دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

الفصل الرابع

داود بين آي الذكر الحكيم وروايات التّوراة

داود عليه‌السلام ، نبي الله ورسوله إلى بني إسرائيل ، وأحد الدوحة الطاهرة من ذرية أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، التي جعل الله فيها النبوة والكتاب ، قال تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) (١) ، وقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) (٢) ، فكل كتاب أنزل من السماء على نبي من الأنبياء : بعد إبراهيم ، فمن ذريته وشيعته (٣) ، وكان من هذه الكتب «الزبور» الذي أنزل على داود عليه‌السلام ، وكما أن داود : من ذرية إبراهيم ، فهو كذلك واحد من فروع تلك الشجرة المباركة التي ينتسب إليها المسيح عليه‌السلام (٤) ، فضلا عن أن داود هو والد سليمان ، نبي الله ورسوله ، صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين.

ومن أجل هذا وغيره ، فإن القرآن الكريم إنما يصف سيدنا داود عليه‌السلام بقوله تعالى : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٥) ،

__________________

(١) سورة الأنعام : آية ٨٤.

(٢) سورة الحديد : آية ٢٦.

(٣) ابن كثير : البداية والنهاية في التاريخ ١ / ١٦٧ (بيروت ١٩٦٥).

(٤) متى ١ / ١ ـ ١٦ ، لوقا ٣ / ٢٣ ـ ٢٨.

(٥) سورة ص : آية ٣٠ ، وانظر : تفسير ابن كثير ٤ / ٥١ (بيروت ١٩٨٦) ، تفسير النسفي ٤ / ٤٠ ، تفسير القرطبي ص ٥٦٣٦ ـ ٥٦٣٧.

٨١

(وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) (١) ، (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (٢) ، (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً ، وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (٣) ، (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ، أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤) ، و (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (٥) ، ثم يأمر الله تعالى نبيّه وحبيبه مولانا وسيدنا محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ، وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ، وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (٦).

هذا هو رأي الإسلام في داود عليه‌السلام ، كما جاء في القرآن الكريم ، وليس هناك من ريب في أنه ليس لمسلم بعد رأي الإسلام رأي.

__________________

(١) سورة البقرة : آية ٢٥١ ، وانظر : تفسير النسفي ١ / ١٢٦ ، تفسير الطبري ٥ / ٣٧١ ـ ٣٧٢ ، تفسير الكشاف ١ / ٢٩٦ ، تفسير المنار ٢ / ٣٩٢ ـ ٣٩٣ ، تفسير روح المعاني ٢ / ١٧٣ ـ ١٧٤ ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي ١ / ٣١٩ ، تفسير الطبرسي ٢ / ٢٩١ ـ ٢٩٢ ، الجواهر في تفسير القرآن الكريم ١ / ٢٣٠ ، تفسير القرطبي ص ١٠٦٤ ـ ١٠٦٦ ، تفسير ابن كثير ١ / ٤٥٣.

(٢) سورة النساء : آية ١٦٣ ، وانظر ، تفسير الألوسي ٤ / ١٦ ـ ١٧ ، في ظلال القرآن ٦ / ٢٤ ، تفسير الطبرسي ٦ / ٣٩٩ ـ ٤٠٢ ، تفسير النسفي ١ / ٢٦٣ ، تفسير القرطبي ص ٢٠١٣ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٤٢١ ـ ٤٢٢ ، (القاهرة ١٩٧٠) تفسير المنارة ٥ / ٥٧.

(٣) سورة النمل : آية ١٥ ، وانظر : تفسير النسفي ٣ / ٢٠٤ ، تفسير ابن كثير ، ٣ / ٥٧٢ ـ ٥٧٣ (بيروت ١٩٨٦) ، الدر المنثور ٥ / ١٠٣ ، تفسير الطبري ١٩ / ٨٧ ، صفوة التفاسير ٢ / ٤٠٤.

(٤) سورة سبأ : آية ١٠ ـ ١١ ، وانظر تفسير القرطبي ص ٥٣٤٦ ـ ٥٣٥٠ ، تفسير النسفي ٣ / ٣١٩ ـ ٣٢٠ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٨٣٨ ـ ٨٣٩ ، تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٢٤٥ ، زاد المسير لابن الجوزي ٦ / ٤٣٦ ، حاشية الصاوي على تفسير الجلالين ٣ / ٢٩٤.

(٥) سورة الإسراء : آية ٥٥ ، تفسير النسفي ٢ / ٣١٧ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٧٦ ـ ٧٧.

(٦) ص : آية ١٧ ـ ٢٠ ، وانظر تفسير النسفي ٤ / ٣٦ ـ ٣٧ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٤٥ ـ ٤٧ ، تفسير القرطبي ص ٥٦٠٢ ـ ٥٦٠٨.

٨٢

ولكن : ما هو رأي التوراة في داود عليه‌السلام؟

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة ، بادئ ذي بدء ، إلى أن التوراة تنظر إلى داود ، على أنه ملك اليهود القدير ، قبل أن يكون نبي الله ورسوله الكريم ، ومن ثم فإنها لم ترتفع إلى مستوى داود النبي ، الأمر الذي صوّره القرآن في جلاء ووضوح ، وإن حاولت في بعض الأحايين أن تتخلص من السقوط المريع الذي وصلت إليه بشأن النبي الأواب ، فوصفته بما يتفق إلى حد ما ومكان النبوة السامي ، كما نرى في بعض آيات من أسفار صموئيل الثاني (٨ ، ٢٢ ـ ٢٥) والملوك الأول (٣ ـ ١٦ ، ١٤ ، ١١ ، ١٥) والملوك الثاني (١٨) وأخبار الأيام الأول (٢٨ ـ ٥) وإشعياء (٣ ، ٥٥ ـ ٦) وهوشع (٣) وغيرها.

وعلى أية حال ، فليست هناك صورة تجمع بين النقيضين اللذين لا التقاء بينهما ، كالصورة التي تقدمها التوراة عن داود عليه‌السلام ، ملك اليهود القدير ، فهو الشجاع قاتل جالوت (جليات) الجبار بمقلاعه دون سيف في يده (١) ، وبدا يصبح مطاردا من الفلسطينيين يوما ما ، ولكنه سرعان ما يشترك معهم في حروبهم ضد عدوهم يوما آخر ، بل ويضع سيفه تحت تصرفهم ضد مواطنيه اليهود (٢) ، وهو يعمل حامل سيف طالوت (شاؤل) الإسرائيلي يوما ما ، ثم حارسا للملك الفلسطيني «أخيش» يوما آخر ، (٣) ، وهو قد بدأ حكمه تحت سيادة الفلسطينيين ، ثم أنهاه وقد قضى على نفوذهم في المناطق الإسرائيلية تماما ، وهو عدو شاؤل (طالوت) اللدود ، ثم هو في نفس الوقت زوج ابنته ، وحبيب ولده «يوناثان» ، وكثير من فتيان وفتيات

__________________

(١) صموئيل أول ١٧ / ٥٠.

(٢) صموئيل أول ٢٩ / ٢ ـ ١٢.

(٣) صموئيل أول ٢٨ / ١ ـ ٢.

٨٣

إسرائيل (١) ، وهو يعمل مغنيا في بلاط شاؤل لأنه يجيد العزف على القيثار ، ويغني أغانيه العجيبة بصوته الرخيم ، ولكنه في نفس الوقت الفارس المغوار ، حامل سلاح الملك وقاتل أعدائه (٢).

وهو قاس غليظ القلب ، كما كان الناس في وقته ، وكما كانت قبيلته ، وهي صورة مستحبة في أذهان اليهود ، خلعوها على إلههم «يهوه» من بين ما خلعوا عليه من صفات ، ولكنه في نفس الوقت كان مستعدا لأن يعفو عن أعدائه ، كما كان يعفو عنهم قيصر والمسيح ، وكان يقتل الأسرى جملة ، كأنه ملك من ملوك الآشوريين ، بل إنه حتى ليبالغ في القسوة حين يأمر بحرق المغلوبين ، وسلخ جلودهم ، ووشرهم بالمنشار (٣) ، وعند ما يطلب منه شاؤل مائة غلفة من الفلسطينيين مهرا لابنته ميكال ، إذ به يقتل مائتي رجل من الفلسطينيين ويقدم غلفهم مهرا لابنة شاؤل هذه (٤) ، وحين يوصي ولده سليمان ، وهو على فراش الموت ، بأن يجدر بالدم إلى الهاوية شيبة شمعي بن جبرا ، الذي لعنه منذ سنين طويلة (٥).

وهو يأخذ النساء من أزواجهن غصبا ، مستغلا في ذلك جاهه وسلطانه ، فهو يشترط لمقابلة «أبنير» ، قائد جيوش شاؤل ، أن يأتي بابنة شاؤل ميكال ، والتي كان قد خطبها من أبيها ، ودفع مهرها رءوس مائتين من الفلسطينيين من زوجها «فلطيئيل بن لايش» الذي أدمى قلبه فراقها ، ثم سار وراءها ، وهو يبكي ، حتى «بحوريم» ، ولم يرجع من ورائها إلا بتهديد من

__________________

(١) صموئيل أول ١٨ / ١ ـ ٧.

(٢) صموئيل أول ١٦ / ٢١ ـ ٢٣.

(٣) صموئيل ثان ١٢ / ٢٩ ـ ٣١.

(٤) صموئيل أول ١٨ / ٢٥ ـ ٢٨.

(٥) ملوك ثان ٢ / ٩.

٨٤

«أبنير وخوف منه (١) ، ثم هو يأخذ «بتشبع» امرأة قائده» أوريا الحثي» من زوجها ، ويأتي بها إلى نسائه ، فيضطجع معها ، وهي مطهرة من طمثها ، وحين تحس المرأة أن ثمرة اللقاء بدأت تتحرك في بطنها ، يرسل إلى زوجها فيستدعيه من ميدان القتال ، حتى إذا ما ظهر الحمل ظن الناس أنه من زوجها ، ولما رفض الرجل أن يدخل إلى فراش زوجته الدافئ ، بينما أخوة له يقتلون ويقتلون في ساحة الوغى ، وأصر على أن ينام على عتبة بيت الملك مع النائمين ، وألا يضاجع امرأته أبدا ، حتى يقتضي الله أمرا كان مفعولا ، فإذا بداود يرسل به إلى الصف الأول ، مع أمر واضح صريح ، أن «اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة ، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت» ، وحين يتم له ذلك يضم المرأة إلى حريمه ، ثم هو يقبل بعد ذلك زجر «ناثان» على فعلته ، ولكنه مع ذلك يحتفظ بالمرأة في حريمه (٢).

وهو يعفو عن «طالوت» (شاؤل) عدة مرات ، ولا يسلبه إلا درعه ، في نفس الوقت الذي كان في مقدوره أن يسلبه حياته ، وهو يعفو عن «مفيبوشت» ، حفيد طالوت ، وقد يكون من المطالبين بالعرش ، عرش عمه وجده من قبل ، بل ويعينه على أمره (٣) ، وهو يعفو عن ولده «أبشالوم» ، أن قبض عليه بعد قتله أخيه أمنون ، ثم بعد قيامه بثورة مسلحة ، وبعد أن دنس عرضه على ملأ من القوم ، وبعد أن طارده حتى شرق الأردن ، لو لا أن يوآب قتله ، رغم أوامر داود الصريحة بعدم قتله (٤) ، بل إنه ليعفو عن «شاؤل» الذي

__________________

(١) صموئيل ثان ٣ / ١٢ ـ ١٦ ، ثم قارن : صموئيل أول ١٩ / ١١ ـ ١٧ ، حيث يروي كيف أن ميكال هي التي أنقذت زوجها داود من مؤامرات أبيها شاؤل ، وأنها أخرجته من كوة في الدار ، ليفر بنفسه من أبيها ورجاله ، وقد وضعت في مكانه في الفراش الترافيم ، كما أشرنا من قبل ، وبدهي أن هذا نوع من تناقضات التوراة وتعارض نصوصها لبعضها البعض.

(٢) صموئيل ثان ١١ / ٢ ـ ٢٩ ، ١٢ / ١ ـ ١٢.

(٣) صموئيل ثان ٤ / ٤ ـ ٥.

(٤) صموئيل ثان ١٦ / ٣٢ ، ١٨ / ٣٣.

٨٥

كان يسعى لقتله ، بعد أن تمكن منه مرات ، وفي أمان مطلق ، ومناعة تامة (١) ، ومن ثم يذهب «ول ديورانت» طبقا لأوصاف التوراة هذه لداود ، إلى أن ذلك وصف رجل حقيقي ، لا رجل خيالي ، اكتملت فيه عناصر الرجولة المختلفة ، ينطوي على جميع بقايا الهمجية ، وعلى كل مقومات الحضارة (٢).

وبدهي أن هذا ليس رأينا ، ولم ولن يكون ، فحاشا النبي الأواب أن يكون هكذا ، ولكنه رأى توراة اليهود المتداولة اليوم ، ذلك لأن داود عليه‌السلام ، فيما نعتقد ونؤمن به الإيمان كل الإيمان ، هو نبيّ الله ورسوله الكريم ، قبل أن يكون ملك اليهود القدير ، ومن ثم فنحن لا نرضى للنبيّ الكريم ، إلا ما ارتضاه له رب العزة والجلال في كتابه الكريم ، وقد أشرنا إليه من قبل ، ولكننا نقدم هذه الصورة ليعرف القارئ الكريم ، رأى التوراة ، كتاب اليهود المقدس ، حتى في أنبياء بني إسرائيل وملوكهم ، ولأننا ندرس حياة داود الملك النبي ذلك لأننا نقدم هنا دراسة تاريخية دينية ، وليس من شك في أن الجانب التاريخي ، وليس الديني ، إنما يعتمد على التوراة ، كواحد من مصادر تاريخ الملك داود ، وليس النبي داود ، ومع ذلك ، فإننا إن اتفقنا معها في بعض الأمور ، فإننا نختلف معها في الكثير من هذه الأمور ، وبخاصة فيما يتعلق بالأنبياء وعصمتهم ، تلك الصفوة المختارة من عباد الله الذين بعثوا بأمر من ربهم هداة راشدين ، واختارهم الله سبحانه وتعالى ، مبشرين ومنذرين ، واصطفاهم من خلقه ، وصدق الله حيث يقول : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (٣) ، هذا فضلا عن اختلافنا مع توراة يهود فيما

__________________

(١) صموئيل أول ٢٤ / ٢ ـ ٢٢.

(٢) ول ديورانت : قصة الحضارة ٢ / ٣٣١ ـ ٣٣٢ (القاهرة ١٩٦١) ، نجيب ميخائيل : المرجع السابق ص ٣٦٢ ـ ٣٧٣ ، محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ٦٩٣ ـ ٦٩٧.

(٣) سورة الأنعام : آية ١٢٤.

٨٦

يتصل بالحقائق التاريخية ، ذلك لأن من كتبوا التوراة (١) ، كانوا بشرا مثلنا ، وهم كمؤرخين ، لا يختلفون عن نظائرهم من معاصريهم في الشرق القديم ، وبدهي أنه ليس هناك تاريخ لا يحتمل المناقشة ، بل لا يحتمل أن نخطئه.

__________________

(١) انظر عن كتابة التوراة (محمد بيومي مهران : إسرائيل ٣ / ١٨ ـ ١٠٦).

٨٧
٨٨

الباب الثاني

سيرة سليمان عليه‌السلام

٨٩
٩٠

الفصل الأول

سليمان ـ الرّسول النّبي

١ ـ وراثة سليمان داود :

جاء ذكر سيدنا سليمان عليه‌السلام في كثير من آي الذكر الحكيم (١) ، وهو أحد أنبياء بني إسرائيل ، شأنه في ذلك شأن أبيه داود عليه‌السلام ، فلقد كان سليمان ، كما كان أبوه داود ، عليهما‌السلام ، نبيّا ملكا ، فقد جمع الله لكل منهما النبوة والملك ، وأعطاه خيري الدنيا والآخرة ، فكان نبيّا ملكا ، قال تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) (٢) ، قال ابن كثير : أي في الملك والنبوة ، وليس المراد وراثة المال ، إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود ، فإنه قد كان لداود مائة امرأة ، ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة ، فإن الأنبياء لا تورث أموالهم ، كما أخبر بذلك سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله الشريف : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة» (٣) ، وقال النسفي : ورث النبوة والملك دون سائر بنيه ، وكانوا تسعة عشر ، قالوا أوتى النبوة مثل أبيه فكأنه ورثه ، وإلا فالنبوة لا تورث (٤) ، وقد

__________________

(١) انظر : سورة البقرة (١٠٢) والنساء (١٦٣) والأنعام (٨٤) والأنبياء (٧٨ ـ ٨٢) والنمل (١٥ ـ ٤٤) وسبأ (١٢ ـ ١٤) وص (٣٠ ـ ٤٠).

(٢) سورة النمل : آية ١٦.

(٣) تفسير ابن كثير ٣ / ٥٧٣ (ط بيروت ١٩٨٦) ، صحيح البخاري ٨ / ١٨٥ ، صحيح مسلم ٥ / ١٥٣ ، مسند الإمام أحمد ١ / ٤.

(٤) تفسير النسفي ٣ / ٢٠٤.

٩١

أشرنا من قبل أن النبوة لا تكون بالإرث ، فولد النبي لا يكون نبيّا بطريق الإرث عن أبيه ، بل هي بمحض الفضل الإلهي والاصطفاء الرباني (١) ، ويقول صاحب الظلال : أن داود أوتى الملك مع النبوة والعلم ، ولكن الملك لا يذكر في صدد الحديث عن نعمة الله عليه وعلى سليمان ، إنما يذكر العلم ، لأن الملك أصغر من أن يذكر في هذا المجال ، ومن ثم فالمفهوم في الوراثة أنها وراثة العلم ، لأنه هو القيمة العليا التي تستأهل الذكر (٢) ، ويقول الطبري أن سليمان ورث أباه داود في العلم الذي كان آتاه الله في حياته ، والملك الذي كان خصه به على سائر قومه ، فجعله له بعد أبيه ، دون سائر ولد أبيه (٣).

ويقول الفخر الرازي في التفسير الكبير : أما قوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) فقد اختلفوا فيه ، فقال الحسن البصري : المال ، لأن النبوة عطية مبتدأة ولا تورث ، وقال غيره : بل النبوة ، وقال آخرون : بل الملك والسياسة ولو تأمل الحسن لعلم أن المال إذا ورثه الولد فهو أيضا عطية مبتدأة من الله تعالى ، ولذلك يرث الولد إذا كان مؤمنا ، ولا يرث إذا كان كافرا أو قاتلا ، ولكن الله تعالى جعل سبب الإرث فيمن يرث الموت على شرائط ، وليس كذلك النبوة ، لأن الموت لا يكون سببا لنبوة الله ، فمن هذا الوجه يفترقان ، وذلك لا يمنع من أن يوصف بأنه ورث النبوة لما قام به عند موته ، كما يرث الولد المال إذا قام به عند موته ، ومما يبيّن ما قلناه أنه تعالى لو فصل فقال : وورث سليمان داود ماله لم يكن لقوله «وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير» معنى ، وإذا قلنا وورث مقامه من النبوة والملك حسن

__________________

(١) محمد علي الصابوني : النبوة والأنبياء ص ١٠ ، محمد بيومي مهران : النبوة والأنبياء عند بني إسرائيل ص ٧١ ـ ٧٧.

(٢) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٣٤.

(٣) تفسير الطبري ١٩ / ١٤١.

٩٢

ذلك ، لأن تعليم منطق الطير يكون داخلا في جملة ما ورثه ، وكذلك قوله تعالى : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) لأن وارث الملك يجمع ذلك ، ووارث المال لا يجمعه ، وقوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) لا يليق أيضا إلا بما ذكرنا دون المال الذي قد يحصل للكامل والناقص ، وما ذكره الله تعالى من جنود سليمان بعده ، لا يليق إلا بما ذكرناه ، فبطل بما ذكرنا قول من زعم أنه لم يرث إلا المال ، فأما إذا قيل : وورث المال والملك معا ، فهذا لا يبطل بالوجوه التي ذكرناها ، بل بظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» (١).

وقال قتادة في قوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) ورث نبوته وملكه وعلمه ، وهذه الثلاثة هي المذكورة في حق داود عليه‌السلام في آية البقرة (٢٥١) (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) ، ويدخل في هذا أيضا ما أخبر الله تعالى به في سورة النمل (١٥) مما أكرم الله به هذين النبيين الكريمين من عظيم المنح ، وجزيل الفضل في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) ، وهذا يشمل على ما شرفهما الله به من النبوة والرسالة وما يسر لكل منهما من علوم الدنيا والآخرة (٢) ، أو هو ، كما يقول الطبري ، علم كلام الطير والدواب ، وغير ذلك مما خصهم الله بعلمه» (٣) ، وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين» ، يقول النسفي : والكثير المفضل عليه من لم يؤت علما أو من لم يؤت مثل علمهما ، وفيه أنهما فضلا على كثير ، وفضل عليهما كثير ، وفي الآية دليل على شرف العلم وتقدم حملته وأهله وأن نعمة العلم من أجل النعم ، وأن من أوتيه فقد أوتى خيرا كثيرا ، وفضلا على كثير من عباده ، وما سماهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورثة الأنبياء إلا لمداناتهم لهم

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢٤ / ١٨٦.

(٢) عويد المطرفي : المرجع السابق ص ٦٤.

(٣) تفسير الطبري ١٩ / ١٤٠.

٩٣

في الشرف والمنزلة لأنهم القوامون بما بعثوا من أجله ، وفيها أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة أن يحمدوا الله على ما أوتوه ، وأن يعتقد العالم أنه إن فضل على كثير ، فقد فضل عليه مثلهم (١). ويقول الفخر الرازي : وأما قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) ، ففيها أبحاث ، أحدها : أن الكثير المفضل عليه هو من لم يؤت علما مثل علمهما ، وفيه أنهما فضلا على كثير ، وفضل عليهما كثير ، وثانيهما : في الآية دليل على علو مرتبة العلم ، لأنهما أوتيا من الملك ما لم يؤت غيرهما ، فلم يكن شكرهما على الملك كشركهما على العلم ، وثالثها : أنهم لم يفضلوا أنفسهم على الكل وذلك يدل على حسن التواضع ، ورابعها : أن الظاهر يقتضي أن تلك الفضيلة ليست إلا ذلك العلم ، ثم العلم بالله وبصفاته أشرف من غيره ، فوجب أن يكون هذا الشكر ليس إلا على العلم ، ، ثم إن هذا العلم حاصل لجميع المؤمنين فيستحيل أن يكون ذلك سببا لفضيلتهم على المؤمنين ، فإذن الفضيلة هو أن يصير العلم بالله وبصفاته جليا بحيث يصير المرء مستغرقا فيه بحيث لا يخطر بباله شيء من الشبهات ، ولا يغفل القلب عنه في حين من الأحيان ، ولا ساعة من الساعات (٢).

٢ ـ من أحكام سليمان :

يذهب كثير من المؤرخين والمفسرين إلى أن سليمان عليه‌السلام قد تولى الملك صبيّا لما ييفع ، ومن ثم فقد ذهب فريق منهم إلى أنه كان في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة (٣) ، عند ما خلف أباه في الحكم ، ومع ذلك ، فقد

__________________

(١) تفسير النسفي ٣ / ٢٠٤.

(٢) تفسير الفخر الرازي ٢٤ / ١٨٥ ـ ١٨٦.

(٣) تاريخ اليعقوبي ١ / ٥٦ ، المسعودي ١ / ٧١ ، تاريخ ابن الأثير ١ / ١٢٨ ، ثم قارن ابن خلدون : حيث يذهب إلى أنه كان في الثانية والعشرين من عمره حين ولي الحكم (تاريخ ابن خلدون ٢ / ١١٢).

٩٤

كان ، مع حداثة سنه ، من ذوي الفطنة والذكاء ، وقد أعطاه الله الحكمة وحسن القضاء منذ الصغر ، وقد ذكر القرآن الكريم طرفا من ذلك النبوغ والذكاء الذي كان عند سليمان ، وذلك في الفتوى التي عرضت على أبيه داود ، فأفتى فيها كل منهما بوجه يختلف عن الآخر ، وكانت فتوى سليمان أضمن للحق وأقرب إلى الصواب ، كما قال تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ، فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) ، فقوله تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) يدل على أن ما أفتى به سليمان كان أقرب إلى الصواب ، وقوله تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) يدل على أن داود وسليمان كانا على جانب عظيم من الحكمة والعلم (١) ، وقال أبو حيان : والظاهر أن كلا من داود سليمان حكم بما ظهر له ، وهو متوجه عنده ، فحكمهما باجتهاد ، وهو قول الجمهور (٢).

وخلاصة القصة ، كما يقدمها لنا أصحاب التفسير ، أن زرعا دخلت فيه غنم لقوم لبلاد فأكلته وأفسدته ، فجاء المتخاصمون لداود ، وعنده سليمان ، وقصوا عليه القصة ، فحكم داود بالغنم لصاحب الزرع عوضا عن حرثه الذي أتلفته الغنم ليلا ، فقال سليمان : غير هذا أرفق ، تدفع الغنم لصاحب الزرع فينتفع بألبانها وأولادها وأشعارها ، وتدفع الحرث إلى أهل الغنم يقومون بإصلاحه حتى يعود كما كان ، ثم يترادان بعد ذلك ، فيعود لأهل الغنم غنمهم ، ولأهل الحرث حرثهم ، فقال داود : قد أصبت القضاء فيما قضيت (٣) ، ثم أمضى حكم سليمان لما فيه من حفظ أصول المال

__________________

(١) سورة الأنبياء : آية ٧٨ ـ ٧٩ ، محمد علي الصابوني : المرجع السابق ٢٨٣.

(٢) انظر : تفسير البحر المحيط ٦ / ٣٣٠ ، تفسير النسفي ٣ / ٨٥ ، تفسير أبي السعود ٦ / ٧٨ ـ ٨٠.

(٣) جاء في تفسير النسفي والفخر الرازي : قال الحسن البصري هذه الآية محكمة ، والقضاة بذلك يقضون إلى يوم القيامة ، غير أن النسفي يذهب إلى أن هذا كان في شريعتهم ، فأما في شريعتنا فلا ضمان عند أبي حنيفة وأصحابه بالليل أو بالنهار ، إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو ـ

٩٥

لصاحبيهما ، ويقول صاحب الظلال : كان حكم داود وحكم سليمان اجتهادا منهما في القضية ، وكان الله حاضرا حكمهما ، فألهم سليمان حكما أحكم ، وفهمه ذلك الوجه وهو أصوب ، ولقد اتجه داود في حكمه إلى مجرد التعويض لصاحب الحرث ، وهذا عدل فحسب ، ولكن حكم سليمان تضمن مع العدل البناء والتعمير ، وجعل العدل دافعا إلى البناء والتعمير ، وهذا هو العدل الحي الإيجابي في صورته البانية الدافعة ، وهو فتح من الله وإلهام يهبه من يشاء ، ولقد أوتى داود وسليمان كلاهما الحكمة والعلم» وكلا آتينا حكما وعلما ، وليس في قضاء داود من خطأ ، ولكن قضاء سليمان كان أصوب ، لأنه من نبع الإلهام.

وقريب من هذه القصة التي جاءت في القرآن الكريم ، ما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بينما امرأتان معهما ابنان لهما ، إذ جاء الذئب فأخذ أحد الابنين ، فتحاكما إلى داود ، فقضى به للكبرى ، فخرجتا فدعاهما سليمان فقال : هاتوا السكين أشقه بينكما ، فقالت الصغرى : يرحمك الله هو ابنها لا تشقه ، فقضى به للصغرى» (١). وهناك قصة أخرى أوردها الحافظ ابن عساكر في ترجمة سليمان عليه‌السلام من تاريخه بسنده

__________________

ـ قائد ، وعند الشافعي. لا ضمان بالنهار لأن لصاحب الماشية تسييب ماشيته بالنهار ، وحفظ الزرع بالنهار على صاحبه ، وإن كان ليلا يلزمه الضمان لأن حفظها بالليل عليه ، وقال الجصاص إنما ضمنوا لأنهم أرسلوها ونسخ الضمان بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جرح العجماء جبار ، واحتج الشافعي بما روي عن البراء بن عازب أنه قال : كانت ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدته ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها ، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها ، وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل» ، وقال مجاهد : كان هذا صلحا ، وما فعله داود كان حكما ، والصلح خير» (تفسير النسفي ٣ / ٨٥ ، تفسير الفخر الرازي ٢٢ / ١٩٩).

(١) الحديث أخرجه أيضا البخاري ومسلم في صحيحهما ، وبوّب له النسائي في كتاب القضاء ، وانظر : تفسير ابن كثير ٣ / ٢٩٩ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٨٦ ـ ٤٨٧.

٩٦

عن ابن عباس ملخصها : «أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل ، راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم فامتنعت على كل منهم ، فاتفقوا فيما بينهم عليها ، فشهدوا عند داود عليه‌السلام أنها مكنت من نفسها كلبا لها قد عودته ذلك منها ، فأمر برجمها ، فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان واجتمع معه ولدان مثله ، فانتصبت حاكما وتزيا أربعة منهم بزي أولئك ، وآخر بزي المرأة ، وشهدوا عليها بأنها مكّنت من نفسها كلبا ، فقال سليمان ، فرقوا بينهم ، فسأل أولهم ما كان لون الكلب ، فقال أسود ، فعزله ، واستدعى الآخر فسأله عن لونه ، فقال أحمر ، وقال الآخر أغبش ، وقال الآخر أبيض ، فأمر عند ذلك بقتلهم ، فحكى ذلك لداود عليه‌السلام ، فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة فسألهم عن لون ذلك الكلب ، فاختلفوا عليه فأمر بقتلهم» (١).

٣ ـ من معجزات سليمان :

منح الله سبحانه وتعالى عبده ورسوله سليمان عليه‌السلام كثيرا من المعجزات ، منها (أولا) أن الله تعالى علمه منطق الطير ، وسائر لغات الحيوان ، فكان يفهم عنها ما لا يفهمه سائر الناس ، وربما تحدث معها ، كما كان الأمر مع الهدهد والنمل وغيرهما ، روي ابن عساكر قال : مرّ سليمان بعصفور يدور حول عصفورة ، فقال لأصحابه أتدرون ما يقول ، قالوا وما يقول يا نبي الله ، قال يخطبها إلى نفسه ويقول : زوجيني أسكنك أي غرف دمشق شئت قال سليمان عليه‌السلام لأن غرف دمشق مبنية بالصخر لا يقدر أن يسكنها أحد ، ولكن كل خاطب كذاب» (٢).

وروى النسفي وأبو السعود : يحكي أن سليمان مرّ على بلبل في شجرة

__________________

(١) تفسير ابن كثير ٣ / ٢٩٩.

(٢) ابن كثير : البداية والنهاية ٢ / ١٨ ـ ١٩.

٩٧

يحرك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول ، قالوا الله ونبيّه أعلم ، قال يقول : إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء ، وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا ، وصاح طاوس فقال يقول : كما تدين تدان ، وصاح هدهد فقال يقول : استغفروا الله يا مذنبين وصاحت رخمة فقال تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه ، وصاح قمري فأخبر أنه يقول : سبحان ربي الأعلى وقال : الحدأة تقول كل شيء هالك إلا الله ، والديك يقول : اذكروا الله يا غافلين ، والنسر يقول : يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت والعقاب ، والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس (١).

وقال تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (٢) ، يذيعها سليمان عليه‌السلام في الناس تحدثا بنعمة الله وإظهار الفضلة ، لا مباهاة ولا تنفجا على الناس فما يملك تعليم منطق الطير لبشر إلا الله ، وكذلك لا يؤتى أحدا من كل شيء ، بهذا التعميم ، إلا الله ، ومن المعروف أن للطيور والحيوان والحشرات وسائل للتفاهم ، هي لغاتها ومنطقها ، فيما بينها ، والله سبحانه خالق هذه العوالم يقول : «وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم» ، ولا تكون أمما حتى تكون لها روابط معينة تحيا بها ، ووسائل معينة للتفاهم فيما بينها ، وذلك ملحوظ في أنواع كثيرة من الطيور والحيوان والحشرات ، ويجتهد علماء هذه الأنواع في إدراك شيء من لغاتها ووسائل التفاهم بينها عن طريق الحدس والظن ، لا عن الجزم واليقين ، فأما ما وهبه الله لسليمان عليه‌السلام ، فكان شأنا خاصا به على طريق الخارقة التي تخالف مألوف البشر ، لا على طريق المحاولة منه ، والاجتهاد لتفهم وسائل

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ / ٢٧٦ ـ ٢٧٧ ، تفسير النسفي ٣ / ٢٠٥.

(٢) سورة النمل : آية ١٦.

٩٨

الطير وغيره في التفاهم على طريق الحدس ، كما هو حال العلماء اليوم (١).

وقال تعالى : (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) (٢) ، ولا شك أن فهمه عليه‌السلام لكلام النمل إعجازا اختصه الله عزوجل به ، إظهارا لما أكرمه الله به من شرف النبوة والرسالة (٣) ، ونحن هنا ، كما يقول صاحب الظلال ، أمام خارقتين ، لا خارقة واحدة ، خارقة إدراك سليمان لتحذير النملة لقومها ، وخارقة إدراك النملة أن هذا سليمان وجنوده ، فأما الأولى ، فهي مما علمه الله لسليمان ، وسليمان إنسان ونبي ، فالأمر بالقياس إليه أقرب من الخارقة الأخرى البادية في مقالة النملة ، فقد تدرك النملة أن هؤلاء خلق أكبر ، وأنهم يحطمون النمل إذا داسوه ، وقد يهرب النمل من الخطر بحكم ما أودع الله فيه من القوى الحافظة للحياة ، أما أن تدرك النملة أن هذه الشخوص هي سليمان وجنوده ، فتلك هي الخارقة الخاصة التي تخرج على المألوف ، وتحسب في عداد الخوارق في مثل هذه الحال (٤).

ومنها (ثانيا) أن جند سليمان عليه‌السلام إنما كان مؤلفا من الإنس والجن والطير ، وقد نظم لهم أعمالهم ورتب لهم شئونهم ، فإذا خرج خرجوا معه في موكب حافل ، يحيط به الجند والخدم من كل جانب ، فالإنس والجن يسيرون معه ، والطير تظلله بأجنحتها من الحر (٥) ، قال تعالى : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (٦) ، والجدير

__________________

(١) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٣٤.

(٢) سورة النمل : آية ١٨ ـ ١٩.

(٣) عويد المطرفي : المرجع السابق ص ٦٨.

(٤) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٣٧.

(٥) الصابوني : المرجع السابق ص ٢٨٨.

(٦) سورة النمل : آية ١٧.

٩٩

بالإشارة هنا أن الله سخر لسليمان طائفة من الجن وطائفة من الطير ، كما سخر له طائفة من الإنس ، وكما أنه لم ، يكن كل أهل الأرض من الإنس جندا لسليمان ، إذ إن ملكه لم يتجاوز ما يعرف الآن بفلسطين ولبنان وسورية والعراق إلى ضفة الفرات ، فكذلك لم يكن جميع الجن ، ولا جميع الطير مسخرين له ، إنما كانت طائفة من كل أمة على السواء ونستدل في مسألة الجن إلى أن إبليس وذريته من الجن كما قال القرآن : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) وقال : (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) ، وهؤلاء كانوا يزاولون الإغراء والشر والوسوسة للبشر في عهد سليمان ، وما كانوا ليزاولون هذا ، وهم مسخرون له مقيدون بأمره ، وهو نبيّ يدعو إلى الهدى ، فالمفهوم إذن أن طائفة من الجن هي التي كانت مسخرة له ، ونستدل في مسألة الطير إلى أن سليمان حين تفقد الطير علم بغيبة الهدهد ، ولو كانت جميع الطيور مسخّرة له ، محشورة في موكبه ، ومنها جميع الهداهد ، ما استطاع أن يتبيّن غيبة هدهد واحد من ملايين الهداهد ، هذا فضلا عن بلايين الطير ، ولما قال : ما لي لا أرى الهدهد ، فهو إذن هدهد خاص بشخصه وذاته ، وقد يكون هو الذي سخر لسليمان من أمة الهداهد ، أو يكون صاحب النوبة في ذلك الموكب من المجموعة المحدودة العدد من جنسه ، ويعين على هذا ما ظهر من أن هذا الهدهد موهوب إدراكا خاصا ليس من نوع إدراك الهداهد ، ولا الطير بصفة عامة ، ولا بد أن هذه الهبة كانت للطائفة الخاصة التي سخرت لسليمان ، لا لجميع الهداهد وجميع الطيور ، فإن نوع الإدراك الذي ظهر من ذلك الهدهد الخاص في مستوى يعادل مستوى العقلاء الأذكياء الأتقياء من الناس (١).

ومنها (ثالثا) تسخير الريح له ، قال تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً

__________________

(١) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٣٥ ـ ٢٦٣٦.

١٠٠