دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

نحن أولوا قوة وألوا بأس شديد ، والأمر إليك فانظري ما ذا تأمرين : قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ، وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ، فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ، ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ، قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ، قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين ، قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ، فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم كفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ، قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون ، فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو ، وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين ، وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين ، قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير ، قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين» (١).

وتبدأ القصة بالنبي الملك سليمان عليه‌السلام في موكبه الفخم الضخم ، من الجن والإنس ، ويتفقد عليه‌السلام الطير ، فلا يجد الهدهد ،

__________________

(١) سورة النمل : آية ٢٠ ـ ٤٤ ، وانظر : تفسير الطبري ١٩ / ١٤٣ ـ ١٧٠ ، تفسير الطبرسي ١٩ / ٢٠٨ ـ ٢٣٠ ، تفسير روح المعاني ١٩ / ١٨٢ ـ ٢١٠ ، تفسير القرطبي ١٣ / ١٧٦ ـ ٢١٣ ، تفسير أبي السعود ٤ / ١٢٧ ـ ١٣٤ ، في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٣١ ـ ٢٦٤٣ ، تفسير الكشاف ٣ / ١٤٢ ـ ١٥١ ، تفسير البيضاوي ٢ / ١٧٢ ـ ١٧٨ ، تفسير النسفي ٣ / ٢٠٧ ـ ٢١٥ ، تفسير الفخر الرازي ٢٤ / ١٨٨ ـ ٢٠٠ ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور ٥ / ١٠٤ ـ ١١٢ ، صفوة التفاسير ٢ / ٤٠٦ ـ ٤١٢ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٥٧٤ ـ ٥٨٦ ، تيسير العلي القدير لتفسير ابن كثير ٣ / ٣٢٠ ـ ٢٤٠ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٨٩ ـ ٤٩٥ ، الكامل لابن الأثير ١ / ٢٢٤ ـ ٢٣٨ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ١١٣ ـ ١١٤ ، ابن كثير : البداية والنهاية ٢ / ١٨ ـ ٢٤.

١٤١

وقد اختلف العلماء فيما لأجله تفقده على وجوه ، أحدها قول وهب : أنه أخل بالنوبة التي كان ينوبها فلذلك تفقده ، وثانيها أنه تفقده لأن مقاييس الماء كانت إليه ، وكان يعرف الفصل بين قريبه وبعيده ، فلحاجة سليمان إلى ذلك طلبه وتفقده (١) ، وثالثها أنه كان يظله من الشمس ، فلما فقد ذلك تفقده (٢) ، ولعل في هذا ما يشير إلى أنه هدهد خاص معين في نوبته ، وليس هدهدا ما من تلك الألوف أو الملايين التي تحويها الأرض من أمة الهداهد ، كما ندرك من افتقاد سليمان لهذا الهدهد سمة من سمات شخصيته ، سمة اليقظة والدقة والحزم ، فهو لم يغفل عن غيبة جندي من هذا الحشر الضخم من الجن والإنس والطير الذي يجمع آخره على أوله كي لا يتفرق وينتكث ، وهو يسأل عنه في صيغة مرتفعة مرنة جامعة «ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين» ويتضح أنه غائب ويعلم الجميع من سؤال الملك عنه أنه غائب بغير إذن ، وحينئذ يتعين أن يؤخذ الأمر بالحزم كي لا تكون فوضى ، ومن ثم نجد سليمان الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب المخالف «لأعذبنه عذابا شديدا ، أو لأذبحنه» ، ولكن سليمان ليس ملكا جبارا في الأرض ، إنما هو نبي ، وهو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب ، فلا ينبغي أن يقضي في شأنه قضاء نهائيا قبل أن يسمع ويتبيّن عذره ، ومن ثم تبدر سمة النبي العادل «أو ليأتيني بسلطان مبين» أي حجة قوية توضح عذره ، وتنفي المؤاخذة عنه (٣).

__________________

(١) جاء في تفسير الطبري (١٩ / ١٤٤) اختلف عبد الله بن سلام والقائلون بقوله ، ووهب بن منتبه ، فقال عبد الله : كان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه ليستخبره عن بعد الماء في الوادي الذي نزل به في مسيره ، وقال وهب : كان تفقده إياه وسؤاله عنه لإخلاله بالنوبة التي كان ينوبها ، والله أعلم ، كما يقول الطبري ، بأي ذلك كان إذ لم يأتنا بأي ذلك كان تنزيل ، ولا خبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صحيح ، والصواب أن يقال إن الله أخبر عن سليمان أنه تفقد الطير ، إما للنوبة التي كانت عليها وأخلت بها ، وإما لحاجة كانت إليها عن بعد الهاء.

(٢) تفسير الفخر الرازي ٢٤ / ١٨٩.

(٣) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٣٨.

١٤٢

ويأتي الهدهد بعد مكث غير بعيد ، فيقول للنبي الكريم «أحطت بما لم تحط به» ، وفي هذا ، كما يقول الإمام الفخر الرازي ، تنبيه لسليمان على أن من أدنى خلق الله تعالى من أحاط علما بما لم يحط ، فيكون ذلك لطفا في ترك الإعجاب ، والإحاطة بالشيء علما أن يعلم من جميع جهاته (١) ، ثم يخبره بهذا الذي لم يحط به (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ ، وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) ، أي أنني أتيت من سبأ ـ وهي مملكة عظيمة في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية ـ وقد وجدت القوم تحكمهم امرأة» (٢) أوتيت من كل شيء» ، كناية عن عظمة ملكها وثرائها وتوافر أسباب الحضارة والقوة والمتاع ، «ولها عرش عظيم» أي سرير ملك فخم ضخم يدل على الغنى والترف وارتقاء الصناعة أو عظيم في قدره وعظم خطره ، لا عظمة في الكبر والسعة ، لكن هذه المرأة وقومها (يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) ، وهنا نجد أنفسنا أمام هدهد عجيب ، صاحب ذكاء وإيمان ، وبراعة في عرض النبأ ، ويقظة إلى طبيعة موقفه وتلميح وإيماء أريب ، فهو يدرك أن هذه ملكة وأن هؤلاء رعية ، ويدرك أنهم يسجدون للشمس من دون الله ، ويدرك أن السجود لا يكون إلا لله رب العرش العظيم ، وما هكذا تدرك الهداهد ، إنما هو هدهد خاص أوتي هذا الإدراك الخاص ، على سبيل الخارقة التي تخالف المألوف (٣).

ومن ثم فقد أراد النبي الكريم أن يختبر صدق الهدهد في دعواه ، وفي

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢٤ / ١٩٠.

(٢) روي البخاري والترمذي والنسائي بسنده عن أبي بكرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بلغه أن أهل فارس ملكوا عليهم ابنة كسرى قال : لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة (البداية والنهاية ٢ / ٢٢).

(٣) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٣٨ ، وانظر تفسير الطبري ١٩ / ١٤٨.

١٤٣

نفس الوقت أن يدعو هؤلاء المنحرفين عن عبادة الله الواحد القهار «قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ، اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ما ذا يرجعون» ، وتجمع الملكة الملأ من القوم وتعرض عليهم الأمر (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ، إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) ، ويقول الفخر الرازي في وصف الكتاب بأنه كريم ، فيه ثلاثة أوجه ، أحدها حسن مضمونة وما فيه ، وثانيها وصفه بالكريم لأنه من عند ملك كريم ، وثالثها أن الكتاب كان مختوما ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كرم الكتاب ختمه» ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يكتب إلى العجم فقيل له إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه خاتم فاتخذ لنفسه خاتما» (١) ، كما يدل ذلك أيضا على أدب جم تحلت به الملكة العربية ، وعلى أية حال ، فإن الكتاب يفيد أن الملكة كانت لا تعبد الله ، ولكن صيت سليمان كان ذائعا في هذه الرقعة ، ولغة الكتاب التي يحكيها القرآن فيها استعلاء وحزم وجزم ، مما قد يوحي إليها بهذا الوصف الذي أعلنته ، وفحوى الكتاب في غاية البساطة والقوة ، فهو مبدوء باسم الله الرحمن الرحيم ، ومطلوب فيه أمر واحد : ألا يستكبروا على مرسله ويستعصوا وأن يأتوا إليه مستسلمين لله الذى يخاطبهم باسمه (٢).

وتطلب الملكة الرأي والمشورة من الملأ في هذه الأزمة التي أتت إليها من حيث لا تحتسب ، وفي نفس الوقت تعلن إليهم أنها لن تقطع في الأمر ، إلا بعد هذه المشورة ، برضاهم وموافقتهم «يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون» ، ويأتيها الجواب سريعا من المؤتمرين «نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد ، والأمر إليك فانظري ما ذا

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢٤ / ١٩٤ ، تفسير النسفي ٣ / ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(٢) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٣٩ ـ ٢٦٤٠.

١٤٤

تأمرين» ، وليس هناك من ريب في أن هذا السياق القرآني إنما يدل بوضوح على أنها صاحبة السلطان الفعلي في مملكتها ، بعكس ما ذهب إليه بعض الباحثين (١) ، كما أشرنا من قبل ، وأما القوة والبأس اللتان أشار إليهما الملأ ، فالمراد بالقوة قوة الأجسام وقوة الآلات ، وأما البأس فالمراد النجدة والثبات في الحرب ، وحاصل الجواب أن القوم ذكروا أمرين ، أحدهما إظهار القوة الذاتية والعرضية ليظهر أنها إن إرادتهم للدفع والحرب وجدتهم بحيث تريد ، والآخر قولهم : «والأمر إليك فانظري ما ذا تأمرين» وفي ذلك إظهار الطاعة لها ، إن أرادت السلم ولا يمكن ذكر جواب أحسن من هذا (٢) ، ويقول الإمام النسفي : أرادوا بالقوة ، قوة الأجسام والآلات ، وبالبأس النجدة والبلاء في الحرب ، «والأمر إليك فانظري ما ذا تأمرين» أي موكول إليك ، ونحن مطيعون لك ، فأمرينا بأمرك نطعك ولا نخالفك كأنهم أشاروا عليها بالقتال ، أو أرادوا نحن من أبناء الحرب ، لا من أبناء الرأي والمشورة ، وأنت ذات الرأي والتدبير فانظري ما ذا تريدين نتبع رأيك نتبع رأيك ، فلما أحست منهم الميل إلى المحاربة ، مالت إلى المصالحة ورتبت الجواب ، فزيفت أولا ما رتبوه ، وأرتهم الخطأ فيه حيث «قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية (عنوة وقهرا) أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون «أرادت وهذه عادتهم المستمرة التي لا تتغير ، لأنها كانت في بيت الملك القديم فسمعت نحو ذلك (٣) ، وجاء في تفسير ابن كثير : قال الحسن البصري : فوضوا أمرهم إلى علجة تضطرب ثدياها ، فلما قالوا لها ما قالوا ، كانت هي أحزم رأيا منهم وأعلم بأمر سليمان ، وأنه لا قبل لها بجنوده وجيوشه وما سخر له من الجن والإنس والطير ، وقد شاهدت مع الهدهد أمرا عجيبا

__________________

(١) O.Eissfeldt ,op ـ cit ,p. ٥٩٣.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ / ١٩٥.

(٣) تفسير النسفي ٣ / ٢١٠.

١٤٥

بديعا (١) ، فقالت لهم إني أخشى أن نحاربه ونمتنع عليه فيقصدنا بجنوده ويهلكنا بمن معه ويخلص إلى وإليكم الهلاك والدمار دون غيرنا ، ولهذا قالت : إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ، قال ابن عباس : أي إذا دخلوا بلدا عنوة أفسدوه أي خربوه ، وجعلوا أعزة أهلها أذلة ، أي وقصدوا من فيها من الولاة والجنود وأهانوهم غاية الهوان ، إما بالقتل أو الأسر .. ثم عدلت إلى المصالحة والمهادنة والمسالمة والمخادعة والمصادفة (٢).

وهكذا تبدأ الملكة في أعمال الحيلة والتدبير ، بل وهنا تظهر شخصية المرأة من وراء الملكة ، المرأة التي تكره الحروب والتدمير ، والتي تنعني سلاح الحيلة والملاينة ، قبل أن تنفي سلاح القوة والمخاشنة (٣) ، ومن ثم فإنها تعمل على أن تضع النبي الكريم موضع الاختبار لتصل إلى رأي تطمئن إليه بشأنه ، وهل هو من الهداة المرشدين أم من الطغاة الطامعين ، ومن ثم فإنها تبعث برسل من عندها إلى صاحب هذه الرسالة الذي يطلب منها ، وكذا قومها ، ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين» يحملون الهدايا الثمينة (٤) ، كما أنها

__________________

(١) قارن في ظلال القرآن (٥ / ٢٦٣٩) حيث يرجح صاحبه أنها لم تعلم من ألقى إليها الكتاب ، ولا كيف ألقاه ، ولو كانت تعرف أن الهدهد هو الذي جاء به ، كما تقول التفاسير ، لأعلنت هذه العجيبة التي لا تقع كل يوم ، ولكنها قالت بصيغة المجهول ، مما يجعلنا نرجح أنها لم تعلم كيف ألقى إليها ولا من ألقاه.

(٢) تفسير ابن كثير ٣ / ٥٧٩ (ط بيروت ١٩٨٦).

(٣) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٤٠.

(٤) روت كتب التفسير عن ابن عباس أنها بعثت إليه بوصائف ووصفاء وألبستهم لباسا واحدا حتى لا يعرف ذكر من أنثى ، فقالت إن زيل بينهم حتى يعرف الذكر من الاثنى ثم رد الهدية فإنه نبيّ ، وينبغي لنا أن نترك ملكنا ونتبع دينه ونلحق به ، وعن ابن جريح قال مجاهد : فخلص سليمان بعضهم من بعض ولم يقبل هديتها ، وعن ثابت البناني قال : أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج ، فلما بلغ ذلك سليمان أمر الجن فموّهوا له الآجر بالذهب ، ثم أمر به فألقى في الطرق ، فلما جاءوا فرأوه ملقي ما يلتفت إليه ، صغر في أعينهم ما جاءوا به ، وفي تفسير النسفي أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهن راكبي خيل مغشاة بالديباج

١٤٦

في الوقت نفسه طلبت من رسلها أن يقفوا على قوة سليمان ، ثم يعودوا إليها بتقرير واف شامل عن حقيقته ، ومدى ما يمكن أن يقدر عليه من المكيدة ، وهل يمكنه أن يهدد أمنها وأمن قومها ، إن لم تخضع لأمره ، وذلك لتكون على بينة من أمرها ، وحتى يمكنها اتخاذ القرار المناسب ، قال قتادة : ما كان أعقلها في إسلامها وشركها ، علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس ، ذلك لأن الهدية تلين القلب وتعلن الود ، وقد تفلح في دفع القتال ، وهي تجربة ، فإن قبلها سليمان فهو إذن أمر الدنيا ، ووسائل الدنيا إذن تجدي ، وإن لم يقبلها فهو إذن أمر العقيدة الذي لا يصدفه عنه مال ، ولا عرض من أعراض

__________________

محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجواهر ، وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان وألف لبنة من ذهب وفضة وتاجا مكللا بالدر والياقوت ، وحقّا فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب ، وبعثت كتابا فيه نسخة الهدايا وقالت : إن كنت نبيا فميّز بين الوصفاء والوصائف وأخبر بها في الحق واثقب الدرة ثقبا واسلك في الخزرة خيطا ، ثم قالت لكبير رسلها : إن نظر إليك نظرة غضبان فهو ملك فلا يهولنك منظرة ، وإن رأيته بشاشا لطيفا فهو نبيّ ، فأقبل الهدهد وأخبر سليمان الخبر كله ، فأمر سليمان الجن فضربوا لبنات الذهب والفضة وفرشوها في ميدان بين يديه طوله ، سبعة فراسخ وجعلوا حول الميدان حائطا شرفه من الذهب والفضة ، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبنات وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير فأقيموا عن اليمين واليسار ، ثم قعد على سريره والكراسي من جانبيه ، واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ ، والإنس صفوفا فراسخ ، والوحش والسباع والطيور والهدام كذلك ، فلما دنا القوم ورأوا الدواب تروث على اللبن رموا بما معهم من الهدايا ، ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم سليمان بوجه طلق فأعطوه كتاب الملكة فنظر فيه وقال : أين الحق فأمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت في الدرة وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها ونفذت فيها ، ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها ، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه ، ثم رد الهدية ، وفي تفسير ابن كثير : أنها أرسلت إليه بقدح ليملأه ماء رواء لا من السماء ، ولا من الأرض ، فأجرى الخيل حتى عرقت ثم ملأه من ذلك ، وبخرزة وسلك ليجعله فيها ففعل والله أعلم أكان ذلك أم لا ، والظاهر أن أكثره من الإسرائيليات ، وأن سليمان لم ينظر إلى ما جاءوا به بالكلية ولا اعتنى به ، بل أعرض عنه (تفسير الطبري ١٩ / ١٥٥ ، تفسير النسفي ٣ / ٢١١ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٥٨٠.

١٤٧

الدنيا ، قال ابن عباس : قالت لقومها إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه ، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه (١).

وجاءت الرسل إلى سليمان عليه‌السلام بالهدايا فرفضها ، وأعلم رسل الملكة أن ما آتاه الله من الملك والنبوة والرسالة وما جعل له فيهما من ثواب عظيم ، ومقام كريم ، إنما هو خير من هداياهم ، ومن كل ما عندهم من عرض الدنيا ، ثم توعّدهم بأن يرسل إليهم ، وفي بلادهم نفسها ، بجنود لا قبل لهم بها ، وليخرجنّهم منها أذلة وهم صاغرون ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ ، فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ ، بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ، ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) (٢) ، وهنا تتأكد الملكة العربية أنها أمام واحد من المصطفين الأخيار ، يطلب لها ، وكذا لقومها ، الهداية إلى سواء السبيل ، وليس رجلا غزته قوته ، فأراد أن يجعل دولتها جزءا من مملكته ، فتقرر الذهاب بنفسها إلى النبي الكريم ، قال ابن عباس : لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان وأخبروها الخبر قالت : قد عرفت ما هذا بملك ، وما لنا به من طاقة ، وبعثت إلى سليمان إني قادمة إليك بملوك قومي وما تدعو إليه من دينك (٣).

ويستعد سليمان لاستقبال الملكة بأمر يخرج عن قدرة البشر العاديين ، ويدخل في عداد معجزات الصفوة المختارة من أنبياء الله ورسله الكرام البررة ، (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ، قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ، قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ

__________________

(١) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٤٠ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٥٧٩ ـ ٥٨٠.

(٢) سورة النمل : آية ٣٦ ـ ٣٧.

(٣) انظر : حاشية زادة على البيضاوي ٣ / ٤٩٣ ، صفوة التفاسير ٢ / ٤٠٩.

١٤٨

مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (١).

هذا وقد اختلف المفسرون والمؤرخون في قصد سليمان عليه‌السلام من استحضار عرشها قبل مجيئها مسلمة مع قومها ، كما اختلفوا كذلك في هذا الذي عنده علم من الكتاب ، والذي قال : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) ، فأما عن الهدف من استحضار العرش ، فذهب رأي إلى أنه وسيلة لعرض مظاهر القوة الخارقة التي تؤيده لتؤثر في قلب الملكة وتقودها إلى الإيمان بالله والإذعان لدعوته ، ويقول الفخر الرازي : واختلفوا في غرض سليمان عليه‌السلام من إحضار ذلك العرش على وجوه ، أحدها : أن المراد أن يكون ذلك دلالة لبلقيس على قدرة الله تعالى ، وعلى نبوة سليمان عليه‌السلام حتى تنضم هذه الدلالة إلى سائر الدلائل التي سلفت ، وثانيها : أراد أن يؤتي بذلك العرش فيغيّر وينكر ثم يعرض عليها حتى أنها هل تعرفه أو تنكره ، والمقصود اختبار عقلها ، وقوله تعالى : (نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي) كالدلالة على ذلك ، وثالثها ، قال قتادة : أراد أن يأخذه قبل إسلامها ، لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها ، ورابعها : أن العرش سرير الملك فأراد أن يعرف مقدار مملكتها قبل وصولها إليه ، وقال أبو جعفر : وأولي الأقوال بالصواب أنه أراد أن يجعل ذلك حجة عليها في نبوته ، ويعرفها بذلك قدرة الله وعظيم شأنه ، وأما أولي التأويلين في قوله تعالى : (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) فهو قول ابن عباس من أن معناه طائعين ، لأن المرأة لم تأت سليمان إذ أتته مسلمة ، وإنما أسلمت بعد مقدمها عليه ، وبعد محاورة جرت بينهما ومساءلة (٢).

وأما الذي عنده علم من الكتاب فقد اختلفوا فيه على قولين ، قيل كان

__________________

(١) سورة النمل : آية ٣٨ ـ ٤٠.

(٢) تفسير الطبري ١٩ / ١٦٠ ـ ١٦١ ، في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٤١ ، تفسير الفخر الرازي ـ

١٤٩

من الملائكة وقيل كان من الإنس ، فمن قال بالأول اختلفوا ، قيل هو جبريل عليه‌السلام ، وقيل هو ملك أيد الله تعالى به سليمان عليه‌السلام ، ومن قال بالثاني اختلفوا على وجوه ، أحدها قول ابن مسعود إنه الخضر عليه‌السلام ، وثانيهما ، وهو المشهور ، من قول ابن عباس : إنه آصف بن برخيا وزير سليمان ، وكان صديقا يعلم الاسم الأعظم إذا دعا به أجيب ، وكذا روي عن يزيد بن رومان أنه «آصف بن برخيا» وكان صديقا يعلم الاسم الأعظم الذي إذا دعى الله به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ، وذهب ابن عطية وأبو حيان إلى أن هذا القول هو قول الجمهور ، وعدّه الشوكاني قول أكثر المفسرين وثالثها قول قتادة إنه رجل من بني آدم ، قال معمر : أحسبه قال من بني إسرائيل ، كان يعلم اسم الله الذي إذا دعى به أجاب ، ورابعها قول ابن زيد : كان رجلا صالحا في جزيرة في البحر ، خرج ذلك اليوم ينظر إلى سليمان ، فلما سمع العفريت يقول : «أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإنه عليه لقوي أمين» ، قال : «أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك» ثم دعا باسم من أسماء الله ، فإذا هو يحمل بين عينيه ، وقرأ «فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي» إلى قوله تعالى (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (١).

على أن هناك من يذهب إلى أنه النبي الكريم نفسه سيدنا سليمان عليه‌السلام (٢) ، ويذهب الدكتور المطرفي (٣) إلى أن سليمان قال ذلك ليظهر

__________________

٢٤ / ١٩٧ ، تفسير البيضاوي ٢ / ٨٣ ، تفسير النسفي ٣ / ٢١٢ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٥٨١ ، صفوة التفاسير ٢ / ٤٠٩ ، تفسير القرطبي ص ٤٩١٨ ـ ٤٩١٩.

(١) تفسير القرطبي ١٩ / ١٦٢ ـ ١٦٣ ، تفسير القرطبي ١٣ / ٢٠٥ ـ ٢٠٦ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٥٨٢ ، تفسير الكشاف ٣ / ١٤٩ ، تفسير البحر المحيط ٧ / ٧٦ ، تفسير النسفي ٣ / ٢١٣ ، صفوة التفاسير ٢ / ٤٠٩ ، فتح القدير للشوكاني ٤ / ١٣٩ ، البداية والنهاية ٢ / ٢٣ ، الكامل لابن الأثير ١ / ١٣٢ ، تفسير الفخر الرازي ٢٤ / ١٩٧.

(٢) تفسير الكشاف ٣ / ١٤٩ ، تفسير القرطبي ١٣ / ٢٠٥ ، تفسير الفخر الرازي ٢٤ / ١٩٧.

(٣) عويد المطرفي : المرجع السابق ٧٥ ـ ٧٦.

١٥٠

معجزة من الله تعالى تجري على يديه ، توثيقا لإيمان جموعه بنبوته ورسالته ، ويكون الخطاب ، كما قال ابن عطية ، على هذا التأويل للعفريت لما قال (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) ، كأن سليمان استبطأ ذلك ، فقال له على جهة تحقيره (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) ، ليبيّن للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإيتان بالعرش ما لا يتهيأ للعفريت (١) ، وقد أيد القرطبي ابن عطية وقال : إن النحاس قال بذلك في معاني القرآن ، وهو قول حسن إن شاء الله ، وأن القائلين بأن قوله : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) من قول سليمان عليه‌السلام ، استدلوا على ذلك بما جاء في هذه الآية نفسها من قوله فيها ، إظهار الفضل الله تعالى عليه (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) (٢).

هذا وقد ذهب الفخر الرازي (٣) إلى هذا الرأي ، فقال إنه سليمان نفسه ، والمخاطب هو العفريت الذي كلمه ، وأراد سليمان عليه‌السلام إظهار معجزة ، فتحداهم أولا ، ثم بيّن للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتهيأ للعفريت ، وهذا القول أقرب لوجوه ، أحدها أن لفظه الذي موضوعه في اللغة للإشارة إلى شخص معين عند محاولة تعريفه بقصة معلومة ، والشخص المعروف بأنه عنده علم من الكتاب هو سليمان عليه‌السلام ، فوجب انصرافه إليه ، وأقصى ما في الباب أن يقال : كان آصف كذلك ، لكننا نقول إن سليمان عليه‌السلام كان أعرف بالكتاب منه لأنه هو النبيّ ، فكان صرف هذا اللفظ إلى سليمان أولى ، والثاني : أن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية ، فلو حصلت لآصف دون سليمان ، لاقتضى ذلك تفضيل آصف على سليمان ، وأنه غير جائز ، والثالث : أن سليمان عليه‌السلام لو افتقر في ذلك إلى آصف لاقتضى ذلك قصور حال

__________________

(١) تفسير القرطبي ١٣ / ٢٠٥ ، تفسير الفخر الرازي ٢٤ / ١٩٧.

(٢) تفسير القرطبي ١٣ / ٢٠٥ (دار الكاتب العربي ـ القاهرة ١٩٦٧).

(٣) تفسير الفخر الرازي ٢٤ / ١٩٧ ـ ١٩٨.

١٥١

سليمان في أعين الخلق ، والرابع : أن سليمان قال : «هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر» ، وظاهره يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى بدعاء سليمان ، على أن الأستاذ سيد قطب إنما يرجح أنه غير سليمان ، وحجته أنه لو كان هو لأظهره السياق باسمه ، ولما أخفاه ، والقصة عنه ، ولا داعي لإخفاء اسمه فيها عند هذا الموقف الباهر (١).

بقيت الإشارة إلى أن بعض المفسرين حاولوا تفسير «الكتاب» في قوله تعالى : (عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) ، فقال بعضهم إنه التوراة ، وقال بعضهم إنه كان يعرف اسم الله الأعظم ، الذي إذا دعى به أجاب ، كما أشرنا من قبل ، وهو «يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام ، أو يا إلهنا وإله كل شيء ، إلها واحدا ، لا إله إلا أنت» ، وقيل كان له علم بمجاري الغيوب إلهاما ، وأنه قال لسليمان ، فيما يروي عن وهب بن منبه ، «امدد بصرك فلا يبلغ مداه حتى آتيك به» ، فذكروا أنه أمره أن ينظر نحو اليمن التي فيها هذا العرش المطلوب ، ثم قام فتوضأ ودعا الله تعالى ، قال مجاهد ، قال يا ذا الجلال والإكرام ، وقال الزهري قال : يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ، ائتني بعرشها ، قال فمثل بين يديه ، قال مجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن إسحاق وزهير بن محمد وغيرهم ، لما دعا الله تعالى وسأله أن يأتيه بعرش بلقيس ، وكان في اليمن وسليمان عليه‌السلام ببيت المقدس ، غاب السرير وغاص في الأرض ثم نبع من بين يدي سليمان (٢).

وأيا ما كان الأمر ، فلقد تمت المعجزة ، ورأى سليمان عليه‌السلام عرش ملكة سبأ مستقرا بين يديه ، فأمر أن تنكر لها معالم هذا العرش ليمتحن بذلك قوة ملاحظتها وانتباهها ، فلما جاءت فوجئت بأول ظاهرة عجيبة ،

__________________

(١) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٤١.

(٢) تفسير النسفي ٣ / ٢١٣ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٥٨٢ ، في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٤١.

١٥٢

فعرض عليها عرشها وقيل لها : أهكذا عرشك ، فأجابت : كأنه هو ، لا تنفي ولا تثبت ، مما يدل على فراسة وبديهية في مواجهة المفاجأة العجيبة ، فضلا عن غزارة في الفهم وقوة في الملاحظة ، فلقد استبعدت أن يكون عرشها لأنها خلفته وراءها بأرض اليمن ، ولم تكن تعلم أن أحدا يقدر على هذا الصنع العجيب ، قال النسفي : أجابت أحسن جواب ، فلم تقل هو هو ، ولا ليس به ، وذلك من رجاحة عقلها حيث لم تقطع في المحتمل للأمرين ، أو لما شبهوا عليها بقولهم : أهكذا عرشك شبهت عليهم بقولها : كأنه هو ، مع أنها علمت أنه عرشها ، ثم كانت في انتظارها مفاجأة أخرى ، فلقد أمر سليمان بأن يقام لها صرح من قوارير (زجاج) تجري تحته المياه حتى يحسبه من لا يعرف أمره أنه ماء (١).

وهكذا ما إن وصلت الملكة السبئية إلى القدس ، عاصمة سليمان ، حتى وجدت أمامها مفاجأتين ، الواحدة عرشها ، وقد نكر لها ، والأخرى ذلك الصرح الزجاجي الذي تجري المياه من تحته ، أو ذلك القصر البلوري ، الذي أقيمت أرضيته فوق الماء ، فظهر وكأنه لجة ، فلما قيل لهما : ادخلي الصرح ، حسبت أنها ستخوض تلك اللجة فكشفت عن ساقيها ، فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سرها «قال إنه صرح ممرد من قوارير» ، وكل من المفاجأتين إنما تدل على أن سليمان مسخر له قوى أكبر من طاعة البشر ، فرجعت إلى الله وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره ، معلنة إسلامها مع سليمان ، لا لسليمان ، ولكن «لله رب العالمين» (٢) ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ، وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ، وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ

__________________

(١) تفسير النسفي ٣ / ٢١٤ ، الصابوني : المرجع السابق ص ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

(٢) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٤٣.

١٥٣

مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ ، قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ ، قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١).

وهكذا رأت الملكة كل ما يبعد عنها أية ريبة في أنها أمام نبيّ كريم ، أمام نبيّ الله سليمان عليه‌السلام ، وليس ، كما كانت تظن بادئ ذي بدء ، أنها أمام ملك يطمع في دولتها أو يبغي الاستيلاء عليها ، ثم يجعل من أعزة قومها أذلة ، وكذلك يفعل الطامعون المستعمرون ، وعندئذ تصرفت سيدة سبأ تصرفا تفخر به المرأة العربية على طول العصور ، تصرفا لم يقدر عليه من قبل ، ملك العراق مع الخليل عليه‌السلام ، أو فرعون مصر مع الكليم عليه‌السلام ، كما رأينا من قبل في هذه الدراسة ، كما لم يقدر عليه من بعد جبابرة قريش وطواغيت ثقيف وغيرهم من بعض رجالات العرب ، مع سيد الأولين والآخرين سيدنا ومولانا وجدنا محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو قل هي رحمة الله التي تداركت هذه السيدة الكريمة ، وأراق لها الهداية والرشاد ، ومن ثم فقد أنهت الأمر كله ، كما رأينا ، «قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين» ، وحتى في إسلامها فقد كانت عاقلة رشيدة ، فلقد اهتدى قلبها واستنار ، ومن ثم فقد عرفت أن الإسلام لله وحده ليس استسلاما لأحد من خلقه ، حتى وإن كان هذا الأحد هو سليمان النبي الملك صاحب المنجزات ، إنما الإسلام إسلام لله رب العالمين ، ومصاحبة للمؤمنين به والداعين إلى طريقة ، على سنة المساواة «وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين» ، وقد سجل السياق القرآني هذه اللفتة الأخيرة وأبرزها ، للكشف عن طبيعة الإيمان بالله ، والإسلام له ، فهي العزة التي ترفع المغلوبين إلى صف الغالبين ، بل التي يصبح فيها الغالب والمغلوب أخوين في الله لا غالب

__________________

(١) سورة النمل : آية ٤٢ ـ ٤٤.

١٥٤

منهما ولا مغلوب ، وهما أخوان في الله رب العالمين على قدم المساواة (١).

هذه عجالة نلخص بها قصة سليمان عليه‌السلام ، مع ملكة سبأ ، كما جاءت في القرآن الكريم ، غير أن بعض المفسرين والمؤرخين قد أسرفوا على أنفسهم وعلى الناس ، فعالجوا هذه القصة الواضحة بطريقة عجيبة ، فأضافوا إليها ما شاء لهم الخيال أن يضيفوا تذهب بعضهم إلى أن بلقيس إنما هي بلقمة ابنة «ليشرع بن الحارث بن صيفي بن يشجب بن يعرب بن قحطان» ، وذهب آخرون إلى أنها بلقيس (تلقمة أو بلقمة) بنت السيرج ، وهو الهدهاد بن شرحبيل ، وأنها حكمت اليمن مائة وعشرين سنة ، بينما نزل البعض بحكمها إلى سبع سنين (٢) ، ومن عجب أن بعض الأخباريين إنما يذهب به الخيال إلى أن يرى أن «أم بلقيس» إنما كانت «جنية» بنت ملك الجن ، واسمها «رواحة» بنت السكر ، أو بلقمة بنت عمرو بن عمير الجني ، وذهب آخرون إلى أن والد بلقيس كان من أكابر الملوك ، وكان يأبى أن يتزوج من أهل اليمن ، فيقال أنه تزوج من امرأة من الجن اسمها «ريحانة» بنت السكن ، فولدت له بلقيس واسمها تلقمة ، ويقال لها بلقيس (٣) ، وأما كيف وصل أبو بلقيس إلى الجن وخطب ابنة ملكهم ، فإنهم إنما يقدمون روايات من ذلك النوع من الأساطير ، على أن أسوأ ما في الأمر وأشده خطورة أن يحاول بعض الرواة أن يعطوا لرواياتهم سندا من شرعية أو نصيبا عن صواب ، فينسبوا إلى سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن طريق أبي هريرة ،

__________________

(١) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٤٣.

(٢) تاريخ الطبري ١ / ٤٨٩ ، الكامل لابن الأثير ١ / ١٢٩ ـ ١٣٠ ، الثعلبي : قصص الأنبياء المسمى عرائس المجالس ص ٢٧٨ ، ٢٩٠ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ١٩٦ ، مروج الذهب للمسعودي ٢ / ٥٠ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٥٩.

(٣) تفسير القرطبي ص ٤٨٩٨ ـ ٤٩٢٧ ، الثعلبي : المرجع السابق ص ٢٧٨ ، مروج الذهب ٢ / ٤٩ ـ ٥٠ ، ابن كثير : البداية والنّهاية ٢ / ٢١ ، ابن الأثير ١ / ١٢٩ ، قصص الأنبياء ٢ / ٢٩٠ ـ ٢٩١ ، تفسير الفخر الرازي ٢٤ / ٢٠٠ ـ ٢٠١.

١٥٥

أحاديث تؤيد مزاعمهم هذه (١) ، ثم لا يقتصر القوم على ذلك ، وإنما يقدمون كل دنيء عن القوم (٢) ، فالملك السبئي يعتدي على الأعراض ، فلا تفوته عروس إلا ويفتضها قبل زوجها ، وبلقيس ، وهي ابنة عمه ، لا تنجو من هذه الإذلال ، إلا أن تثور على قومها مؤنبة إياهم على قبولهم هذا الصغار ، وتلك الخسة والدناءة ، فنقول : «أما فيكم من يأنف لكريمته وكرائم عشريته» ، ثم تعد له من وراء ستار رجلان يقتلانه في اللحظة التي يهمّ بها (٣).

ويبلغ الخيال بمؤرخينا أشده حين يزعمون أن بلقيس كانت عريضة الملك ، كثيفة الجيش ، ويقدم لنا الطبري عدة روايات عن قوة جيشها وكثرة عدده ، فرواية تذهب إلى أنه كان مع بلقيس اثنا عشر ألف فيل ، مع كل فيل مائة ألف ، وأخرى تذهب إلى أنه كان مع بلقيس مائة ألف قيل مع كل ما قيل مائة ألف ، وفي الكامل لابن الأثير «كان لها اثنا عشر ألف قيل ، تحت يد كل

__________________

(١) جاءت في البداية والنهية (١ / ٢١) أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان أحد أبوي بلقيس جنيا» ، وهو ، فيما يرى ابن كثير ، حديث غريب وفي سنده ضعف ، وفي تفسير الطبري (١٩ / ١٦٩) «كان أحد أبوي صاحبة سبأ جنيا».

(٢) تسرف المصادر العربية كثيرا في ذكر الجرائم الجنسية ، في تاريخ العرب القديم ، رغم أن هذه الجرائم ، فضلا عن تعارضها مع المنطق والتاريخ ، فإنها تتعارض أيضا مع التقاليد العربية التي يعترف بها الأعداء قبل الأصدقاء ، فضلا عن الحاقدين والمتشككين في كل خلة عربية كريمة ، ومع ذلك فقد تكرر ذكر هذه الجرائم المنحطة في مصادر لها ما لها من القيمة عند الناس ، بصورة أو بأخرى ، وفي مواضع مختلفة من الجزيرة العربية ، تكررت في طسم وجديس ، وفي المدينة بين العرب واليهود ، وفي اليمن مع بلقيس وعتودة مولى أبرهة الحبشي (انظر تاريخ الطبري ١ / ٦٢٩ ـ ٦٣٢ ، ٢ / ١٢٨ ـ ١٢٩ ، ابن الأثير : الكامل ١ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣ ، ٣٥٠ ، ٣٥٤ ، ٤٣٢ ـ ٤٣٣ ، ٦٥٦ ـ ٦٥٨ ، مروج الذهب ٢ / ١١١ ـ ١١٩ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٢٤ ـ ٢٥ ، ٢٨٧ ـ ٢٨٩ ، المقدس : البدء والتأريخ ١ / ١٧٩ ـ ١٨٠ ، ٣ / ٢٨ ـ ٢٩ ، معجم ياقوت ٢ / ٢٤٢ ، ٥ / ٨٤ ـ ٨٧ ، الأغاني ١٩ / ٩٦ ـ ٩٧ ، عبد الفتاح شحاتة : المرجع السابق ص ٢٨٦ ـ ٢٩٢) ، ثم انظر مناقشة هذه الأكاذيب (محمد بيومي مهران : دراسات في تاريخ العرب القديم ص ١٦٩ ـ ١٧٣ ، ٣٧٦ ـ ٣٧٧ ، ٤٦١ ـ ٤٧٥).

(٣) الديار بكري : تاريخ الخميس ص ٢٧٦ ، ابن الأثير ١ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣ (بيروت ١٩٦٥).

١٥٦

قيل مائة ألف مقاتل ، مع كل مقاتل سبعون ألف جيش ، في كل جيش سبعون ألف مبارز ، ليس فيهم إلا أبناء خمس وعشرون سنة» ، وصدق ابن الأثير حيث يقول : وما أظن الساعة راوي هذا الكذب الفاحش عرف الحساب ، حتى يعرف مقدار جهله ، ولو عرف مبلغ العدد لأقصر عن إقدامه على هذا القول السخيف ، فإن أهل الأرض لا يبلغون جميعهم ، شبابهم وشيوخهم وصبيانهم ونساؤهم ، هذا العدد (١).

هذا ويجعل الأخباريون أمر بلقيس كله بيد سليمان ، وحين ترفض الزواج من أحد رعاياها ، يزوجها سليمان من «ذي تبع» ملك همدان ، بحجة أن ذلك لا يكون في الإسلام ، وكأن الملوك قبل عصر سليمان ما كانوا يتزوجون من غير أنداد لهم ، وكأن التاريخ لا يعرف زواجا بين الأمراء وغير الأمراء ، ومع ذلك فإن سليمان لم يزوجها بواحد من رعاياها أو حتى من عظماء قومها ، وإنما زوجها من ملك همدان ، الذي لا يعرف التاريخ عنه شيئا ، وليت الذين كتبوا كله ، كانوا يعرفون أن قبيلة همدان لم تصبح لها المكانة الأولى بين قبائل اليمن ، ولم يحمل شيوخها لقب «ملك» متحدين بذلك سلطة ملوك سبأ الشرعيين (٢) ، إلا منذ أيام «نصريهأمن» (نصريهنعم) وشقيقه «صدق يهب» حوالي عام ٢٠٠ قبل الميلاد (٣) ، وأن بلقيس ، وقد عاصرت الملك سليمان (٩٦٠ ـ ٩٢٢ ق. م) ، إنما كانت تعيش في القرن العاشر قبل الميلاد ، أي قبل ظهور ملوك همدان بما يقرب من سبعة قرون على الأقل ، وعلى أية حال ، فهناك رواية تذهب إلى أن سليمان قد زوجها من «سدد بن زرعة بن سبأ» ، الذي لا يعرف التاريخ عنه شيئا كسابقه ، علي

__________________

(١) تفسير الطبري ١٩ / ١٥٤ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٩١ ، الكامل لابن الأثير ١ / ١٣١ (بيروت ١٩٧٨).

(٢) A. Jamme, Sabaean Inscriptions Mahram Bilquis, Baltimore, ٢٧٨.p ، ١٩٦١

(٣) J. B. Philly the Background of Islam, Alexandria, ١٤٢.p ، ١٩٤٧.

١٥٧

أن هناك رواية تذهب إلى أن الزوج الذي ارتضته بلقيس ، إنما كان سليمان نفسه ، وأنه قد أحبها حبا شديدا ، وردها إلى ملكها باليمن ، وكان يزورها كل شهر مرة يقيم عندها ثلاثة أيام ، وعلى أية حال ، فليس لذلك ذكر في الكتاب ، ولا في خبر مقطوع بصحته ، ومع ذلك فإن بعض الروايات تزعم أن سليمان جعل الجن تحت إمرتها ، وعلى رأسهم «زوبعة» أمير جن اليمن ، وأن بلقيس ماتت على أيام سليمان ، وأنه قد دفنها باليمن على رواية ، وفي الشام على رواية أخرى ، وأنه دفنها بتدمر وأخفى قبرها ، على رواية ثالثة (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي ص ٤٩٢٦ ، تفسير النسفي ٣ / ٢١٤ ـ ٢١٥ ، تفسير الطبري ١٩ / ١٦٩ ـ ١٧٠ ، تفسير الفخر الرازي ٢٤ / ٢٠١ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٩٤ ـ ٤٩٥ ، الكامل لابن الأثير ١ / ١٣٣ ، الثعلبي : المرجع السابق ص ٢٦٩ ـ ٢٧٠ ، البداية والنهاية ٢ / ٢٤ ابن دريد : الاشتقاق ٢ / ٣١١ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٥٩ ، ١١٣ ـ ١١٤.

١٥٨

الفصل الرّابع

سليمان ملك بني إسرائيل

(١) السياسة الداخلية : ـ

ورث سليمان داود في مملكته ، ومن ثم فقد أصبح ملكا في أورشليم (القدس) وحاكما على مملكة إسرائيل ، هذا ويتفق المؤرخون على أن سليمان قد حكم في القرن العاشر قبل الميلاد ، ولكنهم يختلفون في تحديد فترة حكمه من هذا القرن العاشر ، فهناك من يرى أنها في الفترة (٩٧٤ ـ ٩٣٢ ق. م) (١) ، ومن يرى أنها في الفترة (٩٧٣ ـ ٩٣٦ ق. م) (٢) ، ومن يرى أنها في الفترة (٩٧٠ ـ ٩٣٣ ق. م) (٣) ، ومن يرى أنها في الفترة (٩٦٣ ـ ٩٢٣ ق. م) (٤) ، ومن يرى أنها في الفترة (٩٦١ ـ ٩٢٣ ق. م) (٥) ، ومن يرى أنها في الفترة (٩٧١ ـ ٩٣١ ق. م) (٦) ، ومن أنها في الفترة (٩٦٣ ـ ٦٢٩ ق. م) (٧) ،

__________________

(١) فضلو حوراني : المرجع السابق ص ٣٤.

(٢) حسن ظاظا : الساميون ولغاتهم ص ٨٤.

(٣) فيلب حتى : المرجع السابق ص ٢٠٥.

(٤) نفس المرجع السابق.

(٥) سبتينو موسكاتي : الحصارات السامية القديمة ص ١٤٣ (مترجم) وكذا E. W. Heaton, The Old Testament Prophets, London, ١٧٢.p ، ١٩٦٩.

(٦) I.Epstein ,Judaism , ٣٦.p ، ١٩٧٠.

(٧) Historical Atlas of the Holy Land , ٨١.p ، ١٩٥٩.

١٥٩

ومن يرى أنها في الفترة (٩٦٠ ـ ٩٢٢ ق. م) (١) ، وهذا ما نميل إليه ونرجحه ، وسنسير عليه في هذه الدراسة.

هذا وكان اختيار سليمان بعد أبيه داود ، عليهما‌السلام ، ملكا على بني إسرائيل ، إنما يرجع إلى كفاءته الشخصية ، فهو لم يكن أبدا أكبر أبناء داود الكثيرين ، كما أنه لم يكن حتى أكبر الأبناء الذين ولدوا بعد اعتلاء داود عرش إسرائيل ، وأيا ما كان الأمر ، فلقد خلف سليمان أباه دونما أية صعوبات أو ثورات داخلية ، ثم سرعان ما عمل على القضاء على منافسيه والتخلص من مؤامراتهم ، وما قد يحيكون له من دسائس (٢) ، ثم اتجه بعد ذلك إلى تدعيم عرشه في الداخل ، فاستخدم معظم موارد دولته في تقوية دعائم الحكومة ، وتجميل العاصمة أورشليم ، ومن ثم فقد أقام سليمان كثيرا من الحصون ، كما رمّم القديم منها ، ووضع حاميات في المواقع ذات الأهمية الاستراتيجية ، ليرهب بها الثائرين والغازين على السواء.

ثم عمل سليمان بعد ذلك على القضاء على طموح البطون والعشائر التي كانت تسعى للاستقلال ، ذلك لأن سليمان إنما كان يعرف تماما أن أخطر المشاكل التي واجهت أبوه داود من قبل ، إنما كانت طموح بعض القبائل إلى التمتع بحكم ذاتي ، ولا شك أن هذه الرغبة إنما كانت تتعارض كثيرا مع رغبة سليمان في الحكم المركزي ، ومن ثم فقد ركز كل جهوده في تفتيت أي تحالف يقوم بين هذه القبائل ويهدد الوحدة الإسرائيلية العامة ، وهكذا قسم سليمان مملكته إلى اثنتي عشرة محافظة ، على كل واحدة منها محافظ يتولى الضرائب ، كما فرض على كل محافظة إعاشة الملك وحاشيته وجيشه وخيله شهرا في السنة ، ذلك لأن سليمان كان في حاجة إلى تزويد

__________________

(١) W. F. Albright, The Biblical Period from Abraham to EZRA, N. Y, ١٢٢ ـ ١٢٠.p ، ١٩٦٣.

(٢) ملوك أول ١ / ١ ـ ٥٣ ، ٢ / ٣ ـ ٤٨ ، ٣ / ١٢ ـ ١٣ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٨٥ ، الكامل لابن الأثير ١ / ١٢٧ (بيروت ١٩٧٨).

١٦٠