب اللوق وأخذ منه شيئا كثيرا من الحشيش ، وأحرقه عند باب زويلة ، واستمرّ الحال مدّة شهر ، ما من يوم إلّا ويهرق فيه خمر عند باب زويلة ، ويحرق حشيش ، فطهر الله به البلد من ذلك جميعه ، وتتبع الزعّار وأهل الفساد فخافوه وفرّوا من البلد ، فصار السلطان يشكره ويثني عليه لما يبلغه من ذلك ، وأما العامّة فإنه ثقل عليها وكرهته ، حتى أنه لما تأمّر ابن الأمير بكتمر الساقي وركب إلى القبة المنصورية على العادة ، ومعه أبوه النائب وسائر الأمراء ، صاحت العامّة للأمير بكتمر الساقي يا أمير بكتمر بحياة ولدك أعزل هذا الظالم ، ورد علينا وإلينا ، يعنون الخازن ، فلما عرّف بكتمر السلطان ذلك أعجبه وقال : يا أمير ما تخشى العامّة والسوقة ، إلّا ظالما مثل هذا ، ما يخاف الله تعالى ، وزاد إعجاب السلطان به حتى قال له : لا تشاور في أمر المفسدين ، فلم يغترّ بذلك ، ورفع إليه جميع ما يتفق له وشاوره في كل جليل وحقير ، وقال له إن جماعة من الكتاب والتجار قد عصر والخمر ، واستأذنه في طلبهم ومصادرتهم ، فتقدّم له بمشاورة النائب في ذلك وإعلامه أن السلطان قد رسم بالكشف عمن عصر من الكتاب والتجار الخمر ، فلما صار إلى النائب وعرّفه الخبر ، أهانه وقال : إن السلطان لا يرضى بكبس بيوت الناس وهتك حرمهم وسترهم وإقامة الشناعات ، وقام من فوره إلى السلطان وعرّفه ما يكون في فعل ذلك من الفساد الكبير ، وما زال به حتى صرف رأيه عما أشار به قدادار من كبس الدور ، وأخذ الناس في مماقتته والإخراق به في كل وقت ، فإنه كان يعني بالخازن ولم يعجبه عزله عن الولاية ، فكثر جورقدادار وزاد تتبعه للناس ، ونادى أن لا يعمل أحد حلقة فيما بين القصرين ولا يسمر هناك ، وأمر أن لا يخرج أحد من بيته بعد عشاء الآخرة ، وأقام عنه نائبا من بطالي الحسينية ضمن المسطبة ، منه في كل يوم بثلاثمائة درهم ، وانحصر الناس منه وضاقوا به ذرعا لكثرة ما هتك أستارهم ، وخرق بكثير من المستورين ، وتسلطت المستصنعة وأرباب المظالم على الناس ، وكانوا إذا رأوا سكران أوشموا منه رائحة خمر أحضروه» إليه ، فتوقى الناس شرّه وشكاه الأمراء غير مرّة إلى السلطان ، فلم يلتفت لما يقال فيه ، والنائب مستمرّ على الإخراق به إلى أن قبض عليه السلطان ، فخلا الجوّ لقدادار ، وأكثر من سفك الدماء وإتلاف النفوس والتسلط على العامّة لبغضهم إياه ، والسلطان يعجبه منه ذلك بحيث أنه أبرز مرسوما لسائر عماله وولاته إن أحدا منهم لا يقتص ممن وجب عليه القصاص في النفس أو القطع إلا أن يشاور فيه ويطالع بأمره ، ما خلا قدادار مستولي القاهرة

٢٦٥

فإنه لا يشاور على مفسد ولا غيره ويده مطلقة في سائر الناس ، فدهى الناس منه بعظائم ، وشرع في كبس بيوت السعداء ، ومشت جماعة من المستصنعين في البلد وكتبوا الأوراق ورموها في بيوت الناس بالتهديد ، فكثرت أسباب الضرر وكثر بلاء الناس به ، وتعنت على الباعة ، ونادى أن لا يفتح أحد حانوته بعد عشاء الآخرة ، فامتنع الناس من الخروج بالليل حتى كانت المدينة في الليل موحشة ، واستجدّ على كل حارة دربا ، وألزم الناس بعمل ذلك ، فجبيت بهذا السبب دراهم كثيرة ، وصار الخفراء في الليل يدورون معهم الطبول في كل خط ، فظفر بإنسان قد سرق شيئا من بيت في الليل وتزيا بزي النساء ، فسمّره على باب زويلة ، وما زال على ذلك حتى كثرت الشناعة ، فعزله السلطان في سنة تسع وعشرين بناصر الدين بن الحسنيّ ، فأقام إلى أيام الحج وسافر إلى الحجاز ورجع وهو ضعيف ، فمات في سادس عشر صفر سنة ثلاثين وسبعمائة.

قنطرة الكتبة : هذه القنطرة على الخليج الناصريّ بخط بركة قرموط ، عرفت بذلك لكثرة من كان يسكن هناك من الكتاب ، أنشأها القاضي شمس الدين عبد الله بن أبي سعيد بن أبي السرور الشهير بغبريال بن سعيد ناظر الدولة ، وولي تظر الدواوين بدمشق في سنة ثلاث عشرة وسبعمائة ، إليها من نظر البيوت بديار مصر ، ثم استدعي من دمشق وقرر في وظيفة ناظر النظار شريكا للقاضي شهاب الدين الأفقهسيّ ، واستقرّ كريم الدين الصغير مكانه ناظرا بدمشق ، وذلك في شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبعمائة ، ثم صرف غبريال من النظر بديار مصر وسفر إلى دمشق في ثامن عشر صفر سنة ست وعشرين ، وطلب كريم الدين الصغير من دمشق ، ثم قرّر في مكان غبريال في وظيفة النظر بديار مصر الخطير ، كاتب أرغون أخو الموفق وأعيد غبريال إلى نظر دمشق ومات بدمشق بعد ما صودر وأخذ منه نحو ألفي درهم ، في سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة ، وادركنا الأملاك منتظمة بجانبي هذا الخليج من أوّله بموردة البلاط إلى هذه القنطرة ، ومن هذه القنطرة إلى حيث يصب في الخليج الكبير ، فلما كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة ، شرع الناس في هدم ما على هذا الخليج من المناظر البهجة والمساكن الجليلة ، وبيع أنقاضها ، حتى ذهب ما كان على هذا الخليج من المنازل ما بين قنطرة الفخر التي تقدّم ذكرها ، وآخر خط بركة قرموط ، وأصبحت موحشة قفراء ، بعد ما كانت مواطن أفراح ومغنى صبابات ، لا يأويها إلّا الغربان والبوم ، سنة الله في الذين خلوا من قبل.

قنطرة المقسيّ : هذه القنطرة على خليج فم الخور ، وهو الذي يخرج من بحر النيل ويلتقي مع الخليج الناصريّ عند الدكة ، فيصيران خليجا واحدا يصب في الخليج الكبير ، كان موضعها جسرا يستند عليه الماء إذا بدت الزيادة إلى أن تكمل أربعة عشر ذراعا ، فيفتح ويمرّ الماء فيه إلى الخليج الناصريّ وبركة الرطليّ ، ويتأخر فتح الخليج الكبير حتى يرقي الماء ستة عشر ذراعا ، فلما انطرد ماء النيل عن البرّ الشرقيّ ، بقي تاجه هذا الخليج في أيام

٢٦٦

احتراق النيل رملة لا يصل إليها الماء إلّا عند الزيادة ، وصار يتأخر دخول الماء في الخليج مدّة ، وإذا كسر سدّ الخليج الكبير عند الوفاء ، مرّ الماء هذا الخليج مرورا قليلا ، وما زال موضع هذه القنطرة سدّا إلى أن كانت وزارة الصاحب شمس الدين أبي الفرج عبد الله المقسيّ ، في أيام السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين ، فأنشأ بهذا المكان القنطرة فعرفت به ، واتصلت العمائر أيضا بجانبي هذا الخليج من حيث يبتدئ إلى أن يلتقي مع الخليج الناصريّ ، ثم خرب أكثر ما عليه من العمائر والمساكن بعد سنة ست وثمانمائة ، وكان للناس بهذا الخليج مع الخليج الناصريّ في أيام النيل مرور في المراكب للنزهة ، يخرجون فيه عن الجدّ بكثرة التهتك والتمتع بكل ما يلهي ، إلى أن ولي أمر الدولة بعد قتل الملك الأشرف شعبان بن حسين ، الأميران برقوق وبركة ، فقام الشيخ محمد المعروف بصائم الدهر في منع المراكب من المرور بالمتفرّجين في الخليج ، واستفتى شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقينيّ ، فكتب له بوجوب منعهم لكثرة ما ينتهك في المراكب من الحرمات ويتجاهر به من الفواحش والمنكرات ، فبرز مرسوم الأميرين المذكورين بمنع المراكب من الدخول إلى الخليج ، وركّبت سلسلة على قنطرة المقسيّ هذه في شهر ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وسبعمائة ، فامتنعت المراكب بأسرها من عبور هذا الخليج إلّا أن يكون فيها غلة أو متاع ، فقلق الناس لذلك وشق عليهم وقال الشهاب أحمد بن العطار الدنيسريّ في ذلك :

حديث فم الخور المسلسل ماؤه

بقنطرة المقسيّ قد سار في الخلق

ألا فاعجبوا من مطلق ومسلسل

يقول لقد أوقفتم الماء في حلقي

وقال :

تسلسلت قنطرة المقسيّ مم

ا قد جرى والمنع أضحى شاملا

وقال أهل طبنة في مجنهم

قوموا بنا نقطع السلاسلا

ولم تزل مراكب الفرجة ممتنعة من عبور الخليج إلى أن زالت دولة الظاهر برقوق ، في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ، فأذن في دخولها وهي مستمرّة إلى وقتنا هذا.

قنطرة باب البحر : هذه القنطرة على الخليج الناصري ، يتوصل إليها من باب البحر ويمرّ الناس من فوقها إلى بولاق وغيره ، وهي مما أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاوون عند انتهاء حفر الخليج الناصريّ ، في سنة خمس وعشرين وسبعمائة ، وقد كان موضعها في القديم غامرا بالماء عند ما كان جامع المقس مطلا على النيل ، فلما انحسر الماء عن برّ القاهرة صار ما قدّام باب البحر رملة ، فإذا وقف الإنسان عند باب البحر رأى البرّ الغربيّ ، لا يحول بينه وبين رؤيته بنيان ولا غيره ، فإذا كان أوان زيادة ماء النيل صار الماء إلى باب

٢٦٧

البحر ، وربما جلفط في بعض السنين خوفا من غرق المقس ، ثم لما طال المدى غرق خارج باب البحر بأرض باطن اللوق ، وغرس فيه الأشجار فصار بساتين ومزارع ، وبقي موضع هذه القنطرة جرفا ، ورمى الناس عليه التراب فصار كوما يشنق عليه أرباب الجرائم ، ثم نقل ما هنالك من التراب وأنشئت هذه القنطرة ونودي في الناس بالعمارة ، فأوّل ما بني في غربيّ هذه القنطرة مسجد المهاميزيّ وبستانه ، ثم تتابع الناس في العمارة حتى انتظم ما بين شاطيء النيل ببولاق وباب البحر عرضا ، وما بين منشأة المهراني ومنية الشيرج طولا ، وصار ما بجانبي الخليج معمورا بالدور ومن ورائها البساتين والأسواق والحمّامات والمساجد ، وتقسمت الطرق وتعدّدت الشوارع وصار خارج القاهرة من الجهة الغربية عدّة مدائن.

قنطرة الحاجب : هذه القنطرة على الخليج الناصري ، يتوصل إليها من أرض الطبالة ، ويسير الناس عليها إلى منية الشيرج وغيرها ، أنشأها الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب في سنة ست وعشرين وسبعمائة ، وذلك أنه كانت أرض الطبالة بيده ، فلما شرع السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في حفر الخليج الناصريّ ، التمس بكتمر من المهندسين إذا وصلوا بالحفر إلى حيث الجرف أن يمرّوا به على بركة الطوّابين التي تعرف اليوم ببركة الرطليّ ، وينتهوا من هناك إلى الخليج الكبير ، ففعلوا ذلك وكان قصدهم أولا أنه إذا انتهى الحفر إلى الجرف مرّوا فيه إلى الخليج الكبير من طرف البعل ، فلما تهيأ لبكتمر ذلك عمرت له أراضي الطبالة كما يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى عند ذكر البرك ، فعمرت هذه القنطرة في سنة خمس وعشرين وسبعمائة ، وأسند إليها جسرا عمله حاجزا بين بركة الحاجب المعروفة ببركة الرطليّ وبين الخليج الناصريّ ، وسيرد ذكره إن شاء الله تعالى عند ذكر الجسور ، ولما عمرت هذه القنطرة اتصلت العمائر فيما بينها وبين كوم الريش ، وعمر قبالتها ربع عرف بربع الزيتيّ ، وكان على ظهر القنطرة صفان من حوانيت ، وعليها سقيفة تقي حرّ الشمس وغيره ، فلما غرق كوم الريش في سنة بضع وستين وسبعمائة صار هذا الكوم الذي خارج القنطرة ، ومن تحت هذه القنطرة يصب الخليج الناصريّ في الخليج الكبير ، ويمرّ إلى حيث القنطرة الجديدة وقناطر الأوز وغيرها ، كما تقدّم ذكره.

قنطرة الدكة : هذه القنطرة كانت تعرف بقنطرة الدكة ، ثم عرفت بقنطرة التركمانيّ من أجل أن الأمير بدر الدين التركمانيّ عمرها ، وهذه القنطرة كانت على خليج الذكر ، وقد انطم ما تحتها وصارت معقودة على التراب لتلاف خليج الذكر ، ولله در ابراهيم المعمار حيث يقول :

يا طالب الدّكّة نلت المنى

وفزت منها ببلوغ الوطر

قنطرة من فوقها دكّة

من تحتها تلقى خليج الذكر

قناطر بحر أبي المنجا : هذه القناطر من أعظم قناطر مصر وأكبرها ، أنشأها السلطان

٢٦٨

الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري في سنة خمس وستين وستمائة ، وتولى عمارتها الأمير عز الدين أيبك الأقرم.

قناطر الجيزة : قال في كتاب عجائب البنيان : أن القناطر الموجودة اليوم في الجيزة من الأبنية العجيبة. ومن أعمال الجبارين ، وهي نيف وأربعون قنطرة ، عمرها الأمير قراقوش الأسديّ ، وكان على العمائر في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، بما هدمه من الأهرام التي كانت بالجيزة ، وأخذ حجرها فبنى منه هذه القناطر وبنى سور القاهرة ومصر وما بينهما ، وبنى قلعة الجبل ، وكان خصيا روميا سامي الهمة ، وهو صاحب الأحكام المشهورة والحكايات المذكورة ، وفيه صنف الكتاب المشهور المسمى بالفاشوش في أحكام قراقوش ، وفي سنة تسع وتسعين وخمسمائة تولى أمر هذه القناطر من لا بصيرة عنده ، فسدّها رجاء أن يحبس الماء ، فقويت عليها جرية الماء ، فقويت عليها جرية الماء فزلزلت منها ثلاث قناطر وانشقت ، ومع ذلك فما روى ما رجا أن يروي ، وفي سنة ثمان وسبعمائة رسم الملك المظفر بيبرس الجاشنكير برمّها ، فعمر ما خرب منها وأصلح ما فسد فيها ، فحصل النفع بها. وكان قراقوش لما أراد بناء هذه القناطر بنى رصيفا من حجارة ، ابتدأ به من حيز النيل بإزاء مدينة مصر ، كأنه جبل ممتدّ على الأرض مسيرة ستة أميال ، حتى يتصل بالقناطر.

ذكر البرك

قال ابن سيده : البركة مستنقع الماء ، والبركة شبه حوض يحفر في الأرض. انتهى.

وقد رأيت بخط معتبر ما مثاله : وملؤا البركة ماء ، فنصب الماء وكسر الراء وفتح الكاف والتاء.

بركة الحبش : هذه البركة كانت تعرف ببركة المغافر ، وتعرف ببركة حمير ، وتعرف أيضا باصطبل قرّة ، وعرفت أيضا باصطبل قامش ، وهي من أشهر برك مصر ، وهي في ظاهر مدينة الفسطاط من قبليها ، فيما بين الجبل والنيل ، وكانت من الموات ، فاستنبطها قرّة بن شريك العنبسيّ أمير مصر وأحياها وغرسها قصبا ، فعرفت باصطبل قرّة ، وعرفت أيضا باصطبل قامش ، وتنقلت حتى صارت تعرف ببركة الحبش. ودخلت في ملك أبي بكر الماردانيّ فجعلها وقفا ، ثم أرصدت لبني حسن وبني حسين ابني عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنهم ، فلم تزل جارية في الأوقاف عليهم إلى وقتنا هذا.

قال أبو بكر الكنديّ في كتاب الأمراء : وقدم قرّة بن شريك من وفادته في سنة ثلاث وتسعين فاستنبط الإصطبل لنفسه من الموات وأحياه وغرسه قصبا ، فكان يسمى اصطبل قرّة ، ويسمى أيضا اصطبل القامش ، يعنون القصب ، كما يقولون قامش مروان.

٢٦٩

وقال أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر. وكان الإصطبل للأزد فاشتراه منهم الحكم بن أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم ، فبناه وكان يجرى على الذي يقرأ في المصحف الذي وضعوه في المسجد الذي يقال له مصحف أسماء ، من كراه في كل شهر ثلاثة دنانير ، فلما حيزت أموالهم ، يعني أموال بني أمية ، وضمت إلى مال الله ، حيز الإصطبل فيما حيز وكتب بأمر المصحف إلى أمير المؤمنين أبي العباس السفاح ، فكتب أن أقرّوا مصحفهم في مسجدهم على حاله ، وأجروا على الذي يقرأ فيه ثلاثة دنانير في كل شهر من مال الله تعالى.

وقال القضاعيّ : بركة الحبش كانت تعرف ببركة المغافر وحمير ، وتعرف باصطبل قامش ، وكانت في ملك أبي بكر محمد بن عليّ الماردانيّ ، بجميع ما تشتمل عليه من المزارع والجنان خلا الجنان التي في شرقيها ، وأظنها الجنان المنسوبة إلى وهب بن صدقة ، وتعرف بالحبش ، فإني رأيت في شرط هذه البركة أن الحدّ الشرقيّ ينتهي إلى الفضاء الفاصل بينها وبين الجنان المعروفة بالحبش ، فدلّ على أن الجنان خارجة عنها.

وذكر ابن يونس في تاريخه : أن في قبليّ بركة الحبش جنانا تعرف بقتادة بن قيس بن حبشيّ الصدفيّ شهد فتح مصر ، والجنان تعرف بالحبش ، وبه تعرف بركة الحبش ، وذكر بعض هذا الشرط أنّ الحدّ البحري ينتهي إلى البئر الطولونية وإلى البئر المعروفة بموسى بن أبي خليد ، وهذه البئر هي البير المعروفة بالنعش. ورأيت في كتاب شرط هذه البركة أنها محبسة على البئرين اللتين استنبطهما أبو بكر الماردانيّ في بني وائل بحضرة الخليج والقنطرة المعروفة ، أحدهما بالفندق والأخرى بالعتيق ، وعلى السرب الذي يدخل منه الماء إلى البئر الحجارة المعروفة بالروا ، التي في بني وائل ، ذات القناطر التي يجرى فيها الماء إلى المصنعة التي بحضرة العقبة التي يصار منها إلى يحصب ، وهي المصنعة المعروفة بدليله ، وعلى القنوات المتصلة بها التي تصب إلى المصنعة ذات العمد الرخام القائمة فيها ، المعروفة بسمينة ، وهي التي في وسط يحصب. ويقال أن هناك كانت سوق ليحصب ، وذكر في هذا الشرط دارا له في موضع السقاية المعروفة بسقاية زوف ، وشرط أن تنشأ هذه الدار مصنعة على مثل هذه المصنعة المقدّم ذكرها ، المعروفة بسمينة ، وهي سقاية زوف اليوم ، وعلى القناة التي يجري فيها الماء إلى مصنعة ذكر أنّه كان أنشأها عند البئر المعروفة اليوم ببئر القبة ، والحوض الذي هناك بحضرة المسجد المعروف بمسجد القبة ، وكانت هذه المصنعة تسمى ريا ، وجعل هذا الحبس أيضا على البئر التي له بالحبانية بحضرة الخندق ، وذكر أنها تعرف بالقبانية ، وأن ماءها يجري إلى المصنعة المقابلة للميدان من دار الإمارة في طريق المصلى القديم ، ثم إلى المصنعة التي تحت مسجده المقابل لدار عبد العزيز ، ثم إلى المصنعة المقابلة لمسجد التربة المجاورة لمسجد الأخضر ، وتاريخ هذا الشرط شهر رمضان

٢٧٠

سنة سبع وثلاثمائة ، وجعل ما يفضل عن جميع ذلك مصروفا في ابتياع بقر وكباش تذبح ويطبخ لحمها ، ويبتاع أيضا معها خبز برّ ودراهم وأكسية وأعبية ويتصدّق بذلك على الفقراء والمساكين بالمغافر وغيرها من القبائل بمصر ، وكان بناؤه السقايتين اللتين بالموقف والسقايات التي بالمغافر وبزوف وبيحصب وبني وائل ، وعمل المجاري في سنة أربع ، وقيل في سنة ثلاثمائة وقد حبس أبو بكر على الحرمين ضياعا كان ارتفاعها نحو مائة وألف دينار ، ومنها سيوط وأعمالها وغيرها. انتهى.

وفي تواريخ النصارى : أن الأمير أحمد بن طولون صادر البطريق ميخائيل بطرك اليعاقبة على عشرين ألف دينار ، فباع النصارى رباع الكنائس بالاسكندرية وأرض الحبش بظاهر مصر والكنيسة المجاورة للمعلقة بقصر الشمع بمصر لليهود. قلت هكذا في تواريخهم ، ولا أعلم كيف ملكوا أرض الحبش ، فلعلّ الماردانيّ هو الذي اشتراها ، ثم وقفها.

وقال ابن المتوج : بركة الحبش هذه البركة مشهورة في مكانها ، وقد اتصل ثبوت وقفها عند قاضي القضاة بدر الدين أبي عبد الله محمد بن سعد الله بن جماعة رحمة الله عليه ، على أنها وقف على الأشراف الأقارب والطالبيين نصيف ، بينهما بالسوية ، النصف الأوّل على الأقارب والنصف الآخر على الطالبيين ، وثبت قبله عند قاضي القضاة بدر الدين أبي المحاسن يوسف بن الحسن السنجاريّ أن النصف منها وقف على الأشراف الأقارب بالاستفاضة ، بتاريخ ثالث عشر ربيع الأوّل سنة أربعين وستمائة ، وهم الأقارب الحسينيون ، وهو إذ ذاك قاضي القضاة بالقاهرة والوجه البحريّ ، وما مع ذلك من البلاد الشامية المضافة إلى ملك الملك الصالح نجم الدين أيوب ، وثبت عند قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه‌الله تعالى ، وكان قاضي القضاة بمصر والوجه القبليّ ، وخطيب مصر بالاستفاضة أيضا ، أن البركة المذكورة وقف على الأشراف الطالبيين بتاريخ التاسع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة أربعين وستمائة ، وبعدهما قاضي القضاة وجيه الدين البهنسيّ في ولايته ، ثم نفذهما بعد تنفيذ وجيه الدين المذكور في شعبان سنة ثلاث عشرة وسبعمائة قاضي القضاة بدر الدين أبو عبد الله محمد بن جماعة ، وهو حاكم الديار المصرية ، خلا ثغر الإسكندرية ، ويأتي أصل خبر هذه البركة مبينا مشروحا من أصلها في مكانه إن شاء الله تعالى.

قال : فمن جملة الأوقاف بركة الأشراف المشهورة ببركة الحبش ، وهذه البركة حدودها أربعة ، الحدّ القبليّ ينتهي بعضه إلى أرض العدوية ، يفصل بينهما جسر هناك وباقية إلى غيطان بساتين الوزير ، والحدّ البحريّ ينتهي بضعه إلى أبنية الآدر التي هناك المطلة عليها ، وإلى الطريق ، وإلى الجسر الفاصل بينها ، وبين بركة الشعيبية. والحدّ الشرقيّ إلى

٢٧١

حدّ بساتين الوزير المذكورة ، والحدّ الغربيّ ينتهي إلى بعضه إلى بحر النيل وإلى أراضي دير الدين وإلى بعض حقوق جزيرة ابن الصابونيّ وجسر بستان المعشوق الذي هو من حقوق الجزيرة المذكورة ، وهذه البركة وقف الأشراف الأقارب والطالبيين نصفين بينهما بالسوية ، والذي شاهدته من أمرها أني وقفت على أسجال قاضي القضاة بدر الدين أبي المحاسن يوسف السنجاريّ رحمة الله تعالى تعالى عليه تاريخه ثاني عشر ربيع الآخر سنة أربعين وستماة ، وهو حين ذاك حاكم القاهرة والوجه البحريّ على محضر شهد فيه بالاستفاضة ، أن نصف هذه البركة وقف على الأشراف الأقارب الحسينيين ، وثبت ذلك عنده ، ورأيت أسجال الشيخ قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه‌الله على محضر شهد فيه بالاستفاضة ، وهو حين ذلك قاضي مصر والوجه القبليّ ، وأشهد عليه أن ثبت عنده أن البركة المذكورة جميعها وقف على الأشراف الطالبيين ، وتاريخ اسجالة التاسع والعشرون من شهر ربيع الآخر سنة أربعين وستمائة ، ثم نفذهما جميعا في تاريخ واحد قاضي القضاة وجيه الدين البهنسيّ ، وهو قاضي القضاة حين ذاك ، ثم نفذهما قاضي القضاة بدر الدين أبو عبد الله محمد بن جماعة ، وهو قاضي القضاة بالديار المصرية ، واستقرّ النصف من ربع هذه البركة على الأشراف الأقارب مع قلتهم ، والنصف على الأشراف الطالبيين مع كثرتهم ، وتنازعوا غير مرّة على أن تكون بينهم الجميع بالسوية ، فلم يقدروا على ذلك ، وعقد لهم مجل غير مرّة فلم يقدروا على تغييره ، وأحسن ما وصفت به بركة الحبش قول عيسى بن موسى الهاشميّ أمير مصر وقد خرج إلى الميدان الذي بطرف المقابر فقال لمن معه : أتتأملون الذي أرى ، قالوا وما الذي يرى الأمير؟ قال : أرى ميدان رهان وجنان نخل وبستان شجر ومنازل سكنى وذروة جبل وجبانة أموات ونهر أعجاجا وأرض زرع ومراعي ماشية ومرتع خيل وساحل بحر وصائد نهر وقانص وحش وملاح سفينة وحادي إبل ومفازة رمل وسهلا وجبلا ، فهذه ثمانية عشر منتزها في أقلّ من ميل في ميل ، وأين هذه الأوقاف من وصف بعضهم قصر أنس بالبصرة في قوله :

زر وادي القصر نعم القصر والوادي

لا بدّ من زورة من غير ميعاد

زره فليس له شيء يشاكله

من منزل حاضر إن شئت أوبادي

تلقى به السفن والأعياس حاضرة

والضب والنون والملاح والحادي

وقال :

زر وادي القصر نعم القصر والوادي

وحبذا أهله من حاضر بادي

تلقى قراقرة والعيس واقفة

والضب والنون والملاح والحادي

هكذا أنشدهما أبو الفرج الأصبهانيّ رحمه‌الله تعالى في كتاب الأغاني ، ونسبهما لابن عيينة بن المنهال بن محمد بن أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة ، شاعر من ساكني

٢٧٢

البصرة ، وقيل أن اسمه عذرة ، وقيل اسمه أبو عيينة ، وكنيته أبو المنهال ، وكان بعد المائتين ، وأنشد أبو العلاء المعرّي في رسالة الصاهل والساحج :

يا صاح ألمم بأهل القصر والوادي

وحبذا أهله من حاضر بادي

ترى قراقرة والعيس واقفة

والضب والنون والملاح والحادي

وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسيّ. وفي هذا الوقت من السنة يعني أيام النيل ، تكون أرض مصر أحسن شيء منظرا ، ولا سيما منتزهاتها المشهورة ودياراتها المطروقة ، كالجزيرة والجيزة وبركة الحبش وما جرى مجراها من المواضع التي يطرقها أهل الخلاعة والقصف ، ويتناوبها ذوو الآداب والظرف ، واتفق أن خرجنا في مثل هذا الزمان إلى بركة الحبش وافترشنا من زهرها أحسن بساط ، واستظللنا من دوحها بأوفي رواق ، فظللنا نتعاطى من زجاجات الأقدام شموسا في خلع بدور ، وجسوم نار في غلائل نور إلى أن جرى ذهب الأصيل على لجين الماء. ونشبت نار الشفق بفحمة الظلماء ، فقال بعضهم : وهو أمية المذكور من قوله المشهور :

لله يومي ببركة الحبش

واوفق بين الضياء والغبش

والنيل تحت الرياح مضطرب

كصارم في يمين مرتعش

ونحن في روضة مفوّفة

دبّج بالنّور عطفها ووشي

قد نسجتها يد الغمام لنا

فنحن من نسجها على فرش

فعاطني الراح إنّ تاركها

من سورة الهمّ غير منتعش

وأثقل الناس كلهم رجل

دعاه داعي الهوى فلم يطش

فأسقني بالكبار مترعة

فهنّ أشفى لشدّة العطش

وقال أيضا :

علل فؤادك باللذات والطرب

وباكر الرّاح بالبانات والنخب

أما ترى البركة الغناء لابسة

وشيا من النور حاكته يد السحب

وأصبحت من جديد الروض في ح

لل قد أبرز القطر منها كل محتجب

من سوسن شرق بالطلّ محجره

وأقحوان شهيّ الظلم والشنب

فانظر إلى الورد يحكي خدّ محتشم

ونرجس ظلّ يبدي لحظ مرتقب

والنيل من ذهب يطفو على ورق

والرامح من ورق يطفو على ذهب

وربّ يوم نقعنا فيه غلتنا

بحاجم من فم الإبريق ملتهب

شمس من الرّاح حيانا بها قمر

موف على غصن يهتز في كثب

أرخى ذؤابه وانهزّ منعطفا

كصعدة الرمح في مسودة العذب

فاطرب ودونكها فاشرب فقد بعثت

على التصابي دواعي اللهو والطرب

٢٧٣

وقال :

يا نزهة الرصد المصري قد جمعت

من كلّ شيء حلا في جانب الوادي

فذا غدير وذا روض وذا جبل

والضب والنون والملاح والحادي

وقال ابراهيم بن الرفيق في تاريخه : حدّثني محمد الكهينيّ ، وكان أديبا فاضلا ، قد سافر ورأى بلدان المشرق قال : ما رأيت قطّ أجمل من أيام النوروز ، والغيطاس ، والميلاد ، والمهرجان ، وعيد الشعانين ، وغير ذلك من أيام اللهو التي كانوا يسخون فيها بأموالهم ، رغبة في القصف والعزف ، وذلك أنه لا يبقى صغير ولا كبير إلّا خرج إلى بركة الحبش متنزها ، فيضربون عليها المضارب الجليلة ، والسرادقات والقباب ، والشراعات ، ويخرجون بالأهل والولد ، ومنهم من يخرج بالقينات المسمعات المماليك والمحرّرات ، فيأكلون ويشربون ويسمعون ويتفكهون وينعمون ، فإذا جاء الليل أمر الأمير تميم بن المعز مائتي فارس من عبيده بالعسس عليهم في كل ليلة ، إلى أن يقضوا من اللهو والنزهة إربهم وينصرفوا فيسكرون وينامون كما ينام الإنسان في بيته ، ولا يضيع لأحد منهم ما قيمته حبة واحدة ، ويركب الأمير تميم في عشاري ويتبعه أربعة زواريق مملوءة فاكهة وطعاما ومشروبا ، فإن كانت الليالي مقمرة ، وإلّا كان معه من الشموع ما يعيد الليل نهارا ، فإذا مرج على طائفة واستحسن من غنائهم صوتا ، أمرهم بإعادته وسألهم عما عز عليهم ، فيأمر لهم به ، ويأمر لمن يغني لهم. وينتقل منهم إلى غيرهم بمثل هذا الفعل عامّة ليله ، ثم ينصرف إلى قصوره وبساتينه التي على هذه البركة ، فلا يزال على هذه الحال حتى تنقضي هذه الأيام ، ويتفرّق الناس.

وقال محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي الحنفيّ ، وتوفي بدمشق سنة إحدى وخمسين وستمائة ، يصف بركة الحبش في أيام الربيع :

إذا زيّن الحسناء قرط فهذه

يزينها من كلّ ناحية قرط

ترقرق فيها أدمع الطلّ غدوة

فقلت لآل قد تضمنها قرط

وقال ابن سعيد في كتاب المغرب : وخرجت مرّة حيث بركة الحبش التي يقول فيها أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسيّ عفا الله عنه :

لله يومي ببركة الحبش

والأفق بين الضياء والغبش

والنيل تحت الرياح مضطرب

كصارم في يمين مرتعش

وعاينت من هذه البركة أيام فيض النيل عليها أبهج منظر ، ثم زرتها أيام غاص الماء ، وبقيت فيها مقطعات بين خضر من القرط والكتان تفتن الناظر ، وفيها أقول :

٢٧٤

يا بركة الحبش التي يومي بها

طول الزمان مبارك وسعيد

حتى كأنك في البسيطة جنة

وكأن دهري كله بك عيد

يا حسن ما يبدو بك الكتان في

نواره أوزرّه معقود

والماء منك سيوفه مسلولة

والقرط فيك رواقه ممدود

وكأنّ أبراجا عليك عرائس

جليت وطيرك حولها غرّيد

يا ليت شعري هل زمانك عائد

فالشوق فيه مبدئ ومعيد

وكان ماء النيل يدخل إلى بركة الحبش من خليج بني وائل ، وكان خليج بني وائل مما يلي باب مصر من الجهة القبلية ، الذي يعرف إلى يومنا هذا بباب القنطرة ، من أجل أن هذه القنطرة كانت هناك. قال ابن المتوج : ورأيت ماء النيل في زمن النيل يدخل من تحته إلى خليج بني وائل. قلت وفي أيام الناصر محمد بن قلاون استولى النشو ناظر الخاص على بركة الحبش ، وصار يدفع إلى الأشراف من بيت المال مالا في كل سنة ، فلما مات الناصر وقام من بعده ابنه المنصور أبو بكر أعيدت لهم.

ذكر الماردانيّ

هو أبو بكر محمد بن عليّ بن محمد بن رستم بن أحمد. وقيل محمد بن عليّ بن أحمد بن عيسى بن رستم. وقيل محمد بن عليّ بن أحمد بن إبراهيم بن الحسين بن عيسى بن رستم الماردانيّ ، أحد عظماء الدنيا. ولد بنصيبين (١) لثلاث عشرة خلت من شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وخمسين ومائتين ، وقدم إلى مصر في سنة اثنتين وسبعين ومائتين ، وخلف أباه عليّ بن أحمد الماردانيّ أيام نظره في أمور أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون ، وسنّه يومئذ خمس عشرة سنة ، وكان معتدل الكتابة ضعيف الحظ من النحو واللغة ، ومع ذلك فكان يكتب الكتب إلى الخليفة ، فمن دونه على البديهة من غير نسخة ، فيخرج الكتاب سليما من الخلل. ولما قتل أبوه في سنة ثمانين ومائتين ، استوزره هارون بن خماريه ، فدبّر أمر مصر إلى أن قدم محمد بن سليمان الكاتب من بغداد إلى مصر ، وأزال دولة بني طولون ، وحمل رجالهم إلى العراق ، فكان أبو بكر ممن حمله ، فأقام ببغداد إلى أن قدم صحبة العساكر لقتال خباسة ، فدبر أمر البلد وأمر ونهى ، وحدّث بمصر عن أحمد بن عبد الجبار العطارديّ وغيره ، بسماعه منهم في بغداد ، وكان قليل الطلب للعلم ، تغلب عليه محبة الملك وطلب السيادة ، ومع ذلك كان يلازم تلاوة القرآن الكريم ويكثر من الصلاة ويواظب على الحج ، وملك بمصر من الضياع الكبار ما لم يملكه أحد قبله ، وبلغ ارتفاعه في كل سنة أربعمائة ألف دينار سوى الخراج ، ووهب وأعطى وولى وصرف وأفضل ومنع

__________________

(١) نصيبين : من بلاد الجزيرة على جادّة القوافل من الموصل إلى الشام.

٢٧٥

ورفع ووضع ، وحج سبعا وعشرين حجة ، أنفق في كل حجة منها مائة وخمسين ألف دينار ، وكان تكين أمير مصر يشيعه إذا خرج للحج ويتلقاه إذا قدم ، وكان يحمل إلى الحجاز جميع ما يحتاج إليه ، ويفرّق بالحرمين الذهب والفضة والثياب والحلوى والطيب والحبوب ، ولا يفارق أهل الحجاز إلّا وقد أغناهم. وقيل مرّة وهو بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ، ما بات في هذه الليلة أحد بمكة والمدينة وأعمالهما إلّا وهو شبعان من طعام أبي بكر الماردانيّ.

ولما قدم الأمير محمد بن طفج الإخشيد إلى مصر استتر منه ، فإنه كان منعه من دخول مصر ، وجمع العساكر لقتاله ، فاجتمع له زيادة على ثلاثين ألف مقاتل ، وحارب بهم بعد موت تكين أمير مصر ، ومرّت به خطوب لكثرة فتن مصر إذ ذاك ، وأحرقت دوره ودور أهله ومجاوريه ، وأخذت أمواله واستتر فقبض على خليفته وعماله ، فكتب إلى بغداد يسأل إمارة مصر ، وكتب محمد بن تكين بالقدس يسأل ذلك ، فعاد الجواب بإمارة ابن تكين ، وأن يكون الماردانيّ يدبر أمر مصر ويولي من شاء ، فظهر عند ذلك من الاستتار وأمر ونهى ودبر أمر البلد ، وصار الجيش بأسره يغدو إلى بابه ، فأنفق في جماعة ، واصطنع قوما ، وقتل عدّة من أصحاب ابن تكين ، وكان محمد بن تكين بالقدس ، وأمر مصر كله للماردانيّ بمفرده ومعه أحمد بن كيغلغ ، وقد قدم من بغداد بولاية ابن تكين على مصر ، وولاية أبي بكر الماردانيّ تدبير الأمور ، فاستمال أبو بكر أحمد بن كيغلغ حتى صار معه على ابن تكين وحاربه ، وكان من أمره ما كان إلى أن قدمت عساكر الإخشيد ، فقام أبو بكر لمحاربتهم ، ومنع الإخشيد من مصر ، فكان الإخشيد غالبا له ودخل البلد فاستتر منه أبو بكر إلى أن دلّ عليه فأخذ وسلمه إلى الفضل بن جعفر بن الفرات ، فلما صار إلى ابن الفرات قال له : إيش هذا الاستيحاش والتستر ، وأنت تعلم أن الحج قد أظلّ ويحتاج لإقامة الحج ، فقال به أبو بكر : إن كان إليّ فخمسة عشر ألف دينار ، فقال ابن الفرات : أيش ، خمسة عشر ألف دينار؟ قال ما عندي غير هذا ، فقال ابن الفرات : بهذا ضربت وجه السلطان بالسيف ، ومنعت أمير البلد من الدخول. ثم صاح يا شاذن خذه إليك فأقيم وأدخل إلى بيت ، وكان يومئذ صائما ، فامتنع من تناول الطعام والشراب ولزم تلاوة القرآن والصلاة طول يومه وليلته ، وأصبح فامتنع ابن الفرات من الأكل إجلالا له ، فلما كان وقت الفطر من الليلة الثانية ، امتنع أبو بكر من الفطر كما امتنع في الليلة الأولى ، فامتنع ابن الفرات أيضا من الأكل وقال : لا آكل أبدا أو يأكل أبو بكر ، فلما بلغ ذلك أبا بكر أكل ، فأخذ ابن الفرات في مصادرته وقبض على ضياعه التي بالشام ومصر ، وتتبع أسبابه. ثم خرج به معه إلى الشام وعاد به إلى مصر ، ثم خرج به ثانيا إلى الشام ، فمات الفضل بن الفرات بالرملة ، ورجع أبو بكر إلى مصر فردّ إليه الإخشيد أمور مصر كلها ، وخلع على ابنه ، وتقلد السيف ، ولبس المنطقة ، ولبس أبو بكر الدراعة تنزها ، ثم تنكر عليه الإخشيد وقبضه في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة ، وجعله في دار وأعدّ له فيها

٢٧٦

من الفرض والآلات والأواني والملبوس والطيب والطرائف وأنواع المآكل والمشارب ما بلغ فيه الغاية ، وتفقدها بنفسه وطافها كلها ، فقيل له عملت هذا كله لمحمد بن عليّ الماردانيّ؟ فقال : نعم ، هذا ملك وأردت أن لا يحتقر بشيء لنا ، ولا يحتاج أن يطلب حاجة إلّا وجدها ، فإنه إن فقد عندنا شيئا مما يريده استدعى به من داره ، فنسقط نحن من عينيه عند ذلك ، فلم يزل معتقلا حتى خرج الإخشيد إلى لقاء أمير المؤمنين المتقي لله ، فحمله معه ، ولما مات الإخشيد بدمشق كان أبو بكر بمصر ، فقام بأمر أونوجور بن الإخشيد وقبض على محمد بن مقاتل وزير الإخشيد ، وأمر ونهى وصرّف الأور إلى أن كانت واقعة غلبون واتصال أبي بكر به ، فلما عادت الإخشيدية قبض على أبي بكر ونهبت دوره وأحرق بعضها وأخذ ابنه ، وقام أبو الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات بأمر الوزارة ، فعند ما قدم كافور الإخشيدي من الشام بالعساكر التي كانت مع الإخشيد أطلق أبا بكر وأكرمه وردّ ضياعه وضياع ابنه ، فلما ماتت أمّ ولده لحقه كافور ومعه الأمير أونوجور عند المقابر وترجلا له وعزياه ، ثم ركبا معه حتى صليا عليها ، فلما مرض مرض موته ، عاده كافور مرارا إلى أن مات في شهر شوال سنة خمس وأربعين وثلاثمائة ، فدفن بداره. ثم نقل إلى المقابر ، وكانت فضائله جمة منها : أنه أقام أربعين سنة يصوم الدهر كله ، ويركب كل يوم إلى المقابر بكرة وعشية ، فيقف له الموكب حتى يمضي إلى تربة أولاده وأهله فيقرأ عندهم ويدعو لهم ، وينصرف إلى المساجد في الصحراء فيصلى بها والناس وقوف له ، إلّا أنه كان في غاية العجلة لا يراجع فيما يريده ولو كان ما كان ، ولما أراد المقتدر أن يقيم وزيرا كتبت رقعة فيها أسماء جماعة ، وأنفذت إلى عليّ بن عيسى ليشير بواحد منهم ، وكان أبو بكر ممن كتب معهم اسمه ، فكتب تحت كل اسم واحد منهم ما يستحقه من الوصف ، وكتب تحت اسم أبي بكر محمد بن عليّ الماردانيّ : مترف عجول ، وبنى أبو بكر السقايات والمساجد في المغافر وفي يحصب وبني وائل ، وليس لشيء منها اليوم أثر يعرف ، ومرّت به في هذا الكتاب أخبار ، وقد أفرد له ابن زولاق سيرة كبيرة ، وهذا منها والله أعلم.

ذكر بساتين الوزير

هذه البساتين في الجهة القبلية من بركة الحبش ، وهي قرية فيها عدّة مساكن وبساتين كثيرة ، وبها جامع تقام فيه الجمعة ، وعرفت بالوزير أبي الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن محمد المغربيّ ، وبنو المغربيّ أصلهم من البصرة ، وصاروا إلى بغداد ، وكان أبو الحسن عليّ بن محمد تخلف على ديوان المغرب ببغداد ، فنسب به إلى المغرب ، وولد ابنه الحسين بن عليّ ببغداد فتقلد أعمالا كثيرة منها : تدبير محمد بن ياقوت عند استيلائه على أمر الدولة ببغداد ، وكان خال ولده عليّ ، وهو أبو عليّ هارون بن عبد العزيز الأوراجيّ ، الذي مدحه أبو الطيب المتنبي من أصحاب أبي بكر محمد بن رائق ، فلما لحق ابن رائق ما لحقه بالموصل ، صار الحسين بن عليّ بن المغربي

٢٧٧

إلى الشام ، ولقي الإخشيد وأقام عنده وصار ابنه أبو الحسن عليّ بن الحسين ببغداد ، فأنفذ الإخشيد غلامه فاتك المجنون فحمله ومن يليه إلى مصر ، ثم خرج ابن المغربيّ من مصر إلى حلب ولحق به سائر أهله ونزلوا عند سيف الدولة أبي الحسن عليّ بن عبد الله بن حمدان مدّة حياته ، وتخصص به الحسين بن عليّ بن محمد المغربيّ ، ومدحه أبو نصر بن نباتة ، وتخصص أيضا عليّ بن الحسين بسعد الدولة بن حمدان ، ومدحه أبو العباس النامي ، ثم شجر بينه وبين ابن حمدان ففارقه وصار إلى بكجور بالرقة ، فحسن له مكاتبة العزيز بالله نزار والتحيز إليه ، فلما وردت على العزيز مكاتبة بكجور قبله واستدعاه ، وخرج من الرقة يريد دمشق ، فوافاه عبد العزيز بولاية دمشق وخلفه فتسلمها وخرج لمحاربة ابن حمدان بحلب بمشورة عليّ بن المغربيّ ، فلم يتم له أمر وتأخر عنه من كاتبه فقال لابن المغربيّ : غررتني فيما أشرت به عليّ. وتنكر له ففرّ منه إلى الرقة ، وكانت بين بكجور وبين ابن حمدان خطوب آلت إلى قتل ابن بكجور ، ومسير ابن حمدان إلى الرقة ، ففرّ ابن المغربيّ منها إلى الكوفة وكاتب العزيز بالله يستأذنه في القدوم ، فأذن له ، وقدم إلى مصر في جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة ، وخدم بها وتقدّم في الخدم ، فحرّض العزيز على أخذ حلب ، فقلد ينجوتكين بلاد الشام وضم إليه أبا الحسن بن المغربيّ ليقوم بكتابته ونظر الشام وتدبير الرجال والأموال ، فسار إلى دمشق في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة ، وخرج إلى حلب وحارب أبا الفضائل بن حمدان وغلامه لؤلؤ ، فكاتب لؤلؤ أبا الحسن بن المغربيّ واستماله حتى صرف ينجوتكين عن محاربة حلب وعاد إلى دمشق ، وبلغ ذلك العزيز بالله فاشتدّ حنقه على ابن المغربيّ وصرفه بصالح بن عليّ الروذباديّ ، واستقدم ابن المغربيّ إلى مصر ، ولم يزل بها حتى مات العزيز بالله وقام من بعده ابنه الحاكم بأمر الله أبو عليّ منصور ، فكان هو وولده أبو القاسم حسين من جلسائه ، فلما شرع الحاكم بأمر الله في قتل رجال الدولة من القوّاد والكتاب والقضاة ، قبض على عليّ ومحمد ابني المغربيّ وقتلهما ، ففرّ منه أبو القاسم حسين بن عليّ بن المغربيّ إلى حسان بن مفرّج بن الجرّاح ، فأجاره وقلد الحاكم يارجتكين الشام ، فخافه ابن جرّاح لكثرة عساكره ، فحسن له ابن المغربيّ مهاجمته ، فطرق يارجتكين في مسيره على غفلة وأسره وعاد إلى الرملة ، فشن الغارات على رساتيقها ، وخرج العسكر الذي بالرملة فقاتل العرب قتالا شديدا كادت العرب أن تنهزم لولا ثبّتها ابن المغربيّ ، وأشار عليهم بإشهار النداء بإباحة النهب والغنيمة ، فثبتوا ونادوا في الناس فاجتمع لهم خلق كثير ، وزحفوا إلى الرملة فملكوها وبالغوا في النهب والهتك والقتل ، فانزعج الحاكم لذلك انزعاجا عظيما ، وكتب إلى مفرّج بن جرّاح يحذره سوء العاقبة ويلزمه بإطلاق يارجتكين من يد حسان ابنه. وإرساله إلى القاهرة ، ووعده على ذلك بخمسين ألف دينار ، فبادر ابن المغربيّ لما بلغه ذلك إلى حسان وما زال يغريه بقتل يارجتكين حتى أحضره وضرب عنقه ، فشق ذلك على مفرّج ، وعلم أنه

٢٧٨

فسد ما بينهم وبين الحاكم ، فأخذ ابن المغربيّ يحسن لمفرّج خلع طاعة الحاكم والدعاء لغيره إلى أن استجاب له ، فراسل أبا الفتوح الحسن بن جعفر العلويّ أمير مكة يدعوه إلى الخلافة ، وسهل له الأمر وسير إليه بابن المغربيّ يحثه على المسير ، وجرّأه على أخذ مال تركه بعض المياسير ، ونزع المحاريب الذهب والفضة المنصوبة على الكعبة وضربها دنانير ودراهم وسماها الكعبية ، وخرج ابن المغربيّ من مكة فدعا العرب من سليم وهلال وعوف بن عامر ، ثم سار به وبمن اجتمع عليه من العرب حتى نزل الرملة ، فتلقاه بنو الجرّاح وقبلوا له الأرض وسلموا عليه بإمرة المؤمنين ، ونادى في الناس بالأمان ، وصلّى بالناس الجمعة فامتغص الحاكم لذلك وأخذ في استمالة حسان ومفرّج وغير هما ، وبذل لهم الأموال ، فتنكروا على أبي الفتوح ، وقلد أيضا مكة بعض بني عمّ أبي الفتوح فضعف أمره وأحسن من حسان بالغدر ، فرجع إلى مكة وكاتب الحاكم واعتذر إليه فقبل عذره وأما ابن المغربيّ فإنه لما انحلّ أمر أبي الفتوح ورأى ميل بني الجرّاح إلى الحاكم كتب إليه :

وأنت وحسبي أنت تعلم أنّ لي

لسانا أمام المجد يبني ويهدم

وليس حليما من تباس يمينه

فيرضى ولكن من تعض فيحلم

فسير إليه أمانا بخطه ، وتوجه ابن المغربيّ قبل وصول أمان الحاكم إليه إلى بغداد ، وبلغ القادر بالله خبره فاتهمه بأنه قدم في فساد الدولة العباسية ، فخرج إلى واسط واستعطف القادر فعطف عليه ، وعاد إلى بغداد ثم مضى إلى قرواش بن المقلد أمير العرب وسار معه إلى الموصل ، فأقام بها مدّة ، وخافه وزير قرواش فأخرجه إلى ديار بكر فأقام عند أميرها نصير الدولة أبي نصر أحمد بن مروان الكرديّ ، وتصرّف له وكان يلبس في هذه المدّة المرقعة والصوف ، فلما تصرّف غير لباسه وانكشف حاله فصار كمن قيل فيه وقد ابتاع غلاما تركيا كان يهواه قبل أن يبتاعه :

تبدّل من مرقعة ونسك

بأنواع الممسّك والشفوف

وعنّ له غزال ليس يحوي

هواه ولا رضاه بلبس صوف

فعاد أشدّ ما كان انتهاكا

كذاك الدهر مختلف الصروف

وأقام هناك مدّة طويلة في أعلى حال وأجل رتبة وأعظم منزلة ، ثم كوتب بالمسير إلى الموصل ليستوزره صاحبها ، فسار عن ميافارقين وديار بكر إلى الموصل ، فتقلد وزارتها وتردّد إلى بغداد في الوساطة بين صاحب الموصل وبين السلطان أبي عليّ بن سلطان الدولة أبي شجاع بن بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة أبي شجاع بن ركن الدولة أبي عليّ بن بويه ، واجتمع برؤساء الديلم والأتراك ، وتحدّث في وزارة الحضرة حتى تقلدها بغير خلع ولا لقب ولا مفارقة الدراعة ، في شهر رمضان سنة خمس عشرة وأربعمائة ، فأقام شهورا وأغرى رجال الدولة بعضهم ببعض ، وكانت أمور طويلة آلت إلى خروجه من الحضرة

٢٧٩

إلى قرواش ، فتجدّد للقادر بالله فيه سوء ظنّ بسبب ما أثاره من الفتنة العظيمة بالكوفة ، حتى ذهبت فيها عدّة نفوس وأموال ، ففرّ إلى أبي نصر بن مروان فأكره وأقطعه ضياعا وأقام عنده ، فكوتب من بغداد بالعود إليها ، فبرز عن ميافارقين يريد المسير إلى بغداد ، فسمّ هناك وعاد إلى المدينة فمات بها ، لأيام خلت من شهر رمضان سنة ثمان عشرة وأربعمائة ، ومولده بمصر ليلة الثالث عشر من ذي الحجة سنة سبعين وثلاثمائة.

وكان أسمر شديد السمرة ، بساطا عالما بليغا مترسلا متفننا في كثير من العلوم الدينية والأدبية والنحوية ، مشارا إليه في قوّة الذكاء والفطنة وسرعة الخاطر والبديهة ، عظيم القدر صاحب سياسة وتدبير وحيل كثيرة وأمور عظام ، دوّخ الممالك وقلّب الدول ، وسمع الحديث وروى وصنف عدّة تصانيف ، وكان ملولا حقودا لا تلين كبده ولا تنحلّ عقده. ولا يحني عوده ولا ترجى وعوده ، وله رأي يزين له العقوق ويبغض إليه رعاية الحقوق ، كأنه من كبره قد ركب الفلك واستولى على ذات الحبك ، وكان بمصر من بني المغربيّ أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين المغربيّ ، قد قتل الحاكم جدّه محمدا مع أبيه عليّ بن الحسين كما تقدّم ، فلما نشأ أبو جعفر سار إلى العراق وخدم هناك وتنقلت به الأحوال ، ثم عاد إلى مصر واصطنعه الوزير البارزيّ وولاه ديوان الجيش ، وكانت السيدة أم المستنصر بالله تعني به ، فلما مات الوزير البارزيّ وولي بعده الوزير أبو الفرج عبد الله بن محمد البابليّ ، قبض عليه في جملة أصحاب البارزيّ واعتقله ، فتقرّرت له الوزارة وهو في الاعتقال ، وخلع عليه في الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة خمسين وأربعمائة ، ولقب بالوزير الأجل الكامل الأوحد ، صفيّ أمير المؤمنين وخالصته ، فما تعرّض لأحد ولا فعل في البابليّ ما فعله البابليّ فيه وفي أصحاب البارزيّ ، فأقام سنتين وشهورا وصرف في تاسع شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة ، وكان الوزراء إذا صرفوا لم يتصرّفوا ، فاقترح أبو الفرج بن المغربيّ لما صرف أن يتولى بعض الدواوين ، فولي ديوان الإنشاء الذي يعرف اليوم بوظيفة كتابة السرّ ، وهو الذي استنبط هذه الوظيفة بديار مصر واستحدث استخدام الوزراء بعد صرفهم عن الوزارة ، ولم يزل نابه القدر إلى أن توفي سنة ثمان وسبعين وأربعمائة.

بركة الشعيبية : هذه البركة موضعها خلف جسر الأفرم ، فيما بينه وبين الجرف الذي يعرف اليوم بالرصد ، وكانت تجاور بركة الحبش من بحريها ، وقد انقطع عنها الماء وصارت بساتين ومزارع وغير ذلك. قال ابن المتوّج : بركة الشعيبية بظاهر مصر ، كان يدخل إليها ماء النيل ، وكان لها خليجان أحدهما من قبليها وهو الآن بجوار منظرة الصاحب تاج الدين بن حنا ، المعروفة بمنظرة المعشوق ، والثاني من بحريها ، ويقال له خليج بني وائل ، عليه قنطرة بها عرف باب القنطرة بمصر ، وكان يجري فيهما الماء من النيل إليها ، فكان الماء يدخل إليها في كل سنة ويعمها ويدخل إليها الشخاتير ، وكان بدائرها من جانبها الشرقيّ أدر كثيرة ،

٢٨٠